الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطفولة وعلاقتها بالتذوق الجمالى

محمد فُتوح

2022 / 5 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


--------------------------------
قد يتشكك البعض ، فى قدرة الطفل على تذوق الجمالَ ، بحجة أن الطفل ، لا يمتلك الخبرة الكافية ، للتعرف على مواطن الجمال ، والقُبح ، فيما يُعرض له ، من أشكال جمالية ، سواء فى الطبيعة ، أو فى الفن .
لقد دلت نتائج التجارب النفسية على أن الأطفال الذين تترواح أعمارهم بين الثانية والثالثة ، يعتمدون فى اختيارهم للأشياء ، على أشكالها قبل اعتمادهم فى الاختيار على ألوانها ، لأن الشكل أعم من اللون ، وتظهر قدرة الطفل فى تمييزه للألوان ، واختياره لها قبل سن الرابعة ، إذ يستطيع الطفل أن يفرق بسهولة ، بين الألوان الأساسية ، الأحمر ، والأزرق ، والأسود ، ولكنه يجد صعوبة فى التعرف على درجات اللون الواحد ، لتقاربها من بعضها .
إن الارتقاء المعرفى لدى الأطفال خلال السنة الأولى ، يحدث فى مجالات عديدة ، ويكون هذا الارتقاء سائداً بشكل خاص فى أربعة جوانب أساسية ، الأول هو الإدراك ، فيكون الطفل الصغير قادراً على إدراك الموضوعات ، وإدراك بعض خصائصها كاللون ، والصلابة ، والشكل . والجانب الثانى المعلومات ، والثالث التصنيف ، والرابع تحسن مستوى الذاكرة .
إن الطفل ومنذ لحظة ميلاده الأولى ، واتصاله بالعالم ، يرتكز فى أسس جمالية ، ذلك لأن حاسة إبصاره ، حاسة مستكشفة للكيفيات ممنْ حوله ، كاللون ، الضوء ، الليونة ، الصلابة ، ولقد دلت الملاحظة والدراسات ، والتجارب ، على أن حاستى السمع والبصر ، من أوائل الحواس العليا التى يستخدمها الطفل ، فى اتصاله ( قبل أن يحبو أو يمشى ) . فعيناه تتحركان فى متابعة نقطة ضوء . أو لون ، أو شكل خاص ، ويلتفت إلى مصدر صوت إيقاعى ، أو ينام على أصوات أغانى التهنين المعروفة فى التراث الشعبى .
وترتبط الخبرة التذوقية عند الطفل ، بعملية التذكر والتخيل . حيث أن التذكر عملية ارتباطية ، تمكن الطفل من استرجاع الصور الذهنية المختلفة ، البصرية والسمعية ، والشمية ، واللمسية والذوقية ، التى سبق أن مرت به فى ماضيه إلى حاضره الراهن .هذا وتؤكد الدراسات العلمية على أن طفل الثالثة يستطيع أن يتذكر خبرات مرت به بعد شهرين أو ثلاثة من حدوثها ، ويستطرد هذا المدى فى النمو بتقدم سن الطفل . ومن الملاحظ أن طفل ما قبل المدرسة بصفة عامة ، يتذكر أولاً الأشياء التى رآها ، وتقابل معها ، وتداولها بين بديه ، ثم يتذكر صورها ، ثم رسومها التى تعرض عليه ، ثم يتذكر أسماء الأشياء المحسوسة ، ثم الأعداد ، ثم الكلمات المجردة .
إن الطفل يكتشف من خلال خبرته الواقعية ، صفات الأشياء الصلبة ، واللينة ، والساخنة ، والباردة ، والزاهية ، والمعتمة ، و الأشكال ، والألوان والخطوط والملابس و الأضواء البعيدة ، والقريبة ، ويعرف أن هذه الصفات هى حقائق موجودة يجب أن يدخلها فى اعتباره . وعناصر الطبيعة المحيطة بالطفل ، والتى يتعامل معها ليل نهار ، يراها فى الطريق متمثلة فى الأشجار ، والنباتات فى حديقة المدرسة ، وفى نماذج الفاكهة ، والخضر التى يأكلها ، ويتذوقها بلسانه ، ويتذوق رحيقها وملمسها ، إنه يحاول أن يدرك ما بها من قيم جمالية ، حتى تنمو حواسه نمواً متسقاً ، ويكتسب خبراته الجمالية من خلال حواسه المكتملة ، فيتذوق بالعين مثلما يتذوق باللسان ، والسمع وبقية حواس الجسم كله .. إن الطبيعة لا تقدم فقط تعليماً علمياً ، ولكنها أيضاً معرفة بالجمال . فهى موضوع للاستمتاع الجمالى .
ويرتبط التذوق الجمالى للطفل بوعيه الجمالى ، حيث أن الوعى الجمالى هو القدرة على التذوق ، أو الشعور ، أو الانتباه إلى القيمة الجمالية ، أو الكيفية الجمالية التى توجد فى شىء ما ، سواء أكان طبيعياً أو عادياً ، أو عملاً فنياً فى ذاتها ، ولذاتها دون الاهتمام بصلتها المباشرة بالنفع المادى ، أو تحقيق مكسب عاجل ، أو آجل ، وهذا ما يسميه الفيلسوف الألمانى كانط Kant بالتنزه عن الغرض Disinterestedness ، ولما كان الطفل يبدأ بإدراك كيفيات ، أو قيم الأشياء ، من حيث اللون ، والشكل ، والصوت ، والحجم ، فإن وعيه – بصفة عامة – وعياً جمالياً .
إن الطفل يقدر القيمة الجمالية ضمنياً ، دون قدرة على التصريح بذلك ، وإنما يدرك ، ويصنف ، ويميز ، وتتحدد لديه الأشياء من خلال قيمتها الجمالية ، أى ألوانها الصارخة ، أو أشكالها المتلألئة ، أو حركتها المثيرة ، أو صوتها الرفيع لا الخشن ، لأن الصوت الأرفع أحّد فى ذبذباته ، وبالتالى أشد وقعاً فى نفسه .
يمكن حصر خمس كيفيات جمالية أساسية تربط الطفل بالعالم ، هى اللون ، والضوء ، والصوت ، والحركة و الإيقاع . فاللون الفاقع يلفت انتباه الطفل عادة ، ويجعله يشعر بالمتعة والسرور ، وكذلك انعكاسات الضوء بواسطة لعبة أو لمبة ، وأيضاً الهمهمة والتهنين كصوت لغوى ، والرفس و التقلب يميناً ويساراً ، أو المرجحة ثم الصوت ، كإيقاع فى أغنية ، أو فى موسيقى . ولا تلعب الكيفيتان الخاصتان بالحجم ، والخط ، دوراً فى المتعة الجمالية للطفل فى البداية ، لأنهما يرتبطان بوعى متقدم عنه ، إذ يحتاجان لقدرات إدراكية خاصة . الحجم يدخل فى تذوق الجميل كالمعمار ، والخط يدخل فى التجريد كــ فن الأرابيسك ، ويتعرف الطفل على الخط فى مرحلة الدراسة أو على الأقل فى مرحلة الحضانة .
إننا لو تأملنا فكرة الخط فى الطبيعة نجدها غنية ومتنوعة . فهناك الخطوط القوسية المتمثلة فى قمم الجبال والسحب ، والكثبان ، والجسد البشرى ، وتركيب ورقات الزهرة ، وهناك الخطوط المستقيمة المتمثلة فى سيقان الأشجار ، وزعف النخيل ، وعيدان القصب ، وسيقان الذرة ، كذلك الخطوط المتشعبة المتمثلة فى تجاعيد الجسم البسرى عند الكبر ، أو شرايين ، و أوردة الإنسان ، كذلك فى شرايين النباتات ، و أوراق الأشجار ، أيضاً فى فروع الأشجار الجافة أو تشققات أرض جافة ، أو جذور الأشجار ، والنباتات . كلها نماذج لأنواع الخطوط فى الطبيعة .
إذا كان الوعى الجمالى يرتبط بالقيمة الجمالية ، التى تنبثق من شكل جميل ، فإن ما يحدد جمال الشكل ، تلك الكيفيات الحسية التى ذكرناها ، والتى يمتلك الطفل منها خمس كيفيات اللون ، والصوت ، والحركة ، والضوء ، والإيقاع ، إن كان الطفل لا يعى الشكل بالمفهوم الجمالى والإصطلاحى له ، فإنه ينتبه لتشكيل الصور ، أو يعمل على تذوقها ، وهى تلك الصور المتنوعة التى ينتجها له محيطه من خلال الكيفيات اللونية ، أو الضوئية ، أو الصوتية ، أو الحركية بالنسبة لعلاقتها بالشخصية القريبه له والمعتاد عليها . فما يُقدم بواسطة الأم ، أو الأب أو الأخ أو الأخت ، من صور لونية أو ضوئية أو حركية ، يقع فى نفسه موقع التلقى الإيجابى أكثر من الأشخاص الأغراب ، لذلك على الأسرة أن تستخدم الكيفيات الجمالية الخاصة بالطفل فى تشكيلات منظمة كالتشكيل الجمالى للصورة فى أغنية ، وكالتشكيل الجمالى فى اللون ، بصياغة ، أو تلوين لعبة معينة بألوان الفاكهة ، أو الورود ، وكالتشكيل الجمالى للحركة فى اللعبات المتحركة ، وكالتشكيل الجمالى للضوء فى التوزيعات الضوئية المتناسقة .
إن تذوق الطفل الجمالى ، يحتاج إلى عملية من التدريب مقصودة ومتكررة ، لاكتسابه الوعى والتذوق الجمالى ، حيث أن اكتشاف الطفل بالأشكال المتنوعة يحتاج إلى نوع من التوجيه ، حتى يدرك ما حوله من تنويعات وأشكال مختلفة ، تثرى تذوقه الجمالى . إن حواس الطفل حينما تبدأ فى التعرف على الطبيعة ، تتعرف على الشكل السطحى لمظاهر الأِشياء ، وتضع تعميمات للمدركات البصرية ، دون الالتفات إلى مقومات الأشياء ، وما بها من فروق وتصنيفات ، ولعل من بعض سمات رسوم الأطفال ، فى مراحل عمرية معينة ، سبباً منها هو عدم قدرة الطفل على إدراك الطبيعة من حوله . لذلك تجده يحفظ موجزاً شكلياً ، ثم يردده كما هو ترديداً متكرراً ، دون المساس به ، أو التنويع فيه ، هذه السمة غالباً ما يكون سببها هو عدم القدرة على رؤية الفروق ، والتنوعات بين الأشياء والأشكال والمعانى . وفى بحث أُجرى لإيضاح مدى صحة هذه الظاهرة ، طُلب من أطفال سن السابعة تقريباً ، رسماً لأوراق الأشجار ، كانت النتيجة أن كل طفل يحفظ شكل ورقة ، ويكررها بلا تردد ، دون أن يلتفت إلى أن هناك عالماً من الأشكال المتنوعة ، ولما وُجه الأطفال إلى أن هناك عالماً من الأشكال المختلفة ، والمتنوعة لأوراق الأشجار ، بدأ الأطفال يرسمون عالماً من المتنوعات الشكلية ، وابتعدوا تماماً عن ظاهرة التكرار الآلى .
وفى دراسة تجريبية نشرت فى فرنسا عام 1956 ، أجرى روبير فرانسيه ، تجارب على تذوق الموسيقى ، انتهت به القول بأن الطلاب الذين تلقوا تمريناً سابقاً على تذوق الموسيقى ، أكثر حساسية لإدراك الوحدات الأساسية للقطعة الموسيقية من الطلاب الذين لم يتلقوا تمريناً من قبل ، أو تلقوا قدراً ضئيلاً من التمرين .
إن التدعيم الدائم للتشكيلات المكونة من الكيفيات الجمالية الخمسة وتكرارها ، ستؤدى إلى نوع من التثبيت لهذه الكيفيات ، وما بيها من علاقات فى وعى الطفل ، لأنه ليس لديه انتقاء جمالى ، وإنما علينا أن نقوم بالتثبيت الجمالى للمعطيات الجمالية السابقة ، ومن ثم تبدأ أولى مراحل حفظ الأبجدية ، بمعنى حفظ اللون ، والحركة ، والصورة ، والإيقاع .
إذا كان التثبيت والتكرار لمعطيات الوعى الجمالى وكيفياته ، لدى الطفل منذ ولادته – من خلال المداعبة الإيقاعية ، والألعاب المختلفة ، مشاهدة الكرتون ، ومسرح العرائس ، والحوار مع الحيوانات والطيور – يُحدث ما يمكن أن نسميه أفقاً نوعياً فى تذوقه لهذه الأِشياء ، فإننا يجب أن نلفت الانتباه إلى أن هذا الأفق النوعى مع ازدياد نمو الطفل ، وازدياد قدراته الإدراكية ، والذهنية ، سيؤثر فى كل خبراته الجمالية سواء كانت فنون تشكيلية ، رسم ، ونحت ، أو موسيقى ، أو ِشعر ، تأثيراً متبادلاً . فعلى سبيل المثال تثبيت الإيقاع وتكراره بشكل منتظم فى داخل الطفل ، سيحقق قدرته على تذوق الرسم أو ابداعه ، لأن الإيقاع عنصر مشترك فى هذه الفنون ، يوازيه أساس مشترك فى الحواس المختلفة ( ذات التخصصات المتباينة ) فى الإنسان ، وهو ما نسميه بالحساسية المشتركة .
إن تثبيت وتدعيم الخبرات الجمالية لدى الطفل ، يُقوى ويُغذى ملكة التذوق الجمالى. وفى هذا الإطار أو المجال ، يظن البعض أن الذوق مسألة فطرية ، لا يحتاج إلى رعاية أو تربية ، وهذا الاعتقاد خاطىء من أساسه ، لأن الطفل يولد فى بيئة ، يتفاعل معها ، ويتشرب منها أشياء كثيرة ، ومن بينها الذوق ، أى أن البيئة المنزلية الأولى تعلمه أن يحب بعض الأِشياء ، ويكره بعضها الآخر ، يقبل على أنواع من السلوك ، ويحجم عن أنواع أخرى .
ولكى يكون هذا الطفل عضواً فى المجتمع ، عليه أن يكتسب منه كل العادات ، والمهارات ، والمفاهيم ، التى تجعله فى النهاية منتمياً إلى هذا المجتمع ، فالطفل حين يتفاعل مع بيئته المنزلية ، وحين يوسع التفاعل مع محيطه المدرسى ، ثم المجتمع ككل ، إنما يتدرج فى اكتساب مقومات الذوق فى سلوكه ، ولا يمكن أن نقول على هذا الاكتساب بأنه فطرة . و إنما يكون وصفه بأنه تربية غير مقصودة أو تلقائية . ويتميز هذا النوع من التربية ، بأن الطفل يتشربه بسلاسة ، وبدون وعى كامل ، فإذا كانت البيئة مرتقية فى تذوقها ، ارتقى تذوقه ، وإن كانت متدنية ، تدنى تذوقه .
--------------------------------------------------------------------------------
من كتاب " التلوث البصرى والتذوق الجمالى فى الطفولة المتأخرة " 1990
-----------------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد -الإساءة لدورها-.. هل يتم استبدال دور قطر بتركيا في الوس


.. «مستعدون لإطلاق الصواريخ».. إيران تهدد إسرائيل بـ«النووي» إل




.. مساعد وزير الخارجية الفلسطيني لسكاي نيوز عربية: الاعتراف بفل


.. ما هي السيناريوهات في حال ردت إسرائيل وهل ستشمل ضرب مفاعلات




.. شبكات | بالفيديو.. سيول جارفة في اليمن غمرت الشوارع وسحبت مر