الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاقتصاد العالمي وغيلان رأس المال المالي

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2022 / 6 / 2
الادارة و الاقتصاد


حوار أجراه فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن مع مصعب قاسم عزاوي.

فريق دار الأكاديمية: كيف تفسر التباطؤ الذي لا يبارح في معدلات نمو الاقتصاد العالمي خلال السنين الأخيرة؟

مصعب قاسم عزاوي: من وجهة نظر الاقتصاديين الماركسيين فإن الرأسمالية دائماً محكومة بدورات من الانتعاش الفقاعي الذي لا بد أن يؤدي إلى فيض من الإنتاج سوف يؤدي بناتجه إلى انبثاق الفقاعة الاقتصادية، وحدوث تقهقر اقتصادي لا بد أن يفضي بدوره إلى انحسار الإنتاج، وعودته إلى مستويات منحسرة لا بد أن تفضي من جديد إلى زيادة في النمو ممثلة بزيادة الطلب على القوى العاملة لأجل زيادة الإنتاج من جديد وتعزيز الأرباح المنحسرة، والتي أصبح احتمال تزايدها محتملاً بعد اندثار الكثير من المنتجين جراء انبثاق الفقاعة السالفة، وهو ما يمهد لإعادة الكَرَّة وتخليق فقاعة اقتصادية جديدة لا بد أن يزداد حجمها تدريجياً إلى درجة يصعب الإمساك بتوازنها الحرج ومن ثم انبثاقها كسالفتها. وهي دورية كانت ملازمة للرأسمالية بتواتر لا ينقطع كل بضع سنوات حتى انبثاق فقاعتها الاقتصادية الأخيرة في سياق الانحسار الاقتصادي الكوني العميم في أواخر العام 2007، وهو ما قامت الرأسمالية بالتعامل معه بطرائق قديمة، ولكن بطرق «هجومية» غير مسبوقة من الناحية الكمية، وهي التي يتم توصيفها من قِبل اقتصاديي الفئات المهيمنة بمسمى «سياسات التيسير الكمي»، وهي سياسات اقتصادية أشبه ما تكون بعلاج مريض مدنف جراء إنتان جهازي معمم بقامعات المناعة مثل دواء الكورتيزون الذي لا بد أن يُظهرَ المريض المنهك على أنه «حصان شديد عتيد» لا بد من حقنه بالمزيد من قامعات المناعة لإخفاء الدنف والهزال والضنى عن محياه ومظهره الخارجي.
والتوصيف الدقيق لآلية عمل سياسات التيسير الكمي يتمثل في تنطع البنوك المركزية لمصارف دول الأقوياء بحقن أكداس هائلة من الأموال التي تقوم تلك البنوك المركزية بطباعتها دون أي سند اقتصادي في مستوى الإنتاج في المجتمع، أو احتياطي من المعادن الثمينة، كان من المشترط وجودهما سالفاً قبل طباعة تلك الأموال، وإصدار أرقام جديدة للثروات القابعة في مصارف مجتمعات الأقوياء الأثرياء الذين يستطيعون الإقدام بكل ثقة على مثل تلك العملية دون الخوف من عقوبات صندوق النقد الدولي الذي يصنف عملات دول المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، وخاصة عملات الولايات المتحدة، وبريطانيا، والاتحاد الأوربي، كعملات تبادل عالمي؛ أي أنها تتجاوز حدود حجم واحتياج اقتصادها المحلي، ما دام هناك طلب عليها عالمياً، وهو طلب لا يتوقف على المستوى الكوني، جراء قيام كل النهابين والفاسدين المفسدين في كل مجتمعات المظلومين المُفْقَرِيْنَ في دول الجنوب الفقير بتهريب الثروات وعوائد الموارد الأولية التي يسرقونها من قوت أبناء شعوبهم المظلومة، وتحويلها إلى عملات «التبادل العالمية» تلك، وتكديسها في خزائن ومصارف تلك الدول نفسها. وبناء على ذلك فقد قامت دول الأقوياء باتباع نهج سياسات التيسير الكمي إلى أقصاها، وقامت منذ الانحسار الاقتصادي العميم في أواخر العام 2007 بطباعة أموال تتجاوز قيمتها السوقية 20 تريليون دولار أمريكي تم تخليقها من «الفراغ المحض» وفق توصيف العالم الاقتصادي الرائد يانس فاريوفاكيس؛ وتلك الأموال تم ضخها في شرايين اقتصادات مجتمعات دول الشمال الغني، ومنها إلى الاقتصاد العالمي من خلال مؤسساتها المالية وبنوكها ومصارفها العابرة للقارات، والتي لم تتأخر عن استخدام الرهط الأكبر من تلك الأموال في تعزيز حجم الثروات التي تتحكم بها من خلال عملية «سُعَارِ هذياني» لإعادة شراء أسهمها في أسواق الأسهم والسندات العالمية، مما رفع قيمة أسهمها بشكل صاروخي خيالي، وأدى بها للتذرع بذلك لإصدار أسهم جديدة عبر تقسيم كل سهم كان معروضاً للبيع والشراء من أسهمها إلى سهمين أو أكثر، ومن ثم نهب مدخرات كل المستثمرين الصغار في كوكب الأرض عبر «إغوائهم» لشراء أسهم أكثر الشركات الرابحة كونياً، وهي التي لما ينقطع صبيب أموال النهب والفساد والإفساد والتجارات غير الشرعية من تجارة السلاح، والمخدرات، والرقيق الأبيض إلى شرايينها كما أثبتت ذلك وثائق التحقيقات الاقتصادية للمدعين العامين في الولايات المتحدة وبريطانيا على مجموعة من أكبر المؤسسات المالية على المستوى الكوني.
وذلك الواقع المؤوف أدى إلى تعملق وتضخم حجم رأس المال المالي غير الإنتاجي على المستوى الكوني إلى مستوى غير مسبوق، مترافقاً مع تراجع لم يتوقف في الأحياز الإنتاجية الفعلية سواء الزراعية أو الصناعية على المستوى العالمي، وذلك لأن الرهط الأكبر من رؤوس الأموال على المستوى الكوني لا يمكن أن تسعى في استثمار إنتاجي أو صناعي يمكن أن يدر أرباحاً محدودة، ويحتاج إلى زمن طويل لكي يدر تلك الأرباح، بينما يمكن تحقيق أرباح فلكية بأقصر الآجال من خلال مضاربات وحذلقات بيع الأسهم والسندات في شركات غير إنتاجية معظمها مؤسسات مالية، حتى لو كان لها ذراع إنتاجي ظاهري، مثل شركة آبل وجنرال إلكتريك، وجنرال موتورز، والتي يمثل مصدر الدخل الأهم لها ليس ما تبيعه من منتجات، وإنما ما تحصده من أرباح فلكية جراء ما تقوم به من مضاربات واستثمارات مالية في أسواق السندات والأسهم. و في الواقع يتمحور الاقتصاد العالمي راهناً حول نهج استقطاب رؤوس أموال مجتمعات الأقوياء الأثرياء في العالم المتقدم بشكل شبه حصري إلى أحياز «الاستثمارات غير الإنتاجية»، وتحويل جل عمليات الإنتاج الكوني إلى الصين، والتي قررت وفق نهج رأسمالية الدولة القمعية الشمولية الذي تتبناه الانصياع إلى متطلبات مجتمعات دول الشمال، عبر تمكينهم دون قيد أو شرط من استغلال «قوة عمل العمال الصينيين المقهورين» الذين لا يملكون حق الإضراب أو الاعتراض أو حتى الانتظام في «نقابة حرة» غير خاضعة لحكم النظام القمعي الذي يهيمن على حيواتهم تحت شعارات «اشتراكيته الخُلَّبِيَّةِ» و«ثورته الثقافية البربرية». وهي سياسة يبدو أن الصين تتبعها فعلياً من أجل توطيد خبرات تقنية في مجتمعها، والحصول على التقانات التي لا تمتلكها، من أجل الانقلاب لاحقاً على هيمنة دول الشمال الغني، حينما تصبح الفرصة سانحة، وذلك عبر تحويل وجهة إنتاجها الذي تقوم به طبقتها العاملة المقهورة المظلومة التي تعمل بأجور بَخْسَةٍ زهيدة لا تساوي عُشْرَ ما لا بد أن تدفعه الشركات العابرة للقارات إن كانت تروم إنتاج نفس ما تنتجه في الصين في دولة من دول العالم المتقدم، وهو تحويل سوف يكون مآله توجيه الإنتاج الصيني ليصبح من أجل الاستهلاك المحلي في سوق الصين العملاقة التي يربو عدد المستهلكين فيها على ما يفوق عدد كل المستهلكين في دول العالم المتقدم، وهو تحويل سوف يزيد من معدلات النهب وتراكم الثروة في يد مفاصل «الدولة الأمنية» الصينية من الفاسدين والمفسدين في جهازها البيروقراطي الذي ليس فيه من الاشتراكية إلا التشارك في القهر والعسف والاستغلال والقمع بين عموم المواطنين الصينين، وهو هدف غير خافٍ لكل مراقب مدقق لآلية تحرك الطبقة المهيمنة من الفاسدين المفسدين في الصين في الميدان الاقتصادي، وهي الطبقة التي لم يعد يرضيها ما كانت تجنيه زوراً وبهتاناً من خلال الفتات التي تحصدها جراء منح عقود الاستثمار للشركات العابرة للقارات مقابل غضها النظر عن كل ما تقوم به من تلويث للبيئة، واستغلال وحشي للعمال المظلومين بأجور زهيدة، وضمان عدم تمكنهم من المطالبة بذلك، وحتى ضمان عدم تمكنهم من الانتحار، كما تفعل ذلك شركة Foxton المصنعة لهواتف شركة آبل وحواسيب شركة Dell، والتي وضعت شباكاً على نوافذ معاملها، بموافقة الأجهزة الأمنية الصينية لمنع نجاح محاولات عمالها المتكررة يومياً للانتحار، وهي المحاولات التي كانت تنجح سالفاً قبل اتخاذ «الإجراءات الأمنية الرادعة» لمنع تكرارها حفاظاً على «سلامة العمال و ديمومة الإنتاج الاشتراكي».
وذلك النموذج الوثيق العرى من تعملق رأس المال المالي، وانخفاض الاستثمار في الأحياز الإنتاجية في العالم الصناعي المتقدم إلى درجة مهولة، وترك جل ذلك الإنتاج في بوتقة الجحيم العمالي في الصين إلى حين، لا بد أن يفضي إلى توجهات سياسية واقتصادية في مجتمعات العالم الثري المتقدم التي لا زالت مهيمنة على مفاصل الاقتصادي العالمي حتى اللحظة الراهنة، تسعى دائماً باتجاه ضعف معدلات النمو التي لا بد في حال تزايدها من زيادة أجور العمال نظراً لزيادة الطلب على «شراء قوة عملهم» لتلبية متطلبات زيادة الإنتاج الذي يمثل مصدر النمو الاقتصادي شبه الأوحد، إذ أن زيادة أجور العمال، وزيادة السيولة المالية في أيديهم لا بد أن تفضي إلى زيادة معدلات التضخم، وهو «الرهاب السرمدي» الذي تخشاه كل المؤسسات المالية وأباطرة رأس المال المالي، إذ أنه يعني تآكل القدرة الشرائية للأكداس الهائلة من الأموال التي يجلسون على تلالها.
وخلاصة الحال المتهالك الذي آل إليه نمط الإنتاج الرأسمالي المعولم في حقبتنا المعاصرة هو حلقة مفرغة معيبة من النكوص الاقتصادي الذي ليس في جعبة الطبقات السياسية في دول الأغنياء الأقوياء في العالم المتقدم في دول الشمال من دواء لمعالجته سوى اتباع سياسة حقن «قامعات المناعة» السالفة الذكر ممثلة باتباع سياسات التيسير الكمي وطبع أكداس هائلة من الأموال من دون أي سند حقيقي لها في إنتاج حقيقي وملموس، وهو ما سوف يفضي بالنتيجة وفق التوصيف السابق إلى زيادة تعملق ثروات وهيمنة المؤسسات المالية العابرة للقارات، والتي تقريباً تضاعفت ثرواتها الكلية منذ الانحسار الاقتصادي العميم في خواتيم العام 2007، وهي التي لا بد أن تدفع باتجاه توجيه اقتصادات دول الشمال الغني لتكون دائماً متسايرة مع أقنومين اثنين يمثلان ضالة تلك المؤسسات المالية، والمتمثلين بضعف النمو الاقتصادي، ومعدلات التضخم المنخفضة أو حتى المعدومة للحفاظ على ثرواتها و ثروات مودعيها من الأثرياء الأقوياء من التآكل وفقدان قدرتها الشرائية. وهو واقع مؤوف لا تستطيع الطبقات السياسية في العالم المتقدم زحزحته، نظراً لأن معظم السياسيين المنتسبين إلى تلك الطبقات هم شخوص «فارغون» مصنعون إعلامياً، وتم تسويقهم وتمويل حملاتهم الدعائية والانتخابية من قبل نفس تلك المؤسسات المالية، والتي جلها من الشركات العملاقة العابرة للقارات المنخرطة في حلبة اقتصاد رأس المال المالي ومضارباته الفقاعية، وهم الذين لا يستطيعون الانقلاب على من قاموا بتصنيعهم، والعارفين تماماً بمفاتيح تهشيمهم إذا استدعى الأمر ذلك. وحتى وإن وُجِدَ سياسي منتخب طهراني شريف عفيف تصعد إلى قمة هرم صناعة القرار السياسي في أي مجتمعات الأثرياء الأقوياء في العالم المتقدم، فإنه سوف لن يستطيع القيام بأي تغيير فعلي ملموس في مفاعيل الواقع الاقتصادي القائم حتى لو وضع كل ثقله السياسي، وذلك بسبب عمق تعشق كل المفاصل الاقتصادية في العالم المتقدم بأسواق المال والأسهم والسندات فيها، إلى درجة أصبح 70% من الناتج القومي الإجمالي في دولة كبريطانيا مثلاً من القطاع المالي، وهو القطاع الذي يمكن للشركات العابرة للقارات التهديد بتدميره كليانياً إذا لم يعجبها النسق السياسي المتبع في هذه الدولة أو تلك، وذلك عبر التهديد ببيع استثماراتها في أسهم أسواق مال وأسهم وسندات تلك الدولة، حتى لو بعمليات بيع ليست ضخمة بقيمتها الإجمالية، ولكنها كافية لإحداث حالة من «جائحة الهلع» في أسواق تلك الدولة تدفع بكل المستثمرين الصغار ومتوسطي الحجم لبيع أسهمهم خشية انهيارها، وهو ما يعني انهيار القطاع الاقتصادي في تلك الدولة، والذي يمثل «خطاً أحمراً» بيناً يعرفه كل الساسة، ويجاهدون لعدم الاقتراب منه خشية عقابيله التي لم يعد هناك نظام سياسي يستطيع احتمال مفاعيلها في ظل هيمنة اقتصاد رأس المال المالي، وشركاته العابرة للقارات على الاقتصاد العالمي المعولم راهناً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يعتزم تجميد الأصول الروسية في البنوك الأمريكية.. ما ال


.. توفر 45% من احتياجات السودان النفطية.. تعرف على قدرات مصفاة




.. تراجع الذهب وعيار 21 يسجل 3160 جنيها للجرام


.. كلمة أخيرة - لأول مرة.. مجلس الذهب العالمي يشارك في مؤتمر با




.. كلمة أخيرة - 60 طن ذهب..رئيس-أيفولف-: مصر الأولى عربيا والثا