الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصر و عصور إضمحلالها( 5)

محمد حسين يونس

2022 / 6 / 1
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الجزء الثالث من المقال الثاني ( حكم الكهنة و سقوط الأحلام. ).ِ
((إجتهد في كل وقت، افعل أكثر مما هو مطلوب منك، لا تضيع الوقت إذا كنت قادرا على العمل، مكروه كل من يسيء اغتنام وقته. لا تهدر فرصة تعزز ثروة بيتك، فالعمل يأتي بالثروة، والثروة لا تدوم إذا هجرت العمل)) .
هكذا كان الحكماء يتحدثون للمصرين فقد كان عليهم أن يعملوا ..في كل مجال لرفع مجمل الناتج القومي .. كي يسدوا إحتياجات المجتمع الإمبراطورى المتنامية .
في المزارع و الحضر ..سخرة أو أقنان .. في ورش الصناعة ، الخدمات ،التجارة ،الرعي ، الإنشاء .. في الصيد و تربية الدواجن .. فضلا عن الكهانة و الحروب و التجنيد في الجيش للدفاع عن حدودهم
في نفس الوقت يبدعون فنا و علما و فلسفة لا يقدمها غيرهم .. فإذا أضفنا لهذا الإنتاج الوفير ..ما كان يأتي من الأقطار المستعمرة من جزية و هدايا ..وغنائم .. فإن الشخص العادى قد يتصور أن المصريين في زمن هذه الإمبراطورية كانوا يعيشون حياة .. مرفهه ..رغدة.
الواقع .. يخالف هذا ..فكل تلك الثروات .. كان يقتسمها فيما بينهم الكهنة والإقطاعيون والأرستقراطية العسكرية الحاكمة .. و يظل الشعب علي حالة .. يكابد العيش ويتابع الإنتاج .. حتي لا يسقط بين مخالب وحش الفاقة و الإحتياج .
هذا هو النموذج لما يسمي بمجتمع الإستبداد الشرقي الذى تسلط علي أهل مصر معظم تاريخهم ..
الشعب يعيش في ضنك و إحتياج ..بينما يستمتع الكهنة بالثقافة و التفوق في الفنون و العلوم .. يخبئؤنها بانانية في مكتبات معابدهم ..يوظفونها لصالحهم .. لذلك عندما تحرق هذه المكتبات .. و يزاح الكهنة تفقد مصر رشدها و تنقطع عن ثقافة الأجداد
و يمارس الرقي و الدبلوماسية و التحضر ..الملك و أهله و حاشيته .. في أروقة القصر و مدارسه .. ينقلونه للوافدين علي (طيبة) للتمدن من أبناء أمراء البلاد المحتله .
وهكذا عندما تقرأ ((كان الآباء يزرعون الأخلاق الحميدة في أطفالهم، يعلموهم أن يعطفواعلى الفقراء والمساكين. و يطلبون منهم أن يحترموا من هم أكبر سنا أو مقاما ، ويوجهونهم بعدم كشف الأسرار ورد الأمانات.. و عدم الإسراف في تناول الطعام ومراعاة الآداب الخاصة بالمائدة...
و أن يتحلي الإبن بعدم التحدث بكثرة و عليه قول الحق والبعد عن الباطل وشهادة الزور. و عدم الاعتداء على الضعيف والدفاع عن حقوق المظلومين))
فلا تتصور أن الفلاح الأمي الحافي المهمش ..كانت له هذه الصفات .. إنها للمحظوظين من أبناء فرسان الأرستقراطية العسكرية الذين يريدون أن يصبح الولد سر أبيه .
الفلاح المصرى .. عبر كل العصور و الأزمنه كان له تقاليد و أفكار و توجهات أخرى يتوارثها جيل عن جيل لثقافة شفهية يضمنها في الأمثال و الحكم والمواويل و النصائح و العادات ..جاءت من رحم المعاناة والفقر..و الخوف لم تتبدل أبدا مهما تغير الطغاة .
فلاح مصر علي الدوام كان قن .. فقير .. جاهل .. مريض .. مستغل من أصحاب الأعمال و عندما يموت ترمي جثته في النهر أو تترك للطيور في الجبال تنهشها .
نعم .. في الحق علي مر التاريخ لم يمتلك الفلاح أرضه حتي فدادين عبد الناصر الخمسة .. كانت تتحكم فيها الجمعية الزراعية الحكومية .
لقد كانت الدولة ((ممثلة في الفرعون)) تمتلك جميع أراضي مصر .. هكذا فعل القيصر الروماني بعد إحتلال البلاد ..و محمد علي بعد أن إنتزع السلطة .. وكبار ضباط الزمن الحديث يعد أن تمكنوا من الرقاب... إستمرار لقهر لا يتوقف
بكلمات أخرى الفلاح كان إما قنا عاملا في الأرض لقاء طعامة ..في الأغلب الأعم ..أو مستأجرا لها إذا حسنت أحواله .
لقد كانت حيازة الأراضي الزراعية في مصر تتوزع بين أربعة فئات ( أراضي التاج، أراضي الإقطاع، أراضي المعابد، بالإضافة إلى الوسايا الخاصة) .
أراضي التاج: تزرع لحساب الدولة بشكل مباشر، ويقوم الموظفون في المقاطعات بالإشراف عليها. وفي هذه الحالة كانت تقدم الدولة البذور والثيران ، وتستخدم الأرقاء في العمل الشاق ويطلق عليهم (ناس الملك) كما كانت الدولة تستخدم الفلاحين الأجراء في مزارعها مقابل أجور عينية من الحاصلات المزروعة، أو قطع صغيرة من الأرض تسمح لهم باستغلالها.
أراضي الإقطاع : كانت تُمنح من الملك للأفراد بغرض استغلالها مقابل دفع الضرائب للدولة .. الضياع الكبيرة كانت تمنح للأمراء وكبار الموظفين وقادة الجند. يقومون بتأجيرها لمن يزرعها.. أما الحيازات الصغيرة فكانت تُمنح للمزارعين وفي العادة كان يتم استغلالها بشكل مباشر من قبل المنتفع وأفراد أسرته.
أراضي المعابد: كانت تمنحها الدولة للكهنة بغرض إدارتها للإنفاق من عائدها علي المعابد. وغالبا ما تكون هذه الأراضي معفاة من الضرائب. يمتلك الكهنة حق الانتفاع...بحيث يتم استغلالها باستخدام رقيق المعابد والفلاحين الأجراء.
وقد بلغت مساحة الأراضي الزراعية التابعة لمعابد طيبة وعين شمس ومنف في عهد رمسيس الثالث نحو 1100 ميل مربع تعادل نحو 678.6 ألف فدان، حوالي 15% من جملة الأرض الزراعية المصرية تقسم لقسمين 10 % لمعابد كهنة أمون .. و5% لباقي المعابد .. كما رُبط آلاف الفلاحين على خدمتها، بالإضافة إلي تزويدها بالآلاف من أسري الحروب ليعملوا عليها كمزارعين ورعاة.
بحيث قدر عدد هؤلاء العمال والفلاحين بنحو 307615 فردا، فإذا افترضنا إقامة أسر هؤلاء المزارعين معهم فان ذلك يعني أن هناك أكثر من (نصف مليون فرد) من (7 مليون) سكان مصر حسب يوسيفوس كانت حياتهم ترتبط بأراضي المعابد.
د - الوسايا الخاصة: أراضي حق المنفعة للافراد الذين صار لهم عليها كافة حقوق الملكية استنادا إلي قوة مركز الممنوح.
و هكذا كان كهنة أمون يسيطرون علي قدر كبير من الأراضي المصرية و بالتالي إقتصاد البلد .. و كانت أعداد العمال المرتبطة بانشطتهم غير الدينية في تزايد مستمر كلما جلس علي العرش من يعتبر نفسه قد جاء بفضل أمون و دعم كهنتة . . و عليه رد الجميل .
و هكذا .. رغم أن الملك و عائلته كانوا يجلسون علي قمة الهرم الإجتماعي ..يليهم كبار رجال الدولة من الإقطاعيين و القادة العسكريين . إلا أن ..في الواقع ..كان الكهنة بحكم علمهم و سلطاتهم الدينية هم من كان يتولي إدارة الحكومة و مشاريعها الإنشائية .
يتحكمون في طبقة عريضة من الموظفين والمهندسين و الفنانين والعاملين بالحرف. يحتكرون توزيع ناتج العمل الإجتماعي .. و يبخلون علي الطبقة التي تقبع في قاعدة الأساس الذى قامت علية الحضارة المصرية ..من أصحاب المهن اليدوية والعاملين بالزراعة و الرعاة و الصيادين .
لم يبن الملوك القصور و المعابد .. و إنما بناها مهندسين و عمال و فنانين لا نعرف عنهم شيئا .. ولم تزرع الأرض الأرستقراطية العسكرية الإقطاعية أو تبحر بالمراكب أو تصنع أدوات القتال ..أو تعلم الأطفال القراءة و الكتابة أو تداوى المرضي إنما فعل ذلك أبناء الشعب ..
و لم يحارب الملوك و القادة بايديهم حتي لو غشنا من كتبوا علي جدران المعابد أن رمسيس الثاني خاض معركة منفردا في (قادش) عندما حوصرت جيوشة .. الذين حاربوا وعانوا و جرحوا و ماتوا.. كانوا الجنود
و مع ذلك فلا حديث إلا عن إنجازات من يجلس علي العرش و يعاير الملك رمسيس الثاني ..ناسه بأنه يطعمهم و يكسيهم .
((ملأت المخازن بجميع الفطائر واللحوم والكعك لتأكلوها، وأنواع العطور لتعطروا رؤوسكم بها كل عشرة أيام، وصنادل تنتعلوها كل يوم، وملابس تلبسونها طوال العام.
عينت لكم رجالا يحضرون لكم الطيور والأسماك، وآخرين يحسبون كم هو مستحق لكم، أمرت بتشييد ورشة فخار تصنع لكم الآواني الفخارية ليظل ماؤكم صافيا في الصيف، ومن أجلكم أبحرت السفن دوما من الجنوب إلى الشمال ومن الشمال إلى الجنوب تحمل لكم الشعير والحبوب والقمح والملح والخبز)). إنه همٌ إبتلينا به أن يعايرنا حكامنا ..لا تريد بلادنا التخلص منه حتي بعد عشرات القرون .

كانت مساكن عامة الشعب تبنى من الطوب المصنوع من الطمي بعد خلطه بالرماد والقش. والذي يعرف باسم الطوب اللبن، وكانت تتكون من طابق واحد وتحتوي على غرفة واحدة متصلة بفناء في وسط المسكن. ( في الغالب لا تختلف عن أعداد من مساكن فلاحين معاصرين )
مساكن الطبقة الغنية كانت تتكون من أكثر من حجرة، كما كان يتصل بها غرفة واسعة للمعيشة يقيمون فيها الاحتفالات ويستقبلون فيها الضيوف، كما كان يوجد بها غرف لتخزين الغلال. و إسطبلات ، وتحيط بالمنازل الحدائق يزرعون فيها النخيل والأزهار والعنب.
قصر الملك كان يتميز بالاتساع المبالغ فيه، و الفخامة في استخدام النقوش والزخارف لتزيين الحوائط كذلك الأثاث المصنوع بأشكال متنعة تتميز بالجمال. كما أن المقاعد كان لها أكثر من شكل، و الأسرة قاموا بطلاءها بالذهب.
تنوعت الملابس لدى المصريين القدماء فكان لكل طبقة الزي الخاص بها، زي للملوك. كان يتغير بتغير المناسبة بما في ذلك التاج و الصولجان .و كانت هتاك أزياء للجنود و لكبار الموظفين بحيث يمكن تميز طبقة كل منهم .
ملابس الأغنياء تصنع من قماش الكتان الناعم وكان بعضهم يفضلها من الحرير الذي يأتي من سوريا. وكانوا يقومون بتطريزها بالفضة والأحجار الكريمة والذهب،
المصريون القدامى كانوا يخصصون لكل مناسبة ملابسها و طعامها و شرابها ..
الرجال والنساء يهتمون بالظهور بأحسن مظهر، الرجال يلبسون الخواتم والأساور. و يحلقون لحاهم و في بعض الأحيان يستخدمون الشعر المستعار
المرأة تلبس العقود والأقراط والأساور، كما كانت ترتدي الخلاخيل وتضع العطور. و تطلي شفاها و تضع الكحل في عينها، كما كانت تستخدم الأمشاط المصنوعة من العظام والعاج. وكانت الأم ترضع أطفالها وتهتم بهم في صغرهم. أما العائلات الثرية فكانوا يحضروا مرضعة لأطفالهم، و مربية تعتني بهم في صغرهم.
هؤلاء هم المصريون بحلوهم .. و مرهم .. فقرهم و غناهم .. علمهم و جهلهم .. عندما حكمهم بعد حورمحب الملك رمسيس الاول مفتتحا الأسرة التاسعة عشر..
مجتمع إقطاعي زراعي يسيطر عليه الملك ورجاله بواسطة الكهنة و الجنود .. و شعب مستسلم لقدره يعمل بكد و مع ذلك يعاني من الفقر و ضيق المعاش .
إسم الملك رمسيس باللغة المصرية القديمة ( با رع مس سو ) (الذى أنجبه الإله رع ).. يدل علي أن ملوك الأسرة التاسعة عشر قد إرتبطوا بآلهة الشمال. رع (فى رمسيس) وست (فى سيتى) وبتاح (فى مرنبتاح) ..
ولعل السبب هو أن جدهم كان من الدلتا وليس الصعيد كما كان الحال بالنسبة لملوك الاسرة الثامنة عشرة الذين اتخذوا من امون(فى امنحوتب)وجحوتى (فى تحتمس) حاميا لهم.
الملك حور محب لم يكن له وريث من الذكور فأختار زميلا له يعمل كرئيس الرماة في الجيش ليكون خليفته . رمسيس الأول حكم لفترة قصيرة سنة واحدة واربعة شهور. و دفن بوادى الملوك ليتولي بعده إبنه سيتي الأول .
بدأ الملك عصر جديدا فى تاريخ مصر فقد عمل علي إسترداد الإمبراطورية التي أضاعها إخناتون .. بحيث أرخت سنوات حكمه بأنها سنوات النهضة . نعرف هذا من ما كتب علي جدران معبد الكرنك و(بيت ملاييين السنين) المعبد الذى أقامه في أبيدوس .
و لضبط الفوضي التي عمت البلاد منذ نهاية حكم الأسرة 18 شدد سيتى العقوبات علي الاستغلاليين والمفسدين فنرى مثلا ان عقاب الموظف الذى ينقل بعض الممتلكات بدون وجه حق هو قطع الانف والاذنين .. وان من يسلب راعيا يعاقب بالضرب مائتى عصا.
مات الملك سيتى الاول بعد ان حكم 14 عاما ودفن فى مقبرته المشهوره بوادى الملوك.ليتولي بعدة الملك رمسيس الثاني . (The Great ) ( نكمل حديثنا في الجزء الرابع من المقال الثاني ) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل باتت الحرب المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله أقرب من أي وقت


.. حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان..إشعال ل




.. طلاب جامعة كولومبيا الأمريكية المؤيدون لغزة يواصلون الاعتصام


.. حكومة طالبان تعدم أطنانا من المخدرات والكحول في إطار حملة أم




.. الرئيس التنفيذي لـ -تيك توك-: لن نذهب إلى أي مكان وسنواصل ال