الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقطع سوري .. الهوياتية في السياسة خيانة

راتب شعبو

2022 / 5 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


حدثان هزا الوجدان السوري في الفترة الأخيرة، الأول هو مجزرة يعود تاريخها إلى نيسان/أبريل 2013، قتل فيها، بدم بارد، 288 مدنياً على يد عناصر تابعين للأمن العسكري، وصارت تسمى في الإعلام "مجزرة التضامن"، لأنها وقعت في مخيم التضامن في دمشق، ويا لها من مفارقة أن تضاف هاتان الكلمتان إلى بعضهما. والثاني إشاعة عفو عن معتقلين بمناسبة عيد الفطر، جعلت الأهالي يهيمون على وجوههم وتطير بهم الإشاعات من مكان إلى آخر، وينامون في الطرقات منهكين خائبين، لتعود الغالبية الغالبة منهم خالين الوفاض حتى من خبر عن أحبائهم المعتقلين. وكان حال المئات القليلة الذين أفرج عنهم صادماً، فقد بدوا وكأنهم عائدون من موت طويل لاك أشكالهم وصحتهم وعقولهم. وقد برع أحدهم في وصف هذا التجاور بين الحدثين بالقول "العفو عند المجزرة".
سوف تهتم السطور التالية في تأمل البيئة العدائية التي لا تفتر لدى أهل النظام، من أين تنبع، وكيف تتغذى، وأين يتكثف حضورها.
كان يمكن دائماً لأي سوري، إذا حدق في عين السلطة التي تحكمه، أن يشعر كم هو محتقر في هذه العين. وكان يمكن دائماً للسوري أن يرى في تلك العين تهديداً ثابتاً وعميقاً بلا قاع. وعلى كل حال، لم يتأخر هذا التهديد حتى أصبح واقعاً رهيباً. كان ذلك واضحاً في عين السلطة حتى وهي مطمئنة وراضية وتضحك، فالثابت في هذه العين هو احتقار محكوميها، وعدم القدرة على النظر إليهم إلا بوصفهم محكومين أبديين لها، أي حقراء أبديين أمام جبروتها.
من الطبيعي أن يتولد لدى السوري المكبل بتلك النظرة، شعوراً غامضاً بالرعب، من ذلك النوع الذي ينتاب الكائنات حين تكون أمام من يمتلك قدرة كاملة عليها، دون أن يكون لديها القدرة على صده، ودون أن يكون لديه ما يردعه. فلا يبقى لدى الكائنات، والحال هذه، سوى الهروب بكل الأشكال الممكنة. وكان شكل هروب السوريين من السلطة التي استقرت وتمكنت، هو الاسترضاء. لا يمكن فهم مسيرات التأييد وأعياد الفرح والدبكات واستصغار الذات والتصويت بالدم وإسباغ صفات التعظيم والألقاب الكبرى على رأس السلطة، سوى بوصفها شكلاً من الهروب بالاسترضاء، لدرء الخطر وتفادي وقوع التهديد الرهيب الذي يطل على نحو ثابت من عين السلطة التي تدرك أن تحت أشكال التأييد توجد حقيقة الرفض.
هكذا استقرت العلاقة لعقود، سلطة لا تشبع من احتقار محكوميها، ومحكومون تحكمهم غريزة الأمن والبقاء، فيبادلون المزيد من الاحتقار بالمزيد من التعظيم، ويبتكرون صنوف الهرب والابتعاد عن الشر.
تحطمت فجأة هذه العلاقة في مستهل ربيع 2011. أقصى ما يمكن أن يثير غريزة القتل لدى سلطة "أبدية"، هو أن تواجه تحدياً ممن تحتقرهم، أن يقف العبيد ويتحدون السلطة التي كانوا يستصغرون أنفسهم أمامها. لا يمكن لسلطة الاحتقار أن ترتد على تحول كهذا سوى بالدم، لا يمكن أن يشفي غليلها شيء سوى القتل. قد نعتقد أن هذا الارتداد الدموي ناجم عن خوف السلطة من "إرادة الشعب"، وقد يكون لهذا الاعتقاد محل، ولكن الأكثر ثباتاً هو أنه ناجم عن الاحتقار، عن استفظاع حقيقة أن يقف في وجهها بشر لم يظهروا لها سوى التعظيم والاسترضاء والاسترحام. أن يقف هؤلاء "الحقيرون" عند كرامتهم، أمر يثير لدى السلطة غريزة السحق. هذا الارتداد الدموي المباشر للسلطة، يشبه الارتداد العنيف للفلاح ضد الكلب الذي حاول أن يعوي كالذئب، أو الدجاجة التي حاولت أن تصيح كالديك، في الحالتين يبدو أن ما تقوم به هذه الكائنات تعدياً على ناموس الكون، ويستوجب القصاص من "المعتدين"، لإعادة الانسجام إلى سابق عهده.
ويكون ارتداد السلطة أعنف كلما كان البشر الذين يتحدونها أقل شأناً في نظرها. إذا كان يمكن لمثل هذه السلطة أن تتحمل شيئاً من احتجاج نخبة اجتماعية، فإن تحدي العامة لها يحرض صميمها العنيف على نحو مباشر، فتستجيب بصنوف قصوى من العدوانية والعنف.
يبقى السؤال، أين يكمن مِحرَق هذه العدوانية؟ وكيف تتجسد؟ إذا كان مركز السلطة هو منبع العدوانية، فإن حضورها الكثيف يوجد في المحيط غير الرسمي الذي يمارس السلطة بأفظع أشكالها.
تجسد التكثيف الأمثل لعدوانية سلطة الأسد في أبناء العائلة البعيدين عن السلطة الرسمية، والمتحررين بالتالي من أي قيد، وإن كان شكلياً، يمكن أن تفرضه المؤسسة. شكّل هؤلاء واقعاً فريداً يمكن تسميته حيازة "السلطة المحض"، نقصد المستقلة عن أي وظيفة عامة تتطلبها السلطة عادة. ببساطة، كان هؤلاء أفراداً "عاديين" ولكنهم يمتلكون سلطة دولة. وهم إلى ذلك أفراد سيئون في أخلاقهم وفي تصوراتهم، وهل يمكن لأفراد هذا حالهم أن يكونوا سوى ذلك؟ وقد أفرزت هذه الظاهرة "الأسدية"، على مدى عقود حكمها، الكثير من الحوادث اللامعقولة في احتقار الناس، والتي يتذكرها وسيتذكرها طويلاً أبناء سورية، وأبناء اللاذقية بشكل خاص، بوصفها المحافظة التي نكبها القدر بهم.
حول أصحاب "السلطة المحض" هؤلاء، نشأ جيش من الأتباع والمستفيدين الذين يشكلون الذراع التنفيذي المباشر، وهؤلاء هم من عُرف في سورية باسم "الشبيحة". هؤلاء لا ينتمون إلى مؤسسة الدولة، ولكنهم أعلى سلطة من جميع السلطات الرسمية لهذه المؤسسة. إنها في الواقع دولتهم رغم أنهم خارجها. والواقع أن تماهي هؤلاء بالدولة السورية، توازى، كتفاً بكتف، مع اغتراب السوريين عنها، وتحولهم إلى ضحايا على يد "دولتهم".
الواقع أنه، في محيط كل مركز سلطة فعلية في الدولة الأسدية، نشأ امتداد تشبيحي يحوز على سلطة مستمدة من سلطة المركز. والحقيقة التي يعرفها السوريون، هي أنه في أحيان كثيرة تكون السلطة التي يمارسها هذا الامتداد في الوسط العام أعلى من سلطة المركز المباشر الذي تستند إليه، نظراً لما للشبيحة من صورة مخيفة في مخيلة السوريين تجعلهم يتراجعون أمام كل من يبدو لهم أنه ينتمي إلى هذه الفئة.
امتلاك سلطة بلا قيود يدفع، بطبيعة الحال، إلى الاستهانة بالآخرين واحتقارهم. ومن هذه الأرضية يمكن فهم العدوانية الرهيبة لهؤلاء في التعامل مع "الآخرين" أو مع "الحثالة" الذين تجرؤوا على تحدي السلطة. يزيد في العدوانية ويدفعها إلى حدود جنونية، النظر الضمني إلى المحتجين على أنهم طائفيون لا يحركهم مطالب وحقوق بل كراهية طائفية ضد العلويين، وغالباً ما تتم تغطية هذه النظرة بتحليل "رسمي" لا يقل تحقيراً، يقول إن الاحتجاجات ليست سوى عمالة وخيانة لخارج ما.
في النظرتين، المضمرة والمعلنة، هناك آلية إسقاط (projection)، الطائفي يرى الطائفية في خصمه، ومن خان عمومية الدولة وخصخصها بجعلها ملكية "أبدية" لعائلة، مستنداً أكثر فأكثر على الخارج، يرى العمالة والخيانة في خصمه.
في الصراع السياسي، البحث عن مصادر طاقة هوياتية (أكانت دينية أو إثنية) لتحقيق كسب سياسي، هو مسعى يعادل الخيانة، لأنه طريق مفتوح إلى العنف الممعن في الفظاعات واللاعقلانية، وإلى مصادرة الصراع السياسي بوصفه كذلك، لصالح صراعات سيطرة وقتل وإبادة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان الآن مع عماد حسن.. هل سيؤسس -الدعم السريع- دولة في د


.. صحف بريطانية: هل هذه آخر مأساة يتعرض لها المهاجرون غير الشرع




.. البنتاغون: لا تزال لدينا مخاوف بخصوص خطط إسرائيل لتنفيذ اجتي


.. مخاوف من تصعيد كبير في الجنوب اللبناني على وقع ارتفاع حدة ال




.. صوت مجلس الشيوخ الأميركي لصالح مساعدات بقيمة 95 مليار دولار