الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحرية هي ملمس الياسمين على باطن الكف

راتب شعبو

2022 / 5 / 17
الادب والفن


حين خرجت من السجن، كانت الحرية بالنسبة لي قد تضاءلت حتى صارت تعادل الأمان، أن لا أخاف من تعذيب ممكن في أي وقت، وأن لا أجوع، وبالتأكيد أن لا أكون محجوزاً وراء باب مقفل. ذلك أني خرجت إلى "الحرية" من سجن تدمر مباشرة. وكانت تتزين ضفاف هذا المعنى الضئيل للحرية، بصور ضبابية غامضة لإمكانيات ملامسة بعض المتع الحسية المفقودة في السجن. ربما كان يمكنني في ذلك الوقت، أن أتكلم طويلاً عن معنى عميق للحرية، وعن أبعاد واسعة لها، عن أفكار وآفاق وتصورات ... الخ، ولكن ما كان يذهب إليه عقلي في الكلام عن الحرية، كان مستقلاً بشكل تام تقريباً عن الحرية التي فرحت بها حين خرجت من السجن.
حينها كانت الحرية، بالنسبة لي، هي أن لا يكون هناك تفقد يومي نصطف فيه خمسة خمسة، وجوهنا إلى الحائط ورؤوسنا في الأرض، ونحن نشعر بامتلاء المكان بالعناصر المنتشرة حولنا والمشحونة بالعداء، فيغدو الوقت هو ترقب الضرب والشتم. كانت الحرية حينها أن تسقط من رأسك التهديد الدائم بالتفتيش وما يستجر عليك من احتمالات، وأن لا تسمع جرّة الحديدة على أرض الباحة وما يعنيه هذا الصوت من احتمالات الشر، وأن تتحرر من واجب الحراسة الليلية في المهجع ومن قلق ما يمكن أن تخبئ لك ساعتاها الثقيلتان من مفاجآت مرعبة. كانت الحرية هي أن تستطيع أن تذهب إلى الحمام حين تلح عليك الحاجة. الحرية، للخارج من سجن تدمر، هي الماء الدافئ، هي الشاي الساخن، هي المرقة الحمراء الدسمة، هي المشبك والعوامة والقطر، هي المكسرات المملحة، هي التين اليابس والتمر والحلاوة الوافرة. هي اللباس الجديد الملون والفراش الدافئ. هي أن ترى وجهك في المرآة، وتحلق ذقنك بمعجون حلاقة وشفرة.
لم تكن الحرية، بالنسبة لي حينها، تتعدى كثيراً أن تمشي وأنت تنظر أمامك لا بين قدميك، أن تستطيع أن ترى مشية طبيعية لإنسان، أو مجرد أن ترى كيف يبدو من الخارج المكان الذي أنت فيه. أن تستطيع أن تختار ما تأكل، مهما كانت الخيارات محدودة. أن تنام حين تشاء وتستيقظ حين تشاء، وأن تتقلب في نومك كما تشاء دون خوف من أن تزحل الطماشة عن عينيك أو من أن يلحظ حركتك الشرطي من خلال الشراقة.
كانت الحرية هي أن تكون وحيداً مع نفسك في منأى عن العيون. في بداية اعتقالي رأيت سجيناً يغمر نفسه بشرشف وهو جالس. حينها لم أفهم هذا السلوك إلا كنوع من الخلل الشخصي، ثم فهمت إنه وسيلة لمعالجة الخلل الأكبر الذي يفرضه السجن على المسجون والمتمثل في جعل المسجون تحت النظر طوال الوقت، في يقظته كما في نومه، دون أن يسمح بأي قدر من العزلة الشخصية. ومن ناحية أخرى قد يكون السجن حالة معاكسة بالكامل، فيفرض العزلة التامة، كما يكون حين يوضع المسجون في منفردة. لا شيء طبيعياً في السجن.
كما كان سجن تدمر غموضاً ينطوي على شتى صنوف القلق والترقب والتوقعات المخيفة، كانت الحرية، للخارج من هذا السجن، غامضة أيضاً ولكنه غموض ينطوي على احتمالات لطيفة وممتعة، أو على الأقل خالية من الألم.
من هذه الاحتمالات اللطيفة التي يمكن أن تخبئها لك الحرية مثلاً، إنه عقب الإفراج عني، وأنا هزيل حليق الشعر شاحب الوجه، وبينما كنت أودع بعض الزوار الذي جاؤوا لرؤيتي، ربما بدافع الفضول أكثر من أي شيء آخر، اقتربت مني امرأة من بينهم، تأملتني بابتسامة هادئة، قبل أن تدس في يدي شيئاً ناعم الملمس، وتقول، وهي تحافظ على ابتسامتها: "أهلا وسهلا برجعتك"، وتتابع سيرها مع جملة الزوار الذاهبين. كان ما وضعته في يدي بضع زهور من الياسمين قطفتها ولا شك من الياسمينة الكبيرة التي كانت تغطي الحائط الجنوبي لبيتنا. كنت بالكاد أعرف هذه المرأة قبل اعتقالي، ولم يصدف أن رأيتها بعد تلك الزيارة. لا أدري كيف ابتكرت تلك المرأة هذه الحركة، ولكني كأنما حزت بها تقديراً تجاوز بي الكثير من المسافة التي تفصل السجن عن الحياة العادية.
لم يحمل ما فعلته تلك المرأة أي أثر مما يمكن أن يكون شيئاً خاصاً بين رجل وامرأة. كانت في سلوكها امرأة تمثل عموم النساء أمام رجل خرج للتو من سجن مديد، ليس لجرم ارتكبه بل لظلم عام وساحق ومقيم. لذلك أرادت أن تكون اللطف في مقابل القسوة. المرأة والابتسامة والياسمين المدسوس في راحة اليد، مقابل ما تركته القسوة القاهرة من أثر ظاهر على ملامحي. أو قد تكون هذه الحركة شكلاً من الاعتذار الذي يفرضه إحساس بالعجز؟ لكنه إذا كان كذلك، فإنه اعتذار، في أسلوبه وأثره، يصل إلى حد تدارك التقصير الذي يعتذر عنه.
كان يمكن لها أن تعطيني زهرة الياسمين بالطريقة المألوفة لتقديم الزهر، وكان ذلك سيترك أثره أيضاً في النفس، غير أن تلك الطريقة غير المألوفة كانت أكثر أثراً، ربما لأنها غير مألوفة، وربما زاد عمق الأثر ملمسُ الياسمين على راحة الكف، حركةُ يدها الناعمة في إغلاق يدي على الزهر. هذه الحركة تجعلك ترى الابتسامة المرافقة ابتسامة قلب وليس مجرد ابتسامة وجه.
بعد سنوات من السجن، استدعيت، ذات يوم، إلى التحقيق لأمر ما. وُضعت وحيداً في غرفة، وبعد عدة ساعات فتح الباب رجل صامت هاجمني بنظرة ثابتة تمزج الكره مع العدوانية مع الاحتقار والاشمئزاز، إلى حد أنني لم أستطع مواصلة النظر إليه، فكسرت نظري فيما بقي هو في الباب دون أي حركة أو كلمة. شعرت أن نظرته تحقن السم في دمي، وأنها نوع من التعذيب، كأنها قماشة رطبة تخنقني. كانت الثواني طويلة قبل أن يمضي ذاك الرجل ويغلق الباب خلفه بعصبية.
السجن هو نظرة ذاك الرجل، والحرية هي ابتسامة تلك المرأة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع