الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وداعاً ياريل .... وداعاً أم شامات

صباح راهي العبود

2022 / 5 / 21
الادب والفن


وداعاً ياريل ... وداعاً أم شامات....

مظفر عبد المجيد المولود في بغداد 30/11/1932 حسب شهادة الميلاد (سنة الميلاد الحقيقية 1934) من أسرة ثرية معروفة هو شاعر عراقي معاصر وناقد بارز. عمل في صفوف الحركة الوطنية كسياسي مطارد من قبل السلطات التي حكمت العراق بالنار والحديد , وقضى جل سنوات عمره في المعتقلات والمنافي .أصل عائلته (النواب) من الجزيرة العربية , هاجرت إلى العراق منذ عدة قرون,وبسبب ما عانته هذه العائلة من إضطهاد زمن العباسيين ,خرج أحد أجداده من العراق نهاية حكم العباسيين وسكن واستقر في منطقة كشميرفي الهند خلال ترحاله المستمر, ونظراَ للسمعة العلمية والدينية وشرف النسب أصبح حاكماَ (نائباَ) لإحدى الولايات الشمالية في الهند , وربما جاءت مهنية نسبه من كلمة الحاكم أو النائب. وعرض عليهم حكم ولايات بنجاب .وعندما احتل الانكليز الهند وحاولوا الاستيلاء عليها كان للعائلة موقفاً مشرفاً إذ انضموا إلى المقاومة الوطنية . وعندما انهارت المقاومة حكمت بريطانيا على العائلة بالنفي ,وعليهم اختيار بلد المنفى فاختاروا بغداد موطنهم الأصلي . في واسط القرن التاسع عشر , كان جده من المقاومين للمحتلين, فنفوه هو وعائلته خارج الهند ,فشدوا رحالهم إلى العراق في أواسط القرن المذكور ومعهم ثرواتهم الثمينة من ذهب ومجوهرات وتحف فنية ونفائس, واختاروا بغداد مكاناً للسكن رغبة منهم في العيش بجوا ر مرقد الامام الكاظم موسى بن جعفر (ع) باعتبارأن العائلة من سلالة هذا الامام الذي قتل مسموماَ في عصر هارون الرشيد . وسكنوا في قصرهم الكبير الذي يقع في منطقة الكرخ الشعبية يطل على ضفة نهر دجلة (مكان مستشفى الولادة حالياٍ) قبالة سراي الحكومة (القشلة) وساعتها الشهيرة في جهة النهر المقابلة,وسميت المنطقة في حينه بشريعة النواب (الشريعة هي مكان النزول الآمن إلى النهر, يستخدمه الناس لقضاء حاجاتهم المختلفة) وهي قريبة من مقام خضر الياس الذي يقع على مرمى عصا من هذه الشريعة.
بشريعة النواب يسبح حبيبي ...... وبجاه خضر الياس يصبح نصيبي. (إهزوجة شعبية تدل على موقع الشريعة).
المستشرقة الانكليزية الليدي آن بلانت وزوجها الكابتن ويلفرد وسكاون بلنت كتبت عن ذكرياتها في أثناء زيارتها لبغداد ( 1877 – 1880) عن قصر عائلة النواب العائد حديثاً من الهند إلى العراق وعن فخامة ونظافة القصر والخدم والمفروشات والتحفيات والأبناء المهذبين ( كان أصغرهم جد مظفر). وتحدثت عن تلك العائلة وعن الهدايا التي قدمها لها سيد القصر من بستانه المزروع بكل أصناف الفاكهة.
يتحدث مظفرعن طفولته وصباه قائلاً : كان بيتنا مفتوحاً على بيت عمي المجاور لنا ,وكلاهما مبنيان على الطراز الشرقي , بيتنا كان واسعاً كبيراً بطابقين يحتوي على (30) غرفة مما شجع على إقامة الفعاليات الحسينية وخاصة في عاشوراء إذ كانت تدخله مواكب العزاء في أثناء استعراضها بالمشاعل والخيول والأعلام وهم يضربون على ظهورهم بالسلاسل حزناً على الحسين (ع) على إيقاع الطبول وصفائح الصنج والأبواق ورائحة (ماء الورد) وعطور أخرى تملأ المكان. الطابق العلوي من الدار يكون في مثل هذه الأوقات مكتضاً بالنساء الباكيات الناحبات اللواتي شكلن كتلة سوداء متراصة,وتقام في الطابق الأسفل التشابيه مع استعراض السبايا,وكنت أمثل فيها دور الطفل عبد الله الرضيع. ولعل معارضة الأهل من الخروج إلى الزقاق واللعب مع أقراني وَلَد عندي شعورا دائماً بالوحدة والإنطواء والعزلة وحتى الخجل لأني كنت الطفل الوحيد في هذا البيت الواسع. ولم أتخلص من هذا الأمر لحين ألتحاقي بالجامعة و ارتباطي بالحركة السياسية وتطور علاقاتي بالناس.
دخل مظفر الكتاتيب (الملا) وهو في سن الثالثة ,ثم دخل روضة (خضر الياس) ليلتحق بعدها في المدرسة ( الفيصلية) الإبتدائية في الكرخ مبكراَ بعد أن تم تغيير سنة ميلاده إلى 1932 بدلاً من 1934 لكي يتم قبوله بالمدرسة . ظهرت بوادر موهبته الشعرية وهو في الصف الثالث الابتدائي (وكان عمره الفعلي آنذاك ثمان سنوات) بفضل ما كان ينشده إياه جده لوالده الذي يشبه طاغور بلحيته البيضاء الكثة , يقرأ له في أثناء وجوده معه في منزلهم قصائد ومختارات أدبية باللغتين العربية والفارسية إذ كان يجلسه في حضنه ويقرأ له شعراً ويطلب منه ترديده أول بأول . ويذكر النواب بعضاً مما علق في ذاكرته من هذه الأشعار : لاتسقني ماء الحياة بدلٍ
بل اسقني بالعز كأس الحنظلِ
ماء الحياة بذلة كجهنم
وجهنم بالعز أطيب منزلِ.

كما كان بتأثره بوالده المتمكن من قرض الشعر باللغتين العربية والفارسية . أما والدته فقد دأبت على تسميعه الأشعار العربية والفرنسية ,وفي أحيان كثيرة كانت تبكي وهي تنشد الشِعر بطريقة رومانسية.وهكذا شب مظفر على إيقاعات القصائد الشعرية وتدربت أذنه على العروض الشعرية دون دراستها.
يقول مظفر : أحسست بأن مسألة نظم الشعر سهلة وليست صعبة بعد أن طلب مني معلمي في المدرسة الفيصلية (حمدي التكريتي ) اكمال عجز بيت الشعر الذي صدره ( قضينا ليلة في حفلة عرس) ليسمح لي بالعودة إلى البيت قبل طرق جرس الدرس الأخير , فأجبته بعد لحظات (كأنًا نجلس بقرص شمسي) مما أثار مشاعر الدهشة والإستغراب لما وجده في الشعر من سلامة التقطيع العروضي وانسجام المعنى , وغدّا الأمر حدثاً مثيرا لدى المعلمين والإدارة التي أهدت لي مجموعة كتب من مكتبة المدرسة ,ومن يومها وخلال وجودي في المدرسة الإبتدائية تكفل هذا المعلم برعايتي وتشجيعي على قرض الشعر ,ويصحح لي ما أكتبه من محاولات شعرية .وفي مرحلة الدراسة الثانوية التي أمضيتها في ثانوية الكرخ كانت لي مساهمات في تحرير جريدة الحائط ونشر قصائدي, ومشاركاً نشيطاً في المجالات الثقافية الأخرى التي تمارس في المدرسة. ويذكر مظفر أن الأستاذ عبد المجيد دمعة هو أبرز المدرسين الذين أولوه اهتماماً في هذا الشأن خاصة بعدما أدهشته بنظم قصيدة على غرار إحدى قصائد أبي تمام الذي تأثر به وأجب شعره. وازدهرت في هذه المرحلة قراءاتي للروايات الأدبية. ويستطرد النواب قائلاً ,عام 1948 وفي أعقاب إنتفاضة بورت سموث أجريت إنتخابات طلابية في مدرستنا فانتخبني زملائي ليس لكوني كنت واعياُ لمثل هذه المهمة ,وإنما لهدوئي وسكوني.ولعل من أبرز الأحداث التي لم تفلت من ذاكرتي أنه في أيام الدراسة المتوسطة تم اعدام الرفاق فهد وصحبه والذي كان من بينهم مدرس الهندسة الذي كان يدرسنا واسمه يهودا صديق .
تميزت عائلة مظفر باهتمامها بالفن إلى جانب الأدب , فجده لوالده كان يعزف على العود و البيانو, ووالده ووالدته يعزفان على العود , أما خالته فهي عازفة كمان ,وخاله عازف كمان أيضاً..... الخ. واعتادت العائلة إقامة سهرة عائلية مغلقة في كل أسبوعين حيث تختلط الأصوات الغنائية من كلا الجنسين بالعزف الجميل على آلات موسيقية متنوعة. أجواء الفن هذه وغيرها كونت لدى مظفر النواب أُذناً موسيقية مدوزنة إلى جانب الإيقاع ( هكذا يذكر هو). كان جده يشجعه على مراجعة الأناشيد المدرسية وذلك بالعزف على العود . وفي وسط أجواء الفن تلك نشأ وترعرع النواب وتفتحت قدراته الجمالية وتربت أذناه على الايقاعات الشعرية دون أن يدري.
تعرض والده (المولود في 1910) إلى هزة مالية أفقدته ثروته وضيعت قصره الكبيرالجميل الذي كان مسرحاً للندوات الثقافية والفنية والمناسبات الدينية , وأدت به إلى الافلاس الكامل إذ لم يبق لهم مصدر عيش سوى راتبه التقاعدي, وكان مظفر لما يزل طالبا في بداية عهده بالحياة الجامعيةَ في كلية الآداب والعلوم بباب المعظم, فعانى في إثرها من قسوة الحياة وشغف العيش وهو إبن عائلة النواب صاحبة الثراء والأملاك قي الكرخ والرصافة والكاظمية وكربلاء والنجف .
في الكلية نضجت قابلياته الشعرية والفنية (التشكيل) ,فأقام فيها عدة معارض للوحاته ,وسعى لإنشاء مرسم بالتعاون مع 40 طالباً من زملائه يمارسون فيه الرسم باشراف الرسام الشهير حافظ الدروبي بعد تخرجه وعودته من الخارج مع زملائه (عطه صبري وجواد سليم) وتعيينه على ملاك الكلية . ومن خلال عمل الدروبي في الكلية كمدرس تشكيلي برز دوره المهم في تطوير قابليات مظفر وزملائه في الرسم والتشكيل بعد أن اتفق الطلاب فيما بينهم على إنشاء مرسم في الكلية من ازالة جناح صغير فيها كان عبارة عن مرافق صحية مهملة ( دون علم العمادة). وبجهود الفنان الدروبي تم تفجير وتطوير موهبة النواب الكامنة والتي تمخض عنها حصول النواب على الجائزة الأولى في المعرض المقام في الكلية والذي دعمه الدروبي ببحض من لوحاته وعرضت فيه أكثر من ( 1000) لوحة. وكانت لجنة التحكيم مؤلفة من جواد سليم وفائق حسن و عطا صبري و اسماعيل الشيخلي وحافظ الدروبي . وقد نشط النواب والنشيطين من الطلاب في اقامة أمسيات في نادي الكلية وفي قبو تحت الأرض (سرداب) . وفي أول أمسية أقاموها ألقى النواب قصيدة كتبها بحق فراش الكلية اسمه (مروگي) . يقول مظفر : كان من بين الحضور شخص لم أكن أعرفه من قبل أبدى اعجابه وسعادته لدى سماعه للقصيدة ,وأخبرني بأنها تبشر بكتابات جديدة. وقد تبين لي بعد فترة أن هذا الشخص هو الشاعر بدر شاكر السياب,وقد أعلنني ...... وفي الكلية التحق بالحزب الشيوعي العراقي وبسرعة أصبح عضواً في لجنة المثقفين . شارك في مظاهرات عام 1952 بعد إعلان الأحكام العرفية ,وكان معه ضمن المتظاهرين زميلاه في الكلية ستار الدوري وحامد حمادي ,ومن كلية التجارة والإقتصاد علي صالح السعدي. وفي أعقاب ذلك داهمت قوات الشرطة بيته الذي كان مكاناً للاجتماعات الحزبية والطلابية فعثرت على نشرات تخص الإنتفاضة وتم توقيفه في دائرة الأمن لفترة وجيزة , ثم أطلق سراحه لوجاهة والده , وكان معه في الموقف شامل النهر وشيوعيين آخرين.
أنهى دراسته في كلية الآداب عام 1955. وبعد التخرج التحق بدورة الضباط الاحتياط مع صلاح خالص ,إبراهيم كبه, يوسف العاني, يوسف الدره, علي صالح السعدي وغيرهم . ومن ضمن الذين درسوه في الدورة ماجد محمد أمين و عبد السلام عارف وعدد آخر من ضباط ثورة تموز لاحقاً .كانت هناك فعاليات مسرحية وغنائية كثيرة تقام ضمن فترة الدورة . وفي احدى المرات ( يقول النواب) قام ضابط من المشرفين بضرب أحد زملائنا لأنه تأخر عن التدريب فأعلنا الإضراب ليومين أو ربما ثلاثة أيام داخل معسكر التدريب ( وهو أمر ممنوع وخط أحمر في الجيش عقوبته الاعدام ) مما سبب توتراً في المعسكر تم تطويقه ثم اختاروا حوالي (20) منا ونقلهم إلى بغداد لمحاكمتناعسكرياً , وصدرت علينا الأحكام مابين خمس سنوات وعشرين سنة .كان معي من بين المحكومين يوسف العاني. لكن أطلق سراح الجميع بأمر من نوري السعيد بعد مضي أربعة أشهر , وتبين أنها كانت لأغراض التأديب لكنهم حرمونا من اكمال الدورة.
عين النواب مدرساَ في وزارة المعارف لفترة قصيرة بعد اكمال دورة الاحتياط . لكنه فصل من الوظيفة لأسباب سياسية ليبقى عاطلاً يلوك مرارة العيش بعد ذلك العز والدلال, ثم أعيد للوظيفة بصفة مفتش في الوزارة ذاتها بعد ثورة 14 تموز 1958. وتميزت فترة ما بعد الثورة بنشاطه السياسي وكذلك الأدبي في اتحاد الأدباء والكتاب زمن رئاسة الشاعرالكبير الجواهري للاتحاد. وبمبادرة وتشجيع من الكاتب والأديب علي الشوك نشر قصيدته الشهيرة (الريل و حمد) عام 1959 في مجلة المثقف بعد أن أكملها إذ بدأ بكتابتها قبل ذلك بسنوات (1954) ومن ثم أهملها , والتي فجرت بداية حداثة القصيدة العامية وأحدثت صدى واسعاً وبالأخص لدى شعراء المدرسة الحديثة ( الفصحى ) منهم سعدي يوسف ,بلند الحيدري, الفريد سمعان , نازك الملائكة ,رشدي العامل , عبد الرزاق عبد الوا حد.
في أواخر عام 1959 أغتيل في العمارة فلاح اسمه صاحب ملا خصاف وهو مناضل ناشط في العمل السياسي للحركة الشيوعية ورئيس منتخب للجمعيات الفلاحية هناك برصاص المرتدين في إثر صدور قانون الإصلاح الزراعي في ذات العام. وكانت إصبع الإتهام تشير إلى عصابة الإقطاعيين. حينذاك نُظم تجمع جماهيري من قبل الحزب الشيوعي قرب جسر الكحلاء في المدينة . وقد حضر المهرجان مظفر النواب الذي رثاه بقصيدة ( مضايف هيل) أو جرح صويحب ( كما أطلق عليها من لدن الجماهير) وهي رثاء للشهيد المغدورعلى لسان زوجته المنكوبة .
ميلن ...ميلن, لا تنكطن كحل فوك الدم
ميلن... وردة الخزامة تنكط سم
جرح صويحب بعطابة ما يلتم
لا تفرح بدمنه ... لا يلكطاعي
صويحب من يموت المنجل يداعي
أحااااااه , شوسع جرحك ما يسده الثار
يصويحب ,وحك الدم ودمك حار
من بعدك مناجل غيظ ايحصدن نار
شيل بيارغ الدم فوك يلساعي
صويحب من يموت المنجل يداعي...................

يلاحظ البناء الفني الرائع والدلالات والصور الجميلة في شعر النواب والتي قل نظيرها عند الشعراء . علاوة على اللغة الشعرية العامية ,واللهجة المميزة وما تحتويه من عمق المعاني التي يصعب فهمها على الكثير من العراقيين من غير أهل الجنوب والأهوار (وهي تختلف كلياً عن عامية المدينة) على الرغم من أنه لم يسكن في الجنوب. يقول النواب في معرض حديثه عن تلك السفرة : لم أتعرف على لهجتهم ومفردات لغتهم ذات العمق والرمزية المميزة ماعدا في زيارة واحدة شملت مدينة العمارة والأهوار ولمدة أسبوع بمعية صلاح خالص وإبراهيم كبه ويوسف العاني بدعوة من أحد الزملاء ضمن دورة الضباط الاحتياط عندما كنا مبعدين في السعدية .وقضينا فيها أمسية رائعة على ضفاف نهر الكحلاء , وزرنا الأهوار وعشنا حياتهم ,وتمتعنا بأعذب الأغاني وأنواع الأبوذيات هناك ,وشعرنا بجمال الأصوات الغنائية التي أداها كريم جويسم وسيد محمد وغيرهما, وشعرنا معهم بعذوبة الغناء الحقيقي الذي يدخل إلى النفس مباشرة دون مقدمات وشروحات وبلهجة ساحرة صاغ كلماتها الشاعر الكبير الحاج زاير آل دويج ,استقرت في أعماق نفسي وذاكرتي وأنا أستمع إليها منتشياً.
تميت أحوم اعله شوفتك بس أروحن ورد
ابغي وصالك وأروم امن المراشف ورد
ياداعي العيون گصدي بس اشمك ورد
واتعانگ ویاك واقره کل سوره ودعه
رضوان حسن الجواري بوجنتك ودعه
والورد جدم لوايح واشتچه وادعه
وايگول انت الورد چا لیش یشتم ورد
وأخرى :
ياصاح عودي ذبل وبكل دوه ما يصح
والدمع سال وجره من ناظري ما يصح
والنيب مثلي بحنينه لو صحت ما يصح
من حيث مضروب ما بين النوايح تبن
بمعالج الروح سري لمن أموتن تبن
لا تنهضم عالسبع لو صار علفه تبن
واليوم حتى التبن علف السبع ما يصح
في حوارأجراه الدكتور هاشم ديوان مع النواب بث على قناة الفيحاء الفضائية عن أول مرة سُجن فيها لمدة طويلة. فأجاب:
بعد ثورة تموز كانت هناك انتخابات لنقابة المعلمين في الكاظمية وذهبنا لننتخب. وهناك قتل مدرسان شيوعيان . كان البعثيون هم الذين قتلوه ولكنهم اتهمونا. وبالرغم من وجود عبد الكريم قاسم فإن جانباً من القضاء كان معهم، خصوصاً الشرطة. اتهموني بالقتل وأنا لم أكن موجوداً هناك أساساً. كان المقتول واحداً منا. وضعوني في موقف السراي لمدة أربعة أشهر. والموقف أصعب من السجن. كل يوم كانوا يأتون بأناس حشاشين ومجانين.. وأذكر في فترة ما بدأوا باحتجاز صباغي الأحذية الأكراد وغيرهم. واكتظ الموقف تماماً إذ هو ضيق أساساً . كانت هناك ردهات وساحة. ولكثرة ما كان هناك من معتقلين لم يكن بإمكان المرء أن يمشي. كان ذلك في الصيف. فوق المحل أسلاك شائكة ولا يمكنك رؤية السماء بسبب بخار الأنفاس المتصاعد. كنا ننام على جنب لعدم وجود مكان طبعاً. فلكي تتقلب ينبغي أن تقف وتدور لتنام على الجانب الاخر. كانت تجربة مثيرة بالنسبة لي. لم أجلس مع السياسيين. كنت أذهب وأجلس مع الناس العاديين وأستمع إلى قصصهم. حين تتكلم مع السياسي تراه يرتدي قناعاً أيديولوجياً ولا تراه على حقيقته. لا يريك الجانب الإنساني. أما الإنسان العادي فيفتح لك قلبه. حتى لو كان حشاشاً مثلاً، فيقول لك أنا كذا وكذا وكل شيء عن حياته ولماذا أصبح حشاشاً. يحدثك عن أزقة بغداد القديمة وعن الجيران وأشياء كثيرة. كتبت مسرحية عن هذا المسمى (أبوسكيو) وهو من أكبرالحشاشين الذين قابلتهم في السجن.. أخرجها باسم القهار وقدمناها في دمشق. وكان بطل المسرحية «أبو سكيو».إنه عالم غريب حقاً يمكن أن يُكتب عنه الكثير,عالم الناس العاديين.


قصة الريل وحمد على لسان مظفر نفسه
في رحلة لي بالقطار قاصداً البصرة عام 1960 (يذكر مظفر) كنت ضمن ركاب الدرجة الثالثة مع الناس الفقراء لعدم توفر المال بعد الإنتكاسة المالية التي ألمت بنا . وبالصدفة جلست في الكرسي المقابل لي إمرأة أربعينية جميلة المحيا والقسمات .بدا عليها تعب واضح لأنها كما يبدو لم تنم طول الطريق على عكس بقية الركاب. وحين بدأت الحديث معها ظهر أنها كانت تحب إبن عمها الذي يبادلها الحب وهما يسكنان قرية إسمها أم شامات التي يمر بها القطار في رواحه ومجيئه متباطئاً دون توقف . ولما اشتهر حبهما رفض أبوها تزويجها من حبيبها على وفق العادات والأعراف الإجتماعية التي تحرم على الفتاة الزواج من شخص تحبه ويُعد ذلك عار على الأهل. لذا قررت هذه الإمرأة الهروب إلى بغداد. وظلت العاشقة تحكي همومها وحبها الضائع في أم شامات بعد أن باعدت بينهما المسافات لتعيش القهر والحرمان. وحال وصولي البصرة إختمرت الفكرة في ذهني وإتضحت صورها فكتبت عدة سطور منها في ورقة ثم تركت الأمر. وفي عام 1958 وبعيد ثورة 14 تموز 1958 وبإيعاز داخلي لا أعرف سببه استيقظت من نومي بعد منتصف إحدى الليالي وسحبت ورقة وقلم لأكمل القصيدة بالكامل.

هروب مظفر إلى إيران
بعد انقلاب 8 شباط عام 1963 الذي نظمته الإستخبارات المركزية الأمريكية بالتعاون مع الإستخبارات البريطانية ونفذته القوى القومية , تعرض الوطنيين والشيوعيين وأنصارهم إلى الإبادة الجماعية خاصة بعد تصعيد المقاومة الجماهيرية ضد الإنقلاب وصدور بيان رقم 13 سيء الصيت الذي أباح قتل الشيوعيين ومن يؤازرهم ,هبت الجماهير لمقاومة الإنقلاب ببسالة عمت مناطق واسعة من العاصمة وبالأخص منطقة الكريمات في الكرخ وشارع الكفاح في الرصافة . وفي الكاظمية قامت الجماهير هناك بإحتلال مركز الشرطة (مقابل المستشفى ) وكسر باب المشجب وتوزيع السلاح على المقاومين لمقاومة الإنقلابيين، كان مظفر النواب وسعيد متروك و رسول محمد أمين وحمدي أيوب ومحمد أمين الأسدي في قيادة هذه المقاومة الباسلة التي استمرت لثلاثة أيام . بعد انهيار المقاومة تحت قصف الطائرات وضغط الدبابات واستشهاد الكثير من رفاقه المقاومين اضطرالنواب إلى الاختباء في بيت مصلح سيارات في الكاظمية (فيترچی) لا يعرفه إذ خصص لي غرفة في بيته وحرص على عدم تسريب الخبر. وفي أحد الأيام وقد خرجت العائلة في زيارة شعرت بحركة غريبة قرب باب حديقة الدار وعند النظر من فتحة الشباك شاهدت عدد من سيارات الحرس القومي تطوق الدار ,وسمعتهم يتباحثون حول كسر الباب, كما شاهدت معهم شخص (تبين لي لاحقاً أنه مسؤول في الحرس القومي في االمنطقة, وأنه أخ صاحب الدار ) أخبرهم بأن هذا بيت أخيه (أبو فلان) وهو لاعلاقة له بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد, فتركوا الدارعلى الفور, ولولا هذه الصدفة لكنت مرمياً في السجن.
يواصل النواب ذكرياته :
تركت الدار إلى دار اخرى, وبقيت متخفياً عن الأنظار لفترة من الزمن قررت بعدها الهروب إلى إيران باتجاه أرياف الحلة ,الديوانية السماوة , الناصرية, منطقة الأهواز والمحمرة الإيرانيةعن طريق بساتين النخيل في البصرة وذلك بهدف الوصول إلى حدود الإتحاد السوفيتي مع رفاق آخرين من البصرة نذكر منهم المحامي طالب بدر , الضابط عريبي فرحان , عبد الله الداخل ,زكي فرحان . ولقد احتضنا الفلاحون في الأهوار وساعدونا في عبور الحدود ليستلمنا بعض اليساريين الإيرانيين (من حزب تودة) ,ثم هيئوا لنا سيارة لنقلنا إلى العمق الإيراني بسبب تعرضي إلى إصابة في رجلي جعلت حركتي صعبة ,وصلنا طهران لنستقرفيها فترة من الزمن بعيداً عن أعين السلطات الإيرانية ولنتوج بعدها إلى الحدود السوفيتية بحجة الإصطياف في المصايف شمال إيران.
في العاشر من نيسان
نسيت على أبواب الأهواز عيوني
ورأيت صبايا فارس يغسلن النهد بماء الصبح
وينتفض النهد كرأس القط من الغسل
أموت بنهد ...يحكم أكثر من كسرى في الليل
أموت بهن
تطلعن بخوف الطير الآمن في الماء
من هذا المتسربل في الليل بكل زهور النخل
من هذا الماسك كل زمان الأنهار؟؟
يسيل على الغربات كعري الصبح
يراوغ كل الطرقات المألوفة في جنات الملح.............
قصيدة حمام نسوان وهي واحدة من أجرأ وأروع قصائد النواب. نختارمنها:
تحلم ابحمام
وريحة مستحه ونسوان
ويصبن نهدهن والمسج فوكاك وطاسة ضحج
وانته لكد الاصبع
صوتك ازغيرون يلعلع
يبدن شويه أصابيعك يفهمن
يبدن افخاذك يرجفن
تبتدي تحب التمر
يوكعلك جلف
تلمع مثل قوري جديد
اوتتراعش ركبتك
تنظف إنته لاجن توصخك نظرتك
مدري وين تبذر عيونك بالزواغير وانته زغير
نطفة مسج ومطينه حسبتك
ياخذنك بالمناشف بين افخاذك حيل ينشفنك
وتكلهن شنهي من جديد ضاعت الصابونه.......


إلا أن رجال السافاك الإيراني قبضوا علينا في قرية اسمها ( استارات) , وتم اعتقالنا في معتقل (باغ مهران) في التلال المحيطة بطهران وبسرية تامة, لتبدأ صفحة الترهيب النفسي و التعذيب الجسدي القاسي بيد جلاوزة السافاك , وتعرضنا إلى ما يفوق احتمالات البشر من التعذيب و الإهانة وسباب بألفاظ بذيئة كانت تترجم حرفياً لنا إيغالاً في اذلالنا.
وفي المعتقل وجدنا عشرات من العراقيين الهاربين والذين تم اعتقالهم هناك. وفي الحال تم التخطيط لمحاولة هروب جماعي خططت له بالتعاون مع عيسى المندائي وهو شخص قوي البنية ,وشخص آخر من الموقوفين وذلك بحفر خندق , لكن المحاولة فشلت كونها كلاسيكية سهلة الكشف غير مدروسة إلى جانب جهلنا بوضع البناية ومخارجها ,ومن حسن الحظ لم تستطع سلطات السجن تشخيص الفاعلين من بين العدد الكبيرمن السجناء ,لكن ذلك أثار حقد سلطات السجن فشنوا حملة تعذيب حاقدة شملت جميع المعتقلين نلت منها حصة الأسد . فترة الإعتقال في هذا المعتقل المغلق دائماً ببوابة كبيرة ضخمة دامت أكثر من ستة شهور ( من تموز إلى نهاية كانون أول 1963 ) . كانت معاناة والدتي خلالها ليست لها حدود وهي تجهل ما حل بي بعد هروبي إلى إيران ,وحالما علمت بمكان إعتقالي هناك شدت رحالها على الفور إلى مكان اعتقالي في إيران بعد أن عبرت الحدود بصورة غير شرعية (قچق) لصعوبة الحصول على جواز سفر حينذاك.
فأمي هي النخلة الحالمه
وأمي علمتني على الصبر
آنئذ علمتني على الطلقة الحاسمه
في عالمك الصنمي الغامض
أهمس .... أمي
تسمعها أكثر من هوائي تلتقط الإشارات الكونية
تدري أنك في البيت
لست تغادر إلا ليلة عيد
يا أمي يا أمي ...
وفي يوم وصول أمه إليه بعد عناء وخوف وقلق, كانت السلطات الإيرانية قد سلمته مع رفاقه للسلطات العراقية في ذات اليوم وهو اليوم الأول من كانون الثاني سنة 1964 في عهد حكومة عبد السلام عارف عبر صفقة تبادل للسجناء , سلمت السلطات الإيرانية 121 مناضلاً من أعضاء الحزب الشيوعي العراقي المعتقلين في سجونها (من ضمنهم النواب) إلى السلطات العراقية في البصرة على مرحلتين ( 11, 110) مقابل 56 مناضلاً إيرانياً من حزب تودة سلمتهم السلطات العراقية إلى السلطات الإيرانية ممن كانوا في السجون العراقية منذ الإطاحة بحكومة مصدق الوطنية عام 1953 .وفي سجن البصرة أخبرنا الشرطة بحل عصابات الحرس القومي المجرم وانتهاء البعثيين.
بعد فترات اقامة قاسية في سجن البصرة (حدثت محاولة هرب فشلت بتعاون المواطنين مع الشرطة الراكضين خلفهم والذين أوهموا الناس بأن هؤلاء حرامية هاربين من السجن) ثم رُحل مظفر إلى سجن العمارة للتحقيق ومنه إلى سجن بغداد ثم أحيل مظفر و رفاقه إلى المجلس العرفي ,وهناك أجريت لهم محاكمة صورية كانت حصة مظفر الحكم بالإعدام لكتابته قصيدة البراءة ,و لرفضه اعلان البراءة من الحزب الشيوعي بعد أن جعلوه يحاكم أول المتهمين ظناً منهم أنه سيقدم براءته ويؤثر على عشرات آخرين يحاكمون بعده, لكن مظفر خيب ظنونهم بصموده الأسطوري . وبعد فترة ليست بالطويلة خفض الحكم إلى السجن المؤبد بمساعي الأهل والأقارب .إلى جانب عقوبة أخرى ( ثلاث سنوات ) بسبب كتابته لقصيدة (البراءة) التي تصدت لهذه الأساليب الوسخة والثقافة التعسفية من لدن الجلادين التي يراد بها اذلال الوطنيين وتحطيم كرامتهم وتليين إرادتهم . لكن القصيدة بعثت روح الصمود في الرفاق وعملت على تقوية معنوياتهم, كما أعطت لمئات السجناء الشيوعيين دفعة صمود وهم في قفص الاتهام لرفض البراءة من حزبهم مما أغاض السلطات الحاكمة وسبب الاحراج للقضاة في أثناء المحاكماة.
قصيدة البراءة


لسان حال الأم:
يا بني ضلعك من رجيته لضلعي جبرته وبنيته
يبني خذني لعرض صدرك واحسب الشيب اللي من عمرك جنيته
يا بني طش العمى بعيني وجيتك بعين الكَلب أدبي على الدرب المشيته
شيلة العلاكة يا بني تذجر جفوفي بلعب عمرك عليهن سنه
وجفوفك وردتين على راسي وبيك أناغي كل فرح عمري النسيته
يابني شوفك يبعث الماي الزلال بعودي و أحيا وانه ميته
أبيض عيونك لبن صدري وسواد عيونك الليل اللي عد مهدك بجيته
وابنك التوه يناغي الخرز بالكاروك يابني كتله لاتخاف اليتم جده
كتله يابن وليدي من تكبرعلى الأيام تلكه حزام ابوك الماطواني وما طويته
تلكه منه خطوط اضمهن حدر ضلعي لحد ما موت بعز على السر الحويته
ياعمد بيتي وكمر ليلي وربيع الشيب والعمر الجنيته
جيت اهزك يا عمد بيتي يكون الدهر ظعظع عظم منك للخيانه
وساومت جرحك على الخسه وخفيته
يابني خلي الجرح ينظف خله يرعف خله ينزف
يا بني الجرح اليرفض شداده علم ثوار يرفرف
يابني لبن الجلب يرضع من حليبي ولا ابن يشمر لي خبزه
من البراءه يابني ياكلني الجلب عظم ولحم وتموت عيني ولا دناءه
يابني هاي ايام يفرزنها الكحط ايام محنه يا بني لا تثلم شرفنا
يا بني يا وليدي البراءه تظل مدى الأيام عفنه
تدري يابني بكل براءه كل شهيد من الشعب ينعاد دفنه
وخلي ايدك على شيبي واحلف بطاهر حليبي
كطره كطره وبنظر عيني العميته.
لسان حال الاخت.
خويه كابلت السجن حر وبرد ليلي ونهاري
تحملت لجلك شتايم على عرضي واشعلت ليلي بنهاري
تالي تهتكني بخلك وصلة جريده كرة عيونك يخوي بهاي جازيت انتظاري
بهاي اكابل كل اخت تنتظر منك ثار يا خويه لعرضها
بهاي اكابل امهات اناس وهمومي افضها
جنت ارضى اتدوس بعظامي وكلك حيل رضها
جنت ارضى تذبح ابطني جنيني ولا براءة عار متبركع تجيني
ولك كون الكاع تبلعني شخبر الناس والينشد شكله
شلون تجابل عيون المحله شلون اوصفك وانت كلك عار وذله
بعد مالك ارض ويانا وخبز لاتصل يمنة وهاك اخذ عار الجريده
ولف ضميرك والكرامه مثل ما تبريت من شعبك تبيرنا
من اسمك ياشعب هذا التشوفه موش ابنا.
كانت نهاية المطاف لمظفرفي سجن نقرة السلمان الذي يبعد 180 كم عن مركز السماوة في عمق الصحراء باتجاه الحدود السعودية مع كثيرمن رفاقه الأباة , فيما تم توزيع الآخرين على سجون أخرى في أنحاء العراق. , وعند وصول مظفر السجن استقبله الرفاق السجناء بالأحضان وحملوه على الأكتاف وطافوا به حول ساحة السجن وهم يهتفون ويرددون شعارات الحزب وأهازيج الصمود . نذكر من السجناء : أحمد سامي ,محمد الخضري,فاضل ثامر(ناقد أدبي) ,يوسف الصايغ (كاتب وشاعر), طالب محمود (مخرج سينمائي) , عبد المنعم الأعسم (صحفي وکاتب), الفريد سمعان ( كاتب وشاعر), نصيف الحجاج ( کاتب), ناظم السماوي (شاعر شعبي غنائي), عزيز سباهي (الكاتب المعروف), زهير الدجيلي (كاتب وشاعر غنائي ) سعدي الحديثي (فنان) , حمزة راضي,سامي محمد علي,شعبان كريم,جبار عنيد منصور, يحيى نادر, محمود جعفر,جبار ياسر الحيدر (طبيب),جواد الرفيعي, سعدي يوسف (شاعر معروف),سعيد مطر(ضابط),شاكر محمود, حسين سلطان, ماجد عبد الرضا ,صاحب مرزة, صادق إطيمش, صادق جعفر الفلاحي,عادل سليم, نادر جلال , جاسم المطير, والشعراء (هاشم صاحب وخالد خشان , شعوبي محمود) وعدد من الضباط الناجين من الموت في قضية قطار الموت الشهيرة منهم غضبان السعد ,العقيد إبراهيم الجبوري, العقيد حسن عبود ,الرئيس أول أنور محمود طه, كليبان صالح, المقدم عدنان الخيال, لطفي طاهر ,حمدي أيوب, رافد صبحي, إبراهيم موسى (طيار) ,عبد القادر الشيخ, صلاح الدين قزاز, جميل منير العاني حميد جعفر,وآلاف غيرهم...... ألخ. في عام 1967 حدثت حالة هروب لسجناء شيوعيين تمت في أثناء نقلهم من سحن النگرة إلى مدينة السماوةوهم : كاظم فرهود, متي المصلاوي, أحمد العلاق, سليم اسماعيل مرزة.إلقي القبض على كاظم فرهود بعد عدة أيام وأعيد إلى السجن. سليم فخريوصباح حسن غلطه, كريم متعب,فتاح طه و ......
لقد حول السجناء سجن السلمان إلى مدرسة للتثقيف السياسي وتعليم اللغات وإقامة الدورات والندوات الشعرية والثقافية والحفلات الغنائية إذ شكل مظفرالنواب مع سعدي الحديثي ثنائياً في الغناء والشعر داخل السجن مزق وحشة الصحراء ,وأضاء ليالي الزنزانات المظلمة. ويصف الشاعر عباس البدري أمسيات الشعر والغناء تلك بأنها واحدة من أعاجيب الحياة في سجن نگرة السلمان, فالشاعر النواب كان متألقا بقصائده وصوته الشجي ,فيما كانت رخامة صوت الحديثي بلهجته البدوية المنتزعة من متاهة الصحراء تثيرالشجن, تتبعها قصائد هاشم صاحب وخالد خشان وشعوبي محمود.
قصة هروب صلاح الدين
أسطورة (صلاح الدين أحمد) الملقب بـ(البحار)، لكونه كان ضابطاً في القوة البحرية العراقية خلال فترة انقلاب شباط 1963، فهذه قد حدثت في بحر من نوع آخر، لا تنقصه أسماك القرش ولا الأمواج العاتية. أنه بحر أرض العراق. حدث أن قاوم صلاح الانقلابيين من داخل وحدته العسكرية في الفاو. ولما تحقق له نجاح نسبي في المقاومة، خرج من معسكره في طريقه إلى البصرة ليحشد مقاومين آخرين. لكنها المحاولة فشلت وألقى القبض عليه من قبل الانقلابيين. سينقل إلى بغداد مع غيره ويساقون إلى سجن رقم واحد في معسكر الرشيد. وبعد فترة قصيرة، جرى استدعاء أربعين ضابطا معتقلا إلى وزارة الدفاع. كان هو أحدهم وما زال يرتدي طقمه العسكري. في داخل وزارة الدفاع، استغل الفوضى والتدافع الذي حدث بين السجناء والجنود، ليقوم بحركة غير متوقعة استبقها بغمزة من عينه لرفاقه. إذ عدّل هندامه العسكري وقام بصفع أحد رفاقه المعتقلين ممن يرتدون الملابس المدنية، صارخاً بصوت عال وطالباً من الجميع الانتظام بطابور. أوحت هذه الحركة للجنود المرافقين أنه من عناصر الانقلاب. أدى الجنود التحية العسكرية له. لكنهم ظلوا مشدوهين وهم يراقبون حركته، إذ بدلاً من التوجه إلى داخل الوزارة، مشى إلى الباب الخارجي. وبين التصديق وعدم التصديق.. كان صلاح في الخارج قد استقل سيارة أجرة واختفى تماماً في كواليس بغداد.
أثار هروبه من داخل وزارة الدفاع جنون الانقلابيين وجنون كل الضباط الذين يعرفون جرأته. ظل أحدهم يردد بصوت عال وهو يريد معاقبة الجنود:
- هذا صلاح المجنون.. من يستطيع أن يعيده الآن. ألف لعنة على ابهاتكم.
بعد أسبوعين قام الانقلابيون بالفعل الوحيد الذي بمقدوره استعادة صلاح. إذ اعتقلوا زوجته ووالدته وشقيقه الأصغر. وأشاعوا في الوسط الذي يعرف صلاح أنهم سيقومون باغتصاب النساء إذا لم يسلم صلاح نفسه خلال 48 ساعة. لقد أُسقط بيده وقرر عبر وسطاء أن يسلم نفسه مقابل إطلاق سراح رهائن عائلته. كانت نيتهم تصفيته. لكن ليس قبل تعذيبه في مسلخ قصر النهاية. أخضعوه لتعذيب انتقامي. لم ينفع. ثم جعلوه يرى بعينه كيف يعذبون اثنين من رفاقه من نفس مدينته (الموصل) هما (طالب عبد الجبار وعد الله النجار). إذ عذبوهما حتى الموت. ثم طلبوا منه التعاون لإذلاله، أجابهم
-((إن أسفي الوحيد أنني خرجت من القاعدة البحرية قبل أن أتغلب نهائياً على كلابكم فيها.))
فجن جنونهم واستمروا بتعذيبه حتى أغمي عليه. سحلوه ورموه بين أجساد مدماة ومهشمة ومنها من فارق الحياة. سمع جار له اسمه (علي إبراهيم) ما زال يتنفس، سمع هذا أحدهم غير بعيد عنه يقرأ قائمة بأسماء عدد من المعقتلين تقرر نقلهم إلى السجن العسكري رقم واحد، وكان من بين الاسماء رئيس عرفاء اسمه (صالح أحمد) كان قد فارق الحياة قبل يومين وظلت ملابسه بجانب (علي). وهنا مضت سريعاً في رأسه فكرة تشابه الأسماء ليسّر بإذن (صلاح) أن (صالح) الميت ما زال في قوائمهم حياً وأشار له إلى الملابس الخاصة به. انشرح وجه (صلاح) واقتنع سريعاً بفكرة تقمص شخصية الميت بارتداء ملابسه وفعلاً نجح في الانتقال مع الوجبة إلى سجن رقم واحد.
مرة أخرى يجن جنون الانقلابيين. لتحدث فوضى في قصر النهاية أكثر مما هي موجودة أصلاً لكثرة أعداد السجناء وبلاهة المحققين والجلادين. ظلوا مشدوهين كيف استطاع صلاح الهرب هذه المرة من قصر النهاية..؟. ولم يخطر ببالهم أنهم أنفسهم هربوه إلى سجن آخر..
ضاع خبره أسابيع وهم يبحثون عنه في كل مكان قبل أن يعثر عليه أحدهم وبالصدفة أثناء تجواله في سجن رقم واحدة وكان هذا من مدينته ويعرفه جيداً. نقلوه هذه المرة إلى الموصل. وهناك سحلوه بسيارة جيب عسكرية على أرض مليئة بالعاقول. أصيبت كليته بأضرار حادة. رفضوا معالجته. ثم أعادوه إلى بغداد ثانية. وفي القطار كاد أن ينجح في الهروب. إذ تعرف عليه اثنان من مدينته وعرفا أنه محكوم بالإعدام. قرر أحدهما أن يفعل شيئاً. وفي غفلة من الحرس وقرب محطة سامراء، سلّمه مسدساً محشواً بالإطلاقات. لكنها محاولة لم تنجح لأن يديه مقيدتان.
وفي بغداد وضعوه مؤقتاً في معتقل الشرطة الخيالة في الأعظمية. ليجد قبله صديقه (يونس مجيد). اطلع صديقه على نيته في الهرب. أعلمه هذا أن ثمة ثغرة قد اكتشفها، عبارة عن كوة صغيرة (رازونة) أعلى الممر المؤدي إلى الحمامات. وفي إحدى الليالي وخلال نوم السجناء ولبعد نقطة الحرس عن الممر، تسللا معاً إلى الممر. صعد صلاح على كتف (يونس) واقتلع الشباك الصغير ونفذ منه إلى الخارج. ليجد نفسه وجها لوجه مع نهر دجلة. خاض النهر سباحة إلى الضفة الأخرى واختفى هناك في مكان كان يعرفه خلال عمله السري في بغداد.
للمرة الثالثة يجن جنون الحرس القومي لهروب هذا المتمرد الجسور ونجاحه في التسلل من بين أيديهم. لكنه سيلقى القبض عليه قبل سقوط حكم الحرس القومي بشهرين. ولجعله يكف تماماً عن محاولات الهروب الى حين موعد إعدامه، نقلوه هذه المرة إلى سجن (نقرة السلمان). المكان الذي لا يمكن الهروب منه. قال لزوجته التي زارته هناك:
- .. لن أسلّم راسي لمقصلة الجلادين.
لم يستسلم. أخذ يعد العدة لعملية هروب جديدة. ستكون من أكثر عمليات الهروب من السجون تعقيداً وجسارة. ساعده على إنجازها أكثر من عشرين سجينا من رفاقه في عملية كانت أقرب إلى لعبة الشطرنج في حساب النقلات. وفعلاً كان قد نجح فيها، لولا العطب الحاصل في كليته. لقد قتله المرض في الطريق إلى السماوة أكثر من العطش. وبعد أن عثر أحد الرعاة على جثته وهي تكاد تكون مغطاة بالرمال، أخبر الشرطة. ووصل الخبر إلى رفاقه.
ليجلجل صوت (مظفر النواب) السجين معه، بقصيدته التي هزت جدران السجون:
المنايا الماتزورك زورها
خطوة التسلم ذبايح سورها
طافح اعله الريح عينه ايدورها
املح من اترابها ويجورها
صگر والبيده تعز اصگورها
وبأثر جدمه تلوذ اطيورها
وسفه ما حفظت صگرها
وسلمته بليلها
عمت ناطورها

في مطلع أيارعام 1967 تم نقل النواب وبعض الرفاق إلى سجن الحلة منهم سعدي الحديثي ويوسف الصايغ وصاحب الحميري وأسعد العاقولي ....) . وعند خروج مظفر من سجن السلمان الرهيب قام بتقبيل قضبان زنزانته مخاطباً إياها ( لن أجد أصدقاءاً خارجك أيتها الزنزانة مثل هؤلاء الأصدقاء) .
في سجن الحلة إلتقى مظفر بمئات من رفاقه السجناء الذين نقلوا من سجن السلمان قبله منهم حافظ رسن الذي إنضم إلى لجنة التنظيم لمكانته الحزبية , وحسين سلطان صبي أصبح مسئول التنظيم في السجن قبل مرضه ليستلم الرفيق نصيف جاسم الحجاج المسؤولية من بعده . وحصلت تغرات في لجنة التنظيم والجماعة المكلفة بعملية هروب كبيرة كان يخطط لها بسبب إنتهاء محكومية المكلفين سابقا بالموضوع منهم كمال شاكر و محمد ملا كريم. فتم تحديد لجنة للإشراف والتخطيط لهذه العملية من الرفاق ( مظفر النواب , حسين ياسين, حافظ رسن ,حسين سلطان صبي مستشاراً) . وبمبادرة من مظفر النواب تم وضع خطة على الفور لفرارالضابط السجين حامد مگصود في غفلة من حراس السجن وموظفيه متخفياً ليخرج مع أهالي السجناء المواجهين وذلك عشية صدور قرار إستثنائي من لدن عبد السلام عارف رئيس الجمهورية حينذاك باستعجال إعدامه,وبذلك أنقذ حامد مگصود من اعدام محتم . ثم وبعد التشاور مع رفاقه تبلورة فكرة هروب شاملة بحفر نفق حدد مكانه ومواصفاته بعد دراسة الأمر بعناية ودقة فائقة. كلف الرفيق المهندس علي حسين السالم بتخطيط مسار الحفر من نقطة في مكان الصيدلية القديم إلى سطح الأرض قي كراج النقل المحادد لجدار السجن , كما حددت أسماء الرفاق الذين يقومون بحفر النفق وهم (عقيل عبد الكريم حبش الجنابي من الناصرية , الضابط فاضل عباس من الكاظمية, كمال ملكي كماله من الموصل ,حميد غني جعفرالملقب جدو) على وجبتين بالتعاقب. وردت أسماء أخرى عملوا في حفر النفق في فترات متفاوتة في روايات إختلفت جزئياً وكل منهم إدعى لنفسه شرف المساهمة الأكبرضمن من قاموا بالحفر , ولعل من أنشط هؤلاء هو الشاب (جدو). كان أدوات الحفر هي الملاعق والسكاكين وشيش حديد ( 30 سم ) أبو الإنج ذي طرف مدبب وجد بالصدفة , ومطرقة صغيرة ودرنفيس. بدأت أعمال الحفر في 14 تموز 1967 وإنتهى في منتصف أيلول تقريباً(إستغرق العمل 58 يوماً) بعد جهود مضنية ومصاعب وصبر أيوبي وقلق قاتل بانتظار لحظات الإفلات إلى فضاء الحرية خارج الأسوار . وكان من المفترض أن تنتهي العملية بهروب كل السجناء السياسيين ليتنفسوا نسمات الحرية والإرتماء مجدداً في أحضان حزبهم لولا ضعف العلاقات بين السجناء والتشظي بسبب الانقسام إلى فريقين غير متفاهمين (جماعة اللجنة المركزية هم ), و(جماعة الكفاح المسلح وهم ) وبرز هذا بُعيد الإنتهاء من حفر النفق , وكاد الخلاف يؤدي إلى اكتشاف خطة الهروب من لدن ادارة السجن. لذا تأخر تنفيذ عملية الهروب بسبب هذا الانشقاق الذي ألقى بظلاله على السجناء الشيوعيين في كل سجون العراق ومنها سجن الحلة.
ليلة 6/ 7 أكتوبرتمكن مظفر ومجموعة سجناء (عددهم 40) من الهرب من خلال النفق إلى خارج أسوار السجن ( كراج النقل العمومي ) وتواروا عن الأنظار قبل أن يشعر بذلك حارس الكراج الذي سبب أعاقة هروب بقية السجناء بعد أن أصابه الذهول من خروج أعداد كثيرة من تحت الأرض ,فسارع بأخبار شرطي المرور القريب من السجن , وفوراً قام الشرطي برفع سماعة التلفون والإتصال بإدارة السجن . لم يهرب بعض السجناء الذين أوشكت مدة محكوميتهم على الإنتهاء أو لمرضهم منهم سعيد تقي ونعيم الزهيري. ومما تجدر الإشارة إليه هو تكليف السجين السابق الدكتور عبد جاسم الساعدي من قبل جماعة الكفاح المسلح في أثناء زيارته للسجن بتوفير الأدلاء وخمس هويات بأسماء مزورة لمظفر وعدد من رفاقه الذين سيهربون من السجن. وهو الذي إستقبل مظفر بعد خروجه من النفق وساعده للإنتقال إلى مكان آمن .وبمساعي من الرفاق في محلية الحلة التي كانت بالانذار تم اسعاف عدد كبير من الهاربين واحتوائهم ,وتمكنوا من إيصال آخرين إلى أماكن آمنة.
في أعقاب هروب السجناء نشرت صحيفة الإعلان التي كانت تصدر في بغداد تصريحاً لمدير السجون العام وصف فيه عملية حفر النفق وهروب ( 40 ) سجيناً تم إلقاء القبض على (14) منهم.وذكرت الصحيفة أسماء الهاربين جميعهم بما فيهم الملقى القبض عليهم لجهلهم بالطرق والأماكن الآمنة في مدينة الحلة إذ لم يألفوها من قبل.لقد كان هؤلاء أبطالاً شجعانأٍ بحق قضوا زهرة شبابهم يناضلون من أجل حرية وطنهم وتحقيق حياة كريمة وسعيدة لشعبهم وبذلك ظلت ذكراهم عطرة.
خلال زيارة لموقع النفق في السجن قام بها طاهر يحيى رئيس الوزراء حينذاك أصابه الذهول واعترته الدهشة لما شاهده من دقة التخطيط والتنفيذ والسرية في العمل التي رافقت تلك الملحمة والتي سجلت في سفر النضال للحزب الشيوعي العراقي, وعدت من أروع الملاحم الثورية في تاريخ الثوار والتي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه لتكتب بحروف من ذهب .
أحدث الهروب هذا ضجة كبيرة في العراق وفي الدول المجاورة وأذيع الخبر من اذاعتي إسرائيل ولندن في ذات المساء, فيما وصل مظفر إلى بغداد متخفياً بملابس قروية واختفى في بغداد . بعد ستة شهور توجه إلى الأهوار في الجنوب ملتحقاً بجماعة الكفاح المسلح. وهناك عاش بين الفلاحين البسطاء حوالي سنة امتزج خلالها معهم وعاش عيشتهم واكل وشرب بطريقتهم وتشبع بلهجتهم العذبة وتعرف على مفرداتها الفريدة.
صدر قرار عفو عام عن السجناء السياسيين المدنيين إلى وظائفهم وكلياتهم ومدارسهم في 12 أيلول 1968, فعاد الكثير ممن شملهم القراروتمت تسوية موضوع قرار الحكم السابق ,وعاد مظفر إلى سلك التعليم ونُسِب إلي إعدادية المنصور للتدريس قيها, وقد حرص على أن يتلو قصائد شعرية على طلابه في العشر دقائق الأخيرة من الدرس مما جعل درسه محبباً من لدن طلابه, لكن موقف مدير الاعدادية منذر الكيلاني المعادي لمظفر النواب بسبب توجهاته اليسارية جعلته يترك المدرسة (حسب الطالب بالاعدادية ماجد عبد الله) . وبعد فترة حدثت اعتقالات جديدة في العراق وبالأخص لجماعة الكفاح المسلح التي كان يقودها الشيوعي (عزيز الحاج) , فاعتقل مظفر مرة أخرى في أيلول من العام ذاته ,وكاد أن يُحكم علي بالإعدام لولا تدخل صديقه وزميله في دورة الضباط الإحتياط علي صالح السعدي ( قيادي في حزب البعث الحاكم حينذاك) , فأطلق سراحه ليغادر بعدها إلى بيروت فور حصوله على جواز سفر بأمر من صدام حسين (قبل أن يكون نائباً للرئيس) الذي استدعاه لمقابلته مرتين متقاربتين إلى القصر الجمهوري استغرقت الأولى عشر دقائق ,بينما الثانية استغرقت ساعة و45 دقيقة . يقول النواب أن صدام كان خلالهما يتكلم بلباقة ومرونة غير تلك الصورة التي رسمتها عنه في ذهني .أبدى خلالهما إعجابه بشعري وأفكاري ,وعتب على الشيوعيين من عدم التعاون مع حزب البعث وعدم التشجيع على الانجازات وأسر لي بأنهم بصدد قرار الانقلابيين تأميم النفط والسيطرة على الكبريت وحرمان الدول الأوربية من الاستفادة منه. ثم طلب مني اشغال المكان المناسب بين الناس فأخبرته بأن مكاني بين الناس هو الشعر والرسم فاعتذر وقال إني لا أساومك وإنما أنا معجب بك لأنك معجب بالكفاح المسلح, فأجبته بأني كنت مضطراً لذلك ولست معجباً . ثم عرض عليّ مسدساً من نوع (صلي 16 طلقة مع عتاد ) كدلالة على صفاء النيات وطلب مني أن أحتفظ به( لتدافع عن نفسك عند الحاجة لأن رأسك مطلوب من قبل الامبريالية) . قلت له إن المطلوب من قبل الامبريالية هو رأس الشعب , .أنا أمتلك مسدساً لأني من جماعة الكفاح المسلح. ثم غيّرت الحديث صوب مطلب متواضع الذي هو جواز سفرالذي هو أبسط حقوق المواطن أحتاجه للسفر إلى بيروت لطبع ديواني. فرد عليّ بأن إصدار الجواز يحتاج إلى صور وبعض المتطلبات ,فما كان مني سوى اخراج صورتين فوتوغرافيتين من حقيبتي مما أحرج صدام مما أحرج موقف صدام فأمر على الفور باصدار الجواز فوراً. لكنه أصر على قبول المسدس . وهنا أمر بايصالي إلى داري بسيارته فرفضت وقلت له ( تريد الناس يگولون اشتروه , راح موقوف وإجه بسيارة ؟ !!) .
خلال المقابلة حاول أن يستدرجني بالسؤال عن أسماء معينة ومهمة وكنت منتبها لغرض كان صدام يرمي إليه . وحاول إشعار النواب وإقناعه بأنهم جادون في المضي لسلوك أسلوب جديد بالاستفادة من الأخطاء السابقة في اعقاب انقلاب شباط 1963 .وهم يسعون لأقامة الجبهة الوطنية وتأميم النفط والانفتاح على الدول الاشتراكية وغير ذلك . وأتضح بعد كل هذا بأنهم أرادوا كسب ثقة الشعب والأحزاب والمواطنين ثم تصفية من لم يخضع لهم تباعاً ابتداءً من الأخطر عليهم.وهذا ما حصل.
لم يكن النواب مطمئناً من هذا الوضع لذا وعلى العجالة شد النواب رحاله إلى بيروت ثم دمشق وكانت في وداعه أمه التي تأبى مفارقته لتظل صورتها وهي ترتدي عباءتها آخر ما إستقر في ذاكرة النواب وهو يغادرالوطن .وبهذا الرحيل يكون قد تخلص من عملية إغتيال حتمية كالتي حصلت بعد سفره عام 1969 وما تلاه لمئات من رفاقه .ظل النواب يتنقل بين العواصم العربية والأوربية لاهثاً مهرولاً من عاصمة لأخرى , يطوف في محطات المنافي والمطارات . زار دمشق , وفي جنوب لبنان حمل السلاح ونفذ عمليات فدائية داخل الأرض المحتلة وتصدى للإجتياح الشاروني. في فلسطين أنجز فيها عملية واحدة في الأغوار. في الأردن نفذ عملية فدائية داخل الأرض المحتلة ( معركة الكرامة ) وانتصر مع الفدائيين والجيش الأردني. ويلاحظ المتتبع لشعر النواب حجم القصائد التي كتبها في حق القضية الفسطينية حتى ظن كثير من العرب أنه فلسطيني . بعد ذلك عرج على القاهرة , ثم أرتيريا قضى فيها ثلاثة أشهر حمل السلاج معهم في معايشة واقعية مع ثوار أرتيريا نهاية عام 1970 وبداية عام 1971 لدراسة التجربة الثورية وشارك في محاربة الإمبريالية الأمريكية والإستعمار الصليبي , وزار طرابلس في ليبيا وهناك وصلته دعوات لزيارة الجزائر و السودان حيث أقام فيهما أمسيات شعرية كان لها صدى كبير في أوساط الجمهور الذي يحرص على اللقاء به والإستماع له بانشداد وحب. كما زار الخرطوم وحارب في اليمن ,وصعد جبال ظفار الخضراء الضبابية في صلالة جنوب سلطنة عُمان وحارب هناك لفترة وجيزة أيام الثورة العمانية . ثم إيران (بعد الثورة) و فيتنام وتايلند والهند الصينية وبانكوك واطلع على معابدها والرموز التاريخية والتراثية هناك , كما زار اليونان واستفر فيها لفترة طويلة وبرلين وبراغ التي التقى فيها بالجواهري وحل ضيفاً هناك.
كان الجواهري الصديق الأقرب إلى قلب النواب ,و لقاءاته به في بغداد سابقاً اقتصرت على جلسات في نادي إتحاد الأدباء بعد ثورة 14 تموز الخالدة حينما كان الجواهري رئيساً لاتحاد الأدباء.وافترقا بسبب الظروف المعروفة بعد انقلاب شباط الأسود.لكن لقاءاتهما أصبحت كثيرة في مناسبات خارج البلد .كان الجواهري يعد النواب من أبرز الشعراء الشعبيين المجددين ,كما ينظر باعجاب إلى مواقفه النضالية وشخصيته الدمثة والمحببة ,ومن طرفه كان النواب يكن للجواهري احتراماً كبيراً لمنزلته الابداعية والثقافية ولموهبته الشعرية الريادية . وظل حبل الود بينهما متيناً حتى وفاة الجواهري في دمشق 27 تموز 1997.فإلى جانب اللقاءات المتعددة للنواب بالجواهري قي براغ فقد التقيا في طرابلس الليبية بدعوة رسمية لزيارتهاعام 1988 ودمشق بمناسبات . وفي زيارة لبراغ عام 1970 لبضعة أيام كان في استقباله رواء الجصاني إبن أخت الجواهري. وبحث له عن سكن مع سيدة بعد أن صعب ايجاد مكان له في الفندق .وبعد فترة راحة دعاه إلى لقاء في مطعم (أوفليكو) وهو محل البيرة السوداء الذي احتسى فيه نابليون البيرة عندما احتل براغ في أوائل القرن التاسع عشر ,والطريف أن الساعة التي تزين واجهة المطعم قد اوقفت عقاربها من ذلك الحين ومازالت لتعلن للملأ تاريخ ذلك الاحتلال المر. وفي جلسات خااصة ألقى النواب بعضاً من قصائده التي غناها صديقه جعفر ياسين بصوته الجميل. وتكرر اللقاء في سهرة للنواب مع الجواهري في مقهى ( سلوفانسكي دوم) الشهير الذي كان بمثابة مقر للجواهري براغ يرتاده دائماً حيث تزدان المقهى بأسراب القطا يوزعن الحسن والجمال والفتنة بغنج لايقاوم . بهر النواب باحدى الحسان الچيكيات ,وسعى للتعرف بها بدريعة الرغبة في رسمها . لكنها كانت قد أحست بنوايا مظفرغير البريئة (والعليمة بابن أوى إذ تلق بالغراب كما يصفها الجواهري) . فخاطبه الجواهري بالأبيات :
وقال مظفرالنواب يوماً لفاتنة من الغيد الحسانِ
من التشيك الحَسانَ لست تدري, بهن المحصنات من الزواني
هلمي أرسمنك غداً فقالت: غداة غدٍ وفي المقهى الفلاني
فقال بمرسمي , حيث استقامت من الرسم المعاني والمباني
فقالت لا , ومن أعطااك ذهناً , وعلمك التفنن في البيانِ
أداة الرسم تحملها سلاحاً مشحوذ السِنانِ.
ولكن كل ما تبغيه مني , خفوت الضوء في ضنك المكانِ
وقد عاتبه النواب في لقاء ,ليبيا عن اشتعارة اسم ( محمد المصباح) بدلاً من اسمه في الديوان تحت عنوان (فاتنة ورسام) وصحح الاسم في طبعة بيروت عام 2000.
أما باريس فقد أقام فيها فترة طويلة (ثلاث سنوات) حصل خلالها على شهادة الماجستيرفي الباراسايكولوجي ,وقام بطبع ديوانين من شعره . زار بريطانيا وأمريكا و فنزويلا والبرازيل وشيلي . وخلال جولاته في عواصم الدنيا كانت تقام له ندوات وقصائد يفضح فيها الحكام العرب ويهاجم أدعياء العروبة الدجالين , ومقارعة الإحتلال الإسرائيلي.إلى جانب مشاركاَته النضالية في بقاع مختلفة من العالم ,ثم عاد إلى ليبيا وبقى فيها فترة طويلة. وفي أثناء هذا الترحال المضني أضاع النواب عشرات القصائد الطويلة بسبب عدم تدوينها أو التي فقدها في الباخرة الليبية التي كانت تحمل مكتبته وأشعاره في أثناء سفره على متنها .وأخيراً عاد ليستقر بمعشوقته دمشق نهاية التسعينات من القرن الماضي فخصصت له الحكومة السورية معاشاً ,و كان يقضي معظم الوقت متسكعاً ,أو جالساً في صومعته في مقهى هافانا الواقعة في شارع 29 أيار بمعدل مرتين أو ثلاث أسبوعياً جالساً في كرسي يطل على الشارع من خلال الزجاج . ثم انعزل في بيته.
((القدس عروس عروبتكم .....سحبتم كل خناجركم وتنافحتم شرفاَ.......وصرختم فيها أن تسكت صوتاَ للعرض .....فما أشرفكم أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة ؟ ......أولاد الفعلة لست خجولاَ حين أصارحكم بحقيقتكم .....إن حضيرة خنزير أطهر من أطهركم ......تتحرك دكة غسل الموتى ......أما أنتم فلا تهتز لكم قصبة .......)).
ما أظن أرضاَ رويت بالدم والشمس كأرض بلادي .وما أظن حزناَ كحزن الناس فيها
ولكنها بلادي لا أبكي من القلب ولا أضحك من القلب ولا أموت من القلب لا فيها.
بعد التغيرات السياسية التي حدثت في العراق عام 2003 رفض مظفر العودة إلى بغداد رغم العروض التي تقدم بها رئيس الوزراء له للعودة إذ أرسل له طائرة خاصة بغرض العودة , وفضل البقاء في سوريا علما بأنه من المؤيدين للعملية السياسية في العراق حينذاك , والرافضين لحمل السلاح كمقاومة ضد النظام الجديد , وأبدى ارتياحاً كبيراَ لسقوط النظام السابق , كما رفض عرضاَ آخر من الرئاسة العراقية بمنحه جواز سفر دبلوماسي معترضا على ( نيل وثيقة تصدرها سلطة مازالت تحت الاحتلال ) على الرغم من تقدمه في السن وعدم قدرته على العيش بمفرده .
أول قصيدة له كتبها بالفصحى كانت (قراءة في دفتر المطر) عام 1969 والتي أثارت إنتباه الجماهيرولفت أنظارهم لمظفر النواب .
.... من أقصى الحزن أتيت
كي أغلق أبواب بيوت المهزومين
وأبشر بالإنسان ... وبالإنسان .... و (بالشياح)
وبمن لا يملك سقفاً ... سيكون له سقف في هذه الدنيا ..وينام
لكن .... واخجلي من بيت مهزوم
وسيخجل من باعوا لغتي فأنا مكتوب في الأرز وفي العسل الأخضر في التين
وأنا أطعم بالسكر نخلات (الكوفة)
والأطفال على رابع جسر في العشار
أنا لا أملك بيتاً أنزع فيه تعبي
لكني كالبرق أبشر في الأرض
وأبشر أن الأمطار ستأتي
وستغسل من لوحتنا كل وجوه المهزومين
وستغسل من يبحث عن خيبته عن مبغى
وستغسل بالمطر الدافئ جنح النورس
وبيوت أحبتنا
والحرف الأول في لغتي..... ألخ
أما شهرته على نطاق عواصم الوطن العربي فكانت من خلال قصيدة ( وتريات ليلية ) .
كونه شاعر ملتزم بقضايا العرب القومية والسياسية والإجتماعية يشير بأصابعه بالإتهام السياسي لمراحل مختلفة من تأريخنا الحديث , وقد جاءت اتهاماته حادة عميقة جارحة وقاسية أحياناَ .فهو شاعر الرفض والإحتجاج والمعارضة والنقد اللاذع ,وهو أيضاً شاعر الحزن العربي ونكبات العرب ومآسيهم.
فكتب قصيدة في إثر إنعقاد مؤتمر القمة العربي ........
قمم..قمم..قمم..معزى على غنم
جلالة الكبش على سمو نعجة
على حمار .....بالقدم
وتبدأ الجلسة ..لا ولن ولم
وتنتهي غداَ خصاكم سيدي
والدفع كم .............إلى آخر القصيدة التي يهاجم فيها مؤتمرات القمة العربية .
ومن شعره في وصف حالة الوطن العربي :
(( فهذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر ... .. سجون متلاصقة سجان يمسك سجان )).
.
لقد كان مظفر شاعراَ ثورياَ عنده العاهرة في مشرب أفضل ممن يبيع وطنه وشعبه من الحكام الطغاة حتى وإن باركهم رجال الدين .
((سيدي كيف يكون الإنسان شريفاَ ....وجهاز الأمن يعد يديه بكل مكان والقادم أخطر .......
نوضع بالعصارة كي يخرج النفط ..
نخبك ....نخبك سيدي ....
لم يتلوث منك سوى اللحم الفاني ...
فالبعض يبيع اليابس والأخضر ...
ويدافع عن كل قضايا الكون ....
ويهرب من وجه قضيته.....!!!!! )).
الصراحة الفذّ. لم يَسلم حاكم أو رئيس عربي من هجوم مظفّر وتعرية سلطويته في ظلم شعبه على الرغم من شعاراته وادعاءاته الزائفة. كان مظفّر يقول هذا كله بصراحة جارحة ولغة لا تقصّر في بذاءة ألفاظها، لأن تلك البذاءة هي غاية التعبير الصريح في رأيه. هموم فلسطين تشغل القسم الأكبر من هموم مظفّر، إلى جانب هموم الجزائر ومصر والأحواز، إضافة إلى تعرية حكام البلاد النفطية وأدعياء القومية والحفاظ على الإسلام. وقد عوتِب مظفر على بذاءة الفاظه في الهجوم على جميع الحكام العرب. فكان جوابه: «اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية. سيقول البعض… بذيئاً… لا بأس. أروني موقفاً أكثر بذاءة مما نحن فيه» .و بهذا الأسلوب يُهاجم ملكاً عربياً يدعو إلى الاشتراك في «الحل السلمي» لقضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فيجيبه بكل صراحته البذيئة تلك.

إن علة مظفر هي عدم الاكتراث وعدم المبالاة لتدوين كثير من قصائده. وقد تربى على شعره وقيمه الثورية الفلاحون والعمال والطلبة وسائر فئات الشعب ,وأحبه وأحب شعره فئة واسعة من مختلف طبقات الشعب , وتغنوا بشعره ,لا بل حفظوا الكثير منه رغم غيابه عن العراق لارتباطه بقضايا وطنه وهموم شعبه ,لذا كان تداول شعره يفضي إلى أقسى العقوبات, ورغم ذلك فقد كان له متابعون كثر . ومما زاد من حضوره بين الناس أن العديد من قصائده الشعبية لحنت من أشهر الملحنين العراقيين وتسابق عليها أغلب المطربين ليغنوها ,فحفظتها القلوب قبل الألسن زمناً طويلاً .ولابد لنا هنا من إدراج بعض قصائده التي تغنى بها المطربون ورددها الناس في العراق وكثير من الدول العربية:
الأغاني : صويحب / مو حزن لكن حزين / شلون بيك يبنادم// سامي كمال .
أغنية :يجي يوم // سعدون جابر .
الأغاني : تعلل فالهوى علل / رديلي الفرح /منين أبوسك // رياض أحمد.
الأغاني :ليل البنفسج / حن وانه احن / الريل وحمد , روحي لاتكلها شبيج / دوريتك // ياس خضر.
الأغاني :ترافه وليل / أيام المزبن / عودتني // فؤاد سالم .
والأغنيتين :ياحريمه /البنفسج // حسين نعمه .
و الأغنيتين: يا يوم يا شهر كلي ياسنه / محمداوي ليونس العبودي .
والأغنيتين :حمدان وحسن الشموس / يبنادم شلون بيه وبيك // غناء مظفرالنواب .
أغنية : يجي يوم نرد لهلنه // بيدر البصري .
أبوذية ( ولا وين ) وأغنية دكيت ابويتك كمريه // محمد سيد محسن ( الإعلامي).
حادي الحده بالبيل ولا ون
خذاهم مادريت آنه ولاوين
ياويلي ...
أحا ماگوليش من جرحي ولا ون
چيف اداوي عد شمات بيّ.
دكّيت بويتك كمرية
موديتلك عطابة حيلي
وحسبة حسراتي بجفيّة
يالعينك أوكح من بلبل
مستفحل رابي بزهديّة
وحسّك عضّاني من شفافي
وخضرن شبكاتك بيديّه
وياويلي من التكّي الأحمر
ياويلي جفوفك حنيّة
وانه مسديتلك بالكحلة
التركص بعيون الصبحية
ومفضوحة وعريانه شفافي
يدعَيْ سدّيلي بحذباتك
امسح بوساتك باعتابي
خافن امي تشوف عتابي
وتفضح كضاتك للوادم
وياويلي ومن كتلي احبك
ياويلي جفوفك حنيّة
وشفافك دمرن كل ثوبي
ومطرت فوكانه التكيّة
دكّيت بويتك كمرية
موديتلك ساعة من الدخلة
موديتلك ثوبي الدمرته
وتك ترجية
انشد من أجل الديمقراطية والحرية وقارع الطغيان وأهله . تغزل بالخمرة والنساء, كتب عن الحنين والغربة بلغة ليست بالسهلة , فهي لا تخلو من الصعوبة خاصة عندما يكتب بالعامية بنبرته الجنوبية عميقة المعاني , وكتب الشعر القريض والرباعيات والأبوذيات . فأبدع في ذلك أيما إبداع . وهاكم أنموذجاً لأبوذياته وآخر لرباعياته :
غفل دهري يهل الوادم ولاني
لعن ما غيرت جلدي ولاني
لا هو الوكت عف عني ولاني
رضيت هدان يتفرعن عليّ .
قمت مذلولاَ إلى إبريق خمري به ثملا .
علني أطفئ نيران ارتباكي بالطلا .
سكب الإبريق كأسي نضوبَاً صامتاَ .
آه مولاي فراغ الكأس بالصمت امتلا
أحب مظفر العراق وأحبه, ملأ قلبه حب العراق ,ودافع عن حريته شابا صغيرا , وشيخا كبيرا , حاربوه لأنه حارب أفسد الأنظمة في العالم ,واعتى الحكام العرب وخاصة النظام السابق في العراق , فهو شاعر معارضة , ولقد تجنبه النقاد العرب وأعرضوا عنه بسبب انتماءاته الفكرية ومعارضته للحكام المستبدين وخاصة لنظام البعث بالذات وحاولوا تحجيم ذكره في جميع وسائل الإعلام .لقد كان مظفر من أبرز الشعراء السياسيين في عهد خنوع الشعوب لحكامها الطغاة الذين يهتفون لهم بالفداء بالروح والدم .
أما شعره الفصيح فلقد خلق له شهرة واسعة في الوطن العربي رفعته إلى مصاف درويش ونزار قباني . لكن محبي النواب من العراقيين بقوا على محبتهم له باعتباره شاعر القصيدة الشعبية ذات الرموز العصية والمفردات التي لا نجد معناها إلا إذا كنت مسافراَ في عمق الأهوار التي قضى فيها النواب زمناً بعد هروبه من سجن الحلة .
والنواب إنسان بسيط متواضع شديد التهذيب , كريم النفس , يشعرك بالألفة من أول لحظة تلتقيه بها . يقرأ باستمرار ويكتب باستمرار. متابع دائم للوضع الثقافي العربي , نفسه عزيزة , لم يقبل المساعدات التي عرضت عليه من جهات رسمية أو من أشخاص , يحب البساطة , وهو وطني , ثوري شيوعي حد النخاع .
بعد غربة قسرية قضاها شاعر العراق الكبير مظفر في المنافي دامت لأكثر من أربعين عاماَ,عاد إلى الوطن في 2011 بعد أن أصيب بمرض الباركنوس (الرعاش) . استقبله صديقه الطالباني رئيس الجمهورية في قصر السلام وعانقه عناقاَ طويلاَ . وكانت أولى أمنياته المرور في منطقة كرادة مريم يبحث عن بيت العائلة الذي قضى فيه ليلته الأخيرة ,ففوجئ بتحوله إلى حديقة عامة ,فجرت دموعه بعد أن تراءى له خيال أمه (المتوفية) تنتظرعودته عند باب الدار.
لا بد أنت خائف
في أن تراها في العباءة نفسها
لا شيء فيها قد تغير
شعرها الفضي
ضحكتها الحنونة
وانتظارات السنين
تراك عدت إلى العراق
وحينها تستطيع عن حق وفي سعة تموت
تكتم الدمع كثيراً
لكي تظل تماسك الطفل
الذي ربته من صبر
ورغم فرائض الأيام
تبصر في نواظرها الأزقة والشناشيل
التي إتكأت على الماضي ..............
ثم قبع في الدار وأقفل الباب على كل الحوارات والمقابلات الصحفية مغادراً دائرة الضوء , ولاذ بالصمت . لقد حل على أرض الوطن الذي منحه من فيض إبداعه الكثير ومن زهرة شبابه أجمل سنوات العمر مناضلاَ حراَ ومكافحاَ للدكتاتورية وبطلا شجاعاَ في سجونها .فهو رمز الإبداع والنضال . إنه الرائع مظفر النواب.

يصف الكاتب المعروف عبد المنعم الأعسم استقبال النواب من قبل الأدباء فيقول :
استقبلناه في بوابة مقر إتحاد الأدباء تماماَ كما كنا قد استقبلناه في سجن نقرة السلمان قبل حوالي نصف قرن لما جاءوا به مقبوضاَ من وراء الحدود . حملناه وفررنا به الساحة .قبل أن يسرنا بالقول (مع هذا فنحن أقوى منهم هناك) . ويستطرد الأعسم .(للشمس سحر آخر غير هذه الخيوط الذهبية .....إنها تأتي بعد الليل , وتسبقه ). نودعك أبا عادل أيها الشاعر الأسطورة الذي نذر حياته وشعره لخدمة شعبه وقضاياه الوطنية,
نودعك يا نزيل السجون والمعتقلات ,والمهرول متنقلاً بين المطارات والمرافئ ... وداعاً يا فاضح العملاء والخونة من الحكام . نم قرير العين خالداً نجدد ذكراك في كل عام وأنت بعيد عن أعينا , قريب من قلوبنا....... وداعاً مظفر.


طبعت دار قنبرعام 1996 الأعمال الشعرية الكاملة لشاعرنا العربي الثوري المناضل الكبيرمظفر النواب.



مصادر البحث
* حوار مع مظفر النواب أجراه سنان أنطوان في 22 /5 /1996
* تأملات وذكريات .... د.حسين الهنداوي 13/3 /2019
* لقاء مباشر مع زكي فرحان وقصة الهروب إلى إيران مع أخيه عريبي والنواب .
* مذكرات عبد الله الداخل .
* حوار أجراه د. هاشم ديوان مع الشاعر النواب / قناة الفيحاء الفضائية 9/ 4 /2005
*الأعمال الكاملة / الشاعر مظفر النواب/ دار صادق 2004

*الثورة النوابية / حسين سرمكش
* مظفر النواب حياته وشعره /باقر ياسين /دمشق 1988


1








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير