الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جماليات الغياب .. قراءة في رشحات الحمراء ل .. جمال الغيطاني

محمد سمير عبد السلام

2006 / 9 / 15
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


تتجه الكتابة الروائية عند الأديب الأستاذ / جمال الغيطاني فى " رشحات الحمراء " الصادرة عن دار الشروق سنة 2003م ، إلى إنتاج دلالات جديدة حول علاقة الرواية بالصور المفتتة والمتناقضة للحياة ، تلك التى تعيد رسم الوقائع وفق حضورها الإبداعي المتغير ، ودرجة تجسدها فى وعي الراوي ولغته المواكبة للمادة الخيالية الروائية. إن تفكيك الواقع إلى شخصيات وأماكن هامشية وذكريات وآثار وإحالات إلى أعمال فنية – لكل منها بكارة الحضور وحداثة التكوين – يطرح إشكاليات عديدة حول مفهوم السرد الروائي عند (الغيطاني) ، وبخاصة فى أعماله المنشورة مؤخراً . وكأن مفهوم السرد ينتقل من تحريك وتتابع ما هو معروف من علامات بين الراوي والمروي عليه ، إلى إنتاج لحظة إدراك أولى للظواهر والعالم دائماً. هذه اللحظة تنتج إحساساً دقيقاً بالتطور التكوينى ثم التحول الإبداعي للأشياء ، كمواد حلمية غير معروفة برغم واقعيتها ، ولهذا لن يغرق الراوي في رسم الأساطير والتحولات ، لأن التحول يكمن فى الوجود الظاهري نفسه ، شريطة أن يلتفت إليه الوعي خارج منظومة العلاقات السببية ، وأن يقصي المنطق الذى كان يفصل الواقع عن الأسطورة . إن الراوي هنا مشغول بتدوين الصور وحفرها فى ذاكرة استقبالية مجهولة ، لأنها تتحدي الماضى بقدرتها الإنتاجية التصويرية الجديدة ، والتي تكمل الوجود الإبداعي من خلال سرده كحلم أسطوري ، ويطلق (ديفيد لودج) على هذه الكتابة : (الرواية الإشكالية) تلك التي تستخدم أكثر من أسلوب سردي ، وتعيد تركيب الأساليب الروائية السابقة ، بما فيها الشكل السيري ، وقد توصف بأنها (رواية اللعبة) لأنها تترك القارئ دون معني أو رسالة ، ولكنها تخلف عنده إشكاليات العلاقة المعقدة والمحيرة بين الفن والحياة . (راجع- لودج – الروائي فى مفترق الطرق- ضمن الرواية اليوم - ت/ أحمد عمر شاهين – هيئة الكتاب سنة 96 صـ 78 ، صـ 96) إن مادة السرد عند (الغيطاني) هي الحياة نفسها فى تكوينها الأولى الغائب ، ومنها ينبت وعي الراوي ويتحقق ، ألا يذكرنا حديثه عن (الحمراء) بمرجعيات الحياة اليومية ، فمنبتها فقير وتنحدر من أجانب جاءوا واعتنقوا الإسلام ، وهي دائماً ما تنتقل بين الأسطح فى ربع (حسام الدين) وتقوم بالخبيز ولا يردها أحد إن جاءت ، ثم يحول الراوي هذا الظهور الواقعي نفسه إلى مادة خيالية وجودية ، فظهور الحمراء واختفاؤها المفاجئ ، لا يمكن تبريرهما وفق مقولات المجتمع ، فتكوينها الجمالي ينطوي على حركة غياب أصيلة لمصدرها من حيث هي ظاهرة فريدة وغير واقعية معاً ، فيؤكد الراوي أنها تأتي من نقطة بعيدة عصية على التحديد ، كما تروح وتجئ دون أن يستدعيها أحد ، وعند هذه النقطة من تقاطع الواقع والأسطورة تتخلق الحياة الأولي للحمراء ورشحاتها وآثارها فى الرواية ، فتبدو كطيف يجسد اللاوعي الجماعي المؤول لنشأة الكون ، حيث يعترف عندما يقترب منها بإحساسه الطفولي بأنها مفتتح المادة الذى لا يمكن القياس عليه. وأري أن هذه الصورة تؤجل مفهوم الأنوثة الذى منحه لها الراوي من البداية ، والمقترن بجمالها الجسدي وزواجها والتزامها بالعادات والتقاليد التي تخص النساء. هذا التأجيل الدلالي كان في اتجاه تحويل سمات الأنوثة نفسها إلى احتواء هوائى مفتت للمواد الكونية ووجود الذات فى العالم ، وللرغبة بوصفها إبداعاً وجودياً ، فهي شبح بلا اسم أو صفة محدودة وكأنها الحياة الغائبة للمادة التي لا يمكن رؤيتها مجردة أبداً. إن الراوي – فى اقترابه منها – لا يصرح بذكورته أو يؤكد حضوره ، وإنما ينسب وجوده إليها ، إلى هذا الحريق الكوني البعيد كما يري ، ليكتسب الحياة السابقة علي تحديد النوع أو الاسم مثل الحمراء ، ويعاين حالة عشق قائمة على لذة التفتيت الظاهراتي والسردي علي حد سواء. هل كانت الحمراء قراءة محرفة لمتون الأهرام ، للنقطة الراقصة التي عاينها البطل عند الغيطاني وتوحد بها من قبل ؟ أم أنها بديلها الأنثوي المجسد . وتمتد الحمراء وفق هذه الرؤية فى التكوينات الإبداعية الأخري مثل الجمل الصغير الرشيق القادم من الشمال ، فما أن يستغرق الراوي فى أوصافه الجمالية حتي يقوم صاحبه بطعنه فى سرعة في موضع القلب ، فتتفكك أجزاؤه في بركة من الدم ثم يباع بثمن زهيد ، وكأن الاختفاء كان كامناً في بروزه الإبداعي المفاجئ للراوي أو أنه متحول في اتجاه هدم له شكل جمالي يصنع فى وعي الراوي والمتلقي حياة أخري ، وامتداداً سحرياً للوجود فى اتجاه تأكيد الغياب ، الذى يدرك من خلاله الراوي قداسة العالم والكتابة . ألم يقترن عنده صهيل الحصان بالرغبة وتحقق النشوة الأنثوية ؟ الصوت هنا مادة كونية تؤسس للوجود اللاواعي في الكتابة ، فقد أصبح الصهيل صوتاً متألماً مشروخاً داخل الراوي . إن انكسار الصهيل يقتل الحصان في وعي المتلقي ويجسده في صورة سمائية سريالية تعيد تحويل التجسد الطيفى للحصان أو الثور في لوحات (سيلفادور دالي) ، وقد اقترن بآلام المسيح . هل هي الشهوة الغائبة للألم ، والتي جسدها (بودلير) فى أشعاره ؟ أم أنها الحلم بالموت كأحد أشكال الوجود للتحول دون قيود ؟ إن اختفاء الحمراء وطلاقها ليعيد خلق آثارها في سعاد ونادية ونجاة ومجد والأعمال الفنية التي يحيلنا إليها الراوي ، فقد بلغ بتدوينه للحظات لقائه بمجد مالم يبلغه لو عاين التجربة وعايشها معايشة كاملة لقد خرجت مجد من الانفجار الكوني المفاجئ ، والذى تلاه التمدد ، ومن جماليات سجاد (بخاري) وجماليات اللوحات الجدارية لحضارة مصر القديمة مثلما ذكرته الحمراء ببطلات الرويات الأوربية. إن علاقته بمجد جسدت بلاغة الطيران إلى المجهول ، بلاغة الفراغ الذى يحيا فيه الوعي ويكتب ويتأمل دون رقابة ، فثديها يأتى ويروح كما هو تماماً فى هواء الذاكرة وتجلياتها ، كأنه أثر طائر مثل الحمام الذى تهاوت صوره عقب وفاة صاحبه (الحاج فهمي) ، تأتي صوره وتغيب من مجهول إلى مجهول دون علم الراوي . وفى المنظومة المكملة لرشحات الحمراء من دفاتر التدوين المعنونة بـ( نوافذ النوافذ) – دار الهلال ، يحول الراوي (الرؤية) إلى موضوع إبداعي للإدراك والتأمل ، يتجسد في علامات النوافذ التشكيلية ، فالنوافذ تكمل منظومة (الغياب) في (رشحات الحمراء) ، لأنها تؤسس للانهائية الاكتشاف والممارسة من خلال الفراغ . إنها منفذ لحياة الراوي وأمه ، رغم حديثها الدائم عن الاختصار وعدم الاختلاط بأهلي المدينة. لقد شكلت النوافذ وعي الراوي من خلال موضوعاتها رغم غيابه الجسدي عن هذه الموضوعات إنها حياة الرؤية كموضوع للكشف والممارسة الوجودية لحياة الغياب الأخري ، رغم تهديد الحوائط والإطار. هل كانت النوافذ أصيلة فى الوعي فاخترقت حوائط المنزل الريفي ، وهواء المدينة والأطر الأخري والحواجز فيها ؟ . إن الراوي يعشق صورة (الحلبية) حال ثورتها ثم هدوئها ، رغم إيمانه بالبعد عنها أثناء عراكها مع الجيران وكأن الفراغ الذى تنتجه النافذة يولد مادة جديدة للتواصل تقوم على جماليات الغياب . هذا الفراغ قد ولد أيضاً تحققاً آخر للحظات العشق التي رآها الراوي في منزل لا يعرفه ، فقد ولد الهواء المقابل لنافذته صيحة كونية وأسطورية للرغبة أنتجت أنثي أخري راقصها أمام نوافذ الشهرة ومن داخلها أيضاً. لقد تحولت النوافذ إلى صوت داخلي للأنا يمكن تحديد العالم من خلاله ، هل هي الكتابة ؟ إن النافذة هنا تحول الوقائع والمعتقدات والشخوص إلى صور لها حركة خاصة تشبه تداعيات الكتابة. ومثلما أنتج (الغياب) صور الحياة والرغبة ، فقد أنتج جماليات أخري للموت والفزع في منظومة يسميها (نوافذ الفزعة) ، فقد تحولت انطباعات البطل عن (أم نبيل) إلى مسوخ مشوهة عديدة في الوعي للمرأة تؤجل صورتها المعروفة لصالح حياتها الأخري الغائبة ، فيتجلي رأسها ذات مرة مقطوعاً في الظلمة أو يستدعي وجودها وغموض عينيها صور الأصنام ووهم التحول اللاواعي أو الأسطوري بداخله إلى حجر . لقد كانت صورة الصنم كامنة فى الوعي تهدده دائماً بالقتل أو المسخ. إن للأساطير المتعلقة بالنوافذ لذة تجسيد صور الفزع ، وتأسيس جمالياتها في الكتابة فالغولة الشرسة فى المبني المواجه للمدرسة تخترق الأطر المنطقية للنوافذ وتسعي لاستبدالها ، كما تؤسس لقداسة الإدراك كظاهرة تستعصي على منظومة الأطر الواقعية . إن هذه الأشياء الواقعة خلف حدود الغياب تلفت النظر دائماً في كتابة (جمال الغيطاني) إلى حياتها الخاصة وتطورها الآني فعندما التهمت النار الشيخ (على الجرجاوي) التفت البطل إلى نسيجها الحركي الأسطوري ، فقد ذكرته بالتحول إلى خفاش بفعل العفاريت . النار هنا مادة للتحويل مثل النوافذ والحمراء والحريق الكوني وعناصر كتابة الغيطاني الجديدة جميعاً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موريتانيا - مالي: علاقات على صفيح ساخن؟ • فرانس 24 / FRANCE


.. المغرب - إسبانيا: لماذا أعيد فتح التحقيق في قضية بيغاسوس للت




.. قطر تؤكد بقاء حماس في الدوحة | #غرفة_الأخبار


.. إسرائيل تكثف القصف بعد 200 يوم من الحرب | #غرفة_الأخبار




.. العرب الأميركيون مستاؤون من إقرار مجلس النواب حزمة مساعدات ج