الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شئ عن السياب العراقي

رياض قاسم حسن العلي

2022 / 5 / 26
الادب والفن


ومن حماقات القدر العراقي ان يؤتى بنعش السياب قادماً من الكويت في يوم ماطر ويمر في طرق ابي الخصيب الطينية دون ان يدخل الى بيته لأن مالك البيت اخرج العائلة ومقتنياتها خارج البيت بعد أن تلكأت بدفع أجرة السكن...ويقال ان مالك البيت هو مصلحة الموانئ العراقية.
ومن حماقات القدر العراقي ان يفرح اعلامي -سياسي لاحقاً -بموت السياب مبكراً كي لا يكرر مافعله شاعر خصيبي اخر ....
ومن حماقات القدر العراقي ان يقف حزب سياسي عريق ضد السياب لانه تحدث في نثر سئ عنه...
ومن حماقات القدر العراقي ان يتم اهداء مقتنيات السياب الى مكتبة الكونجرس الامريكية(1).
-----------------------------
لا اعتقد انه يوجد عراقي لا يعرف ثلاثة ( السياب ، مظفر النواب وعريان السيد خلف) لعدة اسباب...
لأن السياب يشترك مع مظفر بأن كلاهما مجدد ومحدث فالنواب استطاع ان يخلص الشعر العراقي المكتوب باللغة المحكية والمسمى بالشعبي من القولبة الشكلية والموضوعية القديمة متجاوزاً حداثية عبود الكرخي ومقدماً الصورة الشعرية بشكلها التواصلي ونفس الشئ فعله السياب حينما استفاد من معرفته الجيدة باللغة الانكليزية واطلاعه المهم على الشعر الانكليزي والشعر العالمي المترجم الى الانكليزية (2) مستعينا بمعرفة جبرا ابراهيم جبرا بهذا الشعر وكذلك هضمه لكتاب الغصن الذهبي واساطير الرافدين والشرق ليقدم للشعر العراقي بداية جديدة ابهرت الوسط الثقافي العربي بهذا التجديد ، ولأن السياب مثل عريان - او العكس كي يستقيم السياق التاريخي- استخدم عراقيته الواضحة سواء في المفردات او في البيئة الشعرية .
لكن السياب لم يتخلص من الموروث الشعري العربي ولا اقصد هنا بداياته الشعرية التقليدية ، فعلى سبيل المثال نأخذ قصيدته الاشهر ( انشودة المطر ) التي بدءها بمقدمة غزلية لا علاقة لها بموضوع القصيدة المهم جداً وهذه المقدمة الغزلية تذكرنا بتلك القصائد التقليدية العربية التي تبدء بمقدمة هادئة تبعث الاطمئنان والراحة والقبول لدى المتلقي قبل ان يفاجئ الشاعر هذا المتلقي -سواء كان انساناً عادياً او حاكماً- بموضوع القصيدة مثلما حدث مع القصيدة الرصافية لعلي بن الجهم التي تعد مقدمتها من اروع ابيات الغزل في تاريخ الشعر العربي -اذا استثنينا البهاء زهير -لكن موضوع قصيدة ابن الجهم من اسوء مواضيع الشعر العربي - اذا استثنينا مديح المتنبي الرخيص- فهذا الجهمي كان شاعر الكراهية بحق.
لكن - وما سيرد هو نابع من ذائقتي كقارئ ولا علاقة له بالرأي النقدي - اهم نصوص السياب التي تعد تحديث غير مسبوق في الشعر العربي هي القصائد التي كتبها في بيروت ولندن في اواخر حياته فهي القصائد التي تتحدث عن داخل الشاعر ولا علاقة لها بالدوافع الخارجية...
فالشعر الحقيقي هو الذي ينبع من تجربة الشاعر الداخلية وليس من اندفاعات خارجية واملاءات مدفوعة الثمن او وفق ايديولوجية مقيتة...الشعر صادق بينما الشعر التقليدي اعذبه اكذبه.
والشعر التفعيلي على الرغم من الثورة الشعرية الباذخة التي قدمها الا انه في احيان كثيرة مربوط بوتد في خيمة الشعر التقليدي في غرضيته المزعجة من مديح او هجاء او غزل ..وهذا مقبول اذا فهمنا ان القفزة الى الحداثة تحتاج الى مراحل.
فقصيدة ( احتراق ) التي كتبها السياب في بيروت بتاريخ 1961/4/26و قصيدة ( الوصية ) التي كتبها في بيروت ايضاً بتاريخ 1962/4/19 والقصيدة الاهم في تاريخ السياب الشعري ( سفر ايوب) والتي كتبها في لندن على مراحل تعد التحديث الاهم في الشعرية العربية وعلى الرغم من ان الاسطورة لم تتخلص من شعر السياب في سفر ايوب الا ان هذه الاسطورة وعلى عكس الاستخدامات السابقة جاءت بما يتلائم والوضع الشخصي الذي عاشه السياب اثناء كتابتها.
ولكن هذه القصائد لم تنال الشهرة التي نالتها قصائد السياب الاولى مثل المطولات الثلاث.
ولا ننسى قصيدة ( في المغرب العربي) التي تعد درة من درر الشعر الحديث على الرغم من لحظيتها وتاريخيتها فاللحظية والتاريخية تقتل الشعر كما تقتله الغرضية المقيتة ، ولا اعرف لماذا تذكرني هذه القصيدة بقصيدة المتنبي ( واحر قلباه ممن قلبه شبم...) ، ربما لأن السياب جمع بين الشخصانية الشعرية الداخلية وبين الغرضية التي تحمل راية ثورية ...قصيدة ( في المغرب العربي) نشرت في مجلة الاداب البيروتية لاول مرة في عدد آذار سنة 1956 وقد اهداها وقتها( الى المجاهد العربي الكبير مصالي الحاج ) وهو الاهداء الذي لم يظهر في القصيدة حينما نشرها في ديوانه ( انشودة المطر ) الصادر عن دار مجلة شعر ببيروت سنة 1960 فهل لتوجه مجلة شعر سبباً في حذف هذا الاهداء؟..ويذكر ان هذا الديوان يعد البداية الحقيقية للشعر الحر في الثقافة الشعرية العربية وكل ما كتب بعده - من كل الشعراء- يعد اضافة اليه وسير في خطاه حتى في فضاء قصيدة النثر.
ماذا نفعل للذائقة المدرسية التي قدمت للجيل السياب في صورة انشودة المطر وماذا نفعل للمغنين العرب الذين تجالهوا الشعر السيابي الا في اربع محاولات فقيرة فنياً - اذا استثنينا اللحن الباذخ الذي قدمه محمد عبده لقصيدة انشودة المطر- ومن المعروف ان الاغنية هي وسيلة انتشار رائعة للشعر فلولا غناء كاظم الساهر لنزار قباني لما عرف جيل التسعينات هذا الشاعر الاربعيني الذي لم يقدم شئ يلفت الانتباه اليه منذ منتصف الثمانينات بل ان الاغلب الاعم من قصائده غزل فاحش ورخيص يحط من قدر المرأة التي يدعي انه يغازلها...

تبدو عراقية السياب الشعرية او محليته واضحة في الكثير من قصائده وهذا ما يميزه فمن من الشعراء استطاع ان يحول نهير صغير ( بويب) الى نهر عالمي...ومن استطاع منهم ان يحول قرية صغيرة ( جيكور) لا يعرفها حتى اهل البصرة الى مكان شعري يعرفه كل العالم واسم يطلق على المنتديات الثقافية .
السياب صنع من المكان( شئ ) شعري وهو مالم ينتبه اليه الشعراء قبله ولا بعده والمكان الشعري في نصوص السياب لا ياتي عرضاً بل هو نفسه موضوع النص.
ينقل عارف الساعدي عن الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين اثناء زيارته الى المربد سنة 1971 قوله (ذهبتُ إلى البصرة وفي رأسي شيئان فقط: أنْ أرى نهر بويب العظيم، وشبَّاك وفيقة. وبعد أنْ وصلنا البصرة، ذهبنا بعد أيام لقضاء أبي الخصيب، ومن ثم لجيكور، لرؤية النهر العظيم بويب، وحين وصلنا رأيت شبَّاك وفيقة عبارة عن ثقبٍ في جدار، أمَّا نهر بويب العظيم، فوجدتُه خيطاً ناشفاً من الماء بين النخيل؛ عندها أدركت أنَّ الأنهار يبتكرها الشعراء، وأنَّ المدن يصنعها الخيال).
السياب شاعر محلي حد العظم وحتى استخدامه للاساطير كان في اطار عراقيته وهو في هذا الصدد تفوق على لوركا في تمثله للاغاني الشعبية المحلية.
فالمحلية هي الطريق الحقيقي للوصول الى القارئ المحلي بالدرجة الاولى وهو ما يطمح اليه اي شاعر عكس البياتي الذي غازل كل مدن العالم بفجاجة وقلة ذوق شعري كي يكسب تعاطف البعض ممن ساعده على الشهرة التي لا يستحقها.
وتظهر محلية السياب كذلك في استخدامه لرموز الطبيعة في اغلب نصوصه كما اشرنا بسبب نشأته في بيئة مليئة بالكثير الملهم ويمكن فهم هذه التأثير في مقدمة قصيدة انشودة المطر التي اشرنا اليها في انفاً بعيداً عن اي تاثير خارجي فتلك الصورة الشعرية المرسومة بدقة لا يفهمها الا من شاهدها وهو يقف على ضفاف شط العرب .
ويبقى معطف السياب التفعيلي رداءاً يرتديه اي شاعر حتى هذا الشاعر الذي يكتب الشعر الحر فأنه يبدء يومه الشعري بقراءة السياب حتى لو خفية كي لا قال عنه انه يبحث عن أب شعري له.
ويكفي ان نعرف ان كل شعراء العراق الذين ظهروا بعده- وبعض شعراء العرب- قلدوه في طريقة القاءه للقصيدة ولحد الان.
---------------------------------------
(1) يقول ابن السياب ( بسبب الحرب العراقية - الإيرانية اضطر أهلى للهرب من مدينة البصرة إلى الموصل وتركت الدار فى عهدة من يفترض أن يحرسها فسرقها وباع المقتنيات فى السوق فى الفترة التى كان مؤتمنا بها على الدار، حيث سطى على مكتبة الوالد، وعلى هدية وهى لعبة من الوالد كنت اعتز بها لدرجة أنى لم ألعب بها حين كنت صغيراً خوفا عليها أن تتلف، لكن للأسف حتى هذه اللعبة سرقها هذا الحارس وباعها)
وأضاف، خلال إحدى زياراتى للبصرة، جمعت ما تبقى من مخطوطات والدى ونقلتها معى إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث أقيم، وأنوى تسليمها إلى مكتبة الكونجرس الأمريكى للحفاظ عليها بعدما رأيت إهمال الجهات الحكومية فى الحفاظ على منزل السياب وحفظ تراثه.
(2) قام السياب بترجمة عدد من القصائد العالمية واصدرها في كتاب سنة 1955.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا