الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة وسياقاتها واسئلتها

قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)

2022 / 6 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الفلسفة هي ربيبة عصرها وبنت زمانها وبهذه تختلف عن كل إشكال المعرفة والفكر الأخرى. فكل نظرة فلسفية محددة بعصر الفيلسوف وتصوراته الخاصة واسلوبه الفريد المتميز في النظر الى مشكلات عصره والتصدي لاسئلته الكبرى وصياغتها في رؤية عقلية كلية مجردة. فالفيلسوف لا يأتي المعجزات, فأقصى ما يقوم به, أن يشيد صورة مفهومية عن العالم في العصر الذي يعيش فيه. وفهم الفلسفة لا يكون الا بفهم اسئلتها المتعينة في سياقاتها التاريخية والثقافية في عالم الممارسة الفورية المباشرة والسياق هو كامل الوسط الاجتماعي الحي الذي يحيط بالنص الفلسفي من جميع الجهات ولا توجد إجابات فلسفية جاهزة ومكتملة منقولة من الماضي كما هو الشأن في الاسطورة واللاهوت. ففي كل عصر من العصور يختار الانسان نفسه من جديد. فحينما ظهرت الفلسفة في اليونان القديم كانت قطيعة ابستمولوجية مع الأجوبة التي قدمتها الاسطورة للمعنى الكلي للعالم إذ حلت النظرة العقلانية لتأمل الوجود وظواهره المختلفة بدلا عن النظرة السحرية المتلحفة بالاسطورة فكانت اسئلتها عن أصل الكون وحقيقة الوجود والفكر والمعرفة والقيم. وحينما هيمنت النظرة اللاهوتية في فضاء العصور الوسيطة ازدهرت الفلسفة اللاهوتية المسيحية والإسلامية في تأمل العلاقة بين الله والعالم ومنذ عصر النهضة الأوربية حدثت القطيعة الابستمولوجية مع نظريات الفيض الافلوطينية والمنطق الصوري الارسطي. وحينما استعاد الإنسان ثقته بنفسه وعقله وقدراته على المعرفة والتقدم وصناعة التاريخ ازهرت فلسفة التاريخ والإنسان وهكذا ارتبط تجديد الفلسفة مع حركة الواقع والتاريخ وايقاعاته فكلما تغيرت الحياة والتاريخ كلما زادت الحاجة إلى تجديد الفكر والمعرفة وبهذا المعنى نفهم عبارة ميشيل فوكو " الإنسان هو اختراع حديث العهد" مع القرن التاسع عشر يدخل الانسان في علاقة مع قوى الخارج الجديدة, التي هي قوى التناهي, هذه القوى, (الحياة, الشغل واللغة) هي الأصل الثلاثي للتناهي الذي ستتولد عنه البيولوجيا والاقتصاد السياسي وعلم اللغة, قوى الحياة والتاريخ والفكر وذلك بعد ان يتم اخضاع المتعالي للتجريبي.ان الانسان لاول مرة في التاريخ يجد نفسه بازاء قوى التناهي والاشتباك معها كقوى خارجيه عن ذاته الانسانية المتناهية , اذ ذاك كان على قوى الانسان ان تتصدى للتناهي خارج ذاتها, ومن تم لتجعل منه في مرحلة ثانية, تناهيها هي, فتعيه حتماً كمتاه خاص بها. وحينئذ كما يقول فوكو, يركب معها الشكل – الانسان (وليس الشكل الله) وتلك هي بداية الانسان بالمعنى المسيحي للكلمة.
إذ كانت الحداثة قد بلغت قمة ازدهارها ونضجها في القرن التاسع عشر، بحيث غدت خبرة الإنسان بالتاريخ الذي صنعه بيديه وعقله خبرة واسعة شاملة وأكثر نضجاً، هذه الخبرة التاريخية في التقدم والتطور والارتقاء وفي مختلف مناحي الحياة الحضارية والمدنية والثقافية، كانت خير شاهد على عظمة الإنسان وفعله وقدرته على النمو والتكييف والتحسن والتجاوز المستمر، انه القرن المليء بعظائم الأمور كما يقول توينبي فقد شهد أهم حدث تاريخي وهو التوسع المفاجئ في سلطة الإنسان على الطبيعة وعلى الإنسان ذاته, انه العصر الذهبي لازدهار الرأسمالية الصناعية عند هنري سيمون, "انه قرن التاريخ بامتياز، حسب اوجسيتن تبيري (1795-1856) بل أن التاريخ يضفي عليه اسمه كما كانت الفلسفة تضفي اسمها على القرن الثامن عشر، ولقد تردد القول إلى درجة الإشباع كما يقول ماكس فيبر "أن القرن التاسع عشر كان قرن التاريخ، وقد ينطبق هذا القول على ألمانيا أكثر من أي مكان آخر إذ بلغ الاهتمام بالتاريخ حد التقديس بل لقد بجل هيجل وسافيني والفقهاء الألمان التاريخ ورفعوه فوق جميع الأشياء واقسم بيرك به وأقسم معه حزب المحافظين الإنجليز" بيد إن هذا الإجلال الكبير للتاريخ كان يعبر عن الإحساس المتزايد بالأزمة العميقة التي بلغها المشروع الحداثي الأوروبي، هذه ألازمة التي طالت كل البناء والأنساق الحياتية للمجتمع، أنها أزمة الإنسان الحديث. إذ كان الكثير من القيم القديمة والتقاليد والرموز التي ترسخت عبر التاريخ الالهه والأساطير والمقدسات والمحرمات والمفاهيم والمؤسسات تفقد وظيفتها الحيوية وتتحول إلى حقائق خاضعة للنقاش والجدال العلني المفتوح من كل شخص يستطيع ذلك، انها أزمة تصادم بين نمطين للحياة قديم وحديث، ونظامين للثقافة، نظام تمتد جذوره إلى نحو ألفي عام ونظام أخر أخذ يتشكل لتوه، فبدءاً من كانط عانى المشروع الفلسفي الذي سيطر منذ أيام أرسطو تحولاً جذريا نتج عنه تحول جذري لمعاني الاصطلاحات الأساس في المفردات الفلسفية التقليدية مثل "الميتافيزيقيا ، والمنطق، والجوهر، والوجود، والعدم، والقوة والفعل"، هذه المفاهيم تغيرت حتى نكاد لا نتعرفها وان مسائل لم يعترض أحد على موضوعها غدت عديمة المعنى وحلت محلها مسائل أخرى لم تخطر على البال قبل ذلك.ويعود معظم الغموض الذي يتخلل الكتابات الفلسفية في القرن التاسع عشر إلى هذه الحقيقة مباشرة، وربما زاد ذلك من أهمية فلاسفة القرن التاسع عشر وأصالتهم، لكنه لم يجعلهم أجلى بياناً وأقرب إلى الإفهام, إن تلك ألازمة التي واجهها الإنسان الحديث، هي أكثر عمقاً من أية أزمة حدثت في الحضارة الغربية منذ الاصطدام الأول للوثنية مع المسيحية البدائية، لقد أجاد هنري ايكن تصوير وتلخيص المشهد الروحي للقرن التاسع عشر، من حيث "هو قرن النقد الاجتماعي السياسي الذي يقبل المبدأ القائل إن الموضوع الحق للفلسفة هو الإنسان... ومن هنا ازدهرت فلسفة التاريخ والإنسان. لقد جاء القرن التاسع عشر عقب الثورة الفرنسية 1789م التي اهتزت جراءها كل الاقطار الأوروبية , كما أن الصراع الطبقي بين الطبقة البرجوازية الفتية والطبقات القديمة( الاقطاع والنبلاء والكهنة) كان على اشده. وكانت حركة التصنيع وازدهار المدن تسيير في خطى متسارعة مما افضى الى زيادة جيش الطبقة العاملة التي شبت لتوها عن الطوق. لتغدو في منتصف القرن التاسع عشر قوة طبقية حاسمة في المجتمعات الاوروبية. وتتفاقم المشكلات الاجتماعية والسياسية جنباً الى جنب مع تطور وازدهار المدنيات الحديثة وبروز الدول والقوميات – وقد كانت المانيا تعج بحركة زاخرة بالاحداث والانتفاضات والثورات والحروب الصغيرة والكبيرة مع فرنسا وبروز الاحزاب السياسية والمنظمات النقابية وازدهار الحركة الثقافية والنشر والصحافة.. الخ.
في خضم هذه العملية الناشطة من الحراك الاجتماعي الاقتصادي السياسي الذي كان الفلاسفة ماركس ونيتشه وغيرهما يعيشون وسطها ويتأملونها – ليس بالمستغرب ان يعلن ماركس راية الجديد في وظيفة الفلسفة قائلاً: " لقد أزفت الساعة كيما تغدو الفلسفة؛ فلسفة للعمل, ويغدو حزب الفكر حزبا التقدم" في خضم هذه العملية الناشطة من الحراك الاجتماعي الاقتصادي السياسي الذي كان الفلاسفة ماركس ونيتشه وغيرهما يعيشون وسطها ويتأملونها – ليس بالمستغرب ان يعلن ماركس راية الجديد في وظيفة الفلسفة قائلاً: " لقد أزفت الساعة كيما تغدو الفلسفة؛ فلسفة للعمل, ويغدو حزب الفكر حزبا التقدم" هكذا اذن على شاطئ القرن التاسع عشر ترسى سفينة الفلسفة لتفرغ حمولتها الثقيلة من المشكلات الميتافيزيقية العتيقة, وتفتح ابوابها امام الاسئلة الجديدة التي تطرحها المشكلات التاريخية المتحدمة, في اتون الاحداث الواقعية للعصر الجديد.اذ ذاك لم تعد الفلسفة تبحث في "الماهية" وحقيقة المثل الافلاطونية, وليست "النظر العقلي بالمبادئ الاولى والاسباب الاولى ارسطو, كما ان البرهان الانطولوجي لوجود الله كف عن كونه مشكلة فلسفية, ولم تعد مشكلة الجوهر اللامتناهي, التي شغلت الفكر الفلسفي الحديث من ديكارت حتى هيجل, موضوعاً للفلسفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أميركية على مستوطنين متطرفين في الضفة الغربية


.. إسرائيلي يستفز أنصار فلسطين لتسهيل اعتقالهم في أمريكا




.. الشرطة الأمريكية تواصل التحقيق بعد إضرام رجل النار بنفسه أما


.. الرد الإيراني يتصدر اهتمام وسائل الإعلام الإسرائيلية




.. الضربات بين إيران وإسرائيل أعادت الود المفقود بين بايدن ونتن