الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قلبى ينبض مع أبعد نجمة فى السماء

شريف حتاتة

2022 / 5 / 26
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية


قلبي ينبض مع أبعد نجم في السماء
-------------------------------------------

لا أعرف لماذا عندما أسمع كلمة تركيا ، أحسها تتغلغل إلى أعماقى مثل حركة الأنغام. أهو التزاوج بين العربي والتركي في الأسرة الممتدة التي نشأت فيها ؟ . كلمات عرفتها في الطفولة مثل أبله أو سفرة ، أو افتدم أو انتكخانة ، أو کراکول. ومأكولات مثل الضولمة أو شيش كباب أو الشركسية، أو عيش السراي أو القطايف أو المهلبية بالمكسرات ، كنت أتناولها في بيت جدى خصوصا في شهر رمضان. جدتي كنت أناديها نينة ، علمتنى نطق اللغة العربية بالحكايات تحكيها قبل أن أسقط في النوم . الموسيقى التركية أحببتها بأنغامها القديمة، أو بعد التعديلات أدخلها الأتراك في استخدام العـود، والقانون وباقي الآلات ، فأضفت عليها حيوية، وجمالا . الأغاني، والأصوات التركية المفعمة بالحزن والتحدى ، أسمعها فى شرفتي ليلا ، بعد أن تنطفئ أنوار البيوت .
لكن عندما دخلت العمل السياسى ، ارتبطت تركيا بمعان أخرى، مختلفة تماما، بالحكم العثمانلي التركي استمر ما يقرب من ستة قرون ، رغم اختلاف الأجناس الغازية للبلاد، ليظل الاستعباد بأسرة حاكمة جاءتنا من ألبانيا ، لتعطينا الملك فؤاد ثم فاروق، تعاونا مع الإنجليز تحت اسم الاستقلال. أصبحت تركيا مرتبطة بلقب باشا لملاك الإقطاع، عاشوا على ربع الأرض، وعرق الأجراء. بحلف بغداد رفضه الشعب المصرى سنة 1946 ورفضه عبد الناصر مقابلا للجلاء. بحلف الناتو وعلاقات مع إسرائيل لم تنقطع منذ نشأتها سنة ١٩٤٨.
وفى الفترة الأخيرة قفزت تركيا إلى صدارة الأحداث . توثقت العلاقة بينها وبين إسرائيل على نحو ظاهر فى التعاون العسكرى والسلاح ، فأصبحت تهدد هي الأخرى كيان البلاد العربية، وأمنها. فإسرائيل، وتركيا ، تشكلان سويا قوة عسكرية خطيرة تهدد سوريا والعراق ، وبلاد الخليج ، ومصر من ورائهم . احتدم الخلاف بينها وبين سوريا والعراق حول تقسيم مياه نهری دجلة والفرات ،ثم حدث تصعيد خطير حول مشكلة الأكراد و حشدت جيشا على حدودها مع سوريا ، مهددة إياها بتصريحات عن الحرب ، إن لم تطرد من أراضيها قيادة حزب العمال الكردي .
في الوقت المناسب
.....................
فى هذا الجو المشحون وصلتنا ، نوال السعداوى وأنا ، دعوة " أنقرة " ، و
" اسطنبول ". قامت بتوجيه الدعوة جمعية خريجى كلية الاقتصاد السياسى في أنقرة ، وهي جمعية عدد أعضائها أكثر من ثلاثة آلاف ، تتمتع بنفوذ واسع بحكم إمكانياتها ، ووجود الكثيرين من أعضائها فى مراكز هامة فى الدولة ، والسياسة والاقتصاد . أنشئت سنة 1852 ولم تتوقف عن النشاط منذ ذلك الوقت . شاركت فى توجيه هذه الدعوة مجلة حزب العمال ( اليسارى ) ، وأسمها" ايدنليك " أي الرؤية .
كـان الهدف من هذه الزيارة أن نلقي ثلاث مـحـاضـرات عن الإبداع والدين ، في جامعة أنقرة، وأن نحضر مؤتمرا عن الإمبريالية والأصولية الدينية ، نظمته المجلة في قاعة المكتبة الوطنية التركية التابعة لوزارة الثقافة. ثم أن نطير بعد ذلك، إلى اسطنبول لزيارة المدينة وإجراء بعض الأحاديث الصحفية والتليفزيونية . لنوال السعداوي ثلاث روايات تُرجمت إلى التركية، ومُثلت إحـداها أكثر من مائتي مرة في أنقرة، وأزمـيـر ومـدن أخـرى فى الأناضول .
وانقرة مدينة حديثة أنشأها أتاتورك لتكون عاصمته في قلب الأناضول. مبنية على هضبة عالية، ومحاطة بالجبال يصل ارتفاع بعضها إلى خمسة آلاف متراً. مساحة تركيا ٤٥٢ ٧٧٩ كيلومترا مربعا، وعدد سكانها 65 مليونا . عشر عدد السكان يعيشون في الجزء الأوروبي على مساحة ۲۳,۷۸۹ کیلومترا مربعا، والتسعة أعشار في الجزء الأسيوي أي في الأناضول .
تحتل تركيا موقعا فريدا على خريطة العالم بين أوروبا وآسيا. في الغرب بولغاريا، ويوغوسلافيا، واليونان. في الشرق والجنوب إيران، والعراق، وسوريا ولبنان، وبلاد الخليج الغنية بالبترول. وفي الشمال أرمينيا، وجورجيا، وأذربيجان، وأوزبكستان أى الجمهوريات السوفيتية السابقة المحيطة بالبحر الأسود، وبحر قزوين ، وهي بلاد غنية بالذهب، والمعادن، والبترول . و تتطلع الرأسمالية الدولية، وعلى الأخص أمريكا لاستغلال ثرواتها. وفي الأيام الأخيرة حدث خلاف بين أمريكا، وتركيا حول موضوع نقل البترول عبر أراضيها من هذه المناطق. فشركات البترول المتعددة الجنسية أخذت تميل إلى نقل البترول منها عن طريق الانابيب مرورا بإيران بدلا من تركيا، مما يهددها بخسارة مالية واستراتيجية كبيرة. وهذا هو احد دوافع الخلاف الذى يزداد بين تركيا وأمريكا في الفترة الأخيرة.
يتميز المجتمع التركي عن مصر في عمق التنوع الثقافي الأوروبي الأسيوي، الإسلامي العلماني، البيزنطي العثمانلى . وفي التعدد العِرقي ما بين أتراك سلاجقة، كانوا هم الحكام لمدة ستة قرون، والأصول الفارسية، والمنغولية، والأرمانية، والأشورية، واليونانية التاريخية. تركت أثرها في تكوين السكان، وأضفت ثراءّ على الثقافة، والحضارة والوجدان.
إن ذلك التنوع والموقع الجغرافي لتركيا في منطقة هامة وحساسة ، أدى إلى تكوين مجتمع مفعم بالصراع الذي يحتدم في كثير من الأحيان ، ويمكن أن يؤدي إلى احتمالات خطيرة يصعب التنبؤ بها.
أصبحت تركيا منذ سنة ١٩٢٣ دولة علمانية، بمعنى فصل الدين عن الدولة واعتبار الدين مسألة شخصية . الأتراك مسلمون فى أغلبيتهم الساحقة ، مؤمنون بالإسلام، ولم يتوقف الصراع بين الحركة الأصولية الإسلامية القوية بأنصارها وبنوكها، وشركاتها، وعلاقاتها مع رأس المال العالمي، والنفطي وتنظيماتها الخدمية، والتعليمية، وبين الدولة العلمانية، ومؤسساتها، والأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية التي تصر على الفصل بين الدين من ناحية وبين الدولة والسياسة من ناحية أخرى. وفي السنين الأخيرة تفاقم هذا الصراع، وحققت حركة الإسلام السياسي انتصارات أوصلتها إلى الحكم لـيـتـولى أربكان، رئيس حزب الرفاة ، رئاسة الوزارة منذ أكثر من سنة، ثم أسقطه البرلمان، وانفردت القوى العلمانية بالحكم.
سألت " سينا أكسين " أستاذ التاريخ بجامعة أنقرة عن سبب تصاعد هذه الحركة، فأشار إلى عدد من العوامل التي ساعدت حركة الإسلام الأصولية السياسية على النمو، ومن بينها تشجيع الحكومات في فترات مختلفة لنشاطها ليضربوا بها التنظيمات والأحزاب الديموقراطية، والراديكالية، واليسارية ومحاصرتها بالعنف، والسجن، والتصفية الجسدية أحيانا ، لتحتل الحركة الأصولية الإسلامية الفراغ الذي ترك أمامها في مختلف المجالات. فتذكرت ما فعله بنا السادات، وحكام آخرون في بلادنا، إلى أن دخلت هذه الحركة في صراع مفتوح وأحيانا عنيف ، سعيا إلى حكم البلاد.
إن زيادة نفوذ التيار الأصولي وتغلغله في أجهزة الدولة ومؤسساتها ، هو الذي يفسر تدخل الجيش التركي في الأشهر الأخيرة لوقف هذا الزحف ، والقرارات التي أخذتها الحكومة لمنع الطالبات من ارتداء الـتـربان أي الحجاب في المدارس والجامعات. فـقـضيـة الحـجـاب، والظواهر الأخـرى المرتبطة بالتيار الأصولي، مثل الهجوم على الموسيقى والفن، أو منع المرأةمن العمل والاختلاط ، ليست قضية دينية ، قدر ما ترمز إلى المعركة السياسية الدائرة ، للسيطرة على السلطة السياسية فى البلاد .
لكن التأثير الأوروبي الحداثي في تركيا قوى ، وله جذور ممتدة إلى ثورة أتاتورك سنة ١٩٢٣ ، والتشريعات التي أصدرها بعد أن وصل إلى الحكم لفصل الدين عن الدولة، والحكم . اللغة التركية تكتب بالحروف اللاتينية منذ ذلك الوقت ، ودخلت فيها كلمات أوروبية كثيرة ، وخمسون في المائة من تجارة تركيا مع أوروبا. شوارع أنقرة واسطنبول مزدحمة بالشباب من الشباب حتى الجنسين . يرتدون ملابس بسيطة وعملية، البنطال، والقميص وفوقهما بولوفر أوسترة من الجلد، أو الصوف إذا اشتد البرد. الفتيات تختلطن مع الشباب بحرية في الشوارع، والمقاهي، والمطاعم، والملاعب، ومدرجات الجامعة. حتى الشابات اللائي ترتدين اللباس التقليدي ، المكون من غطاء ملون للرأس إيشارب، وثوب طويل يسقط حتى أسفل الساق ، تختلطن مع الشباب بحرية . تتضاحكن، وتتناقشن معهم في تلقائية مرحة، وهن تحتسين الشاي التركي الداكن وتأكلن السندويتشات، أو البوريك بالجبن، أو السلطات المصنوعة من الباذنجان، والفلفل المقلي، والزبادي، والثوم، أو الفاصوليا الكبيرة الحجم، أو الكفتة، أو الشيش كباب، أو رغيف اللحم. فالمطبخ التركي شهى متعدد الأصناف. والمأكولات مصنوعة بعناية فائقة حتى في المطاعم الشعبية الرخيصة نسبيا. والحرص على النظافة الكاملة ظاهرة ملفتة للنظر في مراحيض الأحياء الفقيرة، أو المحطات، أو المطاعم ، وأزياء الناس البسطاء . ربما لأن مستوى المعيشة قريب من بعض البلدان الأوروبية مثل اليونان، وجنوب إيطاليا وبلغاريا، ورومانيا. هذا رغم ظاهرة التضخم التي أدت إلى ارتفاع سعر صرف الدولار الأمريكي ، من ألفي ليرة منذ عشر سنوات إلى ٢٧٢,٠٠٠ ليرة أي ما يوازي أكثر من مائة ضعف.
آفاق مفتوحة
.......................
لكن أهم ظاهرة في حياة الأتراك، أو على الأقل في الأوساط التي اختلطنا بها في انقرة واسطنبول ، هي تلك الحرية الواسعة في الحوار، والفكر. كان معنا مرافقتان طالبتان من كلية الطب، إحداهما اسمها الجين ، وهي من أسرة إمكانياتها المالية محدودة . فأبوها وأمها يقومان بالتدريس، ويعيشان في مدينة ازمیر جنوب غرب انقرة على شاطئ بحر الأيجيه يقود إلى اليونان، والبحر الأبيض المتوسط. جاءت إلى انقرة لتسكن في المدينة الجامعية في حجرة يشاركها فيها ثلاث طالبات أخريات. زميلتها جول ابنة نائب رئيس حزب العمال اليساري، وعضوة في الحزب ، فتاة رقيقة وذكية للغاية تتحدث بتلقائية وحماس عن كل شئ ، عكس الجين التى تميل الى الصمت . جول منطلقة تترك لنفسها العنان، مثلما تترك شعرها الطويل المتموج للريح، تشوبه حمرة خفيفة عندما تسقط عليه الشمس.
نتجول في المدينة معهما بعد جلسات المؤتمر، أو مع رجل يدعى اكتاي ، يذكرني بشخصيات روائية فوضوية قرأت عنها في الأدب الروسي، أو رأيتها في بعض الأفلام . شعره المنفوش حـول رأسه يتـركـه دون تهذيب. شاربه ضخم، وتقاطيعه غليظة . ولكن في تصرفاته وكلامه، وعينيه الصغيرتين رقة نادرة، ودفء وحزن منْ يعاني الوحدة ، رغم إقبال الناس عليه في كل مكان.قضى أربعة عشرة عاماً في السجن بتهمة اختطاف قنصل إسرائيل.
نتحدث نحن الخمس في كل شئ. في السياسة، والاقتصاد، والفن. في الحب، والجنس. لا توجـد مـحظورات . ولكن آرائهم وتصـرفـاتهم تدل على الاستقامة، عن غياب الالتواء، والابتذال. فنشعر أننا أمام شباب، يؤمنون أن الحرية تقوى الشعور بالمسئولية . بأنها ليست فوضى، ولا جنوح نحو إشباع الرغبات دون قيد.
ذهبنا إلى كلية الاقتصاد السياسي لإلقاء ثلاث محاضرات عن الإبداع والدين ،
(شريعات باللغة التركية). كان المدرج في كل محاضرة مزدحماً بالطلبة والطالبات، وبعشرات الأساتذة . وكان من بينهم عميد الكلية، ورئيس جمعية الاقتصاد السياسي التي استضافتنا في فندق ملحق به مطعم كبير تملكه الجمعية في وسط المدينة. تحدثنا عن علاقة التمرد بالإبداع ، ولماذا يُقال شيطان الفن وليس إله الفن؟ . ما هو التعارض بين الطاعة والاكتشاف، أو التجديد، واثارت النقاط التي تعرضنا لها نقاشا حول عيوب التعليم الجامعي في تركيا ، وعبر الطلبة والطالبات عن نقدهم بكل صراحة ووعى ، إزاء نظم التعليم وإزاء أسلوب الأساتذة أنفسهم في التدريس والتعامل مع الطلبة. وتمت جميع هذه المناقشات بهدوء ، وفي جو مرح لا توتر فيه ولا تعصب لرأي . ودار حوار ممتع تناول مشكلة التعليم المعتمد على التلقين، والحفظ ، والذي لا يعبر فيه الطالب أو الطالبة عن إبداعه وفكره الخاص. فالمعرفة إضافات مستمرة، وزوايا وخبرات في كل المجالات. كما جرت مناقشات حول الدور الذي يلعبه أغلب رجال الدين في تركيا في مقاومة الفكر الحر، والإبداع، وإصرارهم على اعتبار القرآن المنبع الأوحد للمعرفة في المجتمع. وحـول اعـتـبـارهم المرأة كائناً ناقصاً يجب أن توضع في منزلة أدنى عن الرجل، وتفرض عليها سيطرته، ووصايته في مختلف نواحي الحياة .

الحركة الإسلامية الأصولية والاستعمار الجديد
...........................................................................
بعد المحاضرات التي قمنا بإلقائها في الجامعة ، حضرنا المؤتمر الذي نظمته مجلة "إيدنليك " ، الأسبوعية لسان حال حزب العمال اليساري. رئيس هذاالحزب يدعى " دوجو بيرينتشيك "، وهو رجل سنه خمسة وخمسين سنة ، تشعرفي قسمات وجهه الجميل بالتصميم والإشراق. رأينا صورته ملصقة على الجدران في أنقرة واسطنبول ، وتحـتـهـا نداء بالإفراج عنه . فـقـد قـامت السلطات بوضعه في السجن تنفيذاً لحكم بالحبس ستة شهور ، صدر عليه منذ أربع سنوات في قضية سياسية. لكن السلطات تركته حراً طوال هذه المدة ، لتعتقله في الوقت الذي تريد فيه أن تبعده عن ميدان الصراع . قيل لنا أن السبب في تنفيذ الحكم ، هو الحملة الجريئة التي يقودها ضد المافيا، أي ضد قادة الجريمة المنظمة . فالمافيا في تركيا خطيرة للغاية ، لها اتصالات واسعة مع أعلى السلطات، ومع عدد كبير من السياسيين الكبار، والمسئولين في أجهزة الأمن والقوات المسلحة . فهي تساعدهم في التخلص من خصومهم ، وتلعب دورا مهما في الانتخابات ، وذلك نظير حماية قياداتها من الاعتقال ، ومن المحاسبة القانونية، وتملك صحفاً، ومجلات، وشبكات تليفزيونية ، وبنوكا، وشركات. ففي تركيا توجد مشكلة كبرى هي تجارة المخدرات التي تمر خلال أراضيها آتية من جنوب شرقي آسيا، من تايلاند وأفغانستان، ومن إيران لتصل إلى أوروبا. قـيـمـة هذه التجارة تصل إلى أربعين بليونا من الدولارات سنوياً. لذلك تغلغلت أموال مافيا المخدرات إلى كل مجالات الحياة ، وارتبط بهـا مـئات الآلاف من الناس في مختلف الأجهزة وعلى كل المستويات . فمثلاً من المعروف أن زوج تانسو شيلر رئيسة الوزراء السابقة ، هو أحـد بارونات هذه التجارة التي أصبحت عنصر سيطرة خطيرة، وسبباً في فساد واسع النطاق، يرتبط بعمليات غسيل أموالها عن طريق الاستثمار في البنوك ومختلف المشروعات، والتلاعب بها في البورصة، وأنشطة التصديروالاستيراد، وفي السياسة، والانتخابات.
رغم سجن رئيس حزب العمال " دوجـو بـيـرينتشيك " عقد المؤتمر في موعده، وبتنظيم جيد. وكان موضوعه العلاقة المتبادلة بين الإمبريالية، وبين الحركة الأصولية الإسلامية السياسية في الاقتصاد، والسياسة، وفي الثقافة. كيف تقوم هذه الحركة بدور مهم في عملية الكوكبة الرأسمالية، وفرض سيطرة الشركات متعددة الجنسية على السوق العالمي الواحد التي تتم في عصرنا هذا، كيف تساعد الاستعمار الجديد على تنفيذ خططه في بلادالشرق الأوسط عن طريق تفتيت وتقسيم القوى المعادية للاستعمار وبث التعصب، والتخلف والإرهاب، وتضليل عشرات الملايين من الناس يرون فى الإسلام منقذهم من مشاكل الحياة . كيف أن أموالها، وبنوكها، وشركاتها ومصالحها الاقتصادية ترتبط أوثق ارتباط مع الرأسمالية في الغرب، وتشكل معها شبكة اقتصادية واحدة تتحرك فيها الأموال على نطاق العالم. وكيف انتشرت في البلاد العربية، وتركيا، وإسرائيل، وفلسطين، وأفغانستان، وإيران وشجعتها عواصم الغرب بالمساندة، والمال، والسلاح على تقسيم الصفوف، وبث التخلف الاجتماعي والفكري ومقاومة الحركات الوطنية الديمقراطية، وإثارة روح العداء لحقوق المرأة، وحجب الجهود البناءة التي يمكن أن تبذلها في تقدم المجتمع، وضرب الديمقراطية في أركانها الأساسية كلما تمكنت من السيطرة على مؤسسة من المؤسسات .
هكذا اكتشفنا وجهاً آخر من أوجه التشابه الموجودة بين تركيا وبلادنا. فبصرف النظر عن سياسة الحكومات ، تظل المخاطر التي تهددنا من قبل الاستعمار الجديد، والأصولية الدينية السياسية واحدة . فرغم الصراعات المؤقتة التي تنشب بينهما يظل التوجه العام بينهما واحداً، وهو تدعيم النظام الرأسمالي الحالي. وفي المؤتمر حرصنا على إبراز تجربتنا في مصر، وكشف الدور الذي تلعبه هذه الحركة في حياتنا، وكذلك دور إسرائيل بوصفها دولة يتركز فيها النفوذ العنصري، والأصولي، ويتزايد رغم الكلام عن توجهاتها الديمقراطية. فهي إحدى بؤر النشاط الأصولي في الشرق الأوسط، ولا تختلف الأصولية اليهودية السياسية في أفكارها، وممارساتها كثيراً عن الأصولية الإسلامية السياسية، أو الأصولية المسيحية في أمريكا. والكثيرون في تركيا لا يدركون الدور الخطير الذي تلعبه إسرائيل ضد الشعوب العربية، وشعوب الشرق الأوسط وتركيا منهم. وذلك بسبب العلاقات التي قامت بين الحكومات التركية المتعاقبة وإسرائيل، ونشاط الجالية اليهودية ذات النفوذ رغم صغرها (٢٥,000 تقريبا) ، والعزلة التي قامت بين تركيا والبلاد العربية بعد ثورة أتاتورك سنة ١٩٢٣ . ومن هنا أهمية تدعيم العلاقات الثقافية و الاقتصادية مع هذه الدولة وشعبها التي تربطنا به علاقات تاريخية قديمة .
الشيء الذي لفت نظري في هذا المؤتمر ايضاً ، هو أن حزب العمال اليساري رغم صغر حجمه من الناحية التنظيمية ، منفتح على التيارات الثقافية والسياسية الأخرى في المجتمع . وله علاقات مع عدد كبير من الشخصيات الهامة في المجتمع التركي مما انعكس في المشاركين، والمتحدثين، والحضور جاءوا من مختلف المجالات، والمراتب الاجـتـمـاعـيـة، وأثروا المداولات بخبراتهم المختلفة. كما أن المشاركة لم تقتصر على القيادات ، وإنما امتدت إلى عدد كبير من الشخصيات القاعدية التي لها دور، بحكم المكانة التي تحتلها في الحياة الثقافية، والسياسية للبلاد.

تركيا وسوريا، ومشكلة الأكراد
.................................................................
في سنة 1959 التقيت مع ثلاثة شبان من الأكراد كـانـوا يدرسون في الأزهر. كنت محبوساً احتياطيا في سجن الأجانب، وأودعهم البوليس في السجن نفسه لأنه وجـد عندهم كـتـب راشد البدراوى، واتهـمـهم بالترويج للأفكار اليسارية. كنا نجلس سوياً في فترة الفسحة وكانوا يحكون لي عن كردستان المستقلة التي يحلمون بها، عن بلادهم الجميلة، عن جبالها الشاهقة، ومسالكها الوعرة، والزهور البرية الصغيرة التي تتـفـتـح فـوق مساحات واسعة بعد أن تذوب ثلوج الشتاء .
مرت السنين ونسيتهم. من حين لآخر أسمع شيئاً عن أكراد العراق، وصراعهم مع صدام حسين أو غيره. أو عن " مصطفی بارزانى ، وكيف أصبحت له علاقة بالاستخبارات الأمريكية (سي أي إيه) أو عن كفاح الأكراد في تركيا تحت قيادة " عبد الله أوجلان " الذي أجرت معه جريدة المصور حديثا مطولاً منذ سنتين أو أكثر. لم أكن أعرف عنهم أكثر من أنهم شعب يسعى إلى تقرير مصيره، إلى التجمع في وطن واحد يستقر فيه أكرادالعراق، وسوريا، وإيران، وتركيا ، لتضم الدولة الكردية ما يقرب من ثمانية وعشرين مليونا من المواطنين.
لكن في الزيارة الأخيرة إلى تركيا ، سمحت لي المناقشات التي دارت بينی ، وبين "فريد السيفر"، رئيس تحرير جريدة " ايدنليك "، ومساعدته ، وكذلك مع عدد من أساتذة كلية الاقتصاد السياسي الذين التقيت بهم حول مائدة العشاء في شرفة الجمعية ، لسماع ما لم أكن سمعته عن مشكلة الأكراد في تركيا . فهي لا تنفصل عن مشكلة الأكراد في إيران، وسوريا، والعراق ، يزيدها تعقيدا تدخل الاستعمار البريطاني، ثم الأمريكي في هذه القضية ، يتم استخدام الأكراد كلما أراد أن يضغط على أحد هذه البلاد، أو يتأمر ضدها، ويضعفها. فأصابع الاستعمار مغروسة في قلب المشكلة الكردية. وبعد حرب الخليج سمعنا عن ترحيل الف من عناصر المخابرات الأمريكية ، كانوا منتشرين في شمال العراق، في مناطق السكان الأكراد.
لكن المشكلة الكردية بالنسبة للأتراك ، لا تقل خطورة إن لم تزد عنها ، في العراق. ذلك أن عدد الأكراد في تركيا يقترب الآن من اثنتي عشرة مليوناً، أو في قول آخر خمسة عشرة مليوناً. تناثرت الأغلبية لتعيش في مختلف أنحاء البلاد، واحتل بعضهم مراكز هامة في الدولة والاقتصاد مثل رئيس البرلمان. لكن يوجد سبعة مليون كردي في الجزء الجنوبي الشرقي من تركيا ، على حدود العراق وعلى مقربة من إيران وسوريا. وهذه المنطقة شديدة التخلف والفقر، وهي بؤرة المقاومة تروح وتجئ فوق الحدود، ويظن أن فيها مخزونهم من البترول حول ديار بكر.
والأكراد تحت قيادة " عبد الله أوجلان " يطالبون بالانفصال عن تركيا ، ليكونوا دولتهم، وليجتمع فيها الأكراد الأتراك ، ثم تتسع لتشمل كل الأكراد.
والدولة التركية ومعها جميع الأحزاب اليمينية، واليسارية ما عدا استثناءات محدودة للغاية ، بل وأغلبية الأتراك ، يعارضون هذا الانفصال بشدة خوفاً من انشطار الوطن إلى جزئين ، ومن حدوث عملية بلقنة يريدها الاستعمار الجديد لإضعاف بلاد المنطقة ، وتريدها إسرائيل . فالتعامل مع الكيانات الصغيرة أسهل، والتفتيت من أدنى، مع التمركز ، والتركيز الرأسمالي ، هو من أعلى سمات العولمة . فقد زادت مطامع الاستعمار الجديد في هذه المنطقة الحساسة من العالم ، بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وتمهيد الطريق نحوأذربيجان وتاجيكستان، وأوزبكستان، وجورجيا، ومنطقة القوقاز المحيطة بالبحر الأسود، وبحر قزوين ، حيث توجد ثروات طبيعية ضخمة، ومخزون للنفط والغاز كبير.
وزاد من مخاوف الأتراك ، الاتفاقية الجديدة التي عقدت بين البارزانى زعيم الحزب الديمقراطي الكردي، وأحـمـد شلبی زعيم الاتحاد الوطني الكردي ، على إنشاء دويلة كردستانية في شمال العراق. وهو اتفاق سعت إليه أمريكا وتبنته ، وتم التوقيع عليه يوم ۱۷سبتمبر ۱۹۹۸ في واشنطن. ثم توج بموافقة الكونجرس على منح هذه الدويلة ، مائة مليون من الدولارات تدعيماً لها .
إن هذه الدويلة الكردية الناشئة في أحضان الاستعمار ، تمثل تهديداً لكل الدول التي يوجد فيها أكراد ، لأنها ستصبح مركز جذب قوى للانفصال ، والانضمام إليها بدافع من الشعور القومي الكردي، وبتأييد وتدعيم من الأمريكان . وهكذا فإن تركيا مهددة بانقسام مثلما حدث بالفعل للعراق. والمشكلة الكردية في تركيا أخطر لأن عدد الأكراد يفوق عددهم في البلاد الأخرى بكثير ، ولأنهم منتشرون في مختلف المجالات ولهم نفوذ في أعلى المستويات. ولأنهم أيضا يحتلون جزءاً هاماً من الأراضى عند الحدود الجنوبية الشرقية للبلاد . وربما يفسر هذا إلى حد ما العصبية الشديدة التي تعاملت بها القيادات التركية فى هذا الموضوع ، بعد الاتفاق الكردى الأخير فى واشنطن ، وعجرفتها ، وتهديدتها فى التعامل مع سوريا التى تدعى أنها تأوى ، أو کانت تاوی عبد الله أوجلان، وقيادة حزب العمال الكردي في دمشق أو غيرها من المناطق السورية، وهو احتمال قائم رغم التصريحات الرسمية التى نفت هذا الاتهام.
وفى اليوم الذي غادرنا فيه اسطنبول ، ونحن جالسين في بهو فندق " بيرا بالاس " حيث كان يقيم أتاتورك و " أجاثا كريستي "، مؤلفة الروايات البوليسية المشهورة وحكام بعض البلاد ، سمعنا بحدوث صراع حاد في المستويات العليا للقوات المسلحة التركية. والقيادات العسكرية في تركيا التي لها السيطرة السياسية على البلاد ، ارتبطت لسنين طويلة بالنفوذ الأمريكي، والتسليح من أمريكا. وكانت توجد في قمة هذه القوات هيئة سرية اسمها مجموعة مقاومة الإرهاب (أو الجلاديو) ، وهي إحدى التنظيمات السرية للناتو الموجودة في عدد من البلاد ومنها تركيا. مهمتها مقاومة الحركات الديمقراطية، واليسارية، والتحركات الوطنية ومنها في تركيا حركة الأكراد. وهي على صلة وثيقة بالمخابرات الأمريكية. ولكن في الفترة الأخيرة ، حدث انقلاب صامت أدى إلى سيطرة ما تسمى بالعناصر الوطنية داخل هذه الهيئة. واتسع نفوذها في قيادة القوات المسلحة ، بسبب انحياز أمريكا للحركة الكردية الساعية إلى الانفصال ، وخوف الاتجاهات الوطنية هذه على كيان البلاد. وقيل أن هذه الاتجاهات أخذت تسعى منذ مدة لإيجاد مصادر جديدة غير أمريكية للسلاح .
وأيا كانت صحة هذه المعلومات ، فإن مثل هذا الكلام يعني أن هناك شيئاً بحدث. إن أسباب النزاع مع أمريكا تتزايد في هذه الفترة كما يحدث أحياناً عندنا . مما يفتح الباب لمزيد من التعاون على المستوى الحكومي والشعبي، ولتطور ديمقراطي أكبر في المجتمع التركي الذي حقق قدراً من الحرية نتيجة التحديث، والصراع ضد تخلف الأصولية الإسلامية السياسية. فعندما تشعر الدولة بالخطر تبحث عن سند بين الأحزاب، والمؤسسات والتيارات التي قهرتهم من قبل. ولكن هذا الميل إلى توسيع الديمقراطية ولو قليلا غالباً ما يكون مؤقتا، إن لم تدعمه القوى الشعبية، ولا ينم عن إيمان حقيقي بالديمقراطية، وأهميتها وإنما عن اعتبارات تتعلق بتوازن القوى.
هناك حقيقة أخيرة لفتت نظرنا أثناء هذه الزيارة ، وهي ظاهرة التعاون الذي قام بين حركة عبد الله أوجلان الكردية ، وبين الحركات الإسلامية الأصولية السياسية أثناء وبعد الانتخابات، وبشكل أساسي في الجزء الجنوبي الشرقى من تركيا .هكذا نرى خيطاً جديداً يربط بين هذه الحركة الإسلامية السياسية ، والأمريكان ، وتحالف محوره انفصال الأكراد.

اسطنبول تحت المطر
...........................................
تركنا اسطنبول الزاخرة بالأحاديث، والتجارب، والانطباعات . وفي اليوم |الأخير بدأت بشائر الشتاء، أو ربما هو عندهم الخريف. دفعات من الريح باردة وأمطار. لكن أنعشني المطر وأنا سائر تحته ، أتركه يسقط فوق رأسي ، ويبلل ملابسي. أعادني إلى أيام الضحك، والشباب. أنعشتني المدينة المبنية على سبعة تلال تحيط بها مياه البحر، وتخترقها لتصنع شطاناً، وخلجان . ورحلة بالباخرة في القرن الذهبي كانت تأوى البحارة، وسفنهم في قديم الزمان، وفي بحر مارمرا، وفوق مساحات المياه تنفتح على البحر الاسود ، وبحر إيجيه، ومضيق الدردانيل والأضواء المتلألئة على سفوح الجبال في الليل تمتد، وتمتد إلى آخر رؤى العين. ومباني بيزانطا، وإيطاليا، واليونان، ومآذن الجوامع ترتفع رفيعة في السماء، وقبابها المعدنية تلمع في ضوء النهار، والموسيقى التـركـيـة، وأصوات الغناء، وشـمـخـة الناس يقـاومـون الاستسلام، وخطوات النساء السريعة فوق الأرصفة والشوارع ، وقوامهن الفارع ، وكئوس العرقي وأسياخ الكباب، وألوان الخضار المغسول، والأسماك . أنعشنی التناقض، والصراعات، والاختلاف. أنعشني الجديد في الحياة . عشته ، ثم عدت الى الوطن ، لاستئناف مشوار حياتى ، ولكى أردد مع " ناظم حکمت "، عاش حياته فى السجون ، لكنه قال : " قلبي ينبض مع أبعد نجم في السماء ".
من كتاب " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002
----------------------------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز


.. يوم الأرض بين الاحتفال بالإنجازات ومخاوف تغير المناخ




.. في يوم الأرض.. ما المخاطر التي يشكلها الذكاء الاصطناعي على ا


.. الجزائر: هل ستنضمّ جبهة البوليساريو للتكتل المغاربي الجديد؟




.. تصريح الرفيقين جمال براجع وعبد الله الحريف حول المهرجان الخط