الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخرافة في علم النفس

سعد سوسه

2022 / 5 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


من اعداد د . سعد سوسه .
إن النظر إلى الخرافة بوصفها خطأ في التفسير ما زال قائماً . فيقول بنسن (Benson) في النصف الثاني من القرن العشرين ((وإذا تساءلنا لماذا تستمر هذه الكثرة من المعتقدات الخاطئة بل وحتى السخيفة ؟ إن الجواب هو الوراثة . إذ أن الطبيعة التي وهبت الإنسان ذلك الدماغ الرائع ، لم تجهز الإنسان بماكنة مثالية للتفكير ولذلك سرعان ما تنشأ الأخطاء التي تحتاج لوقت وعمل مضني لدحرها)) ( 19 ) . إن الخطأ هو أحد مصادر الخرافة دون شك ولكنه ليس المصدر الوحيد فنحن اليوم نعرف العمليات النفسية أكثر من غيرها فعندما يقول شخص ما ((لقد رأيت ذلك رؤية عيان)) أو (سمعت ذلك بنفسي) فغالباً ما يؤخذ هذا الكلام بوصفه دليلاً قاطعاً .
ثبت تجريبياً كما هو مثبت في ميدان علم النفس أن شهادات الشهود لحادثة واحدة مختلفة كل يروي حسب الزاوية التي نظر بها وكل من عمل في ميدان القضاء يستطيع معرفة ذلك ، حيث أن شهادات الشهود في تناقص مستمر حتى ولو كان في حادثة بسيطة مثل حادثة اصطدام سيارتين فنرى الآراء مختلفة .
لو أردنا معرفة حقيقة معينة هناك من يشبه العين بالكاميرا والأذن بالمسجل أي تسجل كل ما تسمعه وتلتقط العين صورة لكل ما تراه ولكن في علم النفس هذا خاطئ لسببين :
1. هو أن حواسنا تتلقى سيلاً هائلاً من المعلومات من العالم الخارجي لكن المرء
لا يعالج سوى جزء منتقى من المعلومات ، وإلا تاه في هذا الخضم فهو ينتقي ما ينتبه له .
2. إن التنبيهات التي تصلنا تكون ناقصة فلو نظرنا إلى سيارة وبنك وبينهما شجرة فلن تكون الصورة كاملة هناك جزء ناقص هذه الخبرة تأتى بدورها من مصدرين الأول - خبراتنا الشخصية والثاني خبرات الآخرين التي سبق أن نقلت إلينا لغوياً أشار هالويل (Hallowell) إلى حديث جرى بينه وبين هندي أحمر من قبيلة الأوجبوا (Ojibwa) يقول أنه نجا ذات يوم من يد (الونديكو) وهو حسب معتقد القبيلة عملاق يقتات على البشر مثل (السعلاة في العراق) وقد تبعه ليلة كاملة وعندما حلل هالويل رواية الهندي وجد الأدلة الحسية هي الوحيدة في رواية الرجل حيث كانت مقتصرة على الأصوات ( 20 ) . وعندما حلل هالويل رواية أخرى حول ظهور الأشباح والأرواح كانت الدلائل الحسية مثل نفحة هواء بارد جاءت من شباك مفتوح قطة كشرت عن أنيابها بعد تحرك الستارة التي كانت بقرب الشباك .
ولربما كان من المفيد هنا التحدث عن (الإيحاء) حيث غالباً ما تستعمل هذه الكلمة لتفسير أحداث سحرية مزعومة وكان علماء النفس بالماضي شغوفين بهذا المصطلح . لكننا اليوم نادراً ما نجده بالكتب الحديثة حيث تبين أنه لا يفسر حقاً عمليات نفسية فاعلة بل يوهم السامع بالتفسير . ومن أكثر هذه السبل مباشرة هو الإيحاء التنويمي - حيث يصبح شخص ما مستعداً تماماً لتنفيذ التعليمات اللغوية المباشرة القادمة من شخص آخر . وهذا قد يحصل لدى لجوء البعض إلى عقاقير مخدرة . وقد تحدث نتيجة مراسيم ورقص طقوسي مثلما في الزار الشائع في مصر . أما فرويد فقد فسر الخرافات بطريقة مشابهة ففي كتاباته الأولى عن الموضوع ألقى وزرها على الأفكار والمخاوف والرغبات التي يعج بها اللا شعور . وبقاؤها في اللا شعور متأتٍ من كونها غير مقبولة للذات التي تتعامل مع الأحداث اليومية ، وذلك إما لكونها مرعبة أو مؤلمة أو عدوانية أو مرفوضة اجتماعياً مهما كان سبب رفضها . إن هذه الأفكار والمشاعر والدوافع لا تستطيع الخروج لنور الشمس لأن الضمير يقمعها ويكبتها ، ولكنها عوامل فعالة قوية تريد متنفساً ومنفذاً للتعبير عن نفسها ، وهناك سبل كثيرة لإعطائها هذا المتنفس منها ما يدعوه فرويد الإسقاط Projection وذلك بإضفاء هذه الأفكار أو المشاعر على العالم الخارجي .
فيرى فرويد مثلاً أنه قد يمتلكك إحساس بالذنب اللاشعوري لوجود تمنيات ( بموت شخص ما) فتخشى العقوبة لأنك تمتلك التمنيات المحرمة فتحس بان مصيبة ستحل بك ، أو أن حدثاً مأسوياً سيمحقك . ( 21 ) .
وقد لخص فرويد تفسيره عن التنبؤ والأحلام بقوله ( إن الوهم الذي تكون لدى المريضة عند رؤية الطبيب بأنها سبق وان شاهدته في حلمها التنبؤي ) هو كما يرى فرويد مجرد صدفة . وان الخرافة عند فرويد هي نوعين : (الحمداني ، 1990 ، 82)
1. هناك خرافات يمتصها المرء امتصاصاً من مجتمعه مثل التشاؤم من الرقم (13) أو الحظ أو خرافة الأبراج .
2. هناك خرافات تنشأ من حاجات عميقة نفسية ملحة للإنسان وهو يرفض في الوقت نفسه أن تبث اجتماعياً . مثل رجل جاء يحجز غرفة في فندق تعوّد على حجزها وعندما طلبها أُبلغ أن أستاذاً جامعياً نزل فيها فتمنى له الموت في نفسه وعاد وبعد أسبوع سمع أن ذلك الأستاذ أصيب بجلطة بالدماغ ومات فأحس بالذنب وتصور أنه سبباً بموته .
أما يونج فكان دائماً مستعداً لتقبل الأفكار الغيبية دون إثبات كاف ويراه كثير من علماء النفس انه من المؤمنين بالخرافات وهناك شبه بين موقف فرويد ويونج واختلاف حول الخرافة :
• إذ يتفق كلاهما أن المعتقدات والممارسات الخرافية تنشأ من عمليات عقلية
لا شعورية وإنها ليست محصورة في غير المثقفين والجهلة ، بل هي جزء لا يتجزأ من تركيب كل إنسان ولا تحتاج إلاّ للظرف المناسب لتطفو على السطح .
• كما اعتمد كلاهما في نتائجه على الحالات المرضية التي عالجاها وأكد كلاهما
على الجوانب الانفعالية للخرافة مما يفسر سبب إصرار الذي يؤمن بالخرافة على
التمسك بها عندما يقوم له دليل عقلاني واضح على خطئها .
أما (كلارك هل - C.Hull) فيقترح آلية أخرى هي التعميم الثانوي
(Secondary Generalization) .
فعندما يطلق على شيئين أو أكثر الاسم نفسه ، فإن الناس يستجيبون لها بالأسلوب نفسه . وهكذا فإن (المار سالاي) قبيلة توصف بأنها أفاعي عظيمة أو تماسيح كبيرة تعيش في المستنقعات بحيث يعم الخوف من الأفاعي والتماسيح إلى المار سالاي . وينطبق الشيء نفسه على الأشباح فهي لا توصف كشيء مجرد بل هي شخص كان على علاقة قرابة من الفرد . ويؤكد على التشبهات بين الإنسان الحي والشبح بحيث يتم تعميم الخوف إلى الشبح والإنسان تحت ظروف نفسية.
أما (وايتنك) فقد كتب أن للتنشئة الاجتماعية في الطفولة دور في الإيمان بوجود الأشباح وتعد دراسة من الدراسات المهمة لمواجهة مشكلة بث الخرافة من جيل إلى جيل . فعندما تزرع الخوف في نفوس الأطفال من (قوى غيبية) فالشرطي ليس معنا دائماً ولكننا إذا كنا نخاف الأشباح فخوفنا من عقوبتها تتخطى الحاجة للشرطي حيث يقول وايتنك في هذا الصدد (ما هي ظروف التنشئة الاجتماعية في الطفولة التي تقود للانشغال بالأشباح) . ( 22 )
وبما أن الخرافة ظاهرة اجتماعية ليست بعيدة عن الواقع وحسب وإنما يشترط أن تكون مستمرة أو دائمية وليست طارئة أو وقتية إنما هي موقف ثابت في حياة من يؤمن بها . ( 23 )
لهذا نرى أن الخرافة يزداد انتشارها في فترات القلاقل والاضطرابات الاجتماعية وتعرض المجتمع للمواقف الصعبة والشديدة ومثال ذلك المجتمع الأوربي بالعصور الوسطى حيث تفشت الخرافة والتفكير الخرافي.
وهنا لابد من وقفة صغيرة حتى لا يخلط البعض بين الخرافة والشائعة والتعصب ، فالتعصب أيضاً ظاهرة اجتماعية ولكنه اتجاه بالتأييد نحو موقف أو شخص أو جماعة دون وجود أساس علمي أو منطقي مثل اتجاه البعض نحو الزنوج هو تعصب لا يقوم على أساس المنطق وهو مستمر ولكنه بعيد عن التفكير الخرافي. أما الشائعة (Romour) فتختلف عن الخرافة ، إذ أن الشائعة تصدر لتفسير موقف غامض فالشائعة تظهر في زمن الحرب والهزائم والاختلافات السياسية وهي تظهر سريعاً وتختفي سريعاً . وقد أشار (جيمس دريفر) إلى أن الخرافة هي عقيدة أو نسق من العقائد قائمة على أساس له صلة بالخيالية بين الأحداث وغير قابلة للتبرير على أساس عقلي، وبالتالي فهي مجموعة العقائد الموجودة في المؤثرات والقوى يقبل وجودها دون نقد . ( 24 ) .
وأبطال الإنسان المقهور عديدون ويشكلون سلسلة متصلة الحلقات تذهب من الأسطورة إلى الواقع . وكلهم يتصفون على الدوام بالخصائص نفسها منها : القدرة على تفسير الواقع المؤلم أو المأزقي لمصالح الإنسان المقهور الرحمة دون حدود - إمكان التقرب منه والتودد إليه - والشعور بروابط عاطفية وثيقة تربط الإنسان به وإحلاله محل أو دور المحامي والمدافع عن المقهورين ومن هؤلاء الإبطال المنقذين للإنسان المقهور هم الذين لديهم قوة سحرية وهمية . والعرافين والمنجمين . وذوي القدرات الخارقة في معرفة الغيب . ( 25 )
فإن انتشار الخرافات يتزامن مع القهر والحرمان وتضخم الإحساس بالظلم أو العجز وقلة الحيلة ، وانعدام الوسيلة وكلما ينصب عليه من الطبيعة أو الناس وكلما ضاقت أمامه الفرص بالخلاص - اندفع إلى التماس النتائج من غير طرقها الصحيحة واستبدال المادية بالغيبيات وهو أساس السيطرة الخرافية .
وتتناقض الخرافات مع الفكر النقدي والتحليل العلمي للظواهر واستفحال التسلط وطمس للإرادة الإنسانية فهي تقوم بإدخال الاطمئنان الوهمي إلى نفس الإنسان المقهور .
وهي أيضاً أداة للارتزاق من قبل المشعوذين الذين يدعون العلم بها والقدرة على تغيير حال الإنسان والتحكم بمصيره من خلالها . وهي تجارة رائدة ورائجة في أوساط الناس الذين يأملون الخلاص مما يحل بهم من تعب ومشاق في الحياة.
وترى هؤلاء المشعوذين يحيطون أنفسهم عادة ببعض المظاهر الغريبة في الملبس والمسلك والحديث ولهم ممارسات غريبة تثير في نفس من يزورهم الإعجاب والرهبة الكبيرة ويحرك الأمل ويثير الخوف ولهم طقوس وأدعية تبهر صاحب الحاجة وتشل مقاومته وتعطل تفكيره وتدفعه للاستسلام والرضوخ لهم .
إذن هي تخلق لديهم حالة (تبعية نكوصية) لهم ولقدراتهم والتي تكبر كلما أحيطت بما هو غريب اللفظ والطقس وهذه المرحلة تشبه مرحلة (التفكير الطفولي) الذي يخلط الواقع بالخيال والحقيقة بالرغبة والصعوبة بالمخاوف الذاتية ثم تطغى عليه الذاتية الطفولية ويقع في شرك التفكير الجبروتي أي انه يسقط تحت سيطرة المشعوذين والدجالين ( 26 ) . ولربما كانت بعض هذه الخرافات تتستر بغطاء الدين حتى يقبلها الناس لكنها أصبحت الآن على الأغلب معتقدات منفردة يأخذها الخلف عن السلف ولم تفقد قوتها وتأثيرها في السلوك والكثير من هذه الخرافات يرتبط بما يجلب الحظ أو النحس ، أو ما يعد نذيراً للشؤم أو للخير أو من خلال ممارسات تحمي المرء من مصائب وكوارث مثل (أم سبع عيون) (أو خرزة كبيرة داخلها عين) أو سهم وحدوة الحصان ، والآلات الحادة (المقص والسكين) التي توضع تحت مخدة النفساء كي لا تنكبس أو تحت مخدة الوليد أو الطفل الصغير كي لا يخاف أو يصيبه شر ما . وهناك تقاليد في وقت الولادة والطهور والأعياد والزيجات والحمل وأداء النذر . ونجد لكل موقف خرافة .
وهناك مثلاً خرافة (حمل العروس) ليلة زفافها عبر عتبة الباب لأنهم يعتقدون أن الجن يسكن تحت عتبة الباب فإذا مرت هي بقدميها سوف يدخلها الجن ومن هنا جاءت خرافة (حمل العروس) . أما على الصعيد الأمراض والعلاجات الشعبية : نجد فئة من الناس يعالجون أمراض المفاصل دون تأهيل طبي ففي مدينة قريبة من بغداد (مدرّس) ثانوية وأخته يعالجان الذين يشكون من الأم الظهر والمفاصل مما يعجز الأطباء عن علاجه . هذا هو الخرافة بعينه .
ومن أوسع الخرافات انتشاراً هو ما تمارسه الأمهات على المواليد من الأطفال لعلاج شتى الأمراض مثل (الإسهال - الغازات - أمراض العيون) وهذا كله يتنافى مع الممارسات العلمية . وهناك خرافات أخرى منتشرة عندنا مثل (سحر المحبة) أو يقال (إلقاء العزيزة – وهي عظمة من العظام - ) كي ينشب الشجار في بيت معين ، وإلقاء الماء وراء المسافر لكي يعود ، وكسر الفخار …
إن انتشار الخرافات والغيبيات الأسطورية بين أوساط كثير من المثقفين العرب يعود كما يرى محمد عابد الجابري إلى غياب الروح النقدية والعقلية العلمية عند هؤلاء المثقفين فيصف المثقفين بقوله :((إن الحقيقة لدى كثير من المثقفين العرب وكثير من الباحثين والكتاب هي ما يقوله آخر كتاب قرؤوه ، وربما آخر حديث سمعوه وهذا يدل على رسوخ الاستعداد للتلقي وغياب الروح النقدية في نشاط العقل العربي المعاصر)) ( 27 ) . وأشار الدكتور (عبد الله الرشدان) في كتابه علم اجتماع التربية أن للعادات والتقاليد ميزات منها التلقائية في التعلم أي أن الفرد لا يدرك في حياته انه يتعلم ويحفظ التقاليد والعادات وسوف يأتي يوم عليه ويطبقها ومن الميزات الأخرى والتي تهمنا في هذا البحث هي ميزة (الخرافة ، أو التفكير الخرافي) ، إذ أن بعض العادات التي تمارسها لها جوانب خرافية فكثير منا يخشى المبيت في مكان مهجور خوفاً أن تصيبه الأرواح الشريرة بأذاها ، وكذلك هناك بعض المجتمعات التي تتشاءم من طائر معين وتتفاءل بطائر يسمى السعد . وهناك عادات اجتماعية تعود في أصولها إلى أساطير قديمة مثل عدم ترك الطفل في الظلمة كي لا تتقمصه الأرواح الشريرة ( 28 ) . وترى الباحثة ملاحظة مهمة أن تذكر ((أن هناك من يمارس الطب بالأعشاب عن علم ودراية وهناك من درس الأعشاب وصناعة الأدوية فهي عمل عملي وليس خرافي ، وهناك أيضاً من يمارس تجبير الكسور (أي كسور العظام) وهذه لا تدخل ضمن موضوعنا وليست تفكيراً خرافياً . ولكن هناك من يقلد ويغش بغير علم وتلك هي المصيبة مع وجود من يصدقه بدون تفكير .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إنسحاب وحدات الجيش الإسرائيلي وقصف مكثف لشمال القطاع | الأخب


.. صنّاع الشهرة - تيك توكر تطلب يد عريس ??.. وكيف تجني الأموال




.. إيران تتوعد بمحو إسرائيل وتدرس بدقة سيناريوهات المواجهة


.. بآلاف الجنود.. روسيا تحاول اقتحام منطقة استراتيجية شرق أوكرا




.. «حزب الله» يشن أعمق هجوم داخل إسرائيل.. هل تتطورالاشتباكات إ