الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بوتين يحكم روسيا كمصحة نفسية

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2022 / 5 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


بقلم: فريدة رستموفا، مراسلة صحفية مختصة بتغطية السياسة والمجتمع في روسيا.

"إننا منذ القرن السادس عشر ونحن نعيش وفقاً لقوانين الذهان الاكتئابي الهوسي"، هكذا كتبت الصحفية الروسية المنشقة فاليريا نوفودفورسكايا.

نُشرت مقالة نوفودفورسكايا بعد عامين من انهيار الاتحاد السوفيتي، وتسلط الضوء على حقبة فوضوية ومضطربة على نحو خاص من التاريخ الروسي. بيد أنها في الوقت نفسه تسلط الضوء كذلك على مرض عضال ومزمن ينخر في جسد المجتمع الروسي. فمنذ زمن إيفان الرهيب، كما تمضي نوفودفورسكايا، وروسيا تعاني من الذهان الاكتئابي الهوسي- حيث "يستبيح" أبناؤها حكوماتهم الضعيفة بينما "يلعقون نعال" حكامهم المستبدون الأقوياء. وكانت النتيجة بلد "معلق بين الفاشية والشيوعية،" ومواطنين عجزة عن أن يحيوا حياة كريمة مثل البشر العاديين.

إن اجتراء الاستعارات من عالم الطب النفسي لا يأتي من فراغ. ففي 1969، تعرضت السيدة نوفودفورسكايا ذاتها للاعتقال وعمرها لا يتجاوز 19 عاماً على خلفية توزيع منشورات مناهضة للسوفيت، وحكم عليها بعامين في مصحة للأمراض النفسية. لذلك هي تعرف من التجربة الحية فظائع منظومة الطب النفسي العقابي للمنشقين كما وضعتها وطبقتها لجنة أمن الدولة أو الاستخبارات السوفيتية (الكي جي بي). ومن وجهة نظرها، تعتبر هذه المنظومة العقابية تجسيداً للمنطق الحاكم لحكام روسيا، القياصرة أو السوفيت. فالغاية كانت ولا تزال إنتاج كتلة طيعة، تتقلب بين نار التعصب والانفعال وبرودة السلبية والجمود – وفي جميع الأحوال عاجزة عن أن تشكل خطراً يهدد النظام.

لقد أحيا فلاديمير بوتين على مدار العقدين الماضيين العمل بمنظومة الطب النفسي العقابي، سواء بالمعنى الحرفي أو المجازي. فالسيد بوتين، مثل كبير الأطباء بمؤسسة طب نفسي عقابية سوفيتية، يستخدم أي وسيلة في متناوله لكي يحكم قبضته ويستأصل الانشقاق. في عنبره يقبع 144 مليون شخص معظمهم من الفقراء والبؤساء، مقسمين بين 11 منطقة زمنية وأربعة مناطق مناخية. إن غالبية المجتمع الروسي، في حالة من اللامبالاة تحت تأثير التخدير والوهن بسبب جرعة القمع الزائدة، قد ارتضت حكم بوتين- وحربه الوحشية في أوكرانيا.

بالنسبة للسيد بوتين، الشعب القابع في عنبره هم ملك يمينه: هو يستطيع أن يفعل بهم كيفما شاء. هو من وقت لآخر يطعهم- لكن ليس أبداً بسخاء- لكي يضمن استمرار نسب قبوله وشعبيته مرتفعة. ومن عادته أيضاً أن يجزل لهم الإكراميات، خاصة قبل كل جولة انتخابات صورية. وهنا تعتبر الهبات المالية المستهدفة ومدفوعات المعونة لمرة واحدة تكتيكاً مفضلاً. ليس الهدف بالطبع التيسير المادي على المواطنين الروس، بقدر تدعيم أركان النظام وضمان استمرار معدلات التصويت مرتفعة بدرجة مقبولة، في انتخابات زائفة وتجميلية في جميع الأحوال.

ثمة قسم كبير من الشعب الروسي في عنبر بوتين لا هم أحياء، ولا هم أموات. فرغم صعوبة الحصول على إحصائيات موثوقة، قدرت الاقتصادية المستقلة ناتاليا زوباريفيتش أن 15 بالمئة من الروس في 2019 كانوا يعيشون في فقر، بينما كانت 49 بالمئة أخرى على وشك الانحدار إلى تلك الفئة. وقد تسبب عامان من جائحة كورونا في تفاقم الوضع سوءاً. إذ وفقاً لمركز ليفادا المستقل كان 40 بالمئة من الروس خلال الصيف الماضي غير قادرين على أن يطعموا أنفسهم بطريقة لائقة، بينما لم يتمكن 52 بالمئة منهم من توفير حاجاتهم الضرورية من الملابس والأحذية.

في ظل هذا الوضع المزرى، لا عجب أن يجنح الناس للتفكير أولاً وقبل أي شيء في بطونهم. وبالنسبة للكثيرين منهم، فالسياسة تشبه الطقس، أو حقيقة حياتية غير قابلة للتغيير وغالباً غير مفهومة لهم. لقد سدت أمامهم كل الفرص لكي يفهموا لماذا هم يعيشون بهذه الطريقة بحاجز دعاية الدولة المنيع، والساسة الذين كان بمقدورهم مساعدتهم على أن يفهموا إما ماتوا أو وضعوا في السجون. كذلك لا يمكن العثور المعلومات المستقلة، المتاحة على شبكة الإنترنت من عدد متضاءل من المصادر، من دون متسع غير متاح من الوقت والجهد والمعرفة.

معظم الطبقة الوسطى الروسية يقبع في نفس العنبر. ثمة أقلية هزيلة من القطاع الخاص، لكن الأغلبية تعتمد على الدولة- وهؤلاء منهم الأطباء والمدرسين والموظفين الحكوميين وضباط الشرطة وعمال الشركات المملوكة للدولة. ولأنهم يعيشون حياة أفضل قليلاً من الطبقات الأدنى، فإنهم يتوجهون للسيد بوتين بالشكر والعرفان لنعمة رغد عيشهم الأفضل بعض الشيء. وهم لا يريدون التغيير ولا يعلمون لماذا قد يحتاجون إلى التغيير: أغلبهم لم يسبق لهم السفر إلى الخارج أو الاطلاع على الأحوال المعيشية لشعوب أخرى. وكل ما يقال لهم على شاشات التلفاز هو أن أوروبا منحلة والناس هناك تتزاحم على طوابير الخبز. لا مكان في الدنيا أفضل من روسيا.

هؤلاء هم التعساء في مصحة بوتين النفسية. شعارهم المكتوم: "طاطئ رأسك، وإلا كانت العواقب وخيمة". هم إلى حد بعيد لا يعنيهم أن تشن روسيا نيابة عنهم حرباً ضد أوكرانيا أو أن يواصل الجيش الروسي قتل المدنيين في بلد جار كل يوم منذ قرابة ثلاثة أشهر. إلى حد ما يعنيهم الأمر، هناك عملية عسكرية خاصة تجري في مكان ما بعيداً عنا، تديرها دولة نعتمد عليها أشد الاعتماد. لا حاجة لنا لمعرفة ما هو أكثر من ذلك، فلا طاقة لنا به ولا فرصة أمامنا إليه.

إن مصحة الطب النفسي لا تمتلئ بالمرضى وحسب. هناك الأطباء والأطقم الطبية أيضاً. في روسيا بوتين، هذه الأدوار يؤديها موظفو الحكومة والدفاع وإنفاذ القانون وعمال الدعاية ورجال الأعمال الأثرياء، وجميعهم يخضعون لسيطرة صارمة من الأجهزة الأمنية. وأفراد هذه الحاشية، التي تخضع للغربلة والفرز بمعرفة الكرملين ذاته، يعتبرون أنفسهم أسياد البلد والبلد ذاته ملك يمينهم. ما من أيديولوجية تحركهم عدا العبادة الذليلة لرؤسائهم طمعاً في لقمة عيش رغدة وجني أكبر قدر من المكاسب الشخصية.

بوتين يأمرهم ببث الخوف في قلوب الناس، وإذكاء الكراهية، ووأد حرية التفكير- وكل منهم يساهم قدر استطاعته في إنجاز تلك المهمة. وبفضلهم، تستطيع الدولة أن تتوغل وتحشر أنفها في كل كبيرة وصغيرة بطول البلاد وعرضها. وعبر المجتمع، يشيدون نماذج مصغرة لنظام بوتين- في الحكومات المحلية، وقطاع الأعمال الخيرية، وحتى في الجمعيات التطوعية- لا لشيء سوى لمنع أي أحد من المبادرة بشيء لا يخدم مصلحة الدولة كما يريدونها. وفي المقابل، يتغاضى بوتين عن فساد هؤلاء الأشخاص وعن قسوتهم وعن تنكيلهم بالمعارضين والمنشقين طالما حالفهم التوفيق في الحفاظ على الأمن والنظام داخل العنبر. كل منهم يعمل بطريقته الخاصة، لكنهم مجتمعون يستنفدون طاقة المواطنين وإرادتهم ويعززون من طاعتهم لأوامر ونواهي النظام. فكما يقولون في روسيا، هناك نصف البلد قابع في الزنازين، والنصف الآخر حراس عليهم.

بالطبع الحياة الفعلية أكثر تعقيداً من أي استعارة مجازية، لاسيما في مجتمع مهلهل مثل المجتمع الروسي. وهناك الكثيرون في روسيا لا هم من المرضى ولا هم من الطاقم الطبي في مصحة بوتين النفسية العقابية- كما تدلل التظاهرات وحركات الاحتجاج المتفرقة التي عارضت الحرب فور اندلاعها، وضمت العلماء والطلاب وأعضاء الجمعيات الخيرية والمهندسين وحتى فنانين مشهورين نزلوا إلى الشوارع ووقعوا العرائض الرافضة للحرب. ولما قوبلت هذه المقاومة المتواضعة بالقمع والتنكيل، لم يكن أمام أغلب ذوي العقول المستقلة هؤلاء سوى مغادرة روسيا كليتاً.

لكن الاستعارة المجازية تسلط الضوء على حقيقة جوهرية إزاء روسيا اليوم: بوتين لا يمسك بالسلطة عبر الرضا بل بواسطة القمع. ومن ثم كان التأييد لحرب الرئيس، على سبيل المثال، محدوداً وهزيلاً في أحسن الأحوال. بخلاف ذلك ما كان بوتين سيضطر إلى أن يسميها "عملية خاصة"، وما كان أغلق القليل المتبقي من النوافذ الإعلامية المستقلة بعدما بدأت الحرب مباشرة، وما حجب شبكات التواصل الاجتماعي، وما سن قوانين قمعية جديدة وما ألقى بالناس في ظلمة السجون لأتفه الإيماءات المناهضة للحرب.

إن السيد الرئيس بوتين يعلم أيضاً علم اليقين أن فترة مكوثه في الكرملين طالت أكثر من اللازم، وأن قبضته ضعفت على البلاد. على سبيل المثال، عبر 41 بالمئة ممن شملهم استطلاع للرأي في فبراير 2021 عن رغبتهم في أن يغادر الرئيس منصبه بعد عام 2024- وهي نتيجة مثيرة للاهتمام بالنظر إلى مخاطر الإفصاح عن مكنون نفوسهم بحرية. لكن بوتين لا ينوي المغادرة ويعلم أنه بصرف النظر عن مدى عظمته كشخصية تاريخية كما رسمها بنفسه، فإنه بعد رحيله سيضطر إلى أن يدفع ثمن خطاياه.

بعد أقل من عامين سيواجه بوتين انتخابات شكلية، من أجلها أعاد كتابة الدستور. وفي أوكرانيا، أراد نصراً سريعاً يمنع أي أحد حتى من التفكير في استبداله بشخص آخر. كانت خطته تقوم على إعادة توجيه الإحباط والغضب العام المتراكمين بعيداً عن نفسه وباتجاه "أعدائه"- أوكرانيا والغرب. بتلك الطريقة سيستطيع تثبيت حقه في البقاء على العرش كزعيم عظيم استطاع أن يغير النظام العالمي. لكن خطته المتعطشة للدماء تبعثرت هباءً منثوراً فوق صخرة المقاومة الأوكرانية الباسلة.

من الواضح أن بوتين يخطط لإطالة أمد حربه الدموية، أملاً في التغلب على الطامعين في الكرسي من الداخل. من المستحيل التنبؤ بالمستقبل. لكن ما يمكن قوله من غير لبس هو أن المجتمع الروسي، بعد كل هذه السنين الطويلة داخل مصحة بوتين للعلاج النفسي العقابي، سيحتاج حتماً لزمن طويل من النقاهة وإعادة التأهيل.
_________________________
ترجمة: عبد المجيد الشهاوي
رابط المقال الأصلي: https://www.nytimes.com/2022/05/23/opinion/russia-putin-war.html








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مصحه عقليه
على سالم ( 2022 / 5 / 25 - 03:37 )
هذا هو الحكم الاستبدادى البشع فى دول الاستبداد والقمع والظلم والبلطجه والبطش , هل يوجد فرق بين الشعب الروسى الذليل والشعب المصرى المستعبد وهم جميعا فى مصحه الامراض العقليه والنفسيه ؟ نفس عقليه العبيد المقهورين فى كل زمان ومكان هى واحده , واقع سئ ومشين ومحبط


2 - بعد إذن
عدلي جندي ( 2022 / 5 / 25 - 22:50 )
الكاتب والمترجم الأساذ عبد ىلمحيد
أخي علي سالم
خد بالك من التشابه ما بين : الشعب ف روسيا يعتنق السلفية السلافية الأرثوذكسية
وف مصر برضه الشعب سلفي بطبعه (بيقولوا عليه متدين بطبعه)سيان المؤدلج عروبيا أو أرثوذكسيا
تحياتي لكما

اخر الافلام

.. ألمانيا والفلسطينين.. هل تؤدي المساعدات وفرص العمل لتحسين ال


.. فهودي قرر ما ياكل لعند ما يجيه ا?سد التيك توك ????




.. سيلايا.. أخطر مدينة في المكسيك ومسرح لحرب دامية تشنها العصاب


.. محمد جوهر: عندما يتلاقى الفن والعمارة في وصف الإسكندرية




.. الجيش الإسرائيلي يقول إنه بدأ تنفيذ -عملية هجومية- على جنوب