الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصر و عصور إضمحلالها.(2)

محمد حسين يونس

2022 / 5 / 27
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الإضمحلال الثاني.. (بين مطرقة ملوك النوبة وسندان ملوك الهكسوس . مائة و خمسون سنة تفكك )

إذا تصور المصرى أن تاريخ أجدادة ينحصر في الأسرتين الثالثة والرابعة ( بناة الأهرامات ) و الأسرتين الثامنة عشر و التاسعة عشر (بناة المعابد الضخمة) ..فهو بذلك يقف من الماضي موقفا إنتقائيا .. يختار ما يؤجج شوفونيته وفخرة أمام الاف السائحين الذين يزورون المكانين .. و يتجاوز باقي الأسر الثلاثين ..بدون التعرف علي ما حدث من أهلها . و ما أضافوا .. أو كيف إنكسروا
الدولة القديمة تميزت بالإهرامات التي بناها ملوك أبناء الهه و التماثيل الجميلة الواقف أو الجالس اصحابها و ساعديهما علي فخذيهما ( تمثال خفرع .. و تمثالي الأميرة نفرت و زوجها رع حتب ) التي تزين المتحف المصرى.
كذلك تميزت الدولة الحديثة بالمعابد الضخمة خصوصا في مدينة ( واست ..الصولجان ) أو طيبة بالإغريقي و الأقصر بالعربية ..و بالمقابر المحفورة في الجبل بوادى الملوك ( 63 مقبرة ) .. و وادى الملكات ... و التماثيل المغالي في إرتفاعها ( تماثيل رمسيس الثاني ) .. و المسلات التي تضوى في أهم ميادين العالم
أما الدولة الوسطي فرغم أنها لم تبن مثلهما لفقرها و تغير النظرة الشعبية للملك بحيث لم يعد إبن إله .. إلا أنها تركت لنا 39 مقبرة جميلة لحكام الأقاليم منقورة في الجبل تحمل على حوائطها نقوشًا توضح السيرة الذاتية لصاحب المقبرة مع مشاهد من حياة ذلك الزمن اليومية ( مقابر بني حسن ) كانت دليلا مفيدا في فهم الحياة الإجتماعية لقدماء المصريين .
الدولة الوسطي تركت تماثيل صغيرة غاية في الجمال و الإتقان للناس العاديين الذين يتعامل معهم صاحب المقبرة أهمها ( مجموعة جنود جيش الإقاليم) بالمتحف المصرى .
وقدمت في مجال الأدب الكثير من الأدباء الذين أصبحوا فيما بعد يعدون مؤسسي الثقافة المصرية .
فمن الدولة المتوسطة ( الأسر 11- 14 ) وصل لنا أفضل ما كتب كحكم مأثورة مثل (تعاليم الولاء) ، و(تعاليم خيتي) ، و(تعاليم أمنمحات الأول).
بل لقد تأثر أدباء الدولة الوسطى بالأحداث المروعة التي جرت خلال عصر الإضمحلال الأول فقدموا أدبا حزينا يتسم بالتشاؤم ، مثل (حوار شخص يائس مع روحه) ، و(نصائح إيبوور ) و(حكم خع خبررع سنب).. كذلك قصائد شعر مثل (أنشودة النيل)، و قصص مثل (الملاح الغريق)، (و شكاوى الفلاح الفصيح ) و( سنوحي) .. من يهتم بذلك التراث سيجد نصوصه في موسوعة مصر القديمة لسليم حسن الجزء الثاني.

لقد استطاعت الدولة الوسطى عوضا عن المنشئات الضخمة ..أن تقيم نوعا من الكلاسيكيات، الأدبية أصبحت نموذجا يحتذى به كمعيار ثقافي وفني لمن تلاهم ..حتي أن معظم ما وصلنا من هذه الأداب .. جاء عن طريق البرديات التي كان يتدرب علي كتابتها طلاب الدولة الحديثة.
ما ميز الدولة المتوسطة ..هو الإنقلاب القيمي الذى أدخل على أجهزة الدولة وجعلت للشعب دور واضح وأدى إلى تصفية نفوذ الإقطاع الإقليمي و إتساع العبادة الشعبية لأوزيريس ( رب التجدد ) بحيث أصبحت أبيدوس ..التي بها مقبرته.. عاصمة دينية هامة يفد إليها الحجاج والعابرون.
مؤسس الأسرة 11 .. الملك منتوحتب الثاني من أمراء طيبة.. انتهت في عهده الفوضي و جلس على عرش مصر الموحد مجدداً . وهو قد حمى الحدود الشرقية، وبنى غرب عاصمته معبده ومقبرته بعد أن مهَّد مسطحين يعلو أحدهما الآخر، ، وكان هذا الإبداع المعماري ملهماً لمهندس الملكة حتشبسوت في بناء الدير البحرى على نفس الطراز.
خلّف منتوحوتب الثاني عدة ملوك اتخذوا الاسم نفسه الذي يرتبط بالإله «منتو»، ولكن أيام هذه الأسرة انتهت عام 1991ق.م
الأسرة الثانية عشرة، مؤسسها الملك أمنمحات الأول، نقل العاصمة من أقصى الجنوب إلى شمالي الفيوم و في عهده أعيد تخطيط هذه المنطقة ( الفيوم ) لتعظيم الإستفادة منها بعد أن كانت مغطاة بالأحراش الكثيفة
و تغيرت علاقة الدولة بجيرانها .. ففي الجنوب ضم وادي النوبة السفلى إلى الأراضي المصرية، و في الشمال جرى تكثيف العلاقات التقليدية مع جبيل ( الشام ) حتى أصبح أمراؤها المحليون متمصرين ، مع ازدهار التجارة معهم ، فالنصوص تذكر أن سفن الأسطول كانت مبنية بخشب الأرز .
و توقف عدوان البدو علي الحدود .. ليحل محله إنتقالا سلميا.. يتضح من ((تدفق المهاجرين الآسيويين إلى مصر منذ الأسرة الثانية عشرة)) .. كما تم انفتاح مصر على عالم البحر المتوسط (بحر إيجة و قبرص).
و مع ذلك فيبدو أن الملك كان لدية خصوم عديدون (( إذ عثر على كثير من الدمى والأواني كتبت عليها أسماء بعض الذين يريد الملك أن يقضي عليهم بواسطة السحر. هذه الأسماء تضمنت أمراء ساميين ونوبيين إلى جانب الأمراء المصريين؛ مما يدل على أن أعداء الملك الذين لم يكن يستطيع القضاء عليهم بالقوة كانوا ينتمون إلى طوائف مختلفة في داخل وخارج البلاد على السواء))
نهاية الأسرة الثانية عشر تسبب فيها اضطرابات داخلية و منازعات بين أفراد البيت المالك .. بدأ بعدها التحلل الذى أدى للإضمحلال الثاني
الأسرة الثالثة عشرة..:حكمت فترة لا تزيد عن خمس وخمسين سنة، ولم نعثر على آثار لكل ملوكها..لان غالبيتهم كانوا ضعافًا،
ما يؤيد ذلك أن بردية من هذا العهد تبين أن حاكم إقليم الكاب تنازل عن منصبه إلى أحد أقاربه نظير مبلغ معين، ويدلنا هذا بالطبع على أن الأحوال كانت سيئة وأن الملوك لم يكن في مقدورهم الاحتفاظ بسلطاتهم على أمراء الأقاليم؛ حتى أصبح في إمكان هؤلاء أن يبيعوا مناصبهم.
ملوك الأسرة الرابعة عشر يوجد في بردية تورين قائمة طويلة بأسماءهم .. كما يذكر مانيثون عددًا كبيرا لهؤلاء الملوك و مدة حكم كل منهم ؛ ولكن يبدو أن هذه الأعداد مبالغ فيها ؛ بل من المرجح أنها لملوك لم يتمتعوا بنفوذ يذكر خارج حدود إقاليمهم.
مع تتدهور سلطة ملوك الأسرتين 13 و 14 و إضمحلال قوتهم كان لابد في النهاية من خضوع مصر لغزاة من الشرق
و بذلك بدأت فترة الإضمحلال الثانية .. بسبب عدم إستقرار الحكم .. و تنازع حكام الأقاليم .. و هجرة مكثفة لقبائل الرعاة بحيث إستمرت هذه الفوضى خلال الأسر من (15 – 17 ) أى لمائة و خمسون سنة من (1710 - 1560 ق.م ).
نقف قليلا قبل أن نسترسل في وصف ما إنتهت إلية الدولة الوسطي .. من مصير مؤلم .. فرغم أن حدود الدلتا الشرقية كانت محصنة إلا أن بعض العناصر السامية كانت تدخل مصر من حين إلى حين، إما للتجارة وإما للاستقرار، ويبدو أن الأمر لم يكن يثير ريبة المصريين ما دام هؤلاء القادمون مسالمون،
منطقة الشرق الأدنى القديم في ذلك الوقت كانت تتعرض لأحداث كثيرة متتالية ..فقد قضت بابل على الممالك المجاورة لها كما أن المملكة (الكاشية).. من شمال العراق أخذت تتطلع إلى غزو الأقطار المجاورة ؛ بينما أخذ (الحوريون ..الميتانيون) يستولون على بلاد قرب الحدود الشمالية لسوريا مما أدى إلي هجرة وتسلل الكثير من العناصر الآسيوية إلى مصر.. كما يحدث اليوم من هجرة سكان المناطق التي بها صراع مسلح لأوروبا .
استقرت جموع المهاجرين في المنطقة الأقرب إلى مواطنها الأصلية، أي في شرق الدلتا ولم يمض على استقرارهم وقت طويل إلا وأصبحوا قوة يخشاها المصريون بعد أن تمكنوا من فرض سلطانهم على جزء من الدلتا و جعلوا عاصمتهم أواريس.
قصة مصر مع الهكسوس ( البدو المهاجرين ) يكتنفها الغموض وما زلنا لا نستطيع أن نجزم بأصلهم أو أن نؤكد كيفية إخضاعهم مصر لسلطانهم.
فالنصوص المصرية تحاشت ذكرهم .. وكانت تنعتهم بصفات تدل على كراهية المصريين لهم ولعهدهم، ((إن الآسيويين كانوا يحكمون في أواريس في الشمال وكانوا بجحافلهم المتجولة يعيثون بين الناس فسادًا، محطمين ما كان قائمًا.))
أما مانيثون فيقول ((في عهد الملك توتيمايوس أصابتنا ضربة من الإله - ولا أدري سبب ذلك - دون أن نتوقع ؛ حيث جاءنا غزاة من الشرق من أصل مجهول، ساروا تملؤهم الثقة في النصر ضد بلادنا، وتمكنوا بقوتهم من الاستيلاء عليها بسهولة دون ضربة واحدة،
وبعد أن تغلبوا على البلاد حرقوا مدننا دون رأفة وهدموا معابد الآلهة من أساسها وعاملوا جميع الأهالي بعداء قاسٍ، فذبحوا البعض وأخذوا نساء وأطفال البعض الآخر ليكونوا إماءً وعبيدًا لهم)).. هل تذكركم هذه الكلمات ..بباقي غزوات البدو التي جرت بعد ذلك

بكلمات أخرى إن هؤلاء الذين جاءوا من آسيا كانوا يسيئون إلى المصريين؛ فكرهوهم وعملوا على التخلص منهم.

ملوك الهكسوس حكموا جزء من مصر من الأسرة الخامسة عشر حتي نهاية السابعة عشر و إن كان
يبدو أن ثلاثة منهم ( أبو فيس، خيان، شيشي أو إسسي) قد حكموا مصر كلها بما في ذلك النوبة الدنيا؛ لأن
آثارهم وجدت موزعة فيها .. إلا أنهم لم يستطيعوا الاحتفاظ بنفوذهم طويلًا في الجنوب،. بعد أن بدأ الأمراء المحليون يعارضونهم وازدادت مقاومتهم في عهد الأسرة السابعة عشرة. كما فهم ((من لوحة عثر عليها بالكرنك تصف كفاح كامس ضد الهكسوس.)) .
المصريون على أي حال برموا بهم وضاقوا بوجودهم بينهم؛ فظهورهم أدى إلى مرور بلدهم بفترة عصيبة بحيث نزح بعض منهم إلى النوبة؛ وعملوا في خدمة أمرائها المحليين. .فالنوبة في ذلك الوقت كانت قد تخلصت من النفوذ المصري، وأخذ يحكمها بعض أمرائها من الذين استقلوا بأقاليمهم.
في نفس الوقت (1710 وحتَّى 1560 ق.م ) أخذ الأمراء المصريون الذين أجبرتهم الظروف على مجابهة الأخطار في أقاليمهم يستعينون بالكثيرين من أبناء النوبة كجنود مرتزقة، واستقر غالبيتهم بمصر في جاليات كبيرة.

بكلمات أخرى كانت مصر ممزقة بين أهل الشرق و أهل النوبة و تقلص نفوذ ملوكها
و كان يحكمها في ذلك الزمن ثلاث جهات مملكة طيبة ((الأسرة السابعة عشرة المصرية)) التي كانت تمتد من الألفانتين (إقليم الشلال الأول) جنوبًا إلى القوصية شمالًا... و مملكة الهكسوس، وكانت تحكم الدلتا ومصر الوسطى.. و مملكة النوبة ما بعد الألفنتين يحكمها أمير نوبي.
تشير بردية وجدت من الدولة الحديثة أن رسولًا من الملك (أبو فيس) جاء من أواريس إلى طيبة ليبلغ الملك سقنن رع أن أفراس النهر في مياه طيبة تقلق نومه وهو بقصره في الدلتا.. ويطلب إسكاتها أو أن تهجر ذلك المكان
من الواضح أن هذه الرسالة الملتوية تدل على ما كان يشعر به ملك الهكسوس من تفشي روح التمرد والثورة ضده في جنوب مصر، وأنه أراد أن يجبر أمير طيبة على إعلان خضوعه له.
فمن المحتمل أن ملوك طيبة السابقين( حوالي ثمانية قبل سقنن رع ) كانوا أشبه بولاة من قبل الهكسوس، ويظهر أن آخرهم بدأ بإعلان عصيانه وربما امتنع عن دفع الضرائب المطلوبة ، وبدأ يستنهض الهمم للوقوف في وجههم.
ولكن أجله لم يمهله حتى يبدأ النضال وقدر لخلفه (سقنن رع) أن يقوم بذلك ثم تبعه بدعم الملكة ((إياح حتب)) كلٌّ من ولديها ((كامس))أخر ملوك الأسرة السابعة عشر و((أحمس)) أول ملوك الثامنة عشر .. لتشرق شمس الحرية علي مصر و المصريين و تبدأ الدولة الحديثة
نكمل حديثنا في المقال القادم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غرقُ مطارِ -دبي- بمياهِ الأمطارِ يتصدرُ الترند • فرانس 24 /


.. واقعة تفوق الخيال.. برازيلية تصطحب جثة عمها المتوفى إلى مصرف




.. حكايات ناجين من -مقبرة المتوسط-


.. نتنياهو يرفض الدعوات الغربية للتهدئة مع إيران.. وواشنطن مستع




.. مصادر يمنية: الحوثيون يستحدثون 20 معسكرا لتجنيد مقاتلين جدد