الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بازل لزهرة الخشخاش - رواية - 30/5

أحمد عبد العظيم طه

2022 / 5 / 22
الادب والفن


منطقة عشوائية

عشر دقائق تقريبًا. أهبط الأرض. وقبل أن أمُد يدي في جيبي، أجده على الناحية الأخرى من السيارة، ينقد السائق عشرة جنيهات قائلاً له أننا لسنا أجانبَ حتى يطلب خمسة عشر. نظر السائق نحوي نظرة بدوية ممتعضة وقال شيئًا بينما يبتعد، وصافحني حسن بسطان بترحاب صادق. أدخل المحل.. مواسير وجلب وحنفيات وعِدد.. قعدات إفرنجية وأخرى بلدية.....

- نورت يا أستاذ.
- نورك يا مدير.. أخبارك؟.
- في نعمه الحمد لله.. تشرب إيه؟.
- مش شارب حاجه.. عايز أكل.. عايز آكل يا حسن...
- مش ممكن!.
- .....................
- ..........................

حسن كان يدري مدى وحشيتي، وكم شكرت القدر لوجود حسن في هذه الحياة. نحن نتوغل برمال دهب.. عشرات البيوت المتناثرة بالطوب الأبيض والسقوف الخشبية.. طرق رملية – ترابية أحيانًا – مدكوكة بآثار الجيب والمارة، وجوه محلية متنوعة.. حبال غسيل تمتلئ بملابس لا هي بدوية ولا هي أجنبية.. وبرك مياه مكبوبة لم تشربها الأرض بعد. منطقة عشوائية مستوفية الشروط، تجعلني أشعر بحميمية العشوائيات، وأطمئن إلى أن الوطن يمتد حتى هنا.

توقفنا أمام أحد المنازل.. الباب مفتوح.. وندخل بعد خلع أحذيتنا..
صالة مستطيلة واسعة، تحتوي عددًا لا بأس به من الطاولات قصيرة الأرجل – الطبالي – والكثير من الوسائد والتكايا. يصفق حسن فيظهر صبي في الثانية عشرة تقريبًا، نظيف الملابس ويبدو من لكنته أنه وأهله من أقاصي الدلتا..

- تطلب إيه؟. (يسألني حسن بشغف).
- عندكو إيه سمين؟. (أتوجه للصبي بالسؤال).
- فيه ضانِي وكواريع وطواجين و... (الكسرة الزائدة في كل شيء قوية جدًا بالسماع).
- هات كوارع.
- ..................
- .............
- الأكل هنا إيه.. إكسلنت.. في حتة مره بتطبخ صح.. وأساسًا دول من الـ.... وكمان عندهم بهارات بتفحفـ.............. أصل مش بسـ............. والـ ......
- ................... (النقاط مهمتها تضطلع بإطلاق التفكير....).....

أتفحص وجوه الزبائن الذين يتوافدون أو يغادرون تباعًا، مزاولاً هوايتي – اللا إرادية – في تصنيف الأجناس الإنسانية بشكل عرقي.. فهذا فلاح.... هذا مُهجن.. هذا بدوي من الشمال... وهذا صعيدي.... وهذا بن حرام...
وضع الصبي أمامي طبقًا صغيرًا من السلاطة كثيرة الماء، فأطلب منه إحضار طبق إضافي قبل أن أضرب ملعقة واحدة بالذي أمامي.. لقد نجحت السلاطة في احتوائي وعزلي نهائيًا عن العالم المحيط.. أنا أعشق عصارة السلاطة خاصة إذا كانت حقيقية، نابعة منها، وليست مضافة إليها. أرفع الطبق إلى فمي، حاسمًا ذلك التردد الذي يصيب المرء عندما يتعرض للطعام بأوساط جديدة، المزيج السحري للطماطم والليمون ينساب إلى جوفي، فأغمض عيني من قوة الطعم.. حسن يقول كلامًا عن شيء ما، غير أنني لا أسمع حسنًا، أو بالأحرى لا أفهم شيئًا سوى هذا الشعور بالغوثِ. أفتح عيني فأجد بقية الأطباق قد ارتصت على الطاولة، والمجد لروعة منظركِ أيتها القطع الهلامية، فأنتِ أرجُل الذبيحة وطعام الإنسان. أنيابي تغوص في مددٍ يروي غلتها للاختراق بعد أيام من العطل.. وتُرىَ أجاموسة كانت؟ أم ثورٌ أقرن؟...
مذاق الحساء بالبهار لا يجعلني قادرًا على التمييز، ولكنه يجعلني أدمع فيما يشبه دموع الفرح، إنني ألتهم ما أمامي بشراهة ملفتة – عسى أنها لا تُلفت أحدًا غيري – وقد بدأت حواسي الغائبة تعود تدريجيًا إلى الواقع، ذلك كلما امتلأت معدتي بأحد مستوياتها الثلاث. الآن أسمع حسن يطلب شيئًا إضافيًا، ولكنني مازلت غير قادر على النظر في وجهه. الكميات هنا منزلية، وتُشعركَ بأن أمُكَ تغرف المَدد من وراء الستارة. لمحتُ وجه الصبي وهو يضع الطبق الجديد أمامي، لأدري أنه قد عاد بصري...

- ركز.. ركز.. ركززززززززززز.......
- Ok.. لكن اعطني الفرصة يا أخي...

............، وأتى الشاي مثل العروس ليلة زفافها، أحمرًا، ملتهبًا، تلوح حلاوته من خلف زجاج الأكواب النظيفة. لن يفسد عليّ شهوة تناوله غيرك يا حسن يا بسطان، أيها السيكوباتي العتيد في سيكوباتيتكَ.. فقل ما شئت عن شوقك الجارف لأجنبية جميلة، تأخذها في حضنك وتعاشرها معاشرة الأزواج– حبذا إن كانت تتكلم الإنجليزية على خفيف – وأنا لن أسمع شيئًا.. سأُغرق حواسي جميعها بتلك الرائحة المتصاعدة من الكوب النبيذي، فأنفي تقترب بلا وعي، وتلعن من ابتدع الفتلة وحرمها رائحة هذا الشاي السائب على عواهنه..

- على فكره.. المفروض إن كل كلمه وراها كلمه
- كيف؟..
- يعني انت ساعات بتنسى وبتكتب براحتك ولا كأن في حاجه...
- والعمل يا أخي؟
- بطل كتابه وروح نام للأبد
- خخخخضحككككككككـ....

إشارات مورس، تخبرني أنها رسالة قد وصلت، أسحب هاتفي 1100 العزيز، ماري تقول: Where are you Habebe?...
- منها؟.
- أيوا.. بتشوفني فين.
- بس دي شكلها حريصه أوي.
- إشمعنى يعني؟.
- بعتالك رساله!.
- ..........

*******

- أنا من الرواية كالقلب من كامل الجسم.
- وانا كمان.
- وانا وانا وانا وانا..
- ونحن يا أخي...
- وطرأت على الناس فتنة...
- .........
- أهلاً وسهلاً...
- أهلاً أهلاً..
- متهربشي منك.. خلاص؟...
- ماشي ماشي.. من عنيا يا أخي...

*******

السيدة فريال

... لما كان الرواق – صالة الفيلا– غاية النظافة، ومنظمًا بذوق رفيع، ما كنت متصورًا أنها تعيش وحدها – كبيرة هي على ذلك الجهد المنزلي المترامي الأطراف. لكنها فتحت لنا وحدها، وأجلستنا وحدها، وأعدت القهوة بعدد ستة أفراد وحدها.. إذن هي وحدها!.
وأنا صرت أتفقد اللوحات بينة القدم وفق منظر البراويز والتوال والزيت، والممهورة بتوقيعات أجنبية مختلفة، كذلك التحف والأنتيكات التي تبدو غالية عن قرب – هناك ما يشبه الجاليري بهذا المكان الفخم – والجرامافون.. الجرامافون هو ما استوقفني كثيرًا، حتى أنني قد نحيت القهوة عن يدي لتفحصه، شكله يوحي بشعور فائق بالعظمة من أنك تتفحص شيء كهذا.. ذراع الزنبرك يدور بثقل مما يؤكد سلامته، وإبرة القراءة صدئة شيئًا ما، وتنزل على اسطوانة كبيرة حتى تكاد تمسها، ولكن......

- بيشتغل؟. (كانت قد وصلت إلى جواري بابتسامة متحفظة أو قلقة)...
- طبعًا.. متغيرله مكنه وبيشتغل.. عاوز تشغله؟. (تنزل الإبرة وتدير الذراع...)
- ياريت... (توجه البوق ناحية الجمع...)
- ................ (يا ليل الصب متى غده/ فيروز/ اسطوانة كبيرة...)...
- ...........

*******

يوم آخر

اليوم هو الخميس.. أول أيام عطلتها الأسبوعية، وبالمناسبة هو يومي السادس، على الرغم من أنك قد تظن أنه الستين، لكنكَ ستعلم حتمًا – ذات مرة – أن اليوم هنا بشهرٍ في خارج هنا.

كانت ترتدي مايوهًا – تنوينها خطأ– أزرقًا من قطعة واحدة، وتربط على خصرها الكاش مايوه الذي ينسدل إلى كعبيها...

عشر دقائق من المشي السريع، تفصل ما بين الشاليه والـ Light House، وإنها لأول مرة أرى الشاطئ في هذه الساعة المبكرة من الصباح. الكافيتريات ترص المئات من الشمسيات والشازلونجات القماشية، وترى الأجنبيات ينمن على ظهورهن، وبطونهن، ووقوفًا، ابتغاء وجه الشمس. يظهرن من بعيد كأنهن قرابين لهذا الضوء النادر، وتلك الحرارة الخلاقة. فلما تقترب سترى الأمور بكثافة تخلو من هذه التصاوير المجازية، ستري نهودًا عارية، ومؤخرات بالبكيني المحتشم، وذو الفتلة، وأحيانًا بلا شيء. وبداهة فقد كان لكل وجهة نظرٍ تقديرها المحلي والأجنبي المتعارف عليهما، ويُرى عبر أوجه الناس النظارة والناس غير المكترثين...

أسير بملامح أردتها خالية.. وبالطبع مراعيًا لئلا يطفح وجهي بانبهاري وشوقي تجاه تلك الأجواء الإيروسية، كنوع من الحفاظ على الإطار الرصين والهالة الروحية التي تكللني بنظر ماري...

- وقلت في نفسي: أرى أنه كثيرًا ما تكون هذه الهالة الروحية ذات وجود فعلي.. عندما أشعر أنني خارج جسدي، وروحًا طليقة مابين العدم والأنفس الأخرى.......
- وبعدين في شغل الصياعه على الآخر والبازلاء العارية دوًا.. مش هننفض بقى من أدب الرحلات دوًا وللا إيييه؟...
- ............. فريد الوهمي...

نصل إلى آخر الممشى، حيث يستدير البحر يتبعه الشاطئ، فلا يسمح المكان سوى بكافيتيريا وحيدة لها شيء من الوجاهة الجغرافية، كما أن الزحام هنا ليس كبيرًا مثلما بالوسط. تتخير ماري شازلونجان متجاوران، فتضع الحقيبة وتُخرج نظارة مائية وأنبوبة كريم واق من الشمس.
أخلع الشورت والتيشيرت، لأبدو في النهاية بهذا المايوه الرياضي الأنيق، والذي أعطاني شعورًا أجنبيًا مضاعفًا بالثقة، بينما هي قد خلعت الكاش مايوه وراحت تدهن ذراعاها، وساقاها، وما يظهر من صدرها بالكريم. أنظر إليها مبتسمًا فتتحول إلى طلائي مبتسمة.
نمسك بأيدي بعضنا البعض، ثم نهبط الماء صحبة مباركة.. الماء هنا مبارك.. تستشعر هذا في نفسك منذ أن تطأ أصابع قدميك الرمال المبللة، فتصلي في قلبك وتتوغل بالماء كالمسحور.
لكأنك قد انتقلت من عالم إلى آخر، عالم شديد الحسية – فالبحر شيء مادي في النهاية – ولكن الاختلاف هنا يكمن في شعوري.. أشعر بأنني أسبح في كيان حي، بل شديد الحياة.. إنه يتنفس ويأكل ويشرب ويشعر.. مثلنا تمامًا.. أنا موقن بما أقول، مما يجعلني أستدعي تلك اللكنة الصوفية في وصف الأشياء... فيا بحر يا بحر يا بحر...

- follow meee. Fareeeeed,
- .. I’ll eat you first.

ماري توقظني مما كدت أغرق فيه – ليس البحر بالطبع وإنما هو البحر الآخر. هي تسبقني بنحو العشرة أمتار، وعلى مقربة منها يسبح العديد من الرجال والنساء العجائز، إضافة إلى بضع فتيات جميلات، يشكلن بالماء حلقة صاخبة وشديدة الميوعة في آن معًا. هن فرنسيات على ما يبدو من صوت مزاحهن، وبشرتهن التي تضرب من تحت الماء بوميض أحمر فرنسي..
أشدد قبضتي على الماء كي ألحق بحسنائي الأثيرة، كاشفًا سر هيستيريا الضحك والصراخ المتعالي أثناء عبوري إلى جوار الفرنسيات، فلابد أن تلك الأشباح الذكورية ذات حلل الغطس السوداء، والتي تحوم حول سيقانهن بالأسفل، أقول أنها ولابد السبب في هذا البغاء الصوتي المراهق، أي الذي يرهق سامعه، ويجعله في مراوحة دائمة بين نفسه والعالم بغية جلب الكمال.. فما نسبتي الآن إلى الكمال يا تُرى؟...

أخيرًا ألحق بكِ أيتها النيوزيلندية السريعة، وأغطس أسفلكِ كالسمكة المفترسة في عقر دارها، لأريكِ بعضًا مما علمتني أول البحور قناة السويس، فأمسككِ من ساقيكِ وأجذبكِ إلى تحت، ثم أرفعكِ إلى فوق – مرات عديدة – وأنتِ تضحكين.. تضحكين.. كالفرنسيات أو أشد ضحكًا، حتى أن جلجلة ضحكاتكِ تخرق الماء حتى تصلني – مجازًا – فأعلو مندفعًا لأسمعها في الهواء، ومن وجهكِ الأحمر المبتهج.. أعلم أنني قد شاركت في غُسلكِ الحزين.

- Take this. (تخلع النظارة المائية المقربة عن رأسها وتمدها إليَّ)...
- This is the first time to dive with original glasses. (غالية جدًا!...)
- Huh!


أزيد من حبكة النظارة المقربة حول رأسي. أسحب نفسًا عميقًا، ثم أغطس عميقًا، لأرى ما لا عين رأت سوى أعين الأجانب، والأغنياء، والمحليون عندما يشاهدون الأفلام التسجيلية المصورة تحت الماء.

ويا إلهي ألهمني الصبر على رهبة هذا الجمال المباشر الحي، فتلك الشعاب من قسمها شُعبًا شُعبًا، وهذه الألوان من أنارها في الظلمات بقوة اللون.. أي كمال وُهِبَ للبحرِ كي يبدع ذلك الملكوت المرجاني المتناثر، ثم يزرع به هذه الأسماك التي لا ألحظها إلا حين تتحرك وكأنها تنفصل من الشعاب كقطع متفاوتة الحجم واللون. الأسماك تنظر نحوي فأخالها تكلمني. واللحظات تمر كأيام من المعرفة الخالصة، المحررة لأجلي. أنا أتصور بنهم كبير غير شاعر برئتيّ، لكأنني أتنفس من الماء يا أخي!.
أستشعر جلبة إلى جواري.. ألتفت فأرى وجهها لِصق وجهي بفعل النظارة المقربة. هي تفتح عيناها بصعوبة بالغة، وتشير إلى معصمها في موضع الساعة بما يعني أنني تأخرت كثيرًا.. أندفع إثر إشارتها إلى السطح، ويكاد صدري ينطبق على ظهري من شدة الضغط وتخثر الهواء الذي يحويه.. أبزغ أخيرًا.. أتنفس مذهولاً وناظرًا إلى السماء بشيء من البله..
تدريجيًا أوجه عيني نحو ماري التي تتكلم لاهثة حيث لا أسمع صوتًا.. لا أدري شيئًا.. ولا أدري هل أوبخها على إفساد لحظتي الخالدة؟ أم أشكرها لأنها ذكرتني بأنني أتنفس الهواء الجاف؟!

- Are you crazy! These two minuets under water. (غير منطقي بالمرة..!)
- ………………
- I worried about you. (كان لابد أن تنجبي يا ماري..إنك أمُومَةٌ جدًا)...
- You are my angel.، Mary (الموقف يحثني على هذا النوع من التكلف.)
- ...................
- ...........

أقترب منها، أحتضنها من الخلف مداعبًا شعرها المبتل، أقبلها خلف أذنها. لقد ابتعدنا كثيرًا عن الشاطئ، حتى بات يفصلنا أمتار قليلة عن تلك الرؤوس التحذيرية العائمة.

أشعر بحرارة منها رغم الماء.. فنتعانق بالماء.. هكذا فجأة.. نساعد نفسانا بالطفو.. هي بذراعيها وأنا بقدميّ وذراع واحدة.. وبدا ذلك كنوع من الإتحاد الجسداني الفريد – ولا يمكن التصور– مما زاد في قناعتي بأن العناق هو الفعل الوحيد الذي لا ينفد معين دهشته بالتكرار.
نضحك بشغف حين ننفصل، ونهمهم عند اللقاء. أعتقد أننا لم نعد نشعر بأي شيء عدانا. أصبحت أحفظ ماري عن ظهر قلب، حينما تأخذها غيبة الانتشاء، فتبدو قسمات وجهها مشغوفة تمامًا بما يستحوذ عليها. هي تُحرك ذراعيها بدافع من غريزة البقاء ليس إلا، وأنا أمدح في قلبي ذلك الشاطئ الذي يتيح للمحلي منا كل هذه الخصوصية، وكل هذا الأمان.. فلا أحد ينظر زاغرًا، ولا أحد يتكلم زاجرًا، وليس من شخص جلفٍ يعترض بعيون يملأها الحقد والجهل. الناس على مقربة منا تسبح، وتغطس، وتعيش، بلا تأمين على الآخر، أو بالأحرى دون التفات إلى ذلك الآخر من الأساس.
فما هذه الحرية؟ وما هذا المكان؟ ومن هؤلاء الناس...؟.

نغادر الماء في منتهى الرضا، والسعادة، والصمت.. والأحاسيس الرفيعة تفرض الصمت أحيانًا. نرتمي.. كلٌ على شازلونجه يرتمي، ويبحلق في السماء التي توردت بسحب حمراء إثر الخجل السمائي على ما يبدو. إنها الأحداث تجري سحرية بشكل ما، شكل عسير الإيجاز ويعز وصفه..
إضافة إلى أن طبيعة مشاعري تجاه هذه المرأة تتطور على طريقة الطفرة المفاجئة، حيث يكون للتمهيد دورًا ثانويًا في حدوث الضخامة.

*******

صبيحة يوم آخر على الشاطئ:

يقطع انتشائنا الصامت، صليل حنجرة Whitney Houston إذ يتصاعد صوتها من هاتف ماري صارخة: I am nothing… nothing…nothiiiiiiiiiiiing…….

- Hello ..Hi Reta (ريتا؟...)
………………..
- On the beach with my friend. (أظنها ستأتي. آملاً أن يخيب ظني)...
- ………………………..
- Oh.. hahahahha.. Yes exactly.. Great. (الثناء يخصني بالتأكيد ..عقب هذه النظرة بالتأكيد)...
- ………………………….
- I am waiting for you. (إذن ستأتي. لا يهم.. تأتي تأتي..)

يقترب النادل سائلاً إذا كنا نريد مشروبًا´-or-طعامًا. هو يوجه السؤال إليها باعتقاد راسخ في أنه يفعل الشيء الصواب.
لكنني أتولى الرد طالبًا منه بلهجة متحذلقة:Two orange juice please.
فهكذا يعامل المحلي بهذه الأماكن، وإلا فلن يأبه للمحلي الآخر، مادام بتقديره يعيش على قفا أجنبية – بل وسيعامله كشيءٍ من متعلقاتها. يرمقني النادل بنظرة ظاهرها الابتسام وباطنها الضيق.
يكتب الـ Order وينطلق غير مرتاح الضمير.

ماري توجه عنايتي إلى أن صديقتها ريتا وزوجها وطفلاهما، سيأتون إلى هنا بعد نصف ساعة. بدوت مرحبًا على الرغم من تخوفي بعض الشيء من أحداث جديدة، لست مستعدًا لها بالصورة الكافية – لغويًا على الأقل – لقد اعتدت على تداول الإنجليزية بكيفية ثنائية محضة، لذلك لا أدري كيف ستكون بقية الكيفيات.

عصير البرتقال يجيء براقًا شهيًا.. فأرتوي دفعة واحدة، ما يجعل القليل منه ينساب على زاويتيّ فمي.. هي تقلدني بطريقة مغيظة، ولا أهتم ناظرًا نحوها بازدراء مصطنع، بينما أنفض جلدي مزيلاً خطوط الملح الرقيقة.
تقترح أن نأخذ دشًا سريعًا بحمام الكافيتيريا، إلى أن تأتي عائلة ريتا.

لا أدري لماذا أنا متهيب بهذه الصورة؟، أتفحص الوجوه المحلية المارة بالممشى، باحثًا عن مخبر أو أمين شرطة... تقريبا سيكون سببًا منطقياً ذكر الرواسب الكامنة – منذ أيام معسكر الشركة العظيمة بـ وادي مندر على مبعدة عدة كيلو مترات من شرم الشيخ – والمتعلقة بشرطة السياحة وكمائن التحريات، وما يدعى بمحاضر الإلحاح – أي أن تكون لحوحًا على أجنبية – أيضًا لا أدري لماذا دائمًا أجعلها تحمل حقيبة الأغراض؟، رغم أن أغلب ما بها لا يخصها في شيء...

- رأيت الكهل الكسيح – موظف المغسلة – تدفع كرسيه امرأة تقاربه في السن، وبدا لي أنها زوجته.. رمقني بنظرته الحقودة، مصحوبة بابتسامة تحمل كمًا رهيبًا من الخبث، فرددت عليه بزغرة مزدرية إنما بغير ابتسامة، ثم تجاوزته راضيًا عن نفسي.. أنا لا أحقره.. فقط لا أستطيع تجاهل ما يحويه هذا الكيان المتسخ جدًا من الداخل..
- هنخش فـ الأنا والهو بقى والفصام الخادع وشغل التهيؤات الإنسانيه فـ التجليات المحليه!...
- ما المانع برأيك؟
- موضه واتحرقت يا هندسه.
- أوردت جديدًا يا أخي.
- قصدك الإجاده والزياده وكده؟...
- التطبيق.. أقصد التطبيق يا أخي.
- يابن اللعيبه يا أخي!...
- ..............

الحمام نظيف جدًا، وشديد السيراميكية، لكنه ما انفك يذكرني بتقسيم المراحيض العمومية في محطات قطار المدن القديمة. فهو عبارة عن طرقة طويلة من الحمامات المتجاورة، والتي لا تصل الحوائط الفاصلة فيما بينها إلى السقف، رغم وجود نافذة صغيرة بالحائط الخلفي من كل حمام. إن هذا التصميم المملوكي القديم للحمامات العامة، لا يزال عالقًا بأذهان كثر من المحليين كتراث قياسي لا يمكن الاستغناء عنه.
يجلس بالمدخل شخصٌ أربعيني، لتنظيم شؤون الحمام والإشارة إلى الحمامات الخالية. صوت الماء، واللغات المختلفة، والضحكات الرقيعة، ينبعث عاليًا في المكان. حتى أن الأصوات الصريحة تُسمع هامشية بين الفينة والأخرى.

أشار لنا الرجل إلى منتصف الطرقة.. هناك حمامان خاليان.. تدخل ماري أحدهما، بينما أنا أقف مترددًا ومجيلاً النظر فيما بينها وبين الحمام الآخر.
تجذبني من ذراعي، ثم تغلق الباب قائلة أنها مندهشة من تحفظي تجاه هؤلاء المحليين البسطاء.. فأقول لها: لا تندهشي.. أنا أعرفهم أكثر منكِ.. أنا أدرى بهم شبهًا من themselves.
تغسلني بالـ شاورجيل، برقةٍ وانسيابيةٍ، لكأنها تعزف على الماء.. كأنها علامة موسيقية ثائرة، تجعل لخرير الماء وأصوات اللغات المختلفة لازمة موسيقية تنحت جسدي بالفراغ.

الآن تتبدى اللحظات وجودية، خالدة، فاجرة.. وأنتِ تمسكين بماسورة الدُش يا ماري الغنجة.. متقوسة مثل مشمش حين تكون خائفة وأنا أهاجمها ناظرًا بعينيها.. ولكنني سأجعلكِ في تقوس مشمش إذ تتشمم الطعام.. ستهتاجين لرائحته.. وتأكلينه بشراسة.. فالطعام الحي لا يأتي كل يوم .. وأنتِ تطلقين أصواتًا صادقة، تصدر من آخر الروح.. وأول البدن.

ولكم كان يشاكلني حدوث الأمر بمكان عام، فكنت مشغولاً بنوع الأحاسيس ناصعة البدائية – مجازًا – التي اختبرها الآن، حالما تشعر أنكَ موجود بقوة.. وأنكَ لست خائفًا من أحد.............. فريد الوهمي...

*******

التشرذم /الفن

........ وأقول أنه من المنطقي جدًا، ألا يكون هناك عبارة نهائية محيطة، يمكن من خلالها صهر كل شيء بمعنىً واحد تشمله عبارة... فمن وجهة نظري المُغرقة في الشعور – المريض/ المريض – بالعظمة، أجد أن مجرد الشكل – الشكل مجردًا – لابد أن سيكون مفتتحًا هيكليًا للعديد من الحيوات التطبيقية المصورة، أو التصورية المطبقة، وأيًا ما كان الإنشاء النوعي للهياكل متخذًا من فرادة يحتمها الاختلاف البشري بين المنشئين، فإنه يصير جراء تلك الفيروسات النشطة ذات الخارطة الجينية الجديدة، والتي انتشرت عقب الانفجار الكبير – والمدفوعة إلى آمادٍ بعيدة بقوة الريح وما ستحدثه من طفرات بالأجنة – لكن ذلك حتمًا لا يبرر صب الفراغ بالإناء.. إذ كما ترى أن التنظير والتقرير لا يشكلان عبئًا على الفن يا أخي، سوى بأيدي الجهلاء والعِولة.

- ليس مكان هذه القطعة.
- ومن قال أنك تَرى من مكانك الصحيح؟.
- يااااه!.. يا سلام!.. يعنـ..... (cut.......)...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با