الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجزائر: سؤال الهوية بين حقيقة العقل وحقيقة الواقع

سعيد هادف
(Said Hadef)

2022 / 5 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يوم أمس مرت علينا ذكرى اليوم العالمي "العيش معا في سلام". هذا اليوم الأممي انبثقت فكرته من وهران، أي من الجزائر، أي من الفضاء المغاربي الذي مازال يتلمس طريقه إلى السلام.
الفضاء المغاربي من أكثر الفضاءات الجيوسياسية التي تمثّلت هويتها بشكل مأساوي. في الجزائر مثلا هناك جدل هستيري حول الهوية والذاكرة والأنساب. جدل لا يخلو من جدوى ومن لذة، لو أن المتجادلين خاضوا في موضوع الهوية من موقع الاحترام والاعتراف بدل الإصرار على التبخيس والإنكار، ومن موقع تبادل المعطيات والرؤى بدل استراتيجية التضليل والاستعلاء، ومن موقع الشغف المعرفي بدل الحقد والضغينة.
يحفل شهر مايو بعدد من الأيام ذات الصلة بالذاكرة الجزائرية: أحداث 8 مايو 1945، وذكرى وفاة الأمير عبد القادر وذكرى ميلاد مصالي الحاج وذكرى ميلاد مبارك الميلي. وبهذه المناسبة، نستعيد، مثلا، قصيدة رامبو حول الأمير ويوغرطا. وهي قصيدة يستشهد بها الجزائريون بكثير من الفخر. لكن دعونا نقرأ القصيدة وسياقها ببعض المرونة العلمية بعيدا عن الانتشاء الأيديولوجي.
كتب رامبو قصيدته "يوغرطا الجديد" وهو في سن الخامسة عشر. كان ذلك عام 1869، وكان الأمير ساعتها في منفاه ببلاد الشام. فمن أين استقى رامبو معلوماته عن يوغرطا وعن عبد القادر؟ لا شك أنه عاش في وسط له اهتمام بالتاريخ، وخاصة تاريخ الجزائر، ولا شك أيضا أن وسطه كان متشبعا بقيم الثورة الفرنسية ومعاديا للقيم الإمبريالية التي حاولت إجهاض الثورة من خلال نزعتها التوسعية. فمن أين جاءت رامبو الفكرة المحورية لهذه القصيدة؟ هل نتيجة تأثره بالنقاش الذي كان يسود وسطه؟ أم تم توجيهه واستثمار موهبته في إنتاج هذه القصيدة؟ وهي قصيدة تدين النزعة الكولونيالية وتمجد نضال الشعب الجزائري. القصيدة حظيت بجائزة، أي أنها كانت ضمن مسابقة في الشعر. ويمكن القول أن جهة ثورية هي التي كانت تشرف على الجائزة واستثمرت في هذا المراهق الموهوب خدمة للثورة الفرنسية وضد القوى المعادية للثورة (contre révolutionnaire)، التي لم تتراجع إلا بعد كمونة باريس.
قصيدة رامبو التي كتبها باللسان اللاتيني لم ترد فيها "الجزائر"، بل تحدث عن "جبال العرب" بينما نُسْختها الفرنسية استبدلت "جبال العرب" بـ"جبال الجزائر". الجزائر، في ذلك الزمن، عربية في المتخيل الشعبي لدى رامبو والقارئ الفرنسي، وبالموازاة، "لم تعد عربية"، في نفس المتخيل، وفق المترجم الفرنسي. لكن الطريف في هذا الموضوع هو أن رامبو كان يؤمن أن يوغرطا "غير العربي" من أسلاف الأمير "العربي"، أو ربما كان البربر والعرب عنده سيان.
على مستوى العقل، منطقيا، فالجزائر إما "عربية" وإما "ليست عربية" وهذا ما يمكن تسميته بحقيقة العقل، بينما على مستوى الواقع فإن الجزائر "عربية" و"غير عربية" في آن، وهذا ما نسميه حقيقة الواقع:
- فالجزائر "غير عربية" من حيث أن الجماعة البشرية الأولى التي عاشت بهذه الأرض في زمن سحيق لم تكن تسمى "عربا"، ومن حيث أن "العروبة" كعرق وكقومية وكفضاء جيوسياسي لم تتحقق إلا عبر صيرورة تاريخية وعبر سلالات حضارية عديدة من اليمن إلى الرافدين، ولم تظهر على مسرح الأحداث باسمها الجيوسياسي الجديد "العرب" إلا في القرن السابع ميلادي؛
- والجزائر "عربية" من حيث أنها أصبحت في حوزة الفضاء الجيوسياسي العربي منذ الإمبراطوريا الأموية، أي منذ أن شاع اسم "العرب".
في ضوء الجدل حول تاريخ المنطقة المغاربية بين غلاة المزوغة وغلاة العروبة، ووفق معطيات تاريخية موثقة وموثوقة نستنتج أن شمال أفريقيا، كان منذ القرن العاشر قبل المسيح على صلة بمحيطه الأممي، ومن ضمن هذا المحيط بلاد النيل والجزيرة العربية. ومن الطبيعي أن يكون شمال أفريقيا مَصبّا للهجرات المتدفقة من الرافدين واليمن عبر البحر الميديتيراني أو عبر مسالك الصحراء الكبرى انطلاقا من باب المندب، كما أنه من الطبيعي أن تكون الهجرة عكسية من شمال أفريقيا إلى بلاد الشام وبلاد النيل.
سينحاز البعض إلى الفينيقيين ضد الرومان، وسينحاز بعض آخر إلى الرومان ضد الفينيقيين، هذا مع العرب وذلك ضد العرب، هذا مع الأمازيغ وذلك ضد الأمازيغ وهلم جدلا؛ وسيحاول كل فريق أن يقضي على خصمه بالضربة القاضية.
ومهما كانت طبيعة الجدل أو الحرب فإن للتاريخ منطقه الخاص وله مكره أيضا، وفي النهاية ستنتدمج حقيقة العقل في حقيقة الواقع وتنتصر القوة المبدعة على قوة التدمير، وتنتصر الهوية الحقيقية على الهوية المتوهمة.
في هذا السياق، هناك شخصية جزائرية جديرة بالاهتمام، وستصادف ذكرى ميلاده ذكرى وفاة الأمير يوم 26 مايو، إنه المؤرخ الشيخ مبارك بن محمد إبراهيمي الميلي. لم يجد الميلي "العربي" أي حرج حين قرر كتابة تاريخ الجزائر "البربرية"، ولم تعقه أصوله الهلالية من إنفاق وقته وجهده في البحث والتنقيب عن تاريخ الجزائر الممتد في عمق الأزمنة. هذا الكتاب الذي يُعدّ أول مصدر تاريخي وضعه مؤرخ مغاربي، قدّم له وأثنى عليه ابن باديس "البربري" الذي لم يجد حرجا في انتسابه إلى العروبة.
خلاصة القول لا شيء يصبح "معطى" من تلقاء نفسه وبشكل اعتباطي، وكل شيء يخضع إلى قانون. فالهوية والقومية والذاكرة تخضع إلى قانون الصيرورة. منذ أكثر من قرنين لم تكن هناك هوية أمريكية ولا قومية أمريكية، وقد تفرض الصيرورة التاريخية واقعا آخر في المستقبل فهناك من يتطلع إلى زوال أمريكا مثلا وهناك من يرى أن تصبح أمريكا الشمالية برمتها ذات هوية سياسية أمريكية واحدة، وقد تختفي القوميات المحلية في الاتحاد الأوروبي لتحل محلها قومية أوروبية واحدة، وقس على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــ
الجزائر: حرب ذاكرات أم أزمة مشاعر؟
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=722707








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة القميص بين المغرب والجزائر


.. شمال غزة إلى واجهة الحرب مجددا مع بدء عمليات إخلاء جديدة




.. غضب في تل أبيب من تسريب واشنطن بأن إسرائيل تقف وراء ضربة أصف


.. نائب الأمين العام للجهاد الإسلامي: بعد 200 يوم إسرائيل فشلت




.. قوات الاحتلال تتعمد منع مرابطين من دخول الأقصى