الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فقط لأسمع حبيبة بابا

هدى توفيق

2022 / 6 / 12
الادب والفن


تمنيت كثيرًا أن أتعرف على الأستاذ ، والناقد الكبير، والأب الروحي الدكتور عبد المنعم تليمة، وكان ذلك منذ أن كنت في الجامعة ، وأسمع عن حكايات الصالون الشهير ، الذي يقيمه في منزله كل خميس منذ سنوات طويلة ؛ حتى استطعت رؤيته عام 1995م بعد حصولي على الليسانس الآداب ، وكنت لا أزال أعيش في مسقط رأسي محافظة بني سويف ، ولا أذهب إلى القاهرة إلا لقضاء ضرورات مهمة ، ولم يكن هناك مثل الآن كل الوسائل الحديثة للإتصال غير الهاتف المنزلي أو السفر إلى المكان مباشرة في الدقي (محافظة الجيزة) ، وإن كنت لا أعرف بالضبط أين هو؟ ؛ لأحضر الصالون الشهير كل خميس في منزل أستاذنا ؟ حتى قررت في يوم ما المجازفة ، والاتصال على هاتفه المنزلي بحياء وخشية من مجرد التحدث مع أستاذنا الفاضل.
آلو : صباح الخير دا منزل الدكتور تليمة ؟
آلو : أيوه نعم .. يضحك .. أنا الدكتور تليمة.
ـ فرحت وبهت ، وقلت بتلعثم : أيوه يادكتور. أنا هدى توفيق من مدينة بني سويف ، وبكتب قصص قصيرة ، وبحاول أكتب الرواية ، وكنت عايزه أحضر الصالون ، ونفسي قوي أشوف حضرتك.
ـ طبعا طبعا حبيبة بابا .. تعالي فورًا الخميس القادم. أنتظرك ، وغير الصالون أنا تحت أمرك لمتابعة كل ما تكتبيه في أي وقت ، ودا العنوان بالتفصيل.
ـ شكرًا شكرًا شكرًا يادكتور بجد. دي كانت أمنيه والله ليه.
ويضحك ضحكته الشهيرة:
ـ في انتظارك حبيبة بابا.
ظللت لسنوات طوال أسافر من مدينتي لأحضر الصالون الذي يبدأ تقريبا في السادسة مساءً، وقبل حلول الساعة الحادية عشرة أو الثانية عشرة على الأكثر. أنهض بملل وفتور ؛ خاصة عندما لا أستطيع أن أبقى لأستمتع بنهاية نشوة الأحاديث والجدال بين المحدثين ، وحديث الدكتور تليمة حتى ألحق وسيلة مواصلات تقلني إلى الموقف عائدة سعيدة مبتهجة ؛ لأني كنت في حضرة صاحب الابتسامة والوجود الطاغ بتفائله ومرحه ؛ الذي يشحن طاقتي بحب وأمل وبهجة في المستقبل. وعندما توثقت علاقتي بالصالون. بحس بديهي ينظر لي من بدء ارتباكي واستعدادي للرحيل ، وينهض بنفسه ، ويذهب إلى المطبخ بهدوء وخفة ويعود بزجاجة مياه ، وتفاحة حمراء كبيرة ، أو باكو شيكولاته ضخم ، ويدفسهم في حقيبتي سريعًا ، ويسلم علي ، ويحييني كأني شخص مهم قائلاً :علشان لو تعبتِي من ارهاق السفر تديكي طاقة ياحبيبة بابا. ويستطرد بسبابته :
ـ وخلي بالك من الملاحظات اللي قالوها على القصة الجديدة.
ثم تشاء الظروف الشخصية والأقدار سواء من هموم الحياة ، أو السفر خارج مصر أن أنقطع عن متابعة الصالون لفترة من الوقت، وأتذكر عبارة حبيبة بابا ، فأشتاق لها جداً ؛ فأعود إلى الاتصال به من حين لآخر في حالة تعذر الذهاب إليه ، من خلال التليفون المنزلي : ( 37610149) ؛ الذي أحفظه في ذاكرتي ، ولم أستعمل غيره كوسيلة للتواصل، رغم انتشار الموبايل.
لأكثر من عشرين عامًا حتى أخر اتصال به للإطمئان عليه كان في شهر يناير2017 م . فيصرخ بي ويقول : ـ حبيبة بابا .. إنتِ فين ، وإيه أخر كتاباتك. حبيبة بابا لازم أشوفك ، وأطمئن عليكِ.
وفي إحدى المرات السابقة لزيارته قمت بطرح مسودة روايتي الأولى بيوت بيضاء ، لكي يعطيني موعد للنقاش واللقاء من أجل أي ملاحظات من جانبه ، وأنا صامتة ومنصتة وخائفة ؛ حتى يُفاجئني بعد الحوار والجدل ومناقشة كل شئ في العمل بورقتين مدون بهما كل الملاحظات، وأسطوانة قائلًا لي بابتسامة وهدوء : اذهبي بها فورًا إلى الناشر، وكلمة الغلاف إهداء مني. وفي ذاك اليوم الذي لن ولم أنساه ، وأنا أستعد للذهاب يستوقفني ، ولا يقل لي حبيبة بابا كما تعودت. و فجأة يشير بسبابته ببعض الحدة الممزوجة بحنية ونصيحة ثمينة: هدى لا أريد فقط أن تحبي وتستمعي بالكتابة. بل أريد لك أن تصبح الكتابة مشروع حياتك القادم.
ابتسمت بوجل أمرخطير شعرت به في نبرة حديثه ، وقلت بجدية وحماسة كما حدثني بها ، وهل هناك فرق أستاذي ؟
فقهقه كعادته ، وربت على كتفي :
ـ طبعا حبيبة بابا سأخبرك في المرة القادمة. إلحقي وقتك حبيبة بابا .. يلا.
ثم في عام2010م طلب مني الأستاذ (عمرو رضا ) رئيس تحرير مجلة الثقافة الجديدة في ذاك الوقت. إعداد ملف كبير عن الدكتور تليمة ، وتم انجازه في عددين كامليين في المجلة ،
وتتوالى الأيام والسنوات ، وأتعمد من حين لآخر بسبب انشغالي في أمور الحياة والكتابة؛ فلا يتاح لي فرصة الذهاب للإطمئنان عليه والتحدث معه دائماً. أن أقوم بالإتصال هاتفياً فقط لأسمع : حبيبة بابا عامله إيه ؟ وإيه أخبار الكتابة الجديدة ؟
ومهما أخبرته أنني أصدرت هذا العام كتاب جديد. يضحك عاليًا قائلاً بمزاح :
ـ أعرف حبيبة بابا ، لكن أسأل عما سيكون القادم. إوعي تنسي دا مشروع حياتك.
وهو لا يدرك أن أيضا من مشروع حياتي أن أسمعه كلما هاتفته تليفونيًا ، أو قابلته يقول لي : حبيبة بابا ؛ التي لن أسمعها مطلقا بعد الآن ، وأبكي بكاءًا مريرًا من لعنة الفقدان ، لتفوهه حبيبة بابا.

مارس / 2017م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما


.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟




.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما


.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى




.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا