الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ الحفريات الآثارية في القدس

محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)

2022 / 5 / 29
القضية الفلسطينية


ترجمة: محمود الصباغ
"الرغبات هي، فعلاً، ذكريات" (Calvino 1974: 8)
بدأ البحث الأثري في القدس قبل نحو أكثر من 150 عاماً كعملية خفيّة غير شرعية وغير معلنة، بل ومريبة، لاسيما من وجهة نظر الوجهاء المحليين ورجال الدين التقليديين المختلفين من جميع المذاهب في البلاد، على الرغم من أن عملية البحث هذه مرت بلحظات كانت فيها علنية ومكشوفة، وعلى الرغم من متابعتها بحماس لافت للنظر، مما جعل من القدس المدينة الحية الأكثر تنقيباً في العالم (عند النظر إلى حجمها قياساً بالمدن الأخرى)، وخاض علم الآثار العلمي، في هذا المجال، حرباً ضروساً شملت ملامح من التنافس، أو الانغماس، أو التراجع أمام المناهج العديدة الأخرى التي تقدم القدس، من خلالها، نفسها للمخيال الجماعي والديني والسياسي (Silberman 2001). وسوف نقدم هنا مراجعة نقدية لتاريخ الممارسات الآثارية في القدس، ابتداءً من خطواتها الأولى كتعبير عن الاهتمام الغربي بآثار بلاد الشام العثمانية واستكشافها، عندما راهن علماء الآثار على مطالبهم "بالإرث المتوارث والمقدس لجميع الشعوب المتحضرة" (James Henry Breasted, cited in Emberling 2010)، لتستمر هذه الممارسات مع ظهور الإصلاح المنهجي لعلم الآثار فيما يتعلق بمواقع القدس القديمة من خلال ثلاثة أنظمة تحديث متتالية -الانتداب البريطاني، والنظام الأردني، والنظام الإسرائيلي. ويلي ذلك مناقشة للعقود الأخيرة من النشاط الأثري وشبه الأثري، مدفوعاً بمظاهر إيديولوجية دينية قومية ومتكيفة مع النموذج الاقتصادي النيوليبرالي السائد. لقد كان أحد الموضوعات الشاملة لعلم الآثار في القدس هو عدم قدرته على مواكبة التوقعات الشعبية: لذلك سيخصص القسم الأخير من هذه المقالة لملاحظة الغياب والثغرات في السجل الآثاري، و"الشيء الناتج عن الاقتراح، الشيء الذي جلبه الأمل "(Borges 1998: 78)، ودوره في إنتاج الافتراءات والخيوط الكاذبة والتاريخ الخرافي.
علم الآثار في القدس العثمانية
علم الآثار هو حقل تصنيف بقدر ما هو حقل اكتشاف، لاسيما في مدينة مشاهد آثارية متنوعة متراكمة فوق بعضها البعضpalimpsests مثل القدس، حيث يتعارض كل مبنى جديد مع مبنى أقدم. لقد وقع في روع الناس أن القدس مدينة قديمة حقاً، وأن أجيالاً من الحجاج من جميع المعتقدات الدينية قد عايشتها بوصفها مكان للذاكرة، حيث يمكن لأي حجر، هناك أو هناك، أن يكون جزءً من هيكل سليمان، إن لم يكن حتى من بقايا خلق آدم، وبالتالي يمكن إعادة وضعه واستعراضه في سور جديد أو رصيف أو مدخل كشاهد على الاستمرارية المقدسة للمدينة. لكن الخضوع المنهجي للأماكن والموضوعات الموجودة، وحتى الأشخاص، للنظرة العلمية وتحويلها إلى نوافذ على الماضي -يُنظر إليها على أنها منفصلة عن ذواتنا الحالية- هو مشروع حديث على وجه التحديد. كان هذا العلم، في سياق القدس، مشبعاً بدافع روحي: لإعطاء ميزة ملموسة وقابلة للقياس لإعداد الكتاب المقدس. لذلك اعتبر المستكشفون الأوروبيون الأوائل للقدس القديمة أنفسهم خدماً لإرسالية مختلطة بطبيعتها: تحديثية وتقليدية في آن معاً. وليس أدل من ذلك ما ظهر في حاشية الإعلان عن إنشاء صندوق استكشاف فلسطين (PEF) في العام 1865، والذي كان من المقرر أن يبذل جهود قصوى في التنقيب الطبوغرافي والأثري في القدس الخاضعة للحكم العثماني، حين أعلن رئيسه -رئيس أساقفة يورك- عن منطق وروح الجهد البريطاني: فلسطين هذه ملك لي ولكم، إنها بلادنا بالأساس. وقد أُعطيت لأبي إسرائيل في صريح العبارة: " قُمِ امْشِ فِي الأَرْضِ طُولَهَا وَعَرْضَهَا، لأَنِّي لَكَ أُعْطِيهَا».[ سفر التكوين 13]. نقصد السير في فلسطين طولاً وعرضاً وعلى وسعها لأن تلك الأرض أعطيت لنا (Bar-Yosef 2005: 7-8). وشهدت في السنوات الأخيرة من الحكم العثماني للمدينة ظهور مدارس بحثية -تركز على دراسة الكتاب المقدس في محيطه الجغرافي الأصلي- وتمثل هذه المدارس فرنسا (1890)، وألمانيا (1900)، والكنيسة الكاثوليكية (1901) والولايات المتحدة (1900). وقامت السلطات العثمانية، التي استجابت لمشاريع التنقيب الإمبراطوري الأكثر طموحاً في بلاد ما بين النهرين ومصر بمحاولة تنظيم الحفريات ومنع الاتجار بالآثار، في البداية بتقييد النشاط الأثري في القدس، لا سيما في المواقع القريبة من الحرم المقدس للحرم الشريف (جبل الهيكل). ونتيجة لذلك، نفذ الجزء الأكبر من التنقيب الأثري في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في القدس -وجميع الأعمال في الأجزاء القديمة من المدينة، غرب وجنوب سور الحرم- في ممرات رأسية وأروقة أفقية، أو في الخنادق الضيقة، التي سمحت بالوصول إلى المعالم المعمارية البارزة، لكنها حالت دون ظهور أي دراسة منهجية للطبقات والاكتشافات. وعلى الرغم من هذه القيود، فقد اتخذت خطوات هائلة في تعقب ورسم معالم المدينة القديمة على يد بعض الأفراد المتحمسين والمؤسسات، (Silberman 1982).
وفي حين قدّم بعض المنقبين هذه التطورات على أنها جهد تعاوني، يشمل العلماء والعمال الفلسطينيين المطلعين والمسؤولين العثمانيين (على سبيل المثال، Bliss 1898)، فقد أكدت الروايات الأكثر شيوعاً نوعية المخاطر ومظاهر الجهل والتخلف الاقتصادي التي يجب التغلب عليها (Warren 1871)، حيث تبدأ روايات وارين عن مهمته في "استعادة القدس"، انطلاقاً من روح المشروع الإمبراطوري والتجاري الفيكتوري، بفصلٍ عن "الصعوبات التي واجهها"، ليس أقلها الحاجة إلى تعليم الشرق مزايا نظام أجرٍ رأسمالي (وهذا موضوع يتكرر ذكره في الأدبيات الأثرية حتى منتصف القرن العشرين): بعد أن استمر عملنا لفترة قصيرة، تم رفع أجور أفضل العمال، لكن هذا تسبب في إضراب عام، والحجة هي أن الله جعل بعض الرجال أقوى من غيرهم، وهذا لا يعني أن لا يحصل الجميع على الأجر ذاته.. وبمجرد أن تمكنا من تحديد معدلات الأجور، استطعنا إحكام قبضتنا عليها. ويُظهر الرسم التوضيحي الأيقوني لحفريات تشارلز وارن بالقرب من الحرم/جبل الهيكل إحدى الحيل التي استخدمها في لعبة القط والفأر مع السلطات العثمانية: تم غرق العمود الرأسي على بعد مسافة معقولة من جدران الحرم، وفقاً لتعليمات وقيود السلطات، لكن الرواق الأفقي يصل إلى قاعدته ستين قدماً تحت الأرض [ حوالي 20 متراً] (الشكلان 31.1 و 31.2).
حدثت هذه الإجراءات بعيداً عن الأنظار، ولكن ليس بالضرورة بعيداً عن الأذهان، لذلك، عندما كان يحاول المنقبون الآخرون استكمال أعمالهم في حفر الأنفاق الأثرية (بما في ذلك مونتاغ باركر سيئ السمعة، الذي حاول أن يقدم رشوة من أجل السماح له بالحفر تحت الأرض أسفل الحرم)، اختلطت النوايا الحسنة بالسيئة، وأصبح علم الآثار نفسه مرادفاً، خاصة في أذهان السلطات الدينية، للنشاط السري والخديعة -وهي السمعة التي مازالت تمارسها حيل علم الآثار في القدس حتى يومنا هذا.
يمكن تحديد موضوعين رئيسيين لنتائج الخمسين سنة الأولى من أعمال التنقيب الأثري في القدس. ويدور الموضوع الأول حول سلسلة من الاكتشافات التي قلبت المشهد المكاني التقليدي للمدينة، مثل موقع مدينتي يبوس وصهيون الأصليتين على التل الشرقي، خارج أسوار المدينة الحالية، والصلة بين نبع جيحون (بئر العذراء)، أو أم السلالم) وبركة سلوام ( طريق القناة المائية الصخري)، أو نطاق البلدة التي تعود إلى القرن الأول، والتي ألقت بظلال من الشك على الموقع التقليدي للقبر المقدس. وما أشارت إليه هذه التغييرات بصورة فعالة هو أن المدينة يزورها الحجاج والسائحون، لم تكن قدس يسوع أو داود، بل كانت عبارة عن "الأماكن المقدسة" التي اخترعها رجال الدين، ومدينة الآثار الإسلامية الجميلة، وكتلة المباني العثمانية الفاسدة التي كانت تضمحل تدريجياً. كانت القدس "الحقيقية" مخبأة تحت هذه القشرة المتحللة المتأخرة، وهي غير معروفة للزائر العادي وكذلك للسكان الشرقيين الجاهلين، سواء كانوا مسلمين أو يهوداً أو مسيحيين.
ويتمثل الموضوع الثاني، المتناقض إلى حد ما مع الأول، في أنه حتى لو تم تحديد أورشليم بشكل صحيح، فإن بقاياها المادية لن تظهر إلى حد كبير، فقد تعرضت المدينة للعديد من الكوارث، سواء كانت من بفعل الإنسان أو من صنع إلهي؛ فتعرضت المدينة للدمار وإعادة البناء عدة مرات، وطويت طبقاتها جميعها فوق بعضها البعض وتحولت إلى ركام من غبار وتراب. وعلاوة على ذلك، فإن أورشليم -على الرغم من كونها مدينة أرضية- وجدت في المقام الأول كبوابة إلى المعاني الروحانية والإلهية. كان الفقر في هذا العالم بطريقة ما ضمانة للثراء في العالم الآخر، والعكس صحيح. ومن وجهة النظر هذه، فإن بساطة الحياة الشرقية المعاصرة تحافظ على شيء من النقاء الروحي لما كان في الأزمنة السابقة، وتوفر نافذة للإطلالة على الماضي التوراتي. ويلخص جورج آدم سميث، الذي لا تزال دراساته البارزة عن القدس (Smith 1907) -والتي يجب أن يقرأها أي طالب جاد في القدس- المعرفة الناتجة عن دراسات وأبحاث القرن التاسع عشر وسياقها الفكري والروحي، الطريقة التي تتوسط بها المدينة المعاصرة الماضي: قمن سوف يقوّم المدينة الأساسية، مرة أخرى، عليه أن ينتظر الليل حيث تخفي القدس انحلالها، وتتخلص من كل ما هو حديث مقحم، وتشعر أن وديانها تتعمق حولها، وترتقي إلى مخططها الصحيح، وتستأنف شيئاً من تعويذتها القديمة. في الليل، أيضاً، أو في الصباح الباكر، يمكن ملاحظة العادات الأكثر تواضعاً وديمومةً في حياتها، غير مرتبكة بالطاقات الغربية التي تتحول بسرعة كبيرة وتمنعها (Smith 1907: 25).
هكذا يعمل علم الآثار في المدينة، بالنسبة للكثيرين، ضمن معايير تتجاوز الانضباط: بما أن الكتاب المقدس يقدم تاريخاً للمدينة للعصور الكتابية، ويكمل كتّاب العصور الكلاسيكية والوسيطة الكتاب المقدس بتقديمهم أوصافاً للمدينة في أزمنة تالية، فإن دور علم الآثار يقتصر على تأكيد وجود، أو عدم وجود، شهادة مادية على السرد الموجود فعلاً. فكل ما تم اكتشافه هو توضيح للكتاب المقدس أو للنص، وكل ما يجب أن يوجد -ولكن لم يتم اكتشافه بعد- إما أنه ينتظر الاكتشاف، أو قد استسلم وضاع في غياهب الزمن. علم الآثار في القدس معني بما هو غير مكتشف، بقدر ما هو معني بما هو مكتشف.
علم الآثار في الدولة الحديثة
بدأت مرحلة جديدة في علم الآثار في القدس مع احتلال بريطانيا لفلسطين في أعقاب الحرب العالمية الأولى وقيام الانتداب في العام 1922. فاتخذت تدابير الطوارئ لحماية الآثار مباشرة بعد استسلام القدس، وعلى الرغم من الحفاظ على روح التشريع العثماني السابق، إلا أن إعلان الآثار الأول في تشرين الأول- أكتوبر 1918 كان بمثابة انطلاقة جديدة من خلال تحديد هدفه: "يعتبر مصطلح "قديم" لغرض هذا الإعلان بمثابة إشارة إلى كل ما يسبق العام 1600 م" ثم يواصل الإعلان القول أنه "لا يجوز إجراء أي تغيير أو ترميم أو نقل أو التخلص من أي أثر أو أي موقع ذي أهمية دينية سواء كان يخضع لرعاية عامة أو خاصة أو كنسية دون موافقة مسبقة من إدارة أراضي العدو المحتلة". وبحلول العام 1921، أوصت جمعية محبي القدس Pro-Jerusalem Society، المكونة من مزيج متعدد الثقافات من الشخصيات المحلية البارزة من جميع الأديان وأعضاء الإدارة البريطانية، بأن تجري الحكومة "مسحاً تفصيلياً ومنهجياً وتسجيل جميع المعالم التاريخية" في القدس، كخطوة أولى للحفاظ عليها وترميمها (Ashbee 1921). يمثل اعتماد عتبة زمنية (تم تعديلها لاحقاً إلى العام 1700 م) التي أعادت بشكل فعال تعريف المباني والموضوعات والأشياء الموجودة على أنها "آثار" (سواء تم الكشف عنها للعلماء أو لا تزال غير مكتشفة) تدخلاً بيروقراطياً بنيوياً في نسيج المشهد المكاني المبني. وكما أشارت [ناديا] أبو الحاج، فإن البلدة القديمة بكاملها وتفاصيلها يجب حمايتها، الآن، من الممارسات المستمرة [الآثارية] في الوقت الحاضر. ويتم توفير مقياس للأهمية التي تنسبها الدول الأوروبية إلى آثار فلسطين من خلال المادة 21 من صك الانتداب المفصلة بوضوح، والتي كان لها تأثير على "فتح" فلسطين للتنقيب الأثري المكثف من قبل الدول الغربية. مدشنة بذلك "العصر الذهبي" للبعثات الخارجية الكبيرة. لكن في القدس، كان تأثير القواعد الجديدة ضئيلاً، سواء بسبب القيود التي فرضها موقع آثار القدس في منطقة حضرية وفي المناطق المجاورة -أو داخل- المناطق المقدسة، حيث كانت تخضع لسيطرة الجهات الدينية المعنية، أو بسبب توقع انخفاض نسبة المردود قياساً بالجهد. وقد حصلنا على نتائج غير ملحوظة من الحفريات على التل الجنوبي الشرقي في عشرينيات القرن الماضي التي قام بها ويل Weill وماكاليستر Macalister ودنكان Duncan وكروفوت Crowfoot وفيتزغيرالد Fitzgerald، والتي كانت تمثل أولى المحاولات في التنقيب والتأريخ الحديث والمفتوح والطبقي، مما عزز سمعة المدينة كموقع أثري بخيل من حيث اللقى. ومع القليل من اللقى التي يمكن التباهي بها، تم ردم معظم خنادق التنقيب وإعادتها إلى أصحابها (باستثناء قطعة أرض صغيرة تحتوي على ما يسمى بمنحدر اليبوسيين، في الجزء العلوي من التلال الشرقية، والمحاجر الحجرية القديمة التي تقع في جزء منها المنحدر الشرقي، والتي كانت من نصيب البارون دي روتشيلد بهدف التنقيب).
تبنت السلطات البريطانية، بالإضافة إلى عمليات التنقيب، دور المشرفين الثقاة على آثار فلسطين من خلال الشروع في أعمال تخطيط وترميم واسعة النطاق في البلدة القديمة، فقامت بإنشاء دائرة الآثار، وبناء متحف الآثار الفلسطيني. وقد استلهم كل مشروع من هذه المشاريع من النظر إلى المباني والتحف القديمة كتعبير عن ثقافات تاريخية متميزة يجب تنقيتها من التراكمات الحديثة وإنقاذها من المستنقع الاجتماعي والسياسي والديني الذي بات يهدد بابتلاع فلسطين الانتدابية. ربما كان متحف الآثار الفلسطيني الذي تم بناؤه بأموال أمريكية (تبرع بها جون. دي. روكفلر) هو التعبير الأكثر إثارة للمشاعر عن محاولة تحويل ماضي القدس العنيف إلى حلبة سباق منسقة للثقافات، يمرر كل منها شعلة الحكمة والإنجاز إلى الأخرى، لترسيخ مبدأ التكافؤ بين المسيحيين والمسلمين واليهود (Hoffman 2016). كان مبنى المتحف، الذي يعبر عن مرجعية معمارية متعددة الثقافات وبنقوش ثلاثية اللغات، بمثابة المقر الرئيسي لدائرة الآثار الانتدابية، وهي منظمة تهدف إلى تلبية الشروط التي وضعتها عصبة الأمم لإدارة الآثار الفلسطينية. غير أنه لا يمكن للنوايا الطيبة، إخفاء عدم التماثل الأساسي للمشروع بأكمله. ونظراً لأن علم الآثار، بحد ذاته، كان مشروعاً علمياً عصرياً، فهو أقرب بكثير إلى المفاهيم الأوروبية والصهيونية حول أهمية الأرض وآثارها، أكثر من كونه قريباً من منظور فلسطيني أصلي. وعلى الرغم من وجود طبقة من النخب الفلسطينية المحدثة، والتي أصبح القليل منها علماء ومفتشي آثار أو مستشارين، إلا أن الإداريين البريطانيين المدربين في أوروبا والأكاديميين اليهود هم الذين ساهموا بأكبر قدر في العمل العلمي للإدارة. لقد اندمجت خلفيتهم وتدريبهم لاحقاً بسلاسة في المشروع الصهيوني لبناء الأمة، بينما تشتت عدد قليل من الخبراء الفلسطينيين بسبب حرب العام 1948 (Glock 1994). أدى تقسيم فلسطين و[حرب الاستقلال الإسرائيلية] إلى وضع قلب المدينة القديمة تحت الحكم الأردني. وقد استلزم ذلك تشعباً في الموارد الأثرية في المدينة: ففي الوقت الذي كانت البقايا المادية تقع على الجانب الشرقي من الحدود، فإن الشغف بالآثار كجزء من مشروع بناء الدولة ترسخ في القدس الغربية التي تسيطر عليها إسرائيل حيث تم من هناك توجيه طاقاتها إلى بناء متحف إسرائيل الجديد ومتحف مزار الكتاب Shrine of the Book - الذي بني في منتصف الستينيات على أرض فندق الأرض المقدسة، على بعد ثلاثة كيلومترات إلى الغرب من البلدة القديمة وقد تم تقديمه بلا مواربة وخجل كرمز للتجديد القومي اليهودي وللاستمرارية الثقافية المباشرة بين الماضي القديم والحاضر القومي- والنموذج المصغر الذي تم بحثه بدقة، حجراً حجراً لهيكل أورشليم الثاني.
كان النموذج بمثابة القدس البديلة، مع الحفاظ على الاهتمام بالتضاريس القديمة والمعالم الأثرية التي ساعدت في السماح لعلماء الآثار الإسرائيليين بـ "طي الأرض ركضاً" بمجرد السماح لهم بالعودة إلى البلدة القديمة في أعقاب حرب الأيام الستة في العام 1967. في غضون ذلك، ظل علم الآثار في القدس القديمة نفسها مجالًا لعمل مدارس الآثار الأجنبية، مع بذل أكبر جهد من قبل المدرسة البريطانية للآثار، بالشراكة مع مؤسسات أوروبية وأمريكية أخرى. وتمثل حفريات كاثلين كينيون 1961-1967 (Kenyon 1967) المهمة العلمية النيوكولونيالية النموذجية الأبرز: فاشتملت على وجود خبراء أجانب، واستخدام العمالة المحلية والقيام بممارسات حفر ستراتغرافية أكثر تقدماً للتعامل مع أي "مشكلة تاريخية" مرتبطة بوسائل عملهم، ولا علاقة لها بأي مفهوم محلي للتراث أو لتاريخ المجتمع الذي تجري فيه الحفريات، فما تغير فقط هو هوية المسؤولين الحكوميين -أصبحوا أردنيين وليس بريطانيين-. عانت أعمال كينيون، والمكونة من سبر وحفر خنادق في أجزاء متنوعة من التلال الشرقية والمدينة القديمة، من ذات المأزق الأساسي الذي عانت منه جميع الحفريات السابقة المتمثلة في الطابع العشوائي للرواسب الأثرية، وهذا ما جعل كينون تعثر في بعض الأماكن على ما له قيمة أثرية عالية، بينما عثرت على لقى بلا قيمة تقريباً في مواقع أخرى. وعلى الرغم من العديد من الرؤى المهمة في علم طبقات الأرض والتاريخ الترسيبي للقدس القديمة، كان التأثير الرئيسي لعمل كينيون بمثابة قصة تحذيرية لقيود الحفريات القائمة على آليات حفر الخنادق وعمليات السبر. وكما كان عليه الأمر من قبل، تم ردم معظم الخنادق الأثرية، ولم يتبق سوى القليل من الآثار المرئية للبقايا التي لحظتها كينون. كان شهر حزيران / يونيو 1967 ، الذي احتلت فيه إسرائيل القدس الشرقية، إيذاناً بارتفاع كبير في حجم الحفريات. بعد تسعة عشر عاماً من الإقصاء عن البلدة القديمة، صمم علماء الآثار الإسرائيليون على العودة والمتابعة من حيث توقف أسلافهم. شارك كل من المنقبين الرئيسيين -بنيامين مزار ونعمان أفيغاد- في الحفريات التي سبقت الحرب، وقد وجدا نفسيهما -مثل كاثلين كينيون- كخدم ثقاة للممارسات العلمية الحديثة وأحفاداً مباشرين لرواد الاستكشاف العاملين في صندوق استكشاف فلسطين، وما تغير هنا هو السياق السياسي والاجتماعي لإطار عملهم، وبالتالي مدى انتشاره. وحتى العام 1967، كان موقع وحدود الحفريات يعتمدان دائماً على التفاوض بين أصحاب المصلحة: علماء الآثار والسلطات وملاك الأراضي المحليين، من القطاع الخاص والمؤسسات. أما الآن، فقد مُنح علماء الآثار مساحات كبيرة من الأرض، على النحو الذي تحدده السلطات الإسرائيلية الجديدة (التي عملت أيضاً كعناصر تنوب عن المصالح الأجنبية، مثل الوقف الأردني)، في حين أزيل من المعادلة، عملياً، أصحاب المصلحة المحليين -أي السكان الفلسطينيين- . وقد سمح ذلك ببدء مشاريع التنقيب الضخمة التي استمرت لعقد من الزمن على طول الجدار الجنوبي والزاوية الجنوبية الغربية للحرم/جبل الهيكل (يصل مجموعها إلى ما يزيد عن 20000 متر مربع تتعرض للحفر بشكل متواصل)، وتحت المنازل القديمة في الحي اليهودي، المدمرة إلى حد كبير منذ العام 1948، والتي تم هدمها (جنباً إلى جنب مع مئات السنين من تاريخ القدس اللاحق) استعداداً لبناء حي جديد (Avigad 1983 ؛ Ben-Dov 1985 ؛ Greenberg 2009). وبدء، في العام 1978، مشروع ثالث واسع النطاق على المنحدر الشرقي من التلال الجنوبية الشرقية، والمعروف باسم مدينة داود. كما تم تنفيذ أعمال مكثفة في القلعة وعلى طول أسوار المدينة العثمانية كجزء من منتزه وطني حديث (بناءً على المخططات البريطانية) وأجريت عشرات حفريات الإنقاذ في قلب المدينة القديمة وما حولها (Greenberg and Keinan 2009 ). لقد بات، كما يبدو، إساءة فهم علماء الآثار الإسرائيليين لإلغاء قيود علماء الآثار من التعقيدات القديمة المتمثلة في الزمان والمكان والتمويل، باعتبار هذا الإلغاء تحسيناً للطريقة العلمية -"مبدأ" التعرض الأفقي المكثف- وليس نتيجة اقتران شهية أثرية قوية وسياسة ترسيخ الوجود اليهودي الإسرائيلي في المدينة التاريخية. في الواقع، تخلى علماء الآثار الإسرائيليون في القدس عن "طريقة" الحد الأقصى من التعرض الأفقي -التي أدت إلى تراكم كميات لا يمكن التحكم بها من الأدلة، والتي لا تزال غير منشورة إلى حد كبير- عندما تغيرت الظروف الخارجية (انظر أدناه).
علاوة على ذلك، ومن حيث التطور التخصصي الأكاديمي، كان علم الآثار الإسرائيلي في القدس منعزلاً بلا ريب، حيث بقي اهتمامه الأكبر هو مشروع التحقق، وكان مرجعه البارز هو وصف يوسيفوس لأورشليم (يليه نصوصاً وصوراً أقل تفصيلاً، لكنها قانونيةـ عن حقب أخرى، مثل خريطة مأدبا لأورشليم الرومانية المتأخرة ومراجع العهد القديم لأورشليم الفارسية. وأورشليم العصر الحديدي). تماماً كما كان نموذج آفي يونا Avi-Yonah للأرض المقدسة في القدس بمثابة تحقيق مادي لأوصاف يوسيفوس على نطاق أصغر، حيث كان محور نموذجه الهيكل الثاني الذي بناه هيرود، كذلك كان علم آثار جبل الهيكل الجديد وحفريات الحي اليهودي تهدف إلى أن تكون بالحجم الطبيعي، أو (بالنظر إلى الحجم الهائل لمشروع هيرود) أكبر من الحجم الطبيعي للوجود المحلي commonwealth اليهودي الثاني في العصر الروماني على لوحة القدس الإسلامية الحديثة. وكمحاولة فكرية، كان هذا علم آثار توقف كثيراً في مساراته من خلال سطوة النص. بينما كانت الآثاريات الأخرى في إسرائيل والمنطقة تتعرض للتحدي والتسلل من خلال الممارسات "الجديدة" وغيرها من الممارسات التحويلية والنهج التفسيرية، ظل علم الآثار في القدس على حاله متخندقاً في نموذج وضعي وثقافي وتاريخي. حتى شخصية رجل الدين غير المستنير، الذي كان نموذجاً آخر من المساعي الأثرية في القرن التاسع عشر، تم الإبقاء عليه، على الرغم أن حل محله الآن الحاخام الأرثوذكسي المتطرف. في العام 1968، عندما تم إنشاء المنطقة الأثرية جنوب جبل الهيكل (الشكل 31.3)، تم تسليم منطقة الصلاة الغربية وجميع النقاط الواقعة شمالها إلى السلطات الدينية، التي نفذت أعمال التنقيب الخاصة بها، واستهزأ بها علماء الآثار على أنها غير مهنية وغير علمية.
من جانبهم، احتقر النشطاء الأرثوذكس المتشددون علماء الآثار واتهموهم بأنهم منتهكي القبور، والذين سيحفرون حتى قبر جداتهم في سبيل تحقيق مآربهم. حدد مايكل فيج Michael Feige التباين بين المفاهيم الأثرية والدينية للزمن ودورة حياة الإنسان، مستشهداً بصورة متظاهر ديني في موقع تنقيب مدينة داود: "بالنسبة لك، إنها مجرد جثة، كيس من العظام؛ بالنسبة لنا -مستقبله [في العالم الآتي] أمامه"(Feige 2003). وقد وصلت الاحتجاجات الأرثوذكسية، في العام 1981، في موقع الحفريات إلى ذروتها العنيفة، وأصبحت الحفريات نفسها سبباً مثيراً للدعاة العلمانيين في إسرائيل، الذين سرعان ما خلطوا التنقيب عن الآثار بالشرعية الصهيونية (كان المتظاهرون الأرثوذكس إلى حد كبير معاديين للصهيونية أيضاً). ودعا قرار برلماني حديث إلى استئناف الحفريات الأثرية "التي تكشف جذور شعبنا وتقدم دليلاً ملموساً على أن الصهيونية ليست زرعاً غريباً ولم يتم إنشاؤها في القرن العشرين ولكنها تعود لزمن أجدادنا القدماء".
كان استخدام علم الآثار من قبل إسرائيل لخلق "حقائق على الأرض" في العقود الثلاثة الأولى بعد العام 1967 هدفاً لنقد موجه من قبل الباحثة الأنثروبولوجيّة نادية أبو الحاج، ومنذ ذلك الحين ردد العديد من المؤلفين الآخرين ما قالته أبو الحاج التي تعيد تموضع ممارسة علم الآثار كطريقة لتجسيد الإيديولوجيا وتطبيع القومية اليهودية، من خلال إعطاء علم الآثار دوراً مركزياً في وصفها إسرائيل كمشروع كولونيالي استيطاني، (Abu el-Haj 2001). قد يعارض العديد من الإسرائيليين الفرضية القائلة بأن إسرائيل هي مشروع استيطاني كولونيالي، لكن لا شك في أن الحفريات التي أعقبت العام 1967 في البلدة القديمة قد نُفِّذت في سياق سياسي من الاحتلال والضم، وأن نتيجتها النهائية -لا سيما في اختيار المواقع والفترات المحفوظة أسفل منازل الحي اليهودي والتي تم التأكيد عليها في مسارات سياحية- تم تسليط الضوء على الآثار اليهودية القديمة على حساب عصور أخرى. ومع ذلك، من المحتمل أن علماء الآثار المعنيين قد اتخذوا الإطار المرجعي القومي كشرط موضوعي خارج نطاق عملهم، والذي وصفوه بأنه مستوحى من "الروح الأكاديمية الحرة والشعور العميق بالثقة التي يحملها العلماء المنخرطون [فيها] "( Geva 1994: xiv). كان هذا الإحساس بالاستحقاق هو الذي سمح لعلماء الآثار الإسرائيليين بتجاهل التأثير السياسي لحفرياتهم على الرغم من ضغوط المجتمع الدولي، الذي اعتبر الحفريات غير متوافقة مع اتفاقيات لاهاي المتعلقة بالممتلكات الثقافية في أماكن النزاعات المسلحة. كما أنه، أي التجاهل، لم يسمح فعلياً بأي اهتمام لإدراج اليونسكو للمدينة القديمة وأسوارها في قائمة اليونسكو للعام 1982 كموقع تراث عالمي معرض للخطر، بناءً على طلب من المملكة الأردنية.
علم الآثار في السوق الأيديولوجي
في النصف الأول من العقد الأخير من الألفية الماضية، اجتمعت ثلاث قوى قوية -سياسية واقتصادية واجتماعية- إيديولوجية- لإحداث تحول شامل في السلوك والعرض العام لعلم الآثار في القدس. وكانت هذه القوى:
1) اتفاقيات أوسلو الإسرائيلية الفلسطينية للعام 1993 ورد الفعل العنيف الذي أحدثته، والذي بلغ ذروته باغتيال إسحق رابين في العام 1995 وصعود حكومة نتنياهو الأولى في العام 1996.
2) تحول الاقتصادي الإسرائيلي إلى النيوليبرالية. وإطلاق العنان لقوى الخصخصة وإلغاء الضوابط
3) التشرذم الواضح للروح الاجتماعية الجماعية في إسرائيل (وأماكن أخرى)، مصحوباً بظهور الخطابات التراثية المتنافسة (Halotte and Joffe 2002؛ Baram 2008).
كان لكل من هذه العوامل تأثير مباشر على الحوض التاريخي في المدينة: فقد أدت اتفاقيات أوسلو إلى تنشيط عمل منظمات المستوطنين اليهود في الأجزاء الفلسطينية من القدس، وهم الذين اتخذوا من علم الآثار كذريعة لتوسيع موطئ قدمهم في البلدة القديمة وخاصة في سلوان. كما أدت عملية اللبرلة الاقتصادية إلى إعادة هيكلة النشاط التنظيمي لهيئة الآثار الإسرائيلية، مما جعلها شريكاً راغباً في التنمية والبناء في الحوض التاريخي مع تآكل قدرتها على وضع أجندتها الخاصة. في حين أن تراجع هيمنة حزب العمل العلماني القديم في إسرائيل (الذي تجسد بهزيمة رئيس البلدية القديم تيدي كوليك في انتخابات العام 1993) أدى إلى حقبة من الانقسام السياسي ومن السرديات التاريخية المتنافسة وسياسات الهوية التي جندت المعالم الأثرية والاكتشافات ومسارات لتكون بمثابة المصدقين على التراث. كان اللاعبون الأساسيون الثلاثة غير الحكوميين الذين ظهروا في العلاقة بين الإيديولوجيا وعلم الآثار في القدس هم مؤسسة تراث الحائط الغربي הקרן למורשת הכותל המערבי Western Wall Heritage Foundationو عطيرت كوهانيم עטרת כהנים [بمعنى تاج الكهنة] في البلدة القديمة، وإلعاد אלעד (اختصار عبري لـ " אל עיר דוד " ["إلى المدينة داود! "]) في سلوان، جنوب جبل الهيكل/الحرم الشريف. تتكون أنفاق حائط المبكى، التي بدأت كتوسيع غير مصرح به لساحة الحائط الغربي من قبل وزارة الشؤون الدينية (والتي أفسحت المجال لاحقاً لمؤسسة تراث الحائط الغربي)، من سلسلة من الخزانات والصهاريج والقنوات المنحوتة والمعارض الحديثة التي تم ضمها معاً للسماح للمصلين والمجموعات السياحية بالوصول إلى طول الجدار بالكامل، أسفل مستوى الشارع. تسببت الحفريات الجوفية، التي نُفِّذت في معظمها كعملية سرية دون إشراف أثري، في العديد من الخلافات مع السلطات الإسلامية، كما حدث في العام 1982، عندما تم اكتشاف ممر جوفي يؤدي إلى الحرم ويدخله حاخامات ومستوطنين (الشكل 31.4). وقد وضعت أعمال التنقيب تحت الرقابة التنظيمية لعلماء الآثار. وافتتحت السلطات الإسرائيلية، في العام 1996 المخرج الشمالي لنظام الأنفاق في الحي الإسلامي بالبلدة القديمة، بدعم من رئيس البلدية أولمرت.
أدى التدمير المستمر لمنازل الأحياء الإسلامية على مر السنين والتعدي على الحرم إلى عودة المخاوف القديمة إلى السطح بشأن الأهداف الحقيقية للنفق، والتي انفجرت في موجة عنف في العام 1996 أودت بحياة العشرات من الفلسطينيين واليهود. كما ولّد شعاراً جديداً، صاغه بنيامين نتنياهو، عن آثار القدس، باعتبارها "حجر الأساس لوجودنا"، مما يمثل تصعيداً كبيراً في تجنيد علم الآثار لصالح المسألة القومية. وتم تعليق التنظيم الآثاري لأنشطة الوقف [الإسلامي] داخل السور، في أعقاب أعمال العنف وتهدئة المسؤولين المسلمين، مما أدى إلى أنشطة واسعة النطاق غير خاضعة للإشراف لتطهير الأرض، بما في ذلك إنشاء المسجد المرواني الجديد تحت الأرض في الأقبية الهيرودية. التي تشكل الجزء الجنوبي من السور (Avni and Seligman 2006). ويمكن للباحث الآثاري أن يرى، في كلا المشروعين: مشروع مؤسسة الحائط الغربي ومشروع الوقف، التخلي عن الرؤية البحثية التخصصية في عملهما بهدف الدمج والاندماج السلس مع ما هو مقدس وما هو سياسي. علاوة على ذلك، يشير المشروعان إلى ظهور صراع على السرد التاريخي محصلته صفر: تم استبدال السعي الحداثي للعالمية بروايات وأفعال إقصائية تهدف إلى إخفاء أو إزالة الدليل على الوجود الإسلامي في المناطق المقدسة اليهودية، وبالمقابل محو وإزالة اللقى اليهودية من المناطق المقدسة الإسلامية. لم يؤد التهديد بالعنف إلى إبطاء وتيرة التوسع الأثري للمكان اليهودي المقدس. فتكثفت الحفريات، ابتداءً من العام 2004، تحت الأنفاق الموجودة وتوسعت غرباً نحو كنيس أوهيل يتسحاق אהל יצחק ،برعاية عطيرت كوهانيم، مما شكل مساحة تحت الأرض متجاورة مكرسة لجميع الجوانب التي يمكن تصورها من الحج الديني الحديث، من الصلاة وإحياء ذكرى المحرقة إلى الهدايا. المحلات التجارية ودورات المياه.
تم وضع الخطط لتوسيع البناء فوق الأرض والحفر الجوفي عبر منطقة ساحة الحائط الغربي بأكملها. على الرغم من التنقيب والترميم ظاهرياً كمواقع أثرية، فإن الاستخدام الحالي للمساحات المحفورة لا علاقة له على الإطلاق بوظيفتها الأصلية. تم إعادة تصميم الأجزاء لخلق "تجربة" جديدة للزوار، ودمج الأجزاء الأثرية المتباينة مع حكايات الهيكل والتاريخ اليهودي والإسرائيلي الحديث في مقتطفات وطنية دينية. تم تخصيص مساحات أخرى لاستخدام الزوار والمانحين البارزين (Kletter 2015). خارج البلدة القديمة، بدأت الحفريات الممولة من المستوطنين في نبع جيحون في سلوان، كجزء من أحداث احتفالية "القدس 3000" ، بمناسبة الذكرى المزعومة لفتح الملك داود للمدينة في العام 1004 ق.م. وكانت هذه بداية تعاون طويل الأمد سمح لمجموعة إلعاد الاستيطانية بمتابعة أهدافها الإيديولوجية -الاستيلاء على مدينة داود للاستيطان اليهودي الحديث- من خلال التنقيب عن الآثار وإدارة مواقع الآثار وخطط البناء الطموحة. كان أحد مفاتيح نجاح إلعاد هو استغلالها للنظام الاقتصادي الذي ترعاه السياسات الاقتصادية النيوليبرالية في العقدين الأخيرين. وحتى التسعينيات، تم تمويل العلميات الآثارية الخاصة بالإنقاذ والتنمية من قبل الدولة. ولكن مع ظهور سياسات "الحكومة الصغيرة"، أصبح علم آثار الدولة يعتمد بشكل متزايد على المشاريع التي يمولها المطورون. ومن خلال استغلال قدرتها على جمع مبالغ كبيرة من رأس المال، نجحت إلعاد في الاستفادة بشكل فعال من هيئة الآثار الإسرائيلية Israel Antiquities Authority (IAA)، إلى جانب هيئة الطبيعة والحدائق الإسرائيلية Israel Nature and Parks Authority، في مشروعها المتمثل في إنشاء منطقة آثار متجاورة فوق الأرض/تحت الأرض الذي يربط كامل التلال الجنوبية الشرقية (تحت سلوان الحديثة) بآثار جبل الهيكل والحائط الغربي. وقد فعلت ذلك باستخدام قطع الأراضي التي تم الحصول عليها داخل سلوان الفلسطينية كبوابات إلى باطن الأرض.
تبع ذلك توسيع هذه البوابات من خلال استغلال المجاري القديمة والأنفاق الحديثة التي حفرها علماء الآثار في هيئة الآثار، الذين أعادوا تأهيل أسلوب التنقيب السري للمستكشفين الأوائل. نجحت إلعاد في تسويق البقايا التاريخية والمتنوعة ثقافياً التي تم التنقيب عنها في القدس القديمة كموارد لعملية سرد خطي مختصر يربط بين هيكل الملك داود وسليمان (الذي لم يتم العثور على دليل له في القدس) مع الوجود اليهودي الثاني second Jewish commonwealth ( معبد هيرود وطرق الحجاج إليه) والمشروع الاستيطاني اليهودي الإسرائيلي الحديث في سلوان والبلدة القديمة. وتم، في هذه العملية، شطب الفترات والثقافات غير اليهودية التي اكتشفها علماء الآثار في الواقع من القصة -إما عن طريق الإزالة المادية أو الإخفاء تحت المباني الجديدة- وتعرض السكان الفلسطينيون المعاصرون لحملة شرسة مقصودة لتصويرهم على أنهم وجود غير شرعي في المكان (Pullan et al. 2013 Selimovic and Strömbom 2015).
مشروع إلعاد الرئيسي هو مرآب جفعاتي، وهو عبارة عن قطعة أرض كبيرة على الحافة الشمالية للتلال، بجوار أسوار المدينة القديمة، حيث حفرت سلطة الآثار حفرة أساس عميقة لحرم ضخم متعدد الأغراض من سبعة طوابق (مركز كيديم צנטר עתיק ، الشكل 31.5). يقع هذا المبنى على أنقاض سبع طبقات أثرية، وسيكون بمثابة مركز سياحي لمسارات الرحلات الجوفية التي تضم متنزه إلعاد الأثري (Greenberg 2014). أثر السياق المتغير للتنقيب والعرض الأثريين على الممارسة الأثرية بطرق بعيدة المدى: أولاً، وضعها بشكل مباشر في مجال العمل السياسي الإسرائيلي، الذي ينظر إليه السكان الفلسطينيون في القدس على أنه تهديد لوجودهم في المدينة. ثانياً، فرض قيود جديدة على المنهجية الأثرية، والتي سرعان ما أعادت التكيف مع الوجود شبه السري في المساحات الجوفية مع التخلي عن مصداقيتها البحثية الأكاديمية. ثالثاً، تعرض علماء الآثار لضغوط لتلبية الاحتياجات السياسية للاكتشافات الجديدة. وحيث يتم استبدال التطور التاريخي بصراع دائم للثقافات والجماعات الإثنية، فإن أي غياب للاكتشافات يصبح منخرطاً في لعبة محصلتها صفر بين خطابي التراث اليهودي والفلسطيني المتنافسين. من اللافت للنظر أن علماء الآثار يواصلون الإصرار على أنهم ما زالوا منخرطين في تحقيق تاريخي وضعي "محايد" (Reich 2011).
علم آثار الغياب
علم الآثار في القدس، الذي لم ينجح قط في إنشاء برنامج بحثي مستقل، يرزح تحت ثقل التوقعات العامة الهائل. ونظراً لأن معظم أعمال التنقيب بدأت من قبل جهات خارجية، فإن "الاكتشافات"، وليس برنامجاً فكرياً شاملاً أو إجراء منهجياً، هي من يتوقع لها أن تبرر الاستثمار وتقدم البراهين المطلوبة للحفاظ على المدينة المتخيلة. لكن ثبت أنها بعيدة المنال: فالقليل مما تم استبعاده بالفعل -وهو ما يكفي لملء مجلدات ويحكي في الغالب عن حياة الناس العاديين في الأوقات العادية- يتداخل مع ما يتوقعه الناس. قائمة الأشياء التي لم يتم العثور عليها في القدس طويلة. حيث تشمل حالات الغياب مدينة أو قلعة عبدي هيبا، حاكم المدينة من القرن الرابع عشر ق.م الذي أرسل رسائل مسمارية موجودة في المحفوظات الملكية المصرية في العمارنة. مدينة أو قلعة الملك داود وسليمان. نقوش معاصرة تذكر أي ملك لإسرائيل أو يهوذا، أي نبي، أو أي نص كتابي عبراني. بقايا الهيكل الأول أو طقوسه، وشهادات المسيحية المبكرة. وللتعويض عن حالات الغياب هذه، ظهرت أدبيات دفاعية اعتذارية قوية تسعى إلى تقديم تفسير منطقي عن طريق النص أو نقد التنقيب. لكن هذه المواقف تبدو غير كافية. يجب الحفاظ على أو خلق التغذية التصحيحية لـ "الاكتشافات"، وقد تنبع هذه من الحفريات الحسنة النية، من الاستكشاف غير المنتظم (بما في ذلك، حفريات السنوات الأخيرة، غربلة كميات كبيرة من التربة التي يُزعم أنه تمت إزالتها من الحرم القدسي أثناء أعمال البناء للوقف [الإسلامي] هناك)، ومن سوق الآثار المشروعة وغير المشروعة. وهي تتراوح من التفسيرات المثيرة للجدل إلى حد كبير للبقايا الموجودة (على سبيل المثال، تحديد قصر الملك داوود على الحافة الجنوبية الشرقية)، إلى العرض المتلاعب لأشياء مجهولة الهوية، غالباً ما تكون عشوائية (مثل مجموعة من البلاط الرخامي من مقالب جبل الهيكل المنخل، مرتبة في أنماط وعرضها للجمهور على أنها "أرضية الهيكل")، إلى التزوير الصريح والمزيف (مثل نقوش: يوآش" و"ضريح يعقوب البار"). كل اكتشاف من هذا القبيل يعالج واحدة من الثغرات المؤلمة في السجل الأثري الإيجابي، ويتوافق بدقة مع التوقعات الشعبية (ومن هنا جاءت عبارة إيتالو كالفينو المذكورة في بداية المقالة). إنها تعزز السمعة العلاجية لعلم الآثار كمعالج للذكريات الممزقة ومورد للماضي الصحي انظر الشريط التالي: https://www.google.com/search?q=www.youtube.com%2F+watch%3Fv%3DHVcOIdkGEjE&newwindow=1&sxsrf=AOaemvL5YGHmqKj8R5IS8uL9fEWsPuoP8Q%3A1631628870698&ei=Rq5AYfeIKsGJrwTR1rLwAQ&oq=www.youtube.com%2F+watch%3Fv%3DHVcOIdkGEjE&gs_lcp=Cgdnd3Mtd2l6EAxKBAhBGABQAFgAYMweaABwAngAgAEAiAEAkgEAmAEA&sclient=gws-wiz&ved=0ahUKEwj3w_iZ0_7yAhXBxIsKHVGrDB4Q4dUDCA4 .تعكس القصص التي رواها علماء الآثار خلال المائة وخمسين عاماً الماضية عن ملوك أورشليم وغزاتها، عن ازدهارها المبهر وخرابها المطلق، وبحثهم عن ما لم يُستحضر بعد من الماضي، ومخاوفهم الخاصة بشأن الهوية والانتماء، وكذلك المجتمعات التي يخدمونها. وفي الوقت نفسه، هناك عدة آلاف -إن لم يكن الملايين- من الأشياء والتحف التي تحكي قصص الناس الذين سكنوا المدينة بالفعل، من العصور القديمة إلى الوقت الحاضر، وهي حكايات مهمشة ومنسية وعير منشورة، تقبع في مخازن وعليّات مؤسسات التنقيب في القدس. لا شك أن هؤلاء سيكون لديهم قصة خاصة بهم يروونها، عن البقاء خلال المحن، والإبداع والمقاومة في القدس الأرضية.
....
العنوان الأصلي: ONE HUNDRED AND FIFTY YEARS OF ARCHAEOLOGY AND CONTROVERSY IN JERUSALEM
المؤلف: رفائيل غرينبيرغ ( جامعة تل أبيب) Raphael Greenberg tel Aviv university
من أجل المزيد من الاطلاع على الصور المرفقة يرجى الاطلاع على المقال عبر الرابط التالي لمركز الجرمق للدراسات: https://www.aljarmaqcenter.com/%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%81%d8%b1%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a2%d8%ab%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%af%d8%b3/

.....
المراجع
Abu el-Haj, N., 2001. Facts on the Ground: Archaeological Practice and Territorial Self-Fashioning in Israeli Society. Chicago, IL: University of Chicago Press.
Ashbee, C.R., ed., 1921. Jerusalem 1918–1920. London: John Murray.
Avigad, N., 1983. Discovering Jerusalem. Nashville, TN: Thomas Nelson.
Avni, G. and J. Seligman, 2006. “Between the Temple Mount/Haram el-Sharif and the Holy Sepulchre: Archaeological Involvement in Jerusalem’s Holy Places.” Journal of Mediterranean Archaeology 19. Pp. 259–288.
Baram, U., 2008. “Appropriating the Past: Heritage, Tourism, and Archaeology in Israel.” In: P.L. Kohl, M. Kozelsky and N. Ben Yehuda (eds.), Selective Remembrances: Archaeology in the Construction, Commemoration and Consecration of National Pasts. Chicago, IL and London: University of Chicago. Pp. 299–325.
Bar-Yosef, E., 2005. The Holy Land in English Culture, 1799–1917: Palestine and the Question of Orientalism. Oxford, UK: Clarendon.
Ben-Dov, M., 1985. In the Shadow of the Temple: The Discovery of Ancient Jerusalem. San Francisco, CA: Harper and Row.
Bliss, F.J., 1898. Excavation at Jerusalem, 1894–1897. London: Palestine Exploration Fund.
Borges, J.L., 1998. Collected Fictions. Trans. A. Hurley. New York: Penguin Books.
Calvino, I., 1974. Invisible Cities. Trans. W. Weaver. New York: Harcourt.
Emberling, G., 2010. Pioneers to the Past: American Archaeologists in the Middle East, 1919–1920. Chicago, IL: The Oriental Institute of the University of Chicago.
Feige, M., 2003. “The Vision of the Broken Bones: Haredim vs Archaeologists in the City of David, 1981.” In: E. Sivan and K. Kaplan (eds.), Israeli Haredim: Integration Without Assimilation. Jerusalem: Van Leer Institute, Jerusalem. Pp. 56–81 (in Hebrew).
Geva, H., ed., 1994. Ancient Jerusalem Revealed. Jerusalem: Israel Exploration Society.
Glock, A., 1994. “Archaeology as Cultural Survival: The Future of the Palestinian Past.” Journal of Palestine Studies 23. Pp. 70–84.
Greenberg, R., 2009. “Extreme Exposure: Archaeology in Jerusalem 1967–2007.” Conservation and Management of Archaeological Sites 11. Pp. 262–281.
Greenberg, R, 2014. A Privatized Heritage: How the Israel Antiquities Authority Relinquished Jerusalem’s Past. Jerusalem: Emek Shaveh.
Greenberg, R. and A. Keinan, 2009. Israeli Archaeological Activity in the West Bank and East Jerusalem: A Sourcebook. Jerusalem: Ostracon Press.
Halotte, R. and A.H. Joffe, 2002. “The Politics of Israeli Archaeology: Between ‘Nationalism’ and ‘Science’ in the Age of the Second Republic.” Israel Studies 7. Pp. 84–116.
Hoffman, A., 2016. Till We Have Built Jerusalem: Architects of a New City. New York: Farar, Straus and Giroux.
Kenyon, K.M., 1967. Jerusalem: Excavating 3000 Years of History. New York: McGraw-Hill.
Kletter, R., 2015. “Antiquities in the Basement: Ideology and Real Estate at the Expense of Archaeology in Jerusalem’s Old City.” Emek Shaveh. Available at http://alt-arch.org/en/antiquities-in-the-base ment-ideology-and-real-estate-at-the-expense-of-archaeology-in-jerusalems-old-city/ (accessed 21 November 2016).
Pullan, W., M. Sternberg, L. Kyriacou, C. Larkin, and M. Dumper, 2013. The Struggle for Jerusalem’s Holy Places. London: Routledge.
Reich, R., 2011. Excavating the City of David: Where Jerusalem’s History Began. Jerusalem: Israel Exploration Society.
Selimovic, J.M. and L. Strömbom, 2015. “Whose Place? Emplaced Narratives and the Politics of Belonging in East Jerusalem’s Contested Neighbourhood of Silwan.” Space and Polity 19(2). Pp. 191–205.
Silberman, N.A., 1982. Digging For God and Country: Exploration, Archaeology, and the Secret Struggle for the Holy Land 1799–1917. New York: Alfred A. Knopf.
________, 2001. “If I Forget Thee, O Jerusalem: Archaeology, Religious Commemoration and Nationalism in a Disputed City, 1801–2001.” Nations and Nationalism 7(4). Pp. 487–504.
Smith, G.A., 1907. Jerusalem: The Topography, Economics and History from the Earliest Times to A.D. 70. London: Hodder and Stoughton.
Warren, C., 1871. “Excavations of Jerusalem.” In: C.W. Wilson and C. Warren (eds.), Recovery of Jerusalem: A Narrative of Exploration and Discovery in the City and the Holy Land. London: Richard Bentley. Pp. 26–260.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضربة إيران لإسرائيل: كيف غيرت قواعد اللعبة؟| بتوقيت برلين


.. أسو تخسر التحدي وجلال عمارة يعاقبها ????




.. إسرائيل تستهدف أرجاء قطاع غزة بعشرات الغارات الجوية والقصف ا


.. إيران قد تراجع -عقيدتها النووية- في ظل التهديدات الإسرائيلية




.. هل ستفتح مصر أبوابها للفلسطينيين إذا اجتاحت إسرائيل رفح؟ سام