الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آوان ازدهار الجنس البشري (4-7)

راندا شوقى الحمامصى

2022 / 5 / 23
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إن المقتضيات الضرورية لتنمية المجتمع العالمى تتطلب مستويات من القدرات والطاقات تفوق بكثير كل ما لدى الجنس البشرى حتى الآن. سيحتم الوصول إلى هذه المستويات توسعاً كبيراً فى الحصول على المعرفة من قِبَل الأفراد والهيئات الاجتماعية على حد سواء. وسيكون التعليم العالمى عاملاً لا غنى عنه فى عملية بناء القدرات هذه. وتكليل الجهود بالنجاح مرهون بإعادة تنظيم أمور البشرية بصورة تُمَكِّنُ كلاً من الأفراد والجماعات فى كل قطاعات المجتمع من الحصول على المعرفة اللازمة وتوظيفه لصالح الإنسانية. لقد اعتمد الوعى البشرى وعلى مدى التاريخ على نظامين أساسيين للمعرفة عَبَّر من خلالهما وباطراد عن قدراته، ألا وهما العلم والدين. إذ عن طريقهما نظم الجنس البشرى خبراته وهيأ بيئته وسخر قواه الكامنة ونظم حياته الأخلاقية والثقافية. فالعلم والدين هما الجذور والأصول والسلف الأساسى والحقيقى للمدنية. وبنظرة إلى الماضى يتضح لنا جلياً أن النسق والبناء المزدوج للعلم والدين كان على قمة فعاليته وتأثيره فى الحقب التى كانا - كلُ فى مجاله - يعملان فى وفاق واتفاق.
إن ما وصل إليه التقدم العلمى فى عالمنا المعاصر بَيِّنُ لايحتاج إلى توضيح. فالأمر إذاً وفى سياق استراتيجية لتنمية اجتماعية واقتصادية هو كيفية تنظيم الأنشطة العلمية والتكنولوجية إذا ما أنحصر العمل أساساً فى الحفاظ على ما تأسس من عدد قليل من الأمم فى مرتبة الصفوة فمن البديهى أن تزداد الفجوة اتساعا بين عالم غنى والآخر فقير مع الأخذ فى الاعتبار العواقب الوخيمة للاقتصاد العالمى التى بدأت تلوح فى الأفق.
إذا ما استمر معظم الجنس البشرى كمستهلكين وملتهمين لثمار العلم والتكنولوجية المقطوفة فى بلد آخر فإن البرامج المزعومة التى وضعت لخدمة احتياجاتهم لا يمكن تسميتها بالتنمية. لهذا فإن التحدى الرئيسى والكبير هو التوسع فى الأنشطة العلمية والتقنية وإن العناصر الفعالة فى التغيير الاجتماعى والاقتصادى لا يجب أن تكون وقفاً على ذوى الحظوة من قطاعات المجتمع. بل يجب تنظيمها بحيث تسمح للناس أينما كانوا بالمشاركة فى مثل هذه الأنشطة على أساس كلُ حسب قدرته. وبالإضافة إلى وضع البرامج التى تجعل من التعليم المطلوب متيسراً لكل من أراد أن ينهل منه، فإن إعادة التنظيم تتطلب مراكز حيوية للتعلم والعلم والمعرفة تكون قادرة على البقاء والنمو على نطاق العالم اجمع. ومؤسسات تكون باستطاعتها الارتقاء بقدرات ومقدرات سكان العالم لكى يساهموا بدورهم فى تطوير وتطبيق المعارف والعلوم. مع الإقرار بالفروق الواسعة فى القدرات الفردية للناس إلا أن استراتيجية التنمية يجب أن تهدف أساساً لأن يكون بإمكان كل سكان الأرض ممارسة حقهم الطبيعى فى التعامل مع العلم والتكنولوجيا على قدم المساواة. لقد أخذت المزاعم المعهودة بالحفاظ على الأوضاع الراهنة كما هى عليه، تضمحل يوماً بعد يوم أمام ثورة تكنولوجيا الاتصالات السريعة التى جعلت فى مقدور أعداد كبيرة من الناس الحصول على المعلومات والمعرفة أينما كانوا ومهما كانت خلفياتهم الثقافية.
إن التحديات التى تواجه البشرية فى حياتها الدينية رغم الاختلافات فى طبيعتها لكنها متساوية فى كونها خطيرة. إن فكرة أن للطبيعة البشرية بُعدٌ روحى أصبحت حقيقة مسلم بها بالنسبة للغالبية العظمى من سكان العالم. وفى الحقيقة فإن كنه وجوهر الإنسان أساساً روحانى. هذا الفهم والإدراك لهذه الحقيقة يمكن الكشف عنه فى السجلات الأولى للمدنية، ذلك لأن المدنية نمت وترعرعت فى كنف كل واحد من المعتقدات الدينية العظيمة السابقة. وبفضلها استطاعت بما تحقق من إنجازات عظيمة فى القانون والفنون وتَحَضُّر فى المعاملات والتواصل بين البشر أن تعطى للتاريخ شكلاً ومضموناً ومعنى. من البوادر العاجلة فى الحياة الدنيا للبعد الروحى للطبيعة البشرية هى الأشواق الجمة والحارة للخلاص تزيد من حرارتها الأحداث الجارية فى العالم اليوم.
من البديهى إذاً أن تأخذ المجهودات - أيا كانت - والتى تبذل للارتقاء بالتقدم البشرى فى الاعتبار مثل هذه المقدرات الروحية الخلاقة. لماذا إذاً لا تكون المواضيع الروحية التى تواجه البشرية محوراً فى الحديث عن التنمية ؟ لماذا تُحَدَّدُ معظم الأولويات ومعظم التصورات الأساسية فى أجندة التنمية العالمية حتى الآن من وجهة نظر الماديين الذين ما هم إلا قلة صغيرة من سكان الأرض ؟ كم من الوزن يمكن إعطاؤه للتمسك المصطنع بمبدأ المشاركة العالمية الذى لا يعترف بشرعية وحق المشاركين فى الاستفادة من التجارب الثقافية ؟
قد يتقدم البعض بحجة أن الأمور الروحية والأخلاقية منغمسة تاريخياً فى النزاعات الدينية والعقائدية التى لا تقبل البراهين الموضوعية لذا فإنها خارج إطار اهتمامات المجتمع العالمى التنموية و إعطاؤها أى دور بارز سيكون بمثابة فتح الباب على مصراعيه لتلك التأثيرات العقائدية التى غَذَّتْ الصراعات الاجتماعية فأعاقت التقدم البشرى. لاشك أن هنالك بعض من الحقيقة فى مثل هذه الحجج. يتحمل فقهاء معظم الأنظمة اللاهوتية مسئولية كبيرة ليس لإساءة السمعة التى ابتلى بها الدين لدى العديد من المفكرين التقدميين فحسب بل للمنع والردع والتحريف الذى أصاب بحث البشرية المستمر فى المقاصد والدلالات والمعانى الروحانية، فى النهاية يأتى الرد على مثل هذه الحجج بأن زجر وتثبيط همة التحرى فى الحقائق الروحانية وتجاهل مثل هذا الباعث والمحرك الإنسانى ذى الجذور الراسخة ما هو إلا وهم وضلال بَيِّنٌ بنفسه لا يحتاج إلى برهان.
إن الأثر الوحيد الذى أدى إليه فرض الوصاية والاحتكار فى التاريخ الحديث هو وضع أمر تشكيل هيكل مستقبل البشرية فى أيدى معتقد عرفى جديد يزعم بأن الحق لا هو من الأخلاق فى شئ ولا هو منافى لحسن الأخلاق ( أى لا يقع ضمن نطاق القواعد والأحكام الأخلاقية ) وأن حقائق الأمور مستقلة بذاتها لا تعتمد على القيم ومنفصلة عنها.
حتى الآن وفيما يختص بالحياة الأرضية فإن العديد من الإنجازات العظيمة للدين كانت ومازالت ذات طابع أخلاقى، إذ عن طريق التعاليم الدينية وبواسطة تلك الأرواح التى استضاءت من فيض نور هذه التعاليم من أمثلة فإن جموعً غفيرة من الناس فى كل العصور والبلدان استطاعت أن تنمى موهبة وملكة المحبة. فقد استطاعوا أن يكبحوا جماح النفس والشهوات البهيمية ويقوموا بتضحيات عظيمة من أجل الصالح العام، وممارسو العفو والغفران والكرم والحنان والثقة والاطمئنان واستخدام الثروة والموارد بطرق تخدم الارتقاء بالحضارة والمدنية. ولقد أنشـأ نظام المؤسسات لتحويل هذا الرقى الأخلاقى إلى قواعد وأسس اجتماعية على نطاق واسع. بالرغم من غشاوة التراكمات العقائدية وانشغالها بالصراعات الطائفية إلا أن الباعث والدوافع الروحانية القوية التى حركتها تلك النفوس السامية التى لا نظير ولا مثيل لها أمثال كرشنا، وموسى، وبوذا، و زرا دشت، و المسيح، ومحمد، كانت المؤثر والعامل الرئيسى فى صقل وتمدن الطبيعة البشرية.
حينئذ يكمن التحدى فى تمكين وتقوية ساعد البشرية عبر زيادة كبيرة فى وسائل الحصول على المعرفة. والسبيل إلى تحقيق هذه الغاية يجب أن ينبنى على حوار متواصل ومكثف بين العلم والدين. ومن البديهى الآن أن فى كل مجالات وعلى كل مستويات الأنشطة الإنسانية يجب للأفكار الثاقبة والمهارات الحاذقة الناتجة عن الإنجاز العلمى أن تأخذ فى الاعتبار القوى المستمدة من الالتزام الروحى والقواعد الأخلاقية لتأمين التطبيق الملائم لها. فالناس فى حاجة - مثلاً - لأن يتعلموا كيف يفرقوا بين الحقائق والأوهام. بل فى واقع الأمر كيف يميزوا بين النظر للأمور من زاوية وميول واعتبارات شخصية وبين الحقائق الموضوعية المنزهة عن الغاية والهوى. إن مدى إمكانية مشاركة الأفراد والمؤسسات ذات الإعداد المتين فى تقدم البشرية سيتحدد بتعلقهم بالحق والصدق وتجردهم من البواعث الذاتية والأهواء والمصالح الشخصية. والمواهب الأخرى التى يجب أن ينميها العلم فى كل الناس هى التفكير من منطلق السياق العام بما فيها السياق التاريخى. عموماً إذا كان للتقدم الفكرى أن يساهم فى نهاية الأمر فى تطوير التنمية يجب لمراميه ألا تظللها غمائم التعصب العرقى أو الثقافى أو الجنسى أو الانتماء الطائفى. وبالمثل فإن التدريب والترويض الذى يُمَكِّنُ سكان الأرض من المشاركة فى استخراج الثروة سيطور من مرامى وأهداف التنمية إلى حد معين إلا إذا ما استضاءت بواعثها ودوافعها بأنوار المفهوم الروحانى بأن خدمة البشرية هى الهدف السامى فى حياة الفرد والمنظمات الاجتماعية. (وثيقة ازدهار الجنس البشري)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت


.. #shorts - Baqarah-53




.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن


.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص




.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح