الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اشراقات الإبداع..وتجليات المبنى الحكائي في القصة القصيرة جدا -وتبخّر الحلم- للكاتب التونسي القدير كمال العرفاوي

محمد المحسن
كاتب

2022 / 5 / 23
الادب والفن


مدخل :

انتشرت القصة القصيرة جدا في الوطن العربي،وأصبح لها حضورها القوي في إنتاجات الكتاب المحترفين،ولم يعد بالإمكان تجاهل هذا النوع الأدبي،الذي بدأ في سبعينيات القرن الماضي،ولم يتوقف جريان نهره، بل إزداد اندفاعا.
إن ما حدث في الكتابة القصصية،هو-في تقديري-ثورة بمعنى الكلمة،كان لها تأثيرها العميق خلال السنوات الماضية.فقد حدثت تحولات وتغيرات جذرية في الكتابة القصصية على مستوى البناء واللغة والحجم.
وما زالت الكتابة القصصية في مرحلة التقدم والتطور والتجريب،يقول إبراهيم نصر الله : "إن القصة تمارس التجريب إلى أبعد مدى،فراحت"تختلط بالقصيدة،مغيبة الحدث باللغة،أو مغيبة الحدث واللغة معا..".1-
وعلى الرغم من ظهور بعض السلبيات نظرا لاستسهال كتابتها من قبل المبتدئين،مما أدى إلى ضياع المعايير التي تحكمها،إلا ان ولوج كتاب كبار إلى هذا النوع من الكتابة،وظهور بعض النقاد الذين أيدوا الظاهرة،وزودوها بالدراسات النقدية مكّنها من التجذر،والقعود واستقلالها كجنس أدبي معترف فيه.
إن القصة القصيرة جدا نص أدبي له وجوه متعددة،وحتى انتماءاته كثيرة،فالخطاب السردي،هو سبيل الكاتب في تقديم حكايته للقارئ من حيث ترتيب الأحداث وتفاعلها وتركيبها وتناميها.وهو الدرب الذي يوافق موقفه من اللغة والشخوص والأحداث والأسلوب الذي تم فيه إبداع الحكاية.
يقول الدكتور باسيليوس بواردي: "إن الخطاب السردي للقصة القصيرة جدا هو خطاب سردي يفتقر إلى مرجعيات محددة من قبل،بل يمكننا القول إنه خطاب سردي رافض ومتمرد على القوالب التعبيرية العادية الناشئة عن التعالقات بين الجمعية والفردي"2-
من بين المبدعين التونسيين الذين أبدعوا في هذا النوع الأدبي الحديث (القصة القصيرة جدا)
نجد القاصَّ الأستاذ كمال العرفاوي الذي أبدع في تأليف عددٍ لا يُستهان به من الـ(ق ق ج)، شَمِلت مواضيعَ عدة ذات أبعاد متنوعةٍ.
ويتناول الكاتب في قصصه الشأن الإحتماعي،والواقع الصعب والأحلام الضائعة والتي لا تصل إلى أي مكان..
يعتمد بشكل كبير نجاح القصة أو إخفاقها على نهايتها المفاجئة غير المتوقعة،والتي تخترق الترتيب المنطقي،وهذا ما برع فيه الكاتب-كمال العرفاوي-بهذه القصة التي حققت أغلب مميزات القصة القصيرة الظافرة :

و تبخّر الحلم
قبض حكيم،و هو شابّ في مقتبل العمر، أوّل مرتّب
له،و قرّر مفاجأة حبيبته الجميلة سلمى، تلك الفتاة الحالمة صاحبة الابتسامة الدّائمة..
ذهب حكيم مسرعا إلى محلّ لبيع المجوهرات، و اشترى خاتم خطوبة،و ذهب إلى مقرّ عمل سلمى، و بقي ينتظر خروجها على أحرّ من الجمر...
مرّ الوقت ثقيلا،بطيئا،و فجأة خرجت سلمى،فلمحت حبيبها من بعيد واقفا على الرّصيف المقابل لمقرّ عملها ينتظر خروجها بفارغ الصّبر،فأسرعت الخطى لعبور الطّريق دون أن تنتبه للسّيّارة -المنفلتة من العقال-القادمة تطوي الأرض طيّا...
و ما هي إلّا لحظات حتّى سلبت السّيّارة الملعونة حياة سلمى..و عقل حكيم..

(كمال العرفاوي )

ولأن القصة القصيرة جدا،يجب أن تكون جملتها الأولى مشوقة وتجذب القارئ،ولا تجعله يشعر بالسأم،فإن الكاتب في هذه القصة "و تبخّر الحلم" يبدا بالفعل دون مقدمات،إذ يقول :"قبض حكيم،و هو شابّ في مقتبل العمر،أوّل مرتّب له،و قرّر مفاجأة حبيبته الجميلة سلمى، تلك الفتاة الحالمة صاحبة الابتسامة الدّائمة.."
فالشخصية دخلت إلى الحدث مباشرة،فالقصة القصيرة لا تهتم بالأحداث المتعددة،فنصها سريع الإيقاع،وتمر كالبرق الخاطف،محدثة لمعانها في فكر القارئ.
ومن الناحية السرديَّة فليس للسارد حضورٌ في النصِّ؛ فهو يتحدَّث بضميرِ الغائب،هذا الغيابُ يجعل الرؤيةَ من الأعلى هي المهيمنةَ على الحَكْي،فمن مظاهر هاتِه الهيمنةِ التصرُّفُ في تقديم الأحداث،والاطِّلاع الشامل عليها (الأحداث)، فحسب روَّاد "الشكلانية الروسية" لا يوجد توازٍ بين زمن المتن الحكائيِّ والمبنى الحكائي، فالقصة تروي أحداثًا تأخذ وقتًا طويلًا على مستوى الواقع في غضون سطورٍ محدودة،والأحداث في هذا النص تتميَّز بسيرورة تعاقبيَّة.
القصة كما تجلت لنا مكتوبة بلغة سهلة وسلسة وبعيدة عن الهشاشة والضعف،كما أنها بعيدة عن الغموض والموحش من اللفظ،لذا تصل إلى مختلف أنواع القراء،وكما قال عبد القاهر الجرجاني "فلا تظنن أني أريد السمح السهل الضعيف الركيك ولا باللطيف الرشيق الخنث المؤنث،بل أريد النمط الأوسط،ما ارتفع عن الساقط السوقي،وانحط عن البدوي الوحشي"3-
فالقصص الناجحة هي التي تثير القارئ،وتبعث في نفسه السرور ولذة القراءة،وكان كمال العرفاوي في قصته هذه يتصف بالحيوية والتدفق،ووفق في القص دون تكرار وحشو،وبرع في التكثيف والنهاية المباغتة التي حتما سوف تدهش القارئ.
هذه اللوحة القصصية (كما أرى) أفضل ما قرأت من قصص قصيرة جدًا لكثير من الكتاب؛ ففيها تتوافر عناصر القصة القصيرة جدًا،وما يتطلبه هذا الفن من تكثيف وصور ورموز.
إن -كمال العرفاوي-لا يستهين بهذا الفن القصصي الصعب،بل يؤديه حقه من الجهد والتجويد، فهو فن له مقوماته ومكابداته.إنه ليس مثل غيره من الكتاب الذين يفهمون القصة القصيرة جدًا بأنها لغز أو نكتة أو مثل أو خاطرة.إن كمال يغترف عالمه القصصي من الواقع،ويمزجه بخيال خصب؛ لينجح في تقديم الإنسان وهو يحس-أحيانا-بالإحباط من وجوده في هذا العالم.



هوامش :

1-إبراهيم صموئيل، وآخرون. "أفق التحوّلات في القصّة القصيرة". تحرير وتقديم إبراهيم نصر الله. عمان: مؤسسة عبد الحيد شومان. ط1، 2001. ص8)
2-باسيلوس بواردي، وآخرون. "القصّة القصيرة جدّا". دراسات ونماذج. رام الله: مركز أوغاريت الثقافي. ط1، 2011. ص 10-11
3-الجرجاني. "الوساطة بين المتنبي وخصومه"،تحقيق وشرح محمد أبو الفضل، وعلي البجاوي، ط2، القاهرة: منشورات دارا إحياء الكتب العربية، دون تاريخ. ص24








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا