الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عِبءُ الإثباتِ في الحوار الفلسفي على أيٍّ من الطرفين يقعُ عبء إثباتِ قضيّةِ: وجود الله / عدم وجود الله؟ - - الفصل الأوّل

عادل عبدالله

2022 / 6 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


عِبءُ الإثباتِ في الحوار الفلسفي
على أيٍّ من الطرفين يقعُ عبء إثباتِ قضيّةِ:
" وجود الله / عدم وجود الله؟ "

الفصل الأوّل:
عِبءُ الإثبات،
معناه، أصلُه القانوني، و تحوّلاتُ استخدامه الفلسفي


يُجمعُ الفلاسفةُ و رجالُ القانون و الباحثون المعنيون في دراسة و تقعيد مفهوم " عبء الإثبات " أنّ المصطلح في أصل استخدامه، صيغةٌ قانونية تلجأ اليها المحاكم للفصل في القضايا المتنازعة عليها، سبيلاً للانتصاف لحق أحد الطرفين المتنازعين على الآخر. غير أنّ هذا الأصل القانوني لا يعدم اللجوء الى المفهوم نفسه وسيلةً للبتّ في عدد واسع من القضايا الفلسفية و العلمية التي يجري الاختلاف فيها و عليها، يقول Peter Murphy في دراسة له تستلزم استحضار هذا المفهوم الجديد للمصطلح " يشير هذا المفهوم إلى المسائل القانونية، ولكنه ينطبق أيضًا و يصلح للعمل في مجالات أخرى من المساعي الإنسانية مثل الفلسفة والعلوم"
في سياق التعريف بالمفهوم نفسه عند حدود استخدامه القانوني، تقول JULIA KAGAN " عبء الإثبات هو معيار قانوني يتطلّب من الأطراف إثبات انّ الزعم صحيح أو غير صحيح بناءً على الحقائق والأدلة المقدمة. عادة ما يكون عبء الإثبات مطلوبًا من طرف واحد في الدعوى، وفي كثير من الحالات يكون الطرف الذي يقدم الدعوى هو الطرف الذي يجب أن يثبت أنْ المطالبة صحيحة ويتحمل عبء الإثبات."
أمّا السياق الفلسفي لاستخدام المصطلح نفسه فيردُ من الإشارة إليه في الـ Wikipedia ما يلي " عبء الإثبات (باللاتينية: onus probandi، هو التزام على طرفٍ في نزاع، لتقديم ضمانٍ كافٍ لموقفه. عندما يكون هناك طرفان في نقاش ويدّعي أحدهما زعماً يُنكره الآخر، فإنّ الشخص الذي يقدّم المطالبة يتحمل عادة عبءَ إثباتٍ لتبرير هذا الادعاء أو إثباته، على الأخص عندما يتحدى الوضع الراهن المتصوَّر... في حين أنّ أنواعًا معينة من الحجج، مثل القياس المنطقي، تتطلب أدلةً رياضية أو منطقية تمامًا، فإن معيار الدليل للوفاء بعبء الإثبات يتم تحديده عادةً من خلال معايير واتفاقيات السياق والمجتمع. و يمكن أنْ يتحوّل الجدل الفلسفي إلى جدلٍ حول من يتحمل عبء إثبات ادّعاءٍ معين. وقد وُصف هذا بأنه "عبء التنس" أو "لعبة العبء"
قدرَ تعلّق الأمر بقضية الحجاج في وجود الله، يمكنُ القولُ، إنّ تحليلاً لعبارات تعريف الموسوعة لـ " عبء الإثبات " يسفر لنا عن موقفين متعارضين، إذْ يُعدّ أحدهما لصالح موقف الملحد، فإنّ الموقف الآخر يمكن عقده لصالح المؤمن. من حيث أنّ عبارةً مثل " الشخص الذي يقدّم المطالبة، يتحمّل عادة عبءَ إثباتٍ لتبرير هذا الادعاء أو إثباته" قد تعني أنّ المعني بهذا الشخص هو " المؤمن" الذي يدّعي أنّ الله موجود، و من هنا فإنّ عبء إثبات هذه القضية يقع عليه.
أمّا عبارات مثل " على الأخص عندما يتحدى الوضع الراهن المتصوَّر." أو " إنّ معيار الدليل للوفاء بعبء الإثبات يتم تحديده عادةً من خلال معايير واتفاقيات السياق والمجتمع" فهما عبارتان يمكن عقدهما لصالح المؤمن، بسببٍ من أنّ " الوضع الراهن المتصوَّر" هو : أنّ الله موجود، و أنّ من يتحدى هذا الوضع هو الملحد، و من هنا فإنّ عبء الإثبات يقع على المتحدي.
و كذا هو الحال مع فهمنا لعبارة " الدليل للوفاء بعبء الإثبات يتم تحديده عادةً من خلال معايير واتفاقيات السياق والمجتمع" من حيث أنّ " معايير و اتفاقيات السياق والمجتمع" تميل الى ترجيح فرضية وجود الله، لذا فإنّ الوفاء بتقديم عبء الإثبات سيقع في حالة كهذه على من يخالف هذه معايير و اتفاقيات السياق و المجتمع، و هو الملحد بلا شك. غير أنّ فهمي الخاص لهذين النصّين، لا يمثل كلمة الفصل في معناهما، إذْ أنّ هناك من يعتقد بأن عكس الموقفين هو الصحيح، أيْ أنّ المؤمن هو الذي يتحدى الوضع الراهن، و أنّ معايير وسياقات المجتمع تميل الى الإلحاد و ليس الى الإيمان، كما سيتوضّح ذلك كلّه في سياق البحث.
مع ذلك لا بدّ لنا – من أجل فهم كامل منصف يحسم الجدال في هذه المسألة - من تقديم هذا العرض المفصّل لقضيّة " عبء الإثبات " في سياقاتها غير القانونية، أيْ في سياقيها الفلسفي و العلمي، لتحديد على أيّ من الطرفين المتنازعين – المؤمن و الملحد - يمكن أنْ يقع عبء الإثبات، و قدر تعلّق الأمر – حصرا – بحوارهما في قضية وجود الله أو عدم وجوده، و هو أمر يستدعي منا – أولاً و قبل الخوض في التفاصيل – أنْ نضع تعريفاً محدداً لما يمكن أنْ تعنيه مفردة أو مصطلح " افتراض" في بعض المعاجم المعتمدة، و على النحو التالي:
في قاموس وبستر، يرد معنى الافتراض بوصفه: موقفاً أو معتقداً تُمليه الاحتمالية: و هو أيضاً: الأساس أو السبب أو الدليل الذي يعطي احتمالية للاعتقاد.
في قاموس كولن: الافتراض هو شيء يتم قبوله على أنه حقيقي ولكن ليس من المؤكد أنه صحيح.
أنا مضطر إلى تقديم الكثير من الافتراضات لأنني لا أعرف حقًا أي شيء عن القضية.
المرادفات: افتراض ، رأي ، اعتقاد ، تخمين
إذا وصفت سلوك شخص ما بأنه افتراض ، فأنتَ لا توافق عليه، لأنّه يفعل شيئًا ليس له الحق في القيام به.
أحسبُ الآن أنّ السياق قد أصبح مؤهلاً للتعرّف على بعض الدراسات التي تبحث في موضوعنا على نحو تفصيلي.

عبء الإثبات: أمثلةٌ و تحديد مسؤولية
بيتر مورفي: لا أحدَ مستثنى!
مرّ بنا القول: إنّ حجّةَ الملحدين البالغة في نسبة عبء الإثبات الى خصومهم من المؤمنين، و إعفاء أنفسهم من مسؤوليته، تتأسس على قاعدة منطقية سليمة – من وجهة نظرهم - هي: أنّه لا يمكن لأحدٍ إثبات النفي أو إقامة الدليل على شيء غير موجود . غير أنّ مثل هذا الفهم ينطوي على مغالطة صريحة مفادها الخلط بين القضايا المنفية نفياً نحويّا من جهة، و القضايا المنفية نفياً منطقياً من جهة أخرى، من حيث أنّ نوع القضايا الأخيرة، يمكن أنْ تكون مثبتةً هي الأخرى و على نحو قاطع من خلال معنى صياغتها، كما سنوضّح ذلك من خلال طائفة من الأمثلة التي يستحضرها بيتر مورفي لهذا الغرض، إذْ يقول:
" يحمل كلُّ بيانٍ أو تصريحٍ إيجابي عبء الإثبات، وعلى الرغم من أنّ الملحدين العقائديين ينفون أنْ تكون التأكيدات الخاصة بهم خاضعة لهذا الشرط المنطقي الأساسي للحجج، إلّا أنّ الحقيقة هي: لا أحدَ مستثنى."
مضيفاً على سبيل الفهم الكامل للمعنى " لا يعني عبء الإثبات، خارج سياقه القانوني، إثبات شيء يتجاوز ظلال الشك و لا يدع مجالاً له، انما يعني مسؤولية تقديم أسباب لموقف المرء. "
بعبارات شارحة للنصّ الأول: كلّ بيانٍ أو تصريح إيجابي يتحمل بالضرورة مسؤولية عبء اٌثباتٍ، فالقول مثلاً: إنّ ساعتي اليدوية مقاومة للصدمات، عبارة إيجابية، يتعيّن عليّ إثبات مقاومتها للصدمات لمن يُنكر عليّ ذلك. أمّا قول الآخر بأنّ ساعتك ليستْ مقاومة للصدمات فينبغي عليه هو الآخر أنْ يثبت ذلك، كأن يخرج مطرقة صغيرة من حقيبته و يعمل على تحطيمها بضربة واحدة.
ومعنى هذا، أنْ لا أحدَ منّا نحن الإثنين معفوٌ أو مستثنى من تقديم دليله على ادّعائه، على الرغم من أنّ عبارتي يمكن عدّها إيجابية، و أنّ عبارة محاوري يمكن عدّها منفية أو سلبية. و معنى هذا أنّ كون العبارة تتّبع صيغةّ النفي أو السلب في بنائها النحوي، أيْ كونها سلبية من هذه الناحية، لا يعني أنّ صاحبها لا يريد إثباتها أو هو مستثنى من ذلك، إنّما يعني أنّ عبء الإثبات يقع عليه هو الآخر متمثلاً ذلك بإقامة الدليل على أنّ ساعتي اليديوية ليستْ مقاومة للصدمات. الأمر الذي يعني – قدر تعلّقه بوجود الله أو عدم وجوده – أنّ الطرفين معاً مطالبان بتحمّل عبء إثباتهما لما يدّعيان. كما سيتبيّن ذلك بالتفصيل لاحقاً.
أمّا معنى النصّ الثاني فهو: إنّ عبء الإثبات، خارج سياقه القانوني، أي في سياقه الفلسفي مثلاً " لا يعني إثبات شيء يتجاوز ظلال الشك و لا يدع مجال له، انما يعني مسؤولية تقديم أسباب لموقف المرء " بعبارة أخرى تؤدي المعنى نفسه: في قضيّة فلسفية كالحوار في وجود الله مثلاً، لا يمكن تقديم أدلةٍ قاطعة تتجاوز ظلال الشكّ، لا لصالح هذا الوجود، و لا ضدّه، إنّما يعني مسؤولية تقديم أسباب مرجّحة و مبررة لموقف المرء، سواءً أ كان هذا الموقف لصالح وجود الله أو ضدّه، الأمر الذي يعني أنّ أيّا من الطرفين غير مستثنى من تقديم أسباب اعتقاده بهذه المسألة، أو بعبارة أخرى، أنّ كلا الطرفين مطالب بتقديم عبء إثباته من خلال عرض أسبابه المرجّحة لتبنيه هذا الموقف، ومعارضته لموقف خصمه في الحوار.
و ليس يخفى هنا، أن معنى ذلك كلّه: أنّ موقف الملحد من إعفاء نفسه من قضية إقامة الدليل على عدم وجود الله بدعوى أن القضايا السلبية لا يمكن إقامة الدليل عليها، موقف غير صحيح و لا يمكن للذريعة التي يدّعيها أنْ تبرره.
يقول بيتر مورفي:
"من المهم أنْ ندركَ أنّ البيان الإيجابي يتضمن صياغة البيان وليس العبارة الإيجابية في الصياغة. على سبيل المثال، ينطبق عبء الإثبات بشكل متساوٍ على شخص يذكر أن الصيغة الرياضية صالحة، بنفس القدر الذي يقول فيه شخص آخر انها غير صالحة.
في حالة كهذه، يجب أنْ يكون مؤيّد proponent الصيغة الرياضية قادرًا على إثباتها رياضيًا، ويمكن لمعارض opponent الصيغة أنْ يثبت أنّ الصيغة معيبةٌ و غير صحيحة من خلال إظهار أنّ البرهان غير صحيح.
المثال البسيط الذي يوضّح ذلك هو: ادعاءُ شخصٍ أنّ 18 عددٌ أولي - العدد الأولي هو رقم لا يقبل القسمة إلا على نفسه و على1-
في حالةٍ كهذه، يجب على المؤيّد إثبات أنّ 18 لا يمكن تقسيمه إلّا على 1 و 18 ؛ بينما يمكن للخصم أنْ يثبتَ بسهولة أنّ 18 قابلة للقسمة على 1 و 2 و 3 و 6 و 9 و 18. "
لضمان فهمٍ صحيح كامل لقضية تحمل مسؤولية عبء الإثبات في القضايا الفلسفية و العلمية، يقدّم مورفي طائفة متنوّعة القصد و المعاني من الأمثلة، أجد من المفيد جداً التعرّف عليها، و على النحو التالي:
مثال 1) يقول أحدُ المشككين أنّه غيرُ مقتنعٍ بحدوثِ الانفجار العظيم Big Bang.
الرد: المشكك "غير مقتنع " وليس لديه عبء إثباتٍ، لا لإثبات حدث الانفجار العظيم و لا لدحضه، إنّما هو غير مقتنع فحسب. في حالةٍ كهذه، يمكن لمؤيدي نموذج Big Bang تقديم دليل علمي لإظهار أنّ هناك توسعًا خارجيًا للكون وأن التلسكوبات الراديوية تلتقط إشعاعًا في الخلفية يتوافق مع فكرة الانفجار العظيم.
هنا يعرض مورفي فكرة غاية في الأهمية لفهم موضوعنا، يقول:
" ملاحظة: لم يقل المشكك، أنْ ليس هناك حدوث لانفجارٍ العظيم ، إنّما قال فقط: أنه غير مقتنع بحدوثه. غير إنّ الشك لا يعني الإدلاء ببيانات إيجابية تشير إلى أن الأشياء موجودة أو غير موجودة. جوهر قضية المتشكك هو التشكيك و السؤال فحسب، وليس القول بأنّ الأمور ليست كذلك. و لقد كان سقراط مثالا ممتازا للمشككين."
و من هنا فهو غير مطالبٍ بتحمّل عبْء إثباته لما قاله، لأنّه لم يقل، إنّ الاتفجار العظيم قضيّة علميّة زائفة لا حدوث حقيقي لها، إنّما قال فقط، أنه غير مقتنع بحدوثه.
و من الواضح القول هنا: إنّ موقف الملحد من قضية عدم وجود الله لا يشبه موقف المشكك من حدوث الانفجار العظيم، و معنى هذا، أنّ قول الملحد يُعدّ قضية إيجابية حتّى و إنْ بدتْ صيغتُها سلبيةً نافيةً لوجود الله. ذلك، لأنه لم يقل أنه غير مقتنع بوجود الله، كما قال المشكك بحدوث الانفجار العظيم، أنّه غير مقتنع بحدوثه، و هو أمرٌ يعفيهما معاً من تحمّل مسؤولية تقديم عبء الاثبات، إنّما قال: إنّ الله غير موجود، تماما كما قد يقول المشكك، إنّ الانفجار العظيم لم يحدث، مما يعني أنّهما معاً يؤخذان بجريرة الحُكم نفسه، أيْ أنّ عليهما معاً – في حالةٍ كهذه – أنْ يتحملا مسؤولية تقديم عبء إثباتٍ لزعمهما.
مثال 2) لنفترض أنّ هناك من يؤيد قضية: انّ الأرض مسطحة، أيْ أنّها ليست كروية.
الرد: من الواضح أنّ مؤيد الأرض المسطحة قد أدلى ببيان إيجابي يفيد بأنّ شيئًا ما ليس حاله هكذا. على هذا النحو، يقع عبء الإثبات عليه، ليقدم أسبابه لرفض فكرة أنّ الأرضَ كروية.
ملاحظة: إنّ مؤيد قضية الأرض مسطحة، لم يصرّح فقط أنه غير مقتنع، أو أنه لا يؤمن بكروية الأرض، إنّما صرّح بأنّ الأمر لم يكن كذلك. على هذا النحو، يضع نفسه تحت طائلة عبء الإثبات، لشرح أسبابه في الاعتقاد أنّ الارض مسطحة و ليست كروية. مع التأكيد أنّ أية محاولة من جانبه للتهرّب من مسؤوليته في شرح أسبابه ستُعتبر بحق بمثابة تضليل فكري.
في هذا المثال الثاني الذي قدّمه لنا مورفي، ثمة قضيةٌ غاية في الأهمية لم يُشرْ لها الباحث على نحو واضح، و هي: أنّ المُنكر لقضية " كروية الأرض " يمكن له أنّ يقدّم اعتراضه على كروية الأرض بطريقتين مختلفتين:
إحداهما سلبية، كقوله: إنّ الأرض ليستْ كرويّة.
و أخراهما إيجابية، كقوله: إنّ الأرض مسطحة.
و معنى ذلك، أنّ الصياغة النحوية للعبارة التي يُفهم منها معنى النفي أو الإثبات، ليست هي مدار البحث و موضع الاحتكام في تحديد مسؤولية عبء الاثبات، من حيث أنّ كلتا العبارتين – رغم اختلاف صيغتهما و توزعهما بين النفي و الاثبات – يحمّلان صاحب العبارة مسؤولية عبء الإثبات. مما يعني أنّ كلتا العبارتين – الأرض مسطحة، و الأرض ليستْ كروية – يحملان معنى التأكيد الإيجابي لقضية المتحدث المُنكر، الأمر الذي يؤدي الى القول أولاً: إنّ عبارةً ما قد تحمل معنى التأكيد الإيجابي حتّى و إن كانت طريقة صياغتها سلبية. ثم يؤدي الى القول من بعد: إنّ عبارة مثل " الله غير موجود " هي عبارة إيجابية، يتحمل صاحبها عبء الإثبات، حتّى و إن بدتْ صيغتها سلبية نافية.
مثال 3) يقول الخَلْقي - أي الذي يؤمن بنظرية الخلق الإلهي للكون - إن نظرية التطور هي هراء غير علمي.
الرد: أدلى الخَلْقي بتصريح مؤكّد، أنّ شيئًا ما هو هراءٌ غير علمي. على هذا النحو، يقع عبء الإثبات عليه ليقدم أسباب رفضه لنظرية التطور.
ملاحظة: لم يصرح الخَلْقيُّ فقط، بأنه غير مقتنع أو لم يؤمن بنظرية التطور، إنّما كان تصريحه عنها، أنها مجرد هراء غير علمي. على هذا النحو ، يضع نفسه تحت طائلة عبء شرح كيف يمكن لنظرية التطور أنْ تكون : غير علمية و أنها هراء؟
في خلاصة لما قدّمه مورفي في بحثه من أمثلةٍ، يقول:
الآن، كما يمكن ملاحظته من الأمثلة المذكورة أعلاه، إنّ التصريح الايجابي يمكن صياغته ليظهر سلبيا. و إن القول بأنّ المرء لا يؤمن بشيء ما، ليس هو القول نفسه: بأن شيئًا ما غير موجود أو أنّ شيئًا ما موجود.
و هكذا: إنّ العبارة التي تفيد المعنى بأن "الله غير موجود" ليست هي العبارة نفسها التي تقول "أنا لست مقتنعًا بوجود الله".
من حيث ان التصريح الأول يحمل عبء الإثبات لتقديم الأسباب الشخصيّة لهذا الرأي؛ أما التصريح الآخر فلا يحمل مثل هذا العبء.
لذا، إذا كان عبء الإثبات يعتمد دائمًا على أولئك الذين يؤيدون القول، إن شيئًا ما موجود، فسيتعين على هؤلاء الأشخاص دائمًا الدفاع عن أنفسهم ومعتقداتهم. مثال ذلك:
صاغ نيوتن الفرضية التي ستصبح قانون الجاذبية، وكان هو الذي يحمل عبء الإثبات لشرحها. إذا صرح أحد منتقدي نيوتن بأنه غير مقتنع بوجود مثل هذا القانون ، فإن ذلك الناقد لا يخضع لالتزام عبء الإثبات. من ناحية أخرى ، إذا قال ذلك الناقد لنيوتن إن قانون الجاذبية Gravity غير موجود، فإنه قد أخذ عبء الإثبات على عاتقه لتقديم أسبابه. و سيكون من الظلم وغير المنطقي - في الحالة الأخيرة - التأكيد على أنّ نيوتن هو الوحيد الذي يجب انْ يتحمل عبء الإثبات و انّ منكر الجاذبية معفو من ذلك، أيْ من تحمّله لعبء إنكاره قانون نيوتن.
في خلاصة أخرى لبحثه، إذْ تمنح المُنكرين لوجود الله فكرة لصالح موقفهم، تعلّق هذه الفكرة و تشترط صحتها بملازمتها لفكرة منطقية أخرى عنوانها " برهان الخُلْف " يقول مورفي:
" على الرغم من أنه لا يمكن لأحدٍ إثبات أنّ شيئًا ما غير موجود" و هذه هي الفكرة التي يمكن عقدها لصالح موقف الملحدين، أمّا الفكرة التي تعدّ بمنزلة مخرج لهذا الموقف فهي : يمكن للمرء - في حالٍ كهذا، أيْ في حال إصرار المرء على دحض فكرة وجود شيء ما - أن يدحض refute أو على الأقل يفند rebut النظرية القائلة بوجود شيء ما من خلال إظهار عيوب تلك النظرية بشكل منطقي عبر صيغة - برهان الخُلْف -.
على سبيل المثال، إذا أطلق منكر الجاذبية قطعة من الرخام لم تسقط على الأرض ، فسيكون ذلك دليلًا على أن قانون نيوتن للجاذبية كان معيبًا.
ملاحظة : ينص برهان الخلف على انّ : اثبات فساد قول الآخر، يدل على صحة قولي. أو بعبارة أخرى، تخص صلب موضوعنا: إنّ فساد القول بعدم وجود الله، يثبتُ القول بوجوده.
أمّا عن أهمية الالتزام بتقديم عبء الاثبات في القضايا غير القانونية، أي في القضايا الفلسقية و العلمية و حتّى قضايا الحياة اليومية المعاشة، فيمكن إجمالها على النحو التالي، يقول مورفي: ضع في اعتبارك مدرّسًا يصحّح ورقةَ الرياضيات الخاصة بالطالب ويضع علامة "X" على حل يقترحه الطالب. الآن سيكون من غير المعقول افتراض أنّ المعلم ليس لديه عبء الإثبات لشرح المشكلة وتقديم الحل الصحيح.
تخيّل كيف يمكن أنْ يتراجع كلُّ شيء ليصبح غير منطقي عندما يتم اعتبار كل عبارة تدّعي شيئًا ما غير صحيح، من دون انْ يثبت خطأها. في حال كهذا لن ينتهي الإنكار أبدًا. اعتبر هذا في شكل رمزي. أيهما أكثر منطقية؟
شكل تجنب الجدل او الحجاج :
يقول A : H غير موجود / A موجود.
K: لماذا تقول أن "A" غير موجود / موجود؟
H: لستُ مجبرًا على دعم أسبابي لقولي إن " A " غير موجود / موجود.
(تنتهي المناقشة)
من الواضح أن H غير ناضج وغير منطقي.
ملاحظة: كما يتضح من هذا الشكل من الحجة، نظرًا لأنّ H قد أخذ على عاتقه الإدلاء ببيان إيجابي (مع أو ضد شيء ما) ، فليس من غير المعقول أنْ نتوقع منه أنْ يقدّم أسباب بيانه.
الشكل الصحيح للجدال:
A: R غير موجود / موجود.
S: لماذا تقول إن "A" غير موجود / موجود؟
R: إليكم أسبابي:
أ) …
ب) …
ج) ...

(المناقشة في هذه المرحلة لديها فرصة للاستمرار حيث يوجد تبادل للأفكار). في هذه الحالة ، يكون R ناضجًا ومنطقيًا.
في نهاية بحثه، بشير مورفي الى شيوع ظاهرة تمسّك الملحدين بمبدأ إعفائهم من عبء الإثبات في قضية الحوار مع المؤمنين عن وجود الله، قائلاً:
يرفض الملحدون العقائديون قبول المطالب المترتّبة على مواقفهم وليس يحتاج المرء سوى زيارة الإنترنت لرؤية فيلقاً من مواقع الملحدين الاعتذارية لتي تزعم بأن عبء الإثبات لا ينطبق عليهم.
إذا استغرق المرء وقتًا لزيارة مواقع تعليمية محايدة، فسوف يرى أنّ من يُصدر البيان الإيجابي لصالح أو ضد شيء ما، يحمل عبء الإثبات.
مع ما تقدّم كلّه، يبقى هناك سؤال مهم، ينبغي علينا طرحه، مفاده: ما مدى صحّة تمسّك الملحدين بالعبارة التي تقول: إنّ القضايا السلبيّة لا يمكن إقامة الدليل عليها؟ هذا ما سنجيب عنه من خلال فصلٍ قادمٍ مخصص لهذه الغاية.

كريستوفر مارتن ثومبسون: عبء الإثبات في قضية وجود الله.
مع كلّ ما عرضناها من معانٍ مهمّة مفصّلة لعبء الإثبات، على الأخص في القضايا غير القانونية، أجدُ أنّ إضافات الباحث Christopher Martin Thomson في دراسته المعنونة " عبء الإثبات في الحِجاج المعتاد ON THE BURDEN OF PROOF IN ORDINARY ARGUMENTATION و المقدمة بوصفها أطروحةً لنيل درجة الدكتوراه، هي نوع إضافاتٍ لا يمكن الاستغناء عنها و صولاً للتعريف الأفضل و الأكمل و الأكثر قدرة و دقّة على استيعاب تمام معنى عبء الإثبات في القضايا الفلسفية، و هو التعريف الذي وضعه بنفسه، و ربّما يكون مردّ اعتقادي بأهمية التعريف مُفسّراً لسببين، الأوّل منهما هو: أنّ الباحث كان يضع في ذهنه قضية الحوار في وجود الله لحظةَ وضعه لهذا التعريف، أمّا الآخر فهو: رفضه لأيّ تعريفٍ من شأنه أنْ يحمّل المؤمنين بالله وحدهم مسؤولية تحمّل عبء الإثبات، و يعفي الملحدين – في الوقت نفسه - من ذلك. بل أنّ هذا السبب الأخير هو الذي دعاه لاختيار موضوع " عبء اثبات" أطروحة أكاديمية من دون غيره من الموضوعات.
دعونا نصغِ الى الباحث Christopher Martin Thomson و هو يروي لنا قصة اختياره لموضوع اطروحته، و مضمون تعريفه :
في مستهل أطروحة الدكتواره التي تقدّم بها الى جامعة نورنتو الكندية و التي كان عنوانها " ON THE BURDEN OF PROOF IN ORDINARY ARGUMENTATION " أي " عبء الإثبات في الجدال المألوف " يقول الباحثُ: " أزعم في هذه الأطروحة أننا بحاجة إلى نهج فلسفي لموضوع عبء الإثبات، لأنه ينطبق – أيضاً - على حالات الجدل العادي. و أقرّ بأنّ عبء الإثبات: هو الالتزام المشروط بتوفير أسس داعمة لفعل الكلام الحازم الذي يتضمن تأكيدًا، أو حقيقة توضّح أو تُنكر تأكيدًا يتحمّله المتحدّثُ تلقائيًا عندما يؤدي فعل خطاب حازم بكفاءة.. القضية التي أناقشها في الفصول التالية لفتتْ انتباهي منذ عدة سنوات في شكل بيانٍ أدلى به أحدُ أساتذتي. كان البيان، أنّه في المناقشات حول مسألة ما إذا كان الله موجودا أم لا، فإن المؤمن هو الذي يجب أنْ يتحمّل عبء الإثبات. إنّ هذا الوضع هو بمنزلة اقتراح، أنّ من وظيفة المؤمن أن يثبت للملحد أن الله موجود، وليس العكس.
على الرغم من أنّه لم تكن لديّ أي مشكلة في استيعاب الفهم الأساسي لهذا القانون في المرة الأولى التي سمعتُه فيها، فإن ما لم أفهمه على الفور هو السبب الذي يكمن خلف هذه الملاحظة بالذات. في محاولة لفهم هذا الاستنتاج، ذهبتُ إلى متابعة الدروس الخصوصية التي يجريها هذا الأستاذ.
خلال الدرس الخصوصي، سألت أستاذي لماذا يجب أنْ يتحمّل المؤمنُ "وحده"عبء الإثبات في النقاش الإيماني؟ فكان ردّه هو، أنّ تأكيد عبارة تم إلقاؤها بصيغة السلب الشامل (لا إله موجود) هي مهمة صعبة، مقارنةً مع المهمة البسيطة نسبياً و المتمثلة في تأكيد بيان يُلقي في شكل ايجابي وجودي خاص كـ (يوجد الله أو "الإله").
على الرغم من أنّ هذا الطرح أقنعني لفترة، أصبحتُ في شكّ أخيرًا من فاعلية تفسيرٍ يعتمد فقط على نظرة بصيرة حول الشكل المنطقي للتصريح فحسب."
تعريف عبء اثبات إذن، وفقاً لصياغة الباحث: هو الالتزام المشروط بتوفير أسسٍ داعمة لفعل الكلام الحازم الذي يتضمّن تأكيدًا، أو حقيقة توضّح أو تنكر تأكيدًا يتحمّله المتحدّثُ تلقائيًا عندما يؤدي فعل خطاب حازم بكفاءة.
أمّا لماذا أعدّ هذا التعريف هو الأفضل و الأكمل، فضلاً عمّا تمّ بيانه، فلأنّه يلغي الامتياز المعقود للملحد بعدم تحمّله لعبء الإثبات في حوار مع المؤمن عن وجود الله، بدعوى أنّ نفيه لعدم وجود الله يَمثُل بوصفه " قضيّةً سلبية "ً و أن القضايا السلبية لا يمكن إقامة الدليل عليها، مستبدلاً وضع الملحد هذا، بوضعٍ جديد آخر مفاده: إنّ عبارته التي تحمل معنى السلب لا يعوّل عليها في إعفائه، لأنها – أي عبارته السلبية – عبارة حاسمة مؤكّدة لمعناها السلبي وهو، عدم وجود الله. أو فقاً لعبارة الباحث: إنّ عبارته تتضمن معنى " حقيقة تُنكرُ تأكيداً يتحمّله المتحدث تلقائياً بوصفه مؤدّياً لفعل خطابٍ حازم بكفاءة"
يمضي الباحث قُدما في بيان أسباب قناعته بوجوب تحمّل المؤمن وحده لعبء الإثبات، فيقول: بأخذنا حقائق معينة حول المفهوم اليهودي- المسيحي لله، لقد بدا لي أنّ تأكيد بيان حول وجوده، حتى في شكل وجودي إيجابي، قد يكون قابلاً للمقارنة من حيث صعوبته في تأكيد نقيضه المعبّر عنه على نحو شامل."
و معنى هذا، أنّ الصعوبة التي تحدّث عنها أستاذه و التي كانت تخصّ جهة الملحد وحده، في عدم قدرته على إثبات القضايا السلبية، قد يكون المؤمن مشمولاً بها أيضا من حيث صعوبة إثباته لقضية وجود الله، و من هنا فإن ذريعة إعفاء الملحد – بدعوى الصعوبة – لا قيمة حقيقية لها.
و لبيان معنى العبارة الإيجابية، يقول ثومبسون: إنّ الإيجابي يجب أنْ يؤخذ هنا بكل تاكيد، ليعني أنّ العبء يقع على عاتق الشخص الذي يؤكد بشكل إيجابي، وهذا هو التأكيد. لا يمكن أنْ يتجنّب المرء عبء الإثبات بالقول: إنّ سام غير متزوج ولكنه يتحمله بالقول، إنّه أعزب، لمجرد أنّ القضية الأولى سلبية نحويًا بينما القضية الاخرى إيجابية - مثبتة من ناحية النحو أيضا.
مضيفاً، كوسيلة لإعادة توجيه تفكيرنا بشأن هذه النقطة، يقترح Cargile ما يلي: تتمثل إحدى الردود في الانتقال من فكرة مثبتة نحويًا إلى فكرة تكون مثبتة منطقيًا أو واقعيا عندما يتم التعبير عنها بلغة منطقيًة كاملة و متقنة.
قد يقال أحيانًا، إنّ الشخص الذي يقدم ادّعاءً مخالفًا للرأي المتلقى contrary to received opinion هو من يقع عليه عبء الإثبات.
مضيفاً: من منظور فعل الكلام، يعتمد السؤال حول مَنْ يجب أنْ يتحمّل عبء الإثبات في النقاش الإيماني على أفعال الكلام الحازمة التي يقوم بها كل جانب. إذا كان المؤمن يؤكد أنّ الله موجود، فإنه يتحمّل مسؤوليةً إثباتية ليكون جاهزًا وراغبًا وقادرًا على تقديم أسس داعمة، إذا طُلب منه القيام بذلك، فهو ملزم فعليًا بتقديم الأسباب الداعمة. إذا كان الملحد يؤكد أنّ الله غير موجود ، فإن المسؤولية المقابلة تؤول إلى هذا الموقف المركزي من القضية التي يدعيها أيضًا.
Trudy Govie تعريفٌ و نقد
في سياق بحثه، يستحضر ثومبسون نصّا تعرّف به الفيلسوفة الكندية المتخصصة في الحجاج المنطقي Trudy Rose Govie عبءَ الاثبات، هو " إن مفهوم عبْ الإثبات هو، الالتزام أو واجب المرء في دعم أو تعزيز مزاعمه " غير أنّ هذا التعريف الذي يبدو لوهلة أولى متماسكاً، سرعان ما تطهر لنا عيوبُه من خلال لحظة تحليلٍ تتولّى بيانها الأسئلة التالية، يقول ثومبسون مفنّدا و محللاً بنية التعريف:
من وجهة نظر عمليّة، يُعدّ هذا التعريف صالحًا يمكن استخدامه بشكل عام لتحديد مَنْ يجب أنْ يتحمّل عبء الإثبات في حالات الجدل العادية التي ذكرَتها جوفييه أعلاه. من وجهة نظر فلسفية، هناك بضعة أسئلة يمكنها استبعاد هذا التعريف لعبء الإثبات. أولاً: أيّ نوع من الالتزام أو الواجب هذا المشار إليه هنا؟ أ هو الواجب الأخلاقي ام هو الاحترازي، أم أنها مسؤولية من نوعٍ آخر بالكامل؟ ماذا نعني حين نقول إن المتحدث "يجب" أنْ يتحمّل أو يدلي بعبء الإثبات؟
ثانيًا ، ما هو نطاق هذا الواجب؟ أ هو مطلق أم مؤقت مشروط ؟ هل يتعيّن على أيّ شخص يدلي بزعمٍ ما انْ يقدّم ما يدعم ذلك الزعم؟
ثمة اقتراح هنا، بأنّ المجادلَ ملزمٌ تجاه شخص آخر، لكن من هو الاخر هذا؟ ربّما يكون المجادل ملزماً لجمهوره، أولئك الذين يتم تقديم الادعاء لهم من أجل النظر فيه.
يبدو هذا افتراضًا معقولاً يمكن استيعابه في هذه المرحلة. ربما تكون الإجابة الأكمل للسؤال عن: مَن ومتى ينبغي على المجادل انْ يقدّم الدعم لزعمه، أنْ تتضمن بعض الإشارات إلى توقعات جمهور المجادل. ربّما يحتاج المجادل فقط إلى دعم مزاعمه في تلك المناسبات التي يتوقع فيها الجمهور أو يَطلب منه أنْ يفعل ذلك.
هكذا تتهاوى بنيةُ التعريف التي بدتْ لنا لأوّل وهلة متماسكة رصينة. مع ذلك، ثمة عبارة مهمة جداً وردت خلال تفنيد ثومبسون لتعريف جوفيه هي " أيّ نوع من الالتزام أو الواجب هذا المشار إليه هنا؟ أ هو الواجب الأخلاقي ام هو الاحترازي، أم أنها مسؤولية من نوع آخر بالكامل؟"
أمّا أهمية هذه العبارة فهي ما يشير إليه و يحمل ثقله مفهوما " الواجب الأخلاقي " و " الواجب الإحترازي" و معنى هذا – على نحو عام، لأننا سنفصّل هذه المسألة لاحقاً – أنّ الجانب الابستمولوجي – المعرفي، لا يمكن النظر إليه بوصفه الجانب الوحيد الذي يقود و يوجّه و يعيّن مسؤولية عبْ الإثبات في حوار المؤمن و الملحد، إنّما هناك جانبان آخران يفرضان نفسيهما و لا يمكن لحُكمٍ عاقل منصف إلّا أنْ يضعهما في الاعتبار خلال تعيين مسؤولية عبء الإثبات في الحوار نفسه، و هما " الواجب الأخلاقي " و " الواجب الإحترازي" كما سأوضّح ذلك في أمثلةٍ لاحقة.

- عبْ الإثبات: الأبعاد الفلسفية و النوايا المبيتة.
يمكن تلخيص الرسالةُ التي أوصلتها إلينا أطروحة ثومبسون، و كذا هي دراسة البرفسور "بيتر مورفي" في فقرة سابقة، على النحو التالي:
يقعُ عبء الإثبات – على حدّ سواء – على كلّ مَن يصرّح بعبارة إيجابية، أيْ مؤكّدة، سواءٌ أكانت صيغتها نفياً أو إثباتا، أمّا الذي لا يردُ معنى التأكيد في عبارته، فهو المرء الوحيد المستثنى من تحمّل هذا العبء.
مثال ذلك – كما مرّ بنا في دراسة بيتر مورفي– :
"ينطبق عبء الإثبات بشكلٍ متساوٍ على شخص يذكر أنّّ الصيغة الرياضية صالحة، بنفس القدر الذي يقول فيه شخص آخر أنّها غير صالحة.
في حالة كهذه، يجب أنْ يكون مؤيّد proponent الصيغة الرياضية قادرًا على إثباتها رياضيًا، ويمكن لمعارض opponent الصيغة أنْ يثبت أنّ الصيغة معيبة و غير صحيحة من خلال إظهار أنْ البرهان غير صحيح.
مثال ذلك هو : ادعاءُ شخصٍ أنّ 18 عددًا أوليًا - العدد الأولي هو رقم لا يقبل القسمة إلا على نفسه و على1-
في حالةٍ كهذه، يجب على المؤيّد إثبات أن 18 لا يمكن تقسيمه إلا على 1 و 18 ؛ بينما يمكن للخصم أن يثبت بسهولة أن 18 قابلة للقسمة على 1 و 2 و 3 و 6 و 9 و 18. "
أمّا الشخص الذي لا يتحمّل أيّ عبء إثبات في هذا القضية نفسها فهو الذي " لا يعرف " أو أنّه " غير مقتنع " أن العدد 18 عددٌ أوّلي أو غير أوّلي.
و مثل هذا الشخص "غير المقتنع" بأنّ العدد 18 عددٌ أوّلي، هو نفسه من حيث الموقف، ذلك الشخص الذي يصرّح – كما ورد في مثال آخر – أنّه " غير مقتنع " بحدوثِ الانفجار العظيم Big Bang.
و من هنا، و لأنّه مشككٌ أو "غير مقتنع " و لأنّ عبارتُه لا تؤكّد و لا تنفي حدوث الانفجار العظيم، إنّما هو غير مقتنع فحسب، ففي حالة كهذه لا يقعُ على عاتقه أيُّ عبء إثبات لمضمون تصريحه.
الحجج التي لا يمكن الفصل فيها.
في السياق نفسه، يمكن لسيناريو مثال آخر - قدّمه ثومبسون في أطروحته- أنْ يغني فهمنا لمعنى عبء الإثبات في السياق الفلسفي، مع التذكير أنّ أهمية هذا المثال تتأتى من خلال عرضه لنموذجين من الحوار الفلسفي، إذْ يمكن الفصل في إحدهما، يبدو أنّ من المتعذر أو الممتنع الفصل في الثاني، يقول ثومبسون في مثاليه:
في كل نزاع فلسفي سيكون ثمة ادّعاء مركزي يختلفُ حولَه المتنازعون. إذا تبنى المتنازعون مواقف مختلفة فيما يتعلق بهذا الادّعاء المركزي، فعندئذ يكون لدينا الدافع لحجة تسفر عن نتيجة. دعونا نبدأ بتخيل السيناريو التالي:
الكسندر في سنته الأولى في الجامعة. جوناثان طالب في السنة الثانية في نفس الجامعة. لم يقرر الكسندر تخصصًا بعد، وهو يأخذ دورات تمهيدية مختلفة، بما في ذلك مقدمةً عن الفلسفة. أمّا جونثان، من ناجية أخرى فهو متخصص في الفلسفة، ونتيجة لذلك، لديه بعض المعرفة حول هذا الموضوع.
في طريق عودتهم إلى مسكنهم من الجامعة، قرّر ألكسندر إجراء محادثةٍ مع جوناثان بالإشارة إلى موضوع مفاده:
الكسندر. هل تعلم أنّ هيوم كان مثاليًا؟
جوناثان: لا أعتقد ذلك، يبدو أنني أتذكر أنّ الفلسفة التي تعلّمتها قالت لي في محاضرة العام الماضي، إنّ هيوم كان تجريبيًا.
الكسندر. أنا متأكد من أنه كان مثاليًا.
جوناثان: حسنًا، سأعود لكتابي المدرسي القديم في المسكن، و لنبحث فيه عن المسالة عندما نصل إلى هناك.
الادعاء المركزي في هذه الحالة – يقول ثومبسون - هو ما إذا كان الفيلسوف ديفيد هيوم مثاليًا أم تجريبيًا. يعتقد ألكسندر، خطأً في هذه الحالة، أنّ هيوم كان مثالياً، جوناثان يخالف هذا الادعاء ويعطي سببًا لفعل ذلك. لحسن الحظ، كانت المشكلة يمكن تسويتها من خلال حجة ad rem التي تلائم الفصل في حقيقة موضوعية. ( ملاحظة الـ ad rem argument وفقا لهنري جونسنون هي الحجة التي يمكن تأكيد صدقها بالاحتكام الى الحقائق الموضوعية، مثل الحقائق العلمية )
في هذه الحالة، تمّ تسجيل الحقيقة الموضوعية محلَّ الخلاف في مصدر موثوق للحكم - كتاب الفلسفة المدرسي. ولكن لا يمكن الفصل في كلّ قضيةٍ بطريقة مباشرة مثل تلك الموضحة في المثال السابق.
تخيّل، مرةَ أخرى، أنّ نفس الطالبين قد عادا الآن إلى المسكن وأنّ موضوع الدين قد خطر في البال. مرة أخرى، قرر الكساندر بدء المحادثة بإعطاء جوناثان فائدة عن نظرته للموضوع ، فعمدَ الى التصريح التالي:
الكساندر: إذا سألتني، فلا أحدَ ذا عقلٍ سليم يعتقدُ بجديّةٍ أنّ الله موجود.
جوناثان: أوه، ... لا أعرف. أنا أعتقد على نحو جدّي بأن الله موجود، وأنا أعتبر نفسي ذا عقل سليم.
ألكساندر: أنا مندهش من أنّ شخصا مثقفًا مثلك يؤمن بوجود الله، لأنّه لا يوجد دليل جيد يدعم مثل هذا الموقف.
جوناثان: أعتقد أنّ هذا يعتمد على ما تعنيه بـ "الدليل الجيد". . .
الادعاء المركزي هنا – يقول ثومبسون شارحاً - هو: أنّه ما من أحدٍ له عقلٌ سليم يؤمن بجديّة أنّ الله موجود . يبدو أنّ ادّعاء ألكسندر يتضمّن المعنى، أن الله غير موجود، على الأقل قدر تعلّق الأمر به.
مرة أخرى، يتّخذ جوناثان موقفًا مخالفًا بشأن هذا الادعاء (والادعاء الضمني الذي يفيد معنى انّ الله غير موجود) فضلا عن القضية المساعدة لما يمكن اعتباره "دليلًا جيدًا" على ان الله موجود في القضية المثارة.
إنّ احتمالات أنْ يتمّ الفصل في هذه الحجة الخاصة، من خلال اللجوء الى طريقة ad rem argumen في الفصل بين الحجج المتنازعة، كما حدث في مثالنا السابق ، لا تبدو واعدة.
لنفترض أنّ كلا من الكسندر وجوناثان قارئان جيدان نسبيًا، وأنّ كليهما ذو عقل منفتح، لا يزال من الممكن أنْ يكونا قد واجها نفس مجموعة "الأدلة" وخرجا بتقييمات مختلفة لماهية "حقائق" الأمر.
كما ذكرنا سابقًا، هذه هي أنواع الخلافات العميقة التي يمكن أنْ تؤدي إلى وصول الجدل الفلسفي إلى نقطة لا يمكن حلّها.
قد لا يكون جوناثان أبدًا في وضع يسمح له بتقديم حجة قادرة على إقناع الكساندر بأن ادعاءه بشأن الإيمان بالله خاطئ أو أنّ موقفه من مسألة الإيمان بالله هو الصحيح.
إذا أخذنا المثال الثاني من الحجة في الاعتبار، يمكن توضيح هذه المشكلة بارتياح كبير من خلال طرح السؤال التالي: من هو المتنازع disputant المُلزَم بتقديم قضية ذات مصداقية للآخر لدعم موقفه من هذه القضية؟ هل ينبغي أنْ يكون جوناثان هو الشخص الذي يقدّم قضية ذات مصداقية لصالح الإيمان بالله إلى الكساندر، أمْ هل يجب على الكساندر أنْ يأخذ المبادرة ويجعل موقفه من القضية موثوقًا به لجوناثان؟ إنّ القضية تصبح شائكة على الاخص مع طرح السؤال الجوهري، "هل الله موجود؟"
أعني، تصبح القضية شائكة على نحو خاص عندما يتم استبدال السؤال الجوهري، "هل الله موجود؟" بالسؤال الإجرائي الذي يحل محله "هل هو المؤمن أم غير المؤمن، ملزم بتقديم قضية ذات مصداقية لصالح موقفه من هذه القضية؟
الحوار الفلسفي، مثال ثالث - أخير
في مثال ثالث يجري على سياق مثال ثومبسون، و يضعنا على أعتاب فهم مضمون الفقرة التالية، لنفترض أنّ ثلاثةَ أصدقاءٍ، هم " سعد و عامر و خالد" خاضوا في حوارٍ فلسفي، على النحو التالي :
سعد: إنّ كارل ماركس فيلسوف مادي.
عامر: كلّا، إنّ كارل ماركس فيلسوف غير مادي، إنّما هو فيلسوف مثالي.
خالد: أنا غيرُ مقتنع أنّ ماركس كان فيلسوفاً مادّياً، أو أنني لا أعرف ذلك.
في حالةٍ كهذه، يقعُ عبء الإثبات على كلّ من طرَفَي القضية " سعد و عامر " فحسب، حيث ينبغي على " سعد " أنْ يثبتَ أنّ ماركس فيلسوف مادي، مثلما ينبغي على " عامر " أنّ يثبت أنّ ماركس ليس فيلسوفاً ماديا، بغض النظر عن الصيغة المثبتة لقول إحدهما- ماركس فيلسوف مادي - و الصيغة المنفية لقول الآخر – ماركس ليس فيلسوفاً ماديا -
أمّا صديقهما الثالث خالد، و لأنّه "غير مقتنع" بأنّ ماركس فيلسوف مادي، أو لأنّه لا يعرفُ ذلك، فهو الشحص الوحيد المستثنى من تقديم عبء إثباتٍ على نوع تصريحه.
هذا هو الحال و الوضع المعرفي نفسه، ذلك الذي سنصادفه في مضمون فقرة فصلنا التالية المخصصة لعرض الخلاصة الكاملة – مع التعليق عليها – لدراسة تقدّم بها البرفسور SHOAIB AHMED MALIK عن المضمون نفسه، لكن من خلال مقدمات و مداخل جديدة، خلاصتها على وفق فهمنا لها:
أننا سنستبدل موقف الأصدقاء الثلاثة " سعد و عامر و خالد " من قضية ماركس، بموقف ثلاثة أشخاص، هم " مؤمنٌ، و مُلحدٌ، و لا أدري "
حيث يؤكد المؤمن: إنّ الله موجود.
و يؤكد الملحد: أنّ الله غير موجود.
أمّا اللا أدري فيقول: أنّه "غير مقتنع" بوجود الله أو أنّه "لا يعرف" إنْ كان الله موجوداُ أمْ لا.
في حالةٍ كهذه – و كما وضّح المثال السابق – فإنّ عبء الإثبات يقع على كلٍّ من المؤمن و الملحد على حدّ سواء، لأنهما معاً صرّحا بطريقة إيجابية عن مضمون اعتقادهما، أمّا الشخص اللا أدري، فلا يقع عليه أيّ عبء إثبات، لأنه ببساطة لم يؤكّد نوع تصريحه، من حيث أنّه " غير مقتنع" أو " لا يعرف إنْ كان الله موجوداً أم لا.
غير أنّ هذا الحال الذي بدا لنا فيه الملحدُ متحمّلاً لعبء الإثبات في مثالنا، يرفض الملحدون الاقرار به، أيْ أنهم يرفضون و على نحو قاطع أنْ يتحمّلوا أيَّ عبء إثباتٍ في قضية إنكارهم لوجود الله، بدعوى أنّ نوع تصريحهم يحمل معنى السلب، و أنّ القضايا السلبية لا يمكن إقامة الدليل عليها، و هو زعم غير صحيح، كما أثبتنا ذلك . مما يعني أنّ إجراء إعفائهم من تقديم عبء إثباتهم، قد يجدُ المسوّغ له في زعمٍ آخر، مفاده هذه المرّة، قاعدة "افتراض الإلحاد"
السؤال المهم الآن هو: من أين جاءت لهم فكرة الاعفاء الماكرة الجديدة هذه؟ وهل كان ذلك المفكّر الذي جاء بالفكرة – و هو انطوني فلو - يعني هذا الفهم الخاص المحدد لفكرته، أمْ أنّ سوءَ فهمٍ كبير و مضلل قد تمّتْ إضافته لفكرته من أجل أنْ تصبح شعاراً مركزيا غير قابل للدحض و المناقشة؟
هذه هي الأسئلة التي سأجيب عنها بالتفصيل – في الفصل الرابع، بعد تذكير القارئ الكريم أوّلاً، بأنّ صاحب الفكرة هذه، و هو الفيلسوف الإنكليزي أنطوني فلو Antony Flew ، كان أنْ نشرها في دراسته عام 1971 تحت عنوان " افتراض الإلحاد The Presumption of Atheism . أيّامَ كان ملحداً متشدداً، و أنه قد تراجع عن موقفه الإلحادي عام 2004 ليصبحَ مؤمناً مؤمناً مدافعاً عن وجود الله بحجج بالغة، كما سنتعرّف على كلّ ذلك في الفصل نفسه.
غير أنّ لهذه الفكرة ذاتها – كما أشرتُ في المقدمة - جذورها التاريخية التي سبق لعددٍ من المفكرين و العلماء طرحها بالمضمون العام نفسه – مع اختلاف عناصر التشبيه – و هو الأمر الذي سنتعرف عليه في الفصل الثالث تحت عنوان، " إبريق راسل"، لكن بعد أنْ أقول: إنّ السبب في اختيار دراسة فلو "افتراض الإلحاد" من دون غيرها من الأفكار الشبيهة السابقة، هو: أنّ تلك الأفكار كانت مجرّد آراء ترد في سياق النصوص فحسب، أمّا دراسة فلو، فقد كانت مخصصة بمضمونها كلّه لهذه الغاية حصرا، فضلاً عن القول بأنها الدراسة التي كانت أكثر تأثيراً في أوساط الملحدين من جهة، و موضوعاً للنقد من جهة أخرى.

شعيب أحمد مالك: صِلةُ الوصل بين " تعريفُ الإلحاد و عبء الإثبات"
سبق القول: إن مصدر فكرة تحمّل المؤمنين وحدهم لمسؤولية عبء الإثبات هو الفيلسوف الإنكليزي أنطوني فلو Antony Flew ، في دراسته المنشورة عام 1971 و المعنونة " افتراض الإلحاد The Presumption of Atheism.
على نحو عام مستمد من معاينة عميقة لمضمون دراستَي الدكتور شعيب أحمد، و دراسة فلو المعنونة "افتراض الإلحاد" يمكن القول: إنّ موقف الملحدين هذا و من ضمنهم موقف صاحب الفكرة، الفيلسوف الإنكليزي، موقف هشّ لا يمكن الدفاع عنه أو تبنّيه بقوّة، إذا ما تمّ فهمه على هذا النحو العام فحسب، أي من دون إضفاء عليه المزيد من الحجج أو القضايا الساندة المعززة له، و هذا هو الأمر الذي فعله انطوني فلو، حين عَمَدَ الى العبث ببعض المفاهيم العاملة المتصلة بموقفه، من أجل إضفاء نوعٍ من الشرعية عليه، متمثّلاً ذلك باللجوء الى عددٍ من الوسائل المبتكرة أو الوسائل التي لا مسوّغ حقيقي لها، أهمها: العبث في معنى البادئة – A – في مصطلح Atheism الالحاد، كما يشير الى ذلك البرفسور شعيب أحمد مالك، لكن من دون أنْ يذكر أنّ مصدر هذه الفكرة هو دراسة انطوني فلو التي أشرتُ إليها، بل من دون أنْ يذكر أيضاً – و هذه نقطة غاية في الأهمية – الفرقَ بين الكيفية أو السياق الذي وضعه أنطوني فلو لعرض أفكاره في دراسته " فرضية الإلحاد" من جهة، و بين نوع الفهم المضلل الذي أراده الملحدون لها من جهة أخرى، فضلاً عن تجاهله – و ربّما دون علم منه - بالمضامين نفسها تلك التي يتحدث عنها انطوني فلو في كتابه " ثمة إله " أعني حديثه عن الأفكار نفسها، بعد تحوّله من الإلحاد الى الإيمان، وهو الأمر الذي ساعرضه وأحواره بالتفصيل الدقيق في فصل قادم.
أمّا أهمية ذلك – كما أشرتُ – فهو: إنّ السياق الذي وردتْ فيه فكرةُ فلو عن تحمّل المؤمنين وحدهم لعبء الإثبات، لا يمكن أنْ يُفهم منه، إعفاء الملحدين من تحمّل عبْ إثباتهم على نحو مطلق أبداً، إنّما يُفهم منه معنى آخر، مشروط و محدد بدقة تامة، كما سنأتي على بيان ذلك، فضلاً عن القول، إنّ تراجع فلو عن موقفه الإلحادي و عن فكرته هذه، حدث واقعي جلل لا يمكن إهماله أو تجاوزه في أية مناقشة لاحقة يكون موضوعها " افتراض الالحاد " أو إعفاء الملحد من تقديم عبء إثباته في حوارٍ موضوعه " إثبات وجود الله "- و هذا ما سيتمّ بيانه بالتفصيل في فصل قادم.
أمّا الفكرة الثانية التي تحدّثتْ عنها الدراسة الرصينة للبرفسور شعيب أحمد مالك فهي: الخلط بين مفهومي الإلحاد المحلّي Local Atheism و الإلحاد العالمي Global Atgeism . من حيث علاقتهما بموضوعنا الرئيس و هو عبء الإثبات.
جدير بالذكر، أنّ الغاية القصوى من تلكما المحاولتين، أي العبث بمعنى البادئة – A – و ضرورة التمييز بين نوعي الالحاد العالمي و المحلي، هي أولاً: تعميم موقف الإلحاد و كسر القيود المحددة لمفهومه و تعريفه، من أجل أنْ يصبحَ التعريفُ أو المفهوم محتوياً، مستحوذا، و شاملاً لموقف اللا أدرية أيضاً، و هي من بعدُ: إنّ محاولة الخلط بين موقفي الملحد و اللا أدري، ستعفي الملحد من تحمّل ايّ عبءٍ لإثبات إدعائه من قضية عدم وجود الله، أسوةً بموقف اللا أدري المعفو سلفاً منها.
يقول الدكتور شُعيب مالك أحمد، مُدلّاً على هذه الغاية في بحثه " في هذه الورقة، أوضح كيف أنّ بعض الملحدين المعاصرين قد خلطوا بشكل إشكالي بين الإلحاد واللاأدرية (بقصد أو بغير علم). .. إن الخلط بين هذه المواقف تحت مصطلح "الإلحاد" يسيء توصيف اللاأدريين ويضخم منطقة الملحدين. في توضيح هذه المصطلحات، ساعرض كيف يمكن للفروق الدقيقة في البادئة - a- في مفردة الإلحاد atheism أنْ تكون قد ساهمتْ في هذه التسميات الخاطئة. أقترح أيضًا استخدام تصنيفي "الإلحاد المحلي" ‘local atheism’ و "الإلحاد العالمي" global atheism لتوضيح على من يقع عبء الإثبات في الخطاب. جديرٌ بالذكر: أنّ ملحدين مشهورين مثل ريتشارد دوكينز، سام هاريس، دانيال دينيت وكريستوفر هيتشنز، جنبًا إلى جنب مع الملحدين الأقل شهرة، قد عزموا أمرهم على أصدار عملة سياسية وفكرية تتحدى المؤمنين في جميع أنحاء العالم.
هذا العرض – الحوار مع الافكار التي تمت الاشارة لها، هو المضمون الكامل لهذه الفقرة من فصلنا الحالي، و هو ما سنعرضه على النحو التالي:.
في دراسةٍ للدكتور SHOAIB AHMED MALIK عنوانها Defining Atheism and the Burden of Proof يكشف الباحث عن الصلات الفلسفية الخفية لـمفهوم " عبْ الإثبات " بغيره من المفاهيم في سياق الحِجاج الفلسفي، و عن نوع الضمانات التي يسهم فيها لتحقيق المكاسب الإلحادية عن طريق ارتباطه بتلك المفاهيم الفلسفية العاملة في قضية الحوار نفسه، يقول الباحث في مقدمة دراسته:
"في هذه الورقة البحثية سأوضح أربع نقاط أساسية: الأولى منهن توفير الوضوح المفاهيمي للحدود بين الإلحاد والإيمان بالله واللاأدرية، و كيف أن بعض الملحدين المعاصرين قد خلطوا بشكل إشكالي بين الإلحاد واللاأدرية (بقصد أو بغير علم). بسببٍ من إن الخلط بين هذه المواقف تحت مصطلح "الإلحاد" يسيء توصيف اللاأدريين ويضخّم منطقة الملحدين."
جديرٌ بالذكر، أن محاولة الخلط بين مفهومي اللا ادرية و الإلحاد قد وردت هي الأخرى في دراسة الفيلسوف أنطوني فلو نفسها، أعني دراسته المنشورة في المجلة الكندية للفلسفة، وعنوانها: The Presumption of Atheism Author(s): Antony Flew Source: Canadian Journal of Philosophy, Vol. 2, No. 1 (Sep., 1972), pp. 29-46 إلّا أن المؤلف لم يشر لذلك على نحو صريح، مفضّلاً مناقشة الأفكار من خلال مصادر نقديّة أخرى.
"الثانية: بيان الطبيعة الدقيقة للبادئة - a- في مفردة الإلحاد atheism و بحث احتمال أنْ تكون البادئة قد ساهمتْ في هذه التسميات الخاطئة في الإلحاد و في الارتباك في تعريفه و تفريقه عن موقف اللا أدرية. "
و موضوع هذه الفقرة، قد ورد أيضاً في دراسة أنطوني فلو، غير أنّ المؤلّف فضّل مناقشته على وفق مداخل، أضاءتها مصادرُ نقديّة أخرى.
"الثالثة: بيان التطور التاريخي للإلحاد، وفي ضوء ذلك التاريخ ، أقترح التمييز بين الإلحاد المحلي local atheism’ والإلحاد العالمي global atheism، ’لتوضيح على من يقع عبء الإثبات في الخطاب."
النقطة الرابعة والأخيرة تتناول الالتباسات المحيطة ب "عبء الإثبات".
أمّا الضرورة لاستدعاء بيان هذه الموضوعات كلّها، فمردّها الى اعتقاد الباحث أنّ فهماً كاملاً لقضية نسبة عبء الإثبات الى أحد طرفي الحوار في الله يستلزم ربطه بهذه الموضوعات بوصفها مقدمات تؤدي إليه و تتكامل معه. وهو اعتقاد صحيح، بسببٍ من أن مصدر طرحها و هو انطوني فلو، قد ربط بينها من قبلُ، من أجل هذه الغاية نفسها.
وفقاً لهذا التصوّر، يشرعُ الباحثُ بتعريف كلّ من المؤمن و الملحد و اللا أدري، من خلال وضعها في كبرى المعاجم الإنكليزية، و على النحو التالي:
مؤمن، ملحد، و لا أدري Theist, Atheist and Agnostic- ما هو الفرق؟
من أجل فهم كامل لطبيعة الأفكار الأساسية التي يعرضها المؤلّف في دراسته، رأى أنّ من المهم جداً، التعرّف على طبيعة الفوارق الدقيقة بين هذه المصلحات الثلاثة، الأمر الذي استدعى منه استحضار تعريفاتها من أمّهات المعاجم اللغوية الانكليزية، و على النحو التالي:
أولاً: اللا أدري.
وفقًا لقاموس وبستر(MerriamWebster (MWD)، فإن اللا أدري هو "الشخص الذي يعتقد بصحة وجهة النظر القائلة: إنّ أيّ حقيقة مطلقة (مثل الله) غير معروفة وربما لا يمكن معرفتها؛ أمّا معنى المفهوم ذاته على نطاق واسع فهو: شخص متخفظ، غير ملتزم او غير معني بالإيمان بوجود أو عدم وجود الله أو الإله.
- في قاموس أكسفورد - النسخة الإنجليزية
يُعرِّف قاموس اكسفورد (OED) المصطلح ذاته بأنّه: الشخص الذي يعتقد أنه لا يوجد شيء معروف أو يمكن معرفته عن الأشياء غير المادية، ولا سيما وجود أو طبيعة الله.
أمّا قاموس كامبردج (CD) فيُعرّف اللا أدري بأنّه "شخص لا يعرف، أو يؤمن أنه من المستحيل معرفة وجود ألله.
تكشف هذه التعريفات، وإنْ كان مع بعض الاختلافات، أنّ اللاأدري هو شخصٌ ليس مؤمنًا ولا ملحدًا. اللاأدري هو الشخص الذي يظل غير مؤكد له الامر، وقد استمتع بكلا الخيارين، أو يعتقد أن وجود الله لا يمكن أبدًا أن يكون معروفا.
بمعنى آخر، اللا أدريون، أناسٌ جالسون على السياج واعتمادًا على مستويات شكوكهم تختلف قدرتهم على معرفة وجود الله.
ثانياً: المُلحد
يعرّفُ قاموس وبستر الملحد بأنّه: a person who does not believe in the existence of a god´-or-any gods.
شخصٌ لا يؤمنُ بوجود الله أو أيّة آلهة أخرى.
في قاموس أكسفورد، يُعرّفُ المُلحدُ بأنّه: one who denies´-or-disbelieves the existence of a God
من يُنكر أو لا يعتقد بوجود الله.
في قاموس كمبرج، يعرّفُ الملحد بأنّه: someone who believes that God does not exist.
شخص يعتقد أن الله غير موجود.
ثالثاً: المؤمن
في قاموس وبستر: belief in the existence of a god´-or-gods
الإيمان بوجود إله أو وجود الآلهة.
قاموس اكسفورد: one who holds the doctrine of theism
هو مَن يحمل عقيدة الايمان بالله.
قاموس كمبرج : someone who believes in the existence of a god´-or-gods.
شخص يؤمن بوجود إله أو وجود آلهة.
أوّل فكرة مهمة يؤسسها المؤلّف الدكتور شعيب أحمد على قاعدة بيانات تلك التعريفات و من خلال مصادره، هو قوله بالغ الأهمية:
ومع ذلك، ما إذا كان الله موجودًا وما إذا كان بإمكاننا معرفة وجود الله سؤالان مختلفان. من حيث أنّ " ما إذا كان الله موجودًا" هو مسألة أنطولوجيا، وفقا لما يقوله Angelo J. Corlett في كتابه Dawkin’s Godless Delusion’, International Journal for Philosophy of Religion 65(3) (2009), 125–138..
أمّا معرفة وجود الله فهي مسألة تخص نظرية المعرفة epistemology . و معنى هذا: إذا كان المرء يعتقد أنّ الافتراض "الله موجود" صحيح فهو (مؤمن). إذن يجب على المرء نفسه، أنْ يؤمن في نفس الوقت بأنّ افتراض "الله غير موجود" افتراض خاطئ و أنّ من يتبناه هو (ملحد ). وبالمثل، إذا كان المرء يعتقد أنّ الافتراض "الله غير موجود" صحيح ، فيجب على هذا المرء أنْ يؤمن في نفس الوقت بأنّ افتراض "الله موجود" خاطئ.
أمّا الاعتقاد بأنّ كليهما صحيح أو خاطئ في نفس الوقت فهو أمر متناقض.، بسبب من خرقه لقانون الوسط المرفوع. – اي القانون الذي ينصّ على: إذا صدقتْ قضيةٌ أو صدقتْ نقيضتُها فلا مكان لقضية أخرى بينهما. كقولنا مثلاً : "سقراط حي" أو "سقراط ميت" هما قضيتان متناقضتان، إذا صحت الأولى كذبت الثانية والعكس بالعكس، ولا ثالث بينهما.
ثم يخلص الباحث الى القول: لذلك ، فإن التقسيم المفاهيمي بين الإيمان بالله والإلحاد يجب أنْ يكون واضحًا: الإيمان هو نفي للإلحاد، والإلحاد نفي الإيمان بالله، وهما أضداد وجودية لبعضهما البعض. متى يتمّ قبول عدم اليقين من أيّ من الافتراضين فهذا هو ما يمثل اللاأدرية.
معنى هذا، وفقاً لفهمي الخاص، أنّ كلاً من المؤمن بالله و الملحد المُنكر لهذا الوجود، يتم تصنيفهما معا من خلال تاكيدهما لقضية إيجابية سواء عن طريق اثباتهم لوجود الله او عدم وجوده . أو بعبارة أخرى: بما أنّ القضية التي تفصل بين الملحد و المؤمن و تحدّد هوية كل منهما، هي قضية تخصّ موضوعاً وجوديا – إثبات أو عدم إثبات شيء ما - فإنّ موقفهما من الله سواء أ كان سلباً أمْ ايجابا، يحمل معنى التاكيد و الاثبات، و بالتالي فكلاهما ملزمٌ بتحمل عبء الاثبات في سبب اعتقاده، أمّا قضية اللا أدري فهي قضية معرفية لم تبلغ بعد لدى صاحبها مرتبة اليقين لتصبح قضية وجودية ينبغي تاكيدها أو نفيها. بعبارات أخرى شارحة: إنّ موقف اللا أدري يشبه الى حد كبير موقف المرء الذي يقول – كما مرّ بنا – أنّه غير مقتنع أنّ ماركس فيلسوف مادي، أو موقف المرء غير المقتنع بالانفجار الكبير، بسبب من أنّ معرفته لم تبلغ بعد مرتبة صحة هذه الفرضية، و لذا فإنه غير مطالب بتحمّل عبء إثبات اعتقاده، أمّا موقف كلّ من المؤمن و الملحد، و لأنه موقفٌ يتضمن الحُكم بوجود الله أو عدم وجوده، فهو موقف يستدعي بالضرورة تحمّل مسؤولية تقديم إثبات يبرر له نوع حُكمه. لذا و نتيجة لذلك: فإن عملية تغيير معنى البادئة –A – في كلمة الملحد Atheism لا يمكن أنْ يؤدي الى اعتباره لا أدرياً، لأنّ الملحد هو ملحد على وفق معنى المفردة و ليس لا أدرياً، و من هنا فهو متحمّل لعبء الإثبات لا محالة. كما سيتوضّح ذلك أكثر في الفقرة التالية.

إرتباك "البادئة " Prefix A في مصطلح الإلحاد Atheism
يقول الباحث – محاوراً فكرة أنطوني فلو على نحو غير مباشر - : عندما يبحث المرء في القواميس عن معنى البادئة - a- يجد أن معناها مكافئا لـمعنى "لا " . غير أنها تعني أيضا: من دون without . و هذان المصطلحان – أيْ البادئة بمعنى " لا " و البادئة بمعنى " من دون " لا يعنيان بالضرورة نفس الشيء. من حيث أنّ استخدام -a- كمعنى مكافئ لـ "لا" - يعني النفي التام للموضوع المرتبط به، على سبيل المثال إنّ قولنا عن شخص ما أنه "لا سياسي" يشير إلى شخص غير سياسي. غير أن الاستنتاج الثاني لـلبادئة نفسها بدلالة من دون without يشير إلى نقص الموضوع المرفق به و ليس الى نفيه بالكامل.
هنا يستعينُ الباحث بمصدر له يؤكّد و يؤصّل صحة هذه الفكرة، فيقول:
تعليقات "بول دريبر" غنيّة بالمعلومات عن هذا التمييز ويقترح لماذا يجب أنْ يكون النفي هو الخيار الأفضل عندما يتعلق الأمر "بالإلحاد"
وفقاً لبول دريبر، يتم تعريف "الإلحاد" بشكل نموذجي من ناحيةِ، أو من خلال، أو في سياق المقابلة مع "الإيمان بالله". بمعنى، أن من الأفضل فهْمَ الإيمان، بدوره، على أنه اقتراحُ شيءٍ، إمّا صحيح أو خاطئ. غالبًا ما يتم تعريفه على أنه "الإيمان بوجود الله"، ولكن "الإيمان" هنا يعني "شيئاً يُؤمنُ به". إنّه يشير ويُعزى إلى المحتوى الافتراضي للاعتقاد propositional content ، وليس الى الموقف أو الحالة النفسية للاعتقادnot to the attitude´-or-psychological state of believing. هذا هو السبب في أنّه من المنطقي أنْ نقول: إنّ الإيمان بالله صحيح أو خاطئ وأنْ نجادل مع أو ضدّ الإيمان بالله.
من ناحية أخرى، إذا تم تعريف "الإلحاد" من حيث الإيمان بالله، وأنّ الإيمان بالله هو الافتراض بأنّ الله موجود وليس الحالة النفسية للاعتقاد بوجود إله، فإن ما يتبع ذلك هو: أنّ الإلحاد ليس غياب الحالة النفسية للاعتقاد بوجود الله ... و من هنا يجب فهم البادئة "a" في مصطلح "الإلحاد" على أنها "نفي" الإيمان، بدلاً من غياب أو نقص الإيمان، أي على أنه "لا" بدلاً من "بدون".
اما الفرق في المعنى – و هو فرق خطير - فهو: إنّ الحالة الأولى لدلالة البادئة على معنى " لا " تصنّف المرء على أنّه ملحدٌ، إنّها تخصّ موقف الملحد و تلزمه بتحمّل عبء إثباتٍ، قي حين أنّ الحالة الأخرى للبادئة نفسها بدلالتها على " بدون" فإنها تشير الى موقف اللا أدري، و لا تلزم موقفه بتحمّل هذا العبء.
يضيف الباحث نقلاً عن المصدر نفسه: المشكلة هنا هي أنّه إذا تمّ وصف الإلحاد بأنه "بدون إيمان بالله " ‘without belief in God فان الالحاد سيتضمن هنا منظورًا غير افتراضي، بدلاً من اعتقاد افتراضي، مقيدًا / مكرها، بخيار ثنائي مفاده انّ كون الله موجودًا إما صحيحًا أو خاطئًا. ولهذا يضيف دريبر:
"هذا التعريف له ميزة إضافية تتمثل في جعل الإلحاد إجابة مباشرة لواحد من أهم الأسئلة الميتافيزيقية في فلسفة الدين وهي: "هل يوجد إله؟" يوجد فقط إجابتين مباشرتين محتملتين على هذا السؤال: "نعم" ، أيْ أنّه الايمان. و "لا" وهو الإلحاد. أمّا إجابات مثل - "لا أعرف" أو "لا أحد يعرف" أو "لا أهتم" أو "لم يتم تحديد إجابة مؤكدة أبدًا" أو "السؤال لا معنى له" - فإنها ليست إجابات مباشرة على هذا السؤال.
جدير بالذكر، انّ مصدراً آخر للفيلسوف الأميركي بول دريبر – لم يستعن به الباحث شعيب أحمد – كان أنّ عرّف تلك المصطلحات الثلاثة تعريفا موجّها نحو غاية محددة، سنتعرّف عليها، على النحو التالي.
يعرّف الفيلسوف الأميركي Paul Draper في مقالة موجزة له، كلّاً من المؤمن و الملحد و اللا أدري، بوصف هذه التعريفات مداخل لفهم نوع علاقاتها بعبء الإثبات و سواه من المفاهيم الأخرى المتصلة به، على النحو التالي:
المؤمن = الشخص الذي يعتقد (أي لديه مصداقية بنسبة 0.9 أو أعلى) بوجود إله في دينٍ توحيدي (أي خالق شخصي للعالم المادي يستحق العبادة والولاء غير لمشروط).
الملحد = الشخص الذي يعتقد (أي لديه مصداقية بنسبة 0.9 أو أعلى) أنه لا يوجد إله في دين توحيدي.
اللاأدري = الشخص الذي نظر في مسألةِ، ما إذا كان الإله الموحد موجودًا أم لا، ولكنه ليس مؤمنًا ولا ملحدًا.
الدليل Proof = دليل أو دعم (عوامل خارجية لفرضية تزيد أو تقلل من احتمال صحة هذه الفرضية)
بعد توضيحه لهذه المفاهيم يطرح دريبر سؤالاً آخر هو:
مَن يقعُ عليه عبء الإثبات؟ أو: من الذي يحتاج إلى دليل حتى يكون معتقده المعيّن منطقيًا؟
. أربع إجابات ممكنة
أ. كُلاً من المؤمن والملحد. (المحاولة المحتملة لتبرير هذه الإجابة: ما من اعتقاد غير بديهي، يكون عقلانيًا ما لم يدعمه الدليل).
ب. لا الملحد ولا الملحد. (المحاولة المحتملة لتبرير هذه الإجابة: الاحتمالاتُ المستقلة عن كل الأدلة ذاتيةٌ محض).
ج- الملحد وليس المؤمن. (المحاولة المحتملة لتبرير هذه الإجابة: الغالبية العظمى من الناس في العالم مؤمنون).
د- المؤمن وليس الملحد.
لتحديد أيّ من هذه الإجابات هو الصحيح، يجب على المرء أنْ يحدد ماذا تتطلب العقلانية من مصداقية المرء ليؤمن بوجود الله إذا لم يكن لدى المرء دليل على الإطلاق، سواءٌ على وجود الله أو ضد وجوده. بعبارة أخرى، يجب على المرء أنْ يحدد ما هو الاحتمال المعرفي الجوهري لوجود الله. أنا سوف أجادل بأن الإجابة الصحيحة هي. . . . . . . . . . د!
ثمة ملاحظتان، تجدر الإشارة لهما كتعليق لنا على نصّ بول دريبر:
الأولى منهما هي:
إنّ بول دريبر يضع ثلاثة تبريرات للاحتمالات الثلاثة أ، ب، ج، أمّا الاحتمال الرابع فهو الوحيد الذي لا يضع دريبر تبريراً له، فهل يعني ذلك أنّ الاحتمالات الثلاثة لها مايبررها في تحمّل أطرافها لعبء إثباته، أمّا الاحتمال الرابع و هو إنّ " المؤمن وليس الملحد" من يحمل عبء الإثبات، هو احتمال ليس له ما يبرر مضمونه؟
يبدو لي أنّ قول دريبر " يجب على المرء أنْ يحدد ما هو الاحتمال المعرفي الجوهري لوجود الله. أنا سوف أجادل بأن الإجابة الصحيحة هي. . . . . . . . . . د! " هو التبرير الخاص بنوع الإجابة الرابعة.
مما يعني أنّ دريبر ينظر الى المسألة من جهةٍ معرفيّة محض فحسب، في حين أنّها ليست كذلك كما أثبتنا في مناسبة سابقة.
أخيراً، يمكن أنْ أضيف هنا تعريفاً آخر لمصطلح الإلحاد من خلال مصدرٍ رصين هو معجم مصطلحات فلسفة الدين، و هو تعريف يؤكّد تلك المعاني نفسها، يردُ في هذا المعجم: Athiesim من اليونانية ، و معناها، "بدون اله." الإلحاد هو إنكار وجود الله. تاريخيًا، حقق المصطلح انتشاراً باعتباره إنكارًا للإيمان بالله، ولكن المصطلح اليوم أوسع، وغالبًا ما يستخدم باعتباره إنكارًا لوجهة نظر إيمانية أو غير إيمانية عن الله.
من الإلحاد المحلي الى الالحاد العالمي
في فقرة اخرى يستعرض فيها الباحث شعيب أحمد، تاريخ نشوء الالحاد، يقول: من الجدير بالذكر أيضًا أنّ "الإلحاد" كمصطلح لم يكنْ يعني في الأصل إنكار وجود الله، ولكنه مرّ بتغييرين مفاهيميَّين. .
يقول الباحث موضّحاً ذلك: في القرن السادس عشر، ربما كان جون تشيك أوّل مستخدمٍ لـلكلمة في التاريخ الغربي – غير أنّ الأفراد الذين طُبّق عليهم هذا المصطلح لم ينكروا وجود الله، بل أنكروا العناية الالهية او التدبير الإلهي في التدخل.
في هذه الحالة، لم يكن الأفراد بالضرورة منكري الله ولكنهم بالأحرى زنادقة heretics، وعادة ما يتم تأطير البُدع أو الهرطقة heresy داخليًا من خلال الأرثوذكسية اللاهوتية. هناك اختلافات يمكن تحمّلها أو لا يمكن تحمّلها، اعتمادًا على درجة الانحراف عن العقيدة.
في الإسلام على سبيل المثال، هناك ستة بنود إيمانية يجب أنْ يؤمن بها كلّ مسلم. تختلف المجموعات الفرعية و تتنوع داخل التقليد السني أو الشيعي في بعض النقاط الفرعية المحددة ولكنها جميعها لا تزال تعتبر مسلمة إلى حدّ كبير. إنّ رفض أو إعادة تعريف أيّ من هذه المواد الست بطبيعتها العامة هو الذي يمكن أنْ يقود المرء إلى تعريفه بالمرتد.
كل هذا يعني أنّ الأمر استغرق وقتًا طويلاً، قبل أنْ يُفهم "الإلحاد" على أنّه إنكارٌ كامل لوجود الله في المجال العام. حيث تحوّلت كلمة "الإلحاد" في العالم الغربي من استخدامها لانتقاء الزنادقة، إلى انتقاء الأشخاص الذين رفضوا إله المسيحية. (المسيحية على وجه التحديد ، بسبب هيمنتها كديانة رئيسية في العالم الغربي).
في عصر الحداثة اللاحقة فحسب، نرى عددًا متزايدًا من "الملحدين" يواجهون جميع الأديان. ويشكّل بعض "الملحدين الجدد" امتدادًا لهذا الإنكار العالمي لجميع الأديان. في ضوء هذه النقاط أرى أنّه من المناسب استخدام التمييز الذي قدمته لنا "جانين ديلر" بين الإلحاد المحلي - بمعنى إنكار مفهوم معين عن الآلهة أو الله - والإلحاد الشامل - بمعنى إنكار كل الآلهة أو الله.
تقول جانين: معنى هذا أنّ الإيمان بالله – على نحو شامل - لا يمكن الدفاع عنه، لأنّ الأديان المختلفة تحمل مفاهيم مختلفة عن الله، بعضها حصريّ بالغ الخصوصية أكثر من البعض الآخر. مثال ذلك، لا يمكن التوفيق بين فهم المسيحية لله على أنه ثالوث (أو حتى الله في صورة إنسان) و بين فهم الموحّدين وغير المجسّدين في الإسلام لمفهوم الله.
إذا كان المرء مؤمنًا، فيمكن له أنْ يكون مؤمنا محليًا فحسب، إلا إذا تم تخفيف فهم الايمان إلى الحدّ الذي يصبح فيه غير ذي معنى. تصبح هذه التوضيحات المفاهيمية مفيدة عند المواجهة ادعاءات معينة من قبل الملحدين.
خذ، على سبيل المثال، الطريقة التي يصف بها بعضُ الملحدين جميع المؤمنين بوصفهم ملحدين، بسببٍ من أنهم ينكرون آلهة بعضهم البعض أو الله. كريستوفر هيتشنز، نقلاً عن دوكينز، يلاحظ" ربّما يكون ريتشارد دوكينز قد صاغها بشكل لاذع عندما جادل بأنّ الجميع – بمن فيهم المؤمنين بالله - ملحدٌ في قوله إنّ هناك إلهًا - من رع إلى شيفا - لا يُؤمن به. كل ما يفعله الملحد الجاد والموضوعي هو أنْ يتخذ الخطوة التالية ويقول إنّ هناك إلهًا آخر لا يُؤمن به.
ما يعنيه قوله هو: بما أنّ جميع الجماعات الدينية تنكر آلهة بعضها البعض، فمعنى هذا إذن أنهم أيضًا ملحدون. ومع ذلك، لا يعني الإلحاد المحلي بالضرورة إلحادًا عالميًا، على الرغم من أنّ الإلحاد العالمي يستلزم الإلحاد المحلي (نظرًا لأن الأخير فئة فرعية من الأول).
فضلاً عن ذلك، الإلحاد المحلي متوافق مع الإيمان المحلي بسبب من أنّه يمكن للمرء أن يؤمن في نفس الوقت بإله واحد وينكر المفاهيم الأخرى للإله أو الآلهة. يمكن أن يتداخل الإلحاد المحلي أيضًا مع اللاأدرية، لأنّه يترك إمكانية الإيمان به مفتوحة بآلهة أو إله آخر.
في ضوء هذه النقاط، يمكننا القول: إنّ الإلحاد المحلي قد يكون كذلك متوافق مع واحد من ثلاثة أشياء: الإيمان المحلي والإلحاد العالمي أو اللاأدرية، لذلك، فإنّ استدعاء الملحدين هو تلاعب بلاغي بالألفاظ يفشل في رؤية ما وراء الفروق الدقيقة.
جدير بالذكر، أن أطروحة الباحث ثومبسون قد أشارت بدورها الى صعوبة الخلط بين مفهوم "الله" وخصوصية دلالة هذا المفهوم بين الأديان السماوية، يقول الباحث:
قد تنطوي الادعاءات الدينية على تعبيرات متناقضة حول وجود مفهوم معين عن الإله.
في النقاشات حول ما إذا كان الله Allah ]بالمعنى الإسلامي [ او الرب Yahweh (بالمعنى اليهودي المسيحي) موجودًا، يبدو أننا نواجه ادعاءين متنافسين. على أيّ من الجانبين في حال كهذا سيقع عبء الإثبات؟ الجواب هو أنّ عب الاثبات يقع على كلا الطرفين.
يمكن أنّ تصبح الأمور أكثر تعقيدًا حتى في حالات الجدل الإيماني الذي يتضمن الافتراضات التي يتمّ طرحها بصيغةِ السلبية العامة و الايجابية الوجودية لأن المؤيدين من كلا الجانبين من النقاش الإيماني يبرهنون على حدس متضارب حول هذه المسألة."
و معنى ذلك، أنّه لا أحد مستثنى من تقديم عب إثباته لما يعتقد، لا المؤمن و الملحد، و لا المؤمن اليهودي – المسيحي في حوارهم مع المؤمن الاسلامي، بحكم اختلاف مفهوم الله بين هذه الأديان المؤمنة نفسها.

عبء الإثبات بين نوعي الإلحاد المحلّي و العالمي.
يقول الباحث شعيب أحمد في مستهل الفقرة التي تبحث عبء الإثبات من حيث صلته بنوعي الإلحاد المحلي و العالمي:
هناك جانبٌ آخر أصبحت فيه هذه المصطلحات مهمة، وهو تحديد عبء الإثبات (BOP) الذي سأقوم بتغطيته فيما يلي:
إنّ النقاط الواردة في الأقسام السابقة مهمة لأنّها ترتبط على نحو وثيق بالطريقة التي نفهم بها عبء الإثبات (BOP) ، وهو مفهوم أساء بعض الكتّاب فهمه.
هنا أدعو القارئ الكريم الى التركيز على مضمون الأفكار المهمة التي سيعرضها المؤلف مع التذكير أنّه يناقش هنا بالتفصيل أفكاراً مركزية وردت في دراسة انطوني فلو، لكن من دون أنْ يذكر ذلك، يقول الباحث شعيب أحمد مالك:
فضلا عن ذلك، يبدو أنّ هناك بعض الخلاف contention حول ماهية الوضع الافتراضي .
في القانون، نجد مبدأ "افتراض البراءة" - المبدأ القائل: بأنّ المتهم بريء حتى تُثبت إدانته. في هذا السياق، يقع عبءالإثبات BOP على المدّعي / المتضرر، أو من وقعت الاساءة عليه لإثبات سبب إدانته للمتهم او لماذا المتهم مذنب، من ناحية اخرى، عندما يتعلق الأمر بالله، فان السؤال الحاسم / الحرج هو أيّ وضع هو الافتراضي، و على من يقع عبء الاثبات ؟and with whom does the BOP lie. .
بعبارات شارحة: في السياق القانوني – كما مرّ بنا – ثمة وضع افتراضي لبراءة المتهم، الى حين يقدّم المُدّعي – من وقعتْ الإساءة عليه – عبْ إثباته أو أدلته على صحّة ما يدّعيه ضدّ خصمه المتهم.
ما يتساءلُ عنه المؤلّف هو: ما هو الوضع الافتراضي في حوارٍ يجري بين مؤمنٍ بالله و ملحدٍ به؟
بعبارة أخرى: هل الإيمان بالله هو الوضع الافتراضي للحوار، و في حالة كهذه، سيقع عبْ الاثبات على الملحد ليقدّم أدلته على خطأ مثل هذا الاعتقاد؟ أم أنّ عدم الإيمان بالله و إنكار وجوده، هو الوضع الافتراضي، و في حالٍ كهذه، ينبغي على المؤمن بالله أن يقدّم أدلته على صحة اعتقاده بالله، و على خطأ الاعتقاد بعدم وجوده، لأنّ عبء الاثبات يقع عليه هذه المرّة؟
يُجيب المؤلّف عن هذه الأسئلة – مهملاً جميع التفاصيل المهمة الرائعة التي وردت في دراسة فلو - قائلاً: من أجل معالجة هذا، نحتاج أولاً إلى فهم الاختلاف بين الادعاءات الميتافيزيقية والتجريبية.
الادعاءات التجريبية، بتفسير تقريبي، هي تلك التي يمكن اشتقاقها من الأدلة التي تزودها الحواس الخمس.
غير أن هذه الأمور، تصبح أكثر تعقيدًا بعض الشيء عندما يتعلق الأمر بالقضايا او المزاعم الميتافيزيقية، حيث لم يعد الإثبات المادي ممكنًا . من حيث أنّه، لا يمكن إثبات الادعاءات الميتافيزيقية، سواء كانت إيجابية أو سلبية، إلا من خلال الإثبات المنطقي أو المعجزات أو التجربة الدينية (على الرغم من أن الأخيرة لا تحظى إلا بقدر ضئيل من المصداقية العامة).
يضيف المؤلف، في هذا السياق يوفّر الإلحاد المحلي والإلحاد العالمي الوضوح. إذا تم إنكار مفهوم معين (أو مفاهيم) عن الله (أو الآلهة) ، فيجب أنْ يكون الإلحاد المحلي هو الاستنتاج المنطقي الوحيد - وليس الإلحاد العالمي - ومع ذلك ، حتى هنا، يجب على المرء أنْ يظل محايدًا فيما يتعلق بالخيارات - التي لم يتمّ أخذها في الاعتبار بعد - بالنسبة لله .
نظرًا لأنه تم إثبات أن الادعاءات السلبية بحاجة إلى إثبات هي الأخرى، يجب التمييز بين السلبيات العالمية والسلبيات الوجودية. لقد قيل أن إثبات الادعاءات السلبية العامة – العالمية - أكثر صعوبة من إثبات الادعاءات السلبية الوجودية .
إن تبرير السلبيات العامة أصعب بكثير من تبرير السلبيات الوجودية. ينبغي بعد ذلك إدراك مدى صعوبة المهمة مع الادعاءات الميتافيزيقية. تؤدي ادعاءات السلبيات الوجودية حول وجود الله إلى موقف متواضع للإلحاد المحلي في حين أن الادعاءات السلبية العامة حول وجود الله هي محاولات أكثر جرأة. يتطلب الإنكار المطلق لجميع الآلهة أو وجود الله أمرًا صعبًا يبدو أنه لا يمكن التغلب عليه إن لم يكن مستحيلًا. يجب على الملحدين أن يعترفوا على الأقل بالصعوبات التي يواجهها الإنكار العالمي.
تعقيباً على رأي المؤلّف في هذه المسألة، لا بدّ لي من القول: بإنّ التفاصيل التي وضعها أنطوني فلو في دراسته نفسها، يمكن عدّها أكثر وضوحاً و ضمانة لفهم قاعدة "افتراض الإلحاد" من جميع تلك الشروح التي قدّمها الباحث لها من خلال مصادر أخرى، و هو الأمر الذي سأتوّلى بيانه بالتفصيل الدقيق في الفصل الرابع كما قلت.
الموقف الافتراضي في الحوار الفلسفي
سبقتْ الإشارة الى أنّ الموقف الافتراضي – افتراض البراءة - في السياق القانوني للمحاكم هو " براءة المتهم، حتّى تُثبتء أدانتُه"
ولأنّ الحوار في قضية وجود الله، لم يتبلور فيه بعدُ أو يتعيّن فيه الطرفُ الذي يمثل الموقف الافتراضي من بين أطرافها الثلاثة و هُم: المؤمن و الملحد و اللا أدري، رأى الفيلسوف الإنكليزي – الأكثر نفوذا و تأثيراً في نشر قضية الإلحاد، قبل أنْ يتحوّل الى الإيمان – أنّ الطرف الذي يمثّل الموقف الافتراضي بين الاطراف الثلاثة هو موقف " الإلحاد"
بعبارة أخرى: كما تنصّ القاعدة القانونية على أنّ " المتّهم بريء حتّى تُثبت أدانته" و في هذه الحالة يقع عبْ الإثبات على المتضرر لبيان سبب إدانته للمتهم، يرى "إنطوني فلو" انّ الملحد – كما هو الحال مع المتهم في السياق القانوني – غير مُلزمٍ بالدفاع عن نفسه بتقديم أيّ سببٍ، أو عبء إثبات لإلحاده، مما يعني أنّ المؤمن وحده هو الملزم بتقديم عبء إثبات صحّة اعتقاده بوجود الله، أمّا الملحد فهو مستثنى من هذا الاجراء سلفاً، بسببٍ من أنّ موقفه من الله هو الموقف الافتراضي، تماما كما هو الحال مع موقف المتهم في السياق القانوني.
يقول المؤلّف – وهذه هي المرّة الأولى التي يرد فيها اسم هذا الفيلسوف في متن دراسة الباحث كما أشرتُ، على الرغم من ان القضتين المشار اليهما سابقا قد وردتا في الدراسة نفسها - : أنتوني فلو معروف برأيه حول "افتراض الإلحاد"، والذي يعتبره مشابهًا لافتراض البراءة.
يقول فلو وفقاً لفهم المؤلف: إذا فشل المؤمن في تقديم حجة، فإن الملحد يفوز بشكل تلقائي، بنفس الطريقة التي يظل بها المتهم، في محكمة قانونية، بريئًا في غياب أي دليل على تجريمه .
على الرغم من أنّ آخرين انتقدوا قياسه على أسس فلسفية ودلالية، أعتقد أن هذا القياس فشل على وجه التحديد، لأنه ينكر الجانب التحوطي prudential لافتراض البراءة.
لذا يضيف المؤلّف: في حالة الحجاج في قضية وجود الله، أقترح أنّ اللاأدرية هي دائمًا الموقف الافتراضي في غياب الادعاءات إما لصالح أو ضد وجود الله، حيث يؤكد كل من المؤمن والملحد ادعاءات المعرفة.
لكن، لماذا لم يشرح لنا الباحث شعيب أحمد معنى " الجانب التحوّطي prudential على أهميته؟ بل لماذا تجاهل التفاصيل الدقيقة بالغة الأهمية التي وردتْ في سياق عرض فلو لفكرة " افتراض الالحاد " و هو سياق لا يمكن لأحد انْ يفهم منه ابدا، ان انطوني فلو يقول على نحو صريح و مطلق باستثناء الملحد من تقديم عبء اثباته في حال انكاره لوجود الله في الحوار مع من يؤمن بهذه القضية؟
موضوع الجانب التحوّطي أو الاحترازي، سيكون أيضا بين الموضوعات التي ساتحدث عنه بالتفصيل في الفصل الرابع.
عبء الإثبات: الإلحاد المحلّي و العالمي
يتغير عبء الاثبات BOP – و القول للباحث وفقا لمصادره - اعتمادًا على طبيعة الإلحاد قيد المواجهة. يصف "جافين هايمان" الإلحاد بأنه نوع من المصطلح "الطفيلي". إنه ينفي كل ما يتعلق بالإيمان بالله، وبالتالي يمكن أنْ يكون هناك مجموعة متنوعة من الإلحادات المشابهة للإلحاد المحلي.
في هذه الحالة، يكون عبء الإثبات BOP على المؤمن الذي يحتاج أولاً إلى إثبات مفهوم معين عن الله، ثم يجب على الملحد بعد ذلك أن يعترف - وعندها فقط - يمكن له إنكاره.
من جانب آخر، إذا نجح الملحدُ في إنكار مفهوم معين للإله أو الآلهة، فإن هذا تنازل / اعتراف فقط بإلحاد محلي يعتمد على المفهوم المنفي للآلهة أو الله ولا ينبغي أن يصبح دافعًا منطقيًا لإنكار جميع أشكال الآلهة أو الله.
غير انّ الملحدين العالميين يؤكدون هذا بالذات، إذْ يزعمون أنّ لديهم بعض الحجج التي تقوّض كلّ الأديان على حد سواء أو يعتقدون أنّ إنكار دينٍ واحد يشبه نفيها و انكارها جميعًا
في مثل هذا السيناريو، بما أنّ المفاهيم المحددة للآلهة أو للإله لأيّ دينٍ لم تعد ذات صلة بالخطاب، فإن BOP يقع على عاتق الملحد. الإلحاد العالمي هو شكل من أشكال الإلحاد الذي لم يعد طفيليًا انما هو بكتيريا؛ لم تعد تعتمد على المضيف.
من ناحية أخرى، إذا كان الملحد غير قادر على تقديم حجج كافية للإلحاد العالمي، فسيحتاج حينئذٍ إلى أنْ يتراجع أو ينزّل رتبة موقفه من الإلحاد العالمي الى الالحاد المحلي، وبالتالي يعترف باللا أدرية فيما يتعلق بالخيارات التي لم يتم النظر فيها.
في كلتا الحالتتين، أي - الإلحاد المحلي والإلحاد العالمي - فإنّ الموقف الافتراضي هو اللاأدرية. بالنسبة للمبتدئين، يمكن للمرء أنْ يبدأ (في عدم وجود أيّ معلومات) باعتباره ملحدًا ناعمًا - وبالتالي سيكون المرء لا اأدريا بسبب جهله بالموضوع - واتخاذ قرار بطريقة أو بأخرى سيكون أمرًا غير حكيم. يصبح هذا الجهل بحدّ ذاته مبررًا لعدم طلب أيّ عبءٍ للاثبات BOP. فقط بعد إجراء تحقيق شامل يصبح اللاأدري مؤمنًا أو ملحدًا. ومع ذلك، إذا اختار المرء أنْ يظل لا أدريا لأنّه يعتقد أنه الخيار الأكثر قابلية للتطبيق، فإنه يحتاج إلى الدفاع عن موقف اللاأدرية.
في مثل هذه الحالة ، تتحول طبيعة عبء الاثبات BOP من محاولة إثبات أو دحض وجود الله (المجال الأنطولوجي) إلى سؤال يخص السبب في كون مسألة وجود الله إمّا غير مؤكدة أو غير معروفة (المجال المعرفي الابستمولوجي).
باختصار، ان المواقف الثلاثة كلّها (الإلحاد ، والإيمان بالله ، واللاأدرية) يمكن - اعتمادًا على السياق - ان يقع على عاتق أيّ منها عبْ الاثبات BOP. الموقف الوحيد الذي يكون فيه الشخص متحررا خاليا من أي عبء للاثبات BOP هو المبتدئ./ الساذج الغفل .
يضيف المؤلف: فضلاً عن ذلك، كما أوضحتُ بالفعل، فإن الافتقار إلى الإيمان بالله وإنكار وجوده هما موضعان منفصلان. لماذا إذن يبدي بعض الملحدين الإصرار على دمج "نقص الإيمان" المعرفي تحت مصطلح "الإلحاد"؟ يبدو أن هناك مكسبا مفيدا في توسيع شبكة الإلحاد كموقف أكثر شمولاً لأنه يمكن أن تساعد في كسب العملة الاجتماعية والسياسية .
على سبيل المثال ، إذا كنّا نسمح للإلحاد باستيعاب الافتقار او نقص الإيمان بالله بوصفه فئة فرعية من الإلحاد ، يمكن للمرء أنْ يدعي ، بشكل قاطع، أنّ الأطفال هم ملحدون .
إلى هنا، ينتهي عرضنا لأفكار الدكتور شعيب أحمد في دراسته القيمة المشار إليها، و على الرغم من أهمية بعض الموضوعات في مضمونها، أرى أنّ التفاصيل الدقيقة التي وردت في دراسة أنطوني فلو نفسه و التي شملت كلاً من: محاولته تغيير معنى البادئة في كلمة ملحد، و مقاربة قاعدة "افتراض الإلحاد" في حوار المؤمن و الملحد، من قاعدة "افتراض البراءة" في المحاكم، فضلاً عن تفسيره المعنى الدقيق لما يمكن عليه مفهوم "عبء الإثبات" و عن الجهة التي يمكن أنْ يقع عليها، و هي جهة لا تستثني أحداً بطبيعة الحال وفقاً لطرح فلو، أقول: إنّ هذه التفاصيل الدقيقة لتلك الموضوعات كلّها، قد بلغت من الوضوح حدّا، قد يغني عن أية دراسة شارحة لها، اللهم إلّا إن كانت على سبيل دحض بعض أفكارها – كما فعل البرفسور شعيب أحمد، و ثومبسون في أطروحته، و كما يعرض فلو نفسه عددا من تلك الطعون في كتابه – ثمة إله – لذا كان لزاماً علينا عرض هذه التفاصيل في الفصل الرابع مشفوعة بالنقد و الحوار كلّما مسّت الحاجة لذلك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماكرون يستعرض رؤية فرنسا لأوروبا -القوة- قبيل الانتخابات الأ


.. تصعيد غير مسبوق على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية مع تزايد




.. ذا غارديان.. حشد القوات الإسرائيلية ونصب خيام الإيواء يشير إ


.. الأردن.. حقوقيون يطالبون بالإفراج عن موقوفين شاركوا في احتجا




.. القناة 12 الإسرائيلية: الاتفاق على صفقة جديدة مع حماس قد يؤد