الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بازل لزهرة الخشاش - رواية - 30/20

أحمد عبد العظيم طه

2022 / 6 / 12
الادب والفن


............ وقلتُ في نفسي: أنا لا أحب خسارة أحد من الناس، ولكن أحدًا من الناس لابد أن يفهم أنني لا أحب الخسارة كذلك، وحسمًا أعتقد أن أحدًا ما سوف يتفهم موقفي جيدًا..؟
.............................................................................. فريد

- متى الزمان؟!..
- أثناء المكان...
- أين المكان؟؟...
- بالإنسان يا أخي.. بالإنسان.
- تقفية!..
- اللعنة.......
- ......الوهمي

*******

شاطئ قصر سراج أبو غالب

... أمسح العرق الغزير، في حين كنت أرقب مغرب الشمس من إحدى فتحات المشمع المهترئ تحت خوص العريشة، وكنا قد انتهينا من النزول بالحفر إلى ما يتجاوز المتر ونصف عمقًا بعرض مترين، وكان ذلك ما قد حصل مجهودًا فائقًا من الجميع، فعلى الرغم من كون أرض الزريبة طينية – بعد تنظيفها – إلا أن مادتها تبدو كثيفة مخضلة، وبدت لكأنها لا تنفد أثناء الحفر.. وكذا مرة قال لي سليم – كبير إخوته: عنّوو. محاولا إمساك الكوريك الذي أعمل به، فكنت أبعد يده مربتًا بصمت، ومصرًا على مواصلة العمل إلى أن أتوقف مع الجميع...

- ......................
- .............
- أبوكم راح يفتح قصر سراج ابو غالب يا عيال.. هنتسبح هناك (كان أحد أبناء سليم يتكلم إلى إخوته بينما يطوح المقطف بمرح في أفق الزريبة)...
- أول ما نروح هناك حيقولنا ارجعم انتم اتسبحم فـ التُرعه وابقى اتبَّع كلامي...
- اشمعنى؟ هيرجعكوا ليه بعد ما شقيتوا الشقا دا كله؟
- ... (أبناء سليم ينظرون إلى بعضهم البعض بابتسامات صبيانية خبيثة فلا يتكلمون)...
- أصله يخص ناس مهمين وحبايبه من زمن الزمن.. ممكن يفتح للعيال دولي أي قصر تاني لما يعوزم يتسبحم إلا دِه مبيفتحوش غير لو حد عزيز عليه جاله مـ العراق مطرح لما كان شغال هنـ..... (شعبان يستفيض بالشرح وقد بدأنا التحرك في أعقاب الشيخ زهدي وأنيس نوح، بينما أبناء سليم يتبعوننا ولا يقاطعون عمهم شعبان بكلمة)
- ................
- .........................................

هي كانت قصور بالفعل كلما مررنا من أمام بوابة ضخمة بلسان الوزراء، والمنطقة بأسرها تبدو تحفة جيوجرافية هكذا بمدخل الليل...

كان هناك صفًا متقاربًا من أشجار الكافور الضخمة على الطرف الآخر من الشارع – خلف أعمدة الإنارة الليلية العاملة بكفاءة– هذا ما جعل بوابة قصر سراج أبو غالب تبدو فارعة الهيبة – مقارنة ببوابات القصور المحيطة – ليس لكونها هرمية الشكل، عظيمة الارتفاع، ولا لأن حديدها مغلف بإطار خشبي من ألواح الأرو – به شغل أرابيسك غاية الفنية والروعة – فقط كانت أشجار الكافور الضخمة المتقاربة من خلف أعمدة الإنارة العاملة بكفاءة، تعكس غموضًا وجوديًا رهيبًا على جسد البوابة...
وعندما تأخرت عن شعبان خطوة قال لي: والله ما يحصل. فدخلت أولاً...

- تقدر تقولي واحد زي حشمت فهيم جباره على سبيل المثال هيستفيد من دا إيه يا هندسه؟
- لا أطمح أن أفيد أحدًا.. ولكنه الفن على أية حال يا أخي!...
- لاااا إصحى يا هندسه.. حشمت فهيم جباره لازم يقول انه استفاد أي حاجه.. مثلا يقول: انا استفدت من قرايتي للمكتوب إني ممشيش فـ الضلمه لوحدي بعد كده.. أو يقول: انا عرفت ان الوزرا ليهم لسان قصور مبنيه على شط البحيرات المره وبعـ.....
- ...............................
- .........

حديقة القصر كانت تظهر مهملة جدًا – حتى على هذا الضوء الأغبش لمصباح البوابة – فالكثير من الهيش يعلو حول الأحواض الخاوية من غير نباتات الرجلة والزربيح والحشائش السوداء، أيضًا كان الهيش يخترق الأجزاء المبلطة بالحجر في مواضع كثيرة، خاصة حول قواعد النوافير المهجورة وحمام السباحة الفارغ، القذر.. وعلى مبعدة لاحظت ما بدت أنها فوهة بئر، لكن لم يكن هناك شادوفًا ينتهي بدلو!... ليست بئرًا.. فبعد عدة خطوات متقدمة من هذه الزاوية ظهر باب بالدائرة الحجرية...

*******
متن الصوت

الصوت الصوت، يا هذا الصوت، فإنه الصوت، يا الصوت، الصوت، الصوت، فالاحتفاء يكون بالصوت فموجبًا للصلاة بالكون – كسداد المدين للدَيْن – فيا كون يا كون، يا الكون وكون الشيء كائنًا كالكون، ومظهر العدم المحيط باللون، يا صوت الحنجرة بالهزج، وحنجرة المكتوب بالظن، وصلة السماء بالأرض، والحر بالحر، والقن بالقن، يا فن، أيا فن، ألا أنك من فناءٍ والصوتُ باق.

*******

كلاريبل – من جامايكا – تجري معي نحو كيلومتر ونصف، من الشاليه حتى أول الممشى الحجري.. ثم توقفنا نلهج وافترشنا السور.. دار بيننا كلام حول ماري وكم هي بريئة وعصبية في آن واحد، وكيف أن المحليين يستغلون ذلك في مضايقتها فعلاً.. و.....
كنت أشتهي كلاريبل بوضوح – ومن الأكيد أنها كانت تلاحظ تلك النظرات الفجة إذ يبدو انتشاءها أنثوياً طاغيًا أثناء الحديث – فهذا الاسمرار الخلاسي المدمج بملاحة نشطة، يندر وجوده محليًا إلى درجة كبيرة. كان لابد أن يقدر سلمي – بائع المخدرات – ما وقع بين يديه بصورة مناسبة... فريد....................

- بالطبع قالت لك أنها تفكر في ترك العمل.
- نعم.. قالت...
- وما رأيك؟
- هذا شأنها.. فقط أنا نصحتها بالتفكير جيدًا قبل اتخاذ أية قرارات
- أعلم أنك تحبها.. right؟.. تحبها؟
- ........ لا أدري.. but نعم...
- هي تحبك كثيرًا.. أنا أستشعر هذا..
- ................
- .....................

*******

.. كان العدد آخذاً بالتزايد، وشقة مارتن الجديدة بالفلكي تتسع بكثير عن القديمة، فالصالة وحدها تبدو كشقة كاملة، خمنتُ أنه أراد ذلك بغرض التوسع التبشيري الذي بدأت علاماته تهل بالفعل.. آي نعم يوجد ستة أجانب– أربعة ذكور وأنثيين – ولكن يوجد ضعفهم تقريباً من المحليين – سبعة ذكور وأربعة إناث– والذين تتراوح فئاتهم التصنيفية ما بين أصدقاء عاديين لمارتن، وطلبة بالصفوف التي يدرس لها بالـ British council... فقط أنا أعرف من الحضور رائف، وماري، ورمزي، وقطعًا مي التي أحضرتها معي للمرة الأولى على سبيل فك الاكتئاب الذي تتعرض له كلما أفلست، أو أضاعت صيدًا...

سارت الأمور بالشكل المعهود، من التعريف بفائدة التأمل حتى في حال عدم الاعتقاد بمصدره، إلى التنويه العام بالمراحل المتعاقبة تأمليًا ولغويًا، إلى الـ....
لاحظت أنه قد تكون ما يشبه المساعدين لمارتن، فهناك فتاة وثلاثة رجال ينظمون المكان، والمسافات، ويوزعون الوسائد، كما يعينون البعض في إتقان كيفية الجلوس الصحيحة وذلك بتمثيلها أمامهم..
بعد مرور ما يناهز النصف ساعة، صرتُ أستشعر بجلاء مدى تأفف مي التي تقبع عن يميني، وقد بدأت تمسح شعرها، وتتقوس في جلستها متلفتة.. لذا تمنيت ألا تطول هذه الطقوس تحسباً لردة فعل متوقعة، تتمثل في قيامها المفاجئ، وتنفيض بنطالها الجينز بعصبية لتسوية الكسرات، و... هذا ما جري حقيقة، مما أدى إلى اختصار إجباري لمراحل الـ meditation قام به مارتن مبتسماً بعد هذه اللفتة غير المتوقعة..........

- رائف
- مي
- أهلاً وسهلاً
- أهلا بيك
- أنا حقيقي بشكرك على الفورتينه دي.. بجد كنت مخنوووق.. يمكن أكتر منك كمان...
- أي خدمة (قالت مي منتشية ومبتسمة)
- بس ياريت مارتن ميكونشي زعل... (قلت أنا زاغرًا لمي)
- معتقدشي.. هو عارف إن نص اللي قاعدين جايين يتفرجوا وبس.. انا عن نفسي من اللي جايين يتفرجوا... (قال رائف مدافعًا بأقصى ذكائه)
- وهو إيه لازمة دا كله أساسًا.. مش لو شاي وجاتوه كان يبقى احسن. (مي)...
- ......................
- ............................
- .........................................

تركتهما متوجهًا نحو الشرفة، وقد بدا أن هناك تفاعلاً ما سيطرأ عما قريب.. وهذا ما أراحني التفكير به، فهو إن حدث سيزيح عن كاهلي مسؤولية بالغة، وهي نفسية مي السيئة، ومادياتها المجهدة بعد تركها العمل في مكتب المحامي، النتن جدًا على حد قولها............

كان اللغط الذي يصنعه وجود عدد كبير من الناس قد صار إلى خفوت، بعد أن غادر البعض تباعًا، مما أفسح للمتبقين عددًا وافرًا من المقاعد، والجلسات الثنائية، والثلاثية....
تبعني رمزي إلى حيث كنتُ أقف، وبدأ حديثاً سمجًا عن جودة ذوقي بالحريم، ومَن هذه الحتة الملفوفة، و............

- خد بالك رائف ده حُرمجي وممكن ياكلها منك.. دا ابن حرام انا عارفه.. مره كانـ......
- هي.. بذات نفسها.. عارفه ان مفيش بيني وبينها حاجه.
- .... يعني إيه؟
- متشغلشي بالك...

تحركت باتجاه مارتن، وأنا أستشعر عينا رمزي تكادان تشعلان جمجمتي من الغل – اصطدمت بسيدة ترتدي الكثير من الحلي وقلت لها آسف – وقلتُ له يا مارتن شديد السماحة عسى ألا تكون صديقتي قد أثارت بداخلك ضيقاً.. فأجاب أنه لا أبدًا، وأنه معتادٌ على تصرفات طريفة كهذه، تصدر عادة عن الوافدين الجدد.. ثم... لقد أباغته بسؤال بدا لي وأنا أصيغه – فيما بين الرأس والحنجرة – أنه سيجعله يتزحزح قليلاً عن تلك السماحة المفرطة...

- إنت مش خايف مـ الحكومه يا مارتن؟
- اللي حوكوما ميش موهم.. أنا ميش عمل حاجا ديد اللي كانون.. بس اخاف من ناس اكتر
- يا رايق.......
- ...................

انضمت إلينا ماري حاكية لمارتن عن شيء، لم تسعفني أذني المجتهدة على تحصيله كما ينبغي، ولكنه يخص عملهما في المركز البريطاني بشكل أكيد... رحتُ أنظر مكان عينيها، فتصطدم حدقتاي بحدقتها كلما التفتت بناحية. تلك الحركة الأولية لاصطياد الطابية بلعبة الشطرنج... الشطرنج؟.. شطرنج!.. منذ زمن لم ألعب هذه اللعبة الرهيبة، لعبة الاستحواذ على رقعة الأرض، بلونيها، الخير والشر، حينما تشعر أنه لا دور لانتماءك في اختيار اللون الفائز...

غبت أتذكر الدور الخالد بيني وبين توفيق صهيب، حينما أجبرته على أن يفكر لثلاثة أيام في نقلة واحدة.. لقد قدم الفيل حتى مشارف الحصان، ولكنه لم يأكله، إذ الحصان لحمه شديد المرارة إذا هو استوفى حياة وزيرك عبر نقلتين من الخصم... وأعتقد أنني أذهن تدريجيًا نحو مادتي.. نحو الأفكار، أو التفكير– لا أستطيع فصلهما بمعنيين ولا حتى على سبيل المصدر والاشتقاق – فالشطرنج.. الشطرنج.. خامة رائعة للغياب بتفاصيل اللعبة – التفكير – إذن يكون الشاطر هو من لا يتوه يا أخي، ولا يتماهى كلية مع الرقعة، فيصير مربعًا منها أيًا كان لونه، ليس للمربعات دور غير وطئها أيها الحصان.. نعم أنا أكلمك أنت أيها الحصان الوضيع، ولست أحدث الفيل الثقيل.. أيها الذي ليس لك دور خالد معي.. و... ششششــ.. كن مؤدبًا، لا تدع أعصابك تفلت مرة واحدة.. أنا لم أربكِ على غرس أنيابك كلها دفعة واحدة.. أين الحصافة في تدبير الأمور، وملاطفة القطعة، وإنهاكها حتى النهاية، بجعلها حرة حتى النهاية، ثم قل لي هنا: أين النهاية؟ ما الذي يـ...........

- مش نمشي بقى؟
- لا أفهمك يا أخي.

*******

العصور الوسطى

الأمور تجري – أو قد تكون كذلك بالفعل/ تجري حقيقة – باضطراد مريع، حتى أن الكائنات أولية الصيغة قد صارت نوعًا معتبرًا– أي يلقى له اعتبارٌ ما– ما بين بقية الأنواع، فاستطال قوامها الهلامي، وتفلطحت أجفانها بما يكفي لإبراز الأعين جاحظة، مشدوهة للرؤية، عصابية الحركة بالعديد من أوقات الذروة...
ذلك ما أثمر كثيرًا في زيادة معدلات النتح الحيوي بالرواية، ونتيجة فقد أسفر الأمر عن تمدد الغلاف الجوي المُظهر لمثلثات الأجرام السماوية، فتباينت المسافات تبعًا لعلاقة حسابية بين كمية الضوء وعدد الأبصار المسلطة/ أي أنه/ كلما زادت الكمية/ قل العدد/ انفلتت المسافة المندفعة/ أصبح الجرم وحيدًا...

* ملحوظة:
ربما وردت الفكرة بالسابق أو بالآتي من القطع، ولكن ليس بذات التوقيت.

- حدد موقفك من الفضاء اللانهائي...
- أحترمه.
- الإجابه كده تروح للنهائي مش اللانهائي.. أنا قلت اللانهائي يا أخي!.
- أحبه وأعبد الله خالق كل شيء.
- ومين يسدقك يا حزين؟..
- ليس محوريًا أن يصدقني أحد.. لكن هب أنه أنت يا أخي.
- وانت تفتكر يعني انه كفايه واحد لوحده يصدقك؟ (مدرسية إلى حد الابتذال هذه العبارة يا أخي)
- ما عدا الواحد فهو مصنوع.. ونحن اثنان كما ترى بنفسك.
- معاك معاك.. المصيبه ان كل واحد معاه واحد فعلاً.
- أرى حتمية ولا أرى مصيبة.. لولاي ما سمعت ولولاك ما تكلمت.
- يعني من الآخر مفيش حد بيخترع حاجه.. كله بيكتشف بس.. بيكتشف وخلاص..
- هذا دقيق...
- امال انت واكل دماغنا ليه كده ومدرمغ الدنيا فبعضها بتهيؤاتك اللي مفهاش ولا أي ابن لزينه من أصله وعمال كل شويه تقول وتنسى تقول وتنسى وبعدين تروح كاتبلي و.... يا فرحتي بالـ وا بتاعتك ديًا يا أخي...
- ماء...
- ياخي فكنا بقى من أم العته المغولي ده.. الحكايه مش مستحمله الهراء والخوته دي كلها فلقت تلاتين دماغ اللي جابونا هنا يا أخي..
- عجين...
- .................. (صار يتكلم بيديه المتوترتين مما يشي بأنه سيَخمش إذا لم يجابهه الصمت)...
- ................................................................. الصمت
- ...cut..............................
- .................

*******
ما خفي

هو أعظم بكل يقين نابع من جوهر النفس الإنسانية الثقيلة – كتماسيح النيل عظيمة الثقل بما تبتلع مرة واحدة – وقد أتى الإخفاء كضرورة لوجستية – عسكرية في بعض المواقع– من متعلقات الرواية.. فلا يجوز لأحد غير كاتبها الاطلاع على هذه الأنفاق والخنادق والتحصينات ذات الطبيعة الحرفية المباشرة الخطرة جدًا، فهي على الحدود التي تمتلئ بمناوشات احتمالية يمكن تمريرها، فقط على سبيل احتواء الأزمة... وإشاعة الهدوء الحر، والذي يتوافق مع انتشار سلام لا يستهان به أبدًا.. ولا يهان له موثقا، ولا ميثاقاً يا أخي...

*******
زهرة الخشخاش

الخوف.. كيف يأتي الخوف؟ وأين يبدو ظاهرًا؟ ولِم ينكص الأصل؟ خاصة إذا ما كان العالم صائرًا إلى الأبدية معجونًا بهذا الخوف/ execration. إنه – الخوف – يختلف جذريًا عن تقدير الجرم – أو الذنب براوية أخرى – فالمجرم هو أشد العارفين بتسميته، كذلك المقدرين لما قام به فاستحق إقامته بالجريمة. لذا فستجد أن سارقي المتاحف يُثمَّنون غاليًا عن بقية اللصوص، إذ هم غالبا مدركين لما يستولون عليه من شيء، ومن الجائز جدًا ألا يُطرح الأصل بعد سرقته، ولو بعشرة أعوام، فقط تقديرًا لقيمته، وارتفاعًا بمكانته، ذلك أن تنساه النشرات الإخبارية، ويصمتُ الدهماء عن ذكره، فعندئذٍ لا يتذكر مثل هذه الجرائم، غير أولئك الذين يودون اقتنائها/ المجرمون...

*******

الليلة، رأس السنة، وباكر يولد العام الجديد، وكانت مدرسة الوحدة الابتدائية مطلة على الترعة في أقصى زراعات قرية تتبع مركز ومدينة البلد، كذلك كان الغفير سمري صاحبنا يطل علينا من فتحة صاج البوابة قبل أن يفتح محاذرًا لأن يكون الصرير صاخبًا. دلفنا ثلاثتنا وصوت قعقعة الزجاجات بالكيس الأسود قد جعل الغفير سمري مبالغاً بترحابه، حتى أننا صرنا نشرب إلى أن انتصف الليل، ثم خرجنا نحملق بالعام الجديد...
برحلة العودة، أصر سمري الغفير على التمشية – الطبقية – برفقتنا حتى الطريق السريع – ثم والعودة وحده!– كنا نسير بالطريق الإسفلتي المحاذي للترعة – كانت الترعة جميلة – والتي تعكس صفحتها ظلال أشجار السيسبان.. التوت.. ضوء القمر.. شبح الساقية المهجورة على البر الآخر – ورأيت نجمًا يسقط – وعبر هذا الجمال المنبسط للتطوح والضحك الصاخب كنا قد استطلنا المسافة بالبرد المشتد حثيثاً – كلما جن الليل– فاتفقنا على أن نختصر من بين الزراعات...

بغتة تظهر مقابر القرية، وقد صرنا نجر أقدامنا بعسرةٍ جراء كمية الطين التي جمعتها نعال الأحذية – وكانت عدة معارك صغيرة بكرات الطمي قبالة النباح، قد جرت فيما بيننا وبضع كلاب بلدية من التي تجلس أمام المنازل القليلة كل عدة فدادين – وبغتة تظهر مقابر القرية...

توقف سمري الغفير للتبول.. وقد بدا أنه يريد إثبات نوعًا من الجرأة الرخيصة بالتبول أما مقابر، غير أننا لم ننتظره وأكملنا السير مبتعدين بلا مبالاة ثم... صرخة.. صرخة طويلة مشروخة بحيث تخترق مسمعيك جبرًا.. كانت مرعبة للأنفس بهذه الأجواء الليلية ذات السكون المطبق على أقل تقدير.. هي – الصرخة – شقت الهواء إلى نصفين على خلفية من حفيف البرسيم ونقيق الضفادع والأزيز المتصل لحشرة الغيط... غير أنها لم تكن صرخة الغفير سمري الذي انكب على وجهه بين أقدامنا على أثر اندفاعته المرتعبة... لقد أتت من مساحة المقابر.. من قلبها تمامًا.. كانت حنجرة امرأة.. وقد بات الغفير سمري شيخاً.. زاهدًا بالحياة الدنيا.. حتى وفاته.. أمس الأول.

*******


فيما تحمل اللغة

هل من الممكن أن تتعدد الخطابات بعبارة واحدة؟..
ومن المؤسف أنني كنت كثير المسائلة، مما يدعو أحياناً إلى الملل متبوعًا باستخفاف مفتعل، أو الكراهية ومحاولة تملص تكاد تكون استحالية – حتى من بعد أن يرحل الشخص نحو ذاته – خاصة إذا ما كان نوع الإجابات المنتزعة، يتعدد بتعدد مستويات تختلف باختلاف أعماق ذويها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد