الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثلاث محطات مربدية (المحطة الثالثة)

عادل علي عبيد

2022 / 6 / 13
الادب والفن



(المحطة الثالثة)

تودع في المربد اكداس التمر حتى يشمس ويتغير لونه ليصبح مربدا ، ( فالرُّبدة هي تغيير اللون الشبيه بالغبرة ) وهذه حالة انتقالية غريبة ! عليه فقد تطور المربد وتغيرت طبيعته وملامحه ليضم المجالس والملتقيات والحلقات والصالونات الفكرية .. هكذا هو حال الادب الذي يتطلع دائما الى الجديد ، وينشد الغريب ، ويتحرى البعيد .. وبالمناسبة نقول هنا : ان هذه الندوات لم تعقد موسميا ، بل كان انعقادها يوميا لاسيما في العهد الاموي . فالناس على موعد مع حلقة او ندوة او لقاء او مناظرة .. وهكذا تتعدد الندوات بحضور الشعراء والرجاز والنقاد .. وبحضور عليه القوم واشرافهم ، فيتحقق التفاخر والتهاجي والتشاور وبناء البرنامج لكذا قبيلة او عشيرة . فالمربد هنا قد اعلن على انه متنفس للناس الذين انهكتهم الحروب والغزوات والفتوحات ، وسبيل الى تحقيق نزعة الانتماء الى الثقافة التي كانت تزاحم العرب ، اذا ما سلمنا ان العرب امة شاعرة .
اذن ، انتقل المربد الى مرحلة جديدة اخرى ، ليكون حلبة للصلح والمناظرة وتقريب رؤى الخصوم ، وعرض الآراء ، وبيان واعلان وثائق الصلح بين المتخاصمين ، وفض النزاعات بحضور الاشهاد والاعيان والحكام ، والوقوف على آخر البيانات والاعمامات التي تطلقها الدولة ، منوهين على ان المربد حقق انجازا لحلفاء الدولة الاموية بعدما كان شاغلا لهم ، ومحققا لمطلب الادب والثقافة والفكر .
هكذا يؤلف المربد حلم القبيلة واملها وهي تحمل مفاخرها ومآثرها لتعرضها سلعة رائجة مقبولة بين قبائل العرب المتبضعين لتجارة الادب والنقد والرجز والرواية ..الامر الذي جعل المربد حلم القبائل ومستقر اعمالهم محط تنفيذ برامجهم ، فهم يعرضون فيه بيانات وخطابات القبيلة وبريدها الذي ترسله بعيدا عن حقائب الابل ومحفوظات السعاة وخزائن القوافل المحمولة ... فضلا عن ما تميز به بناؤه وطراز عمارته وهندسته ودوره الجميلة وساحاته ومضاميره التي تريح النفس بالنسبة للزائرين ومن يروحون عن النفس من المسافرين ، ونشر النظر باتجاه البادية الممتدة ، الامر الذي يحقق مقولة جعفر بن سليمان الهاشمي ( العراق عين الدنيا ، والبصرة عين العراق ، والمربد عين البصرة ، ودارين عين المربد ) ما يؤكد ان ساكني المربد افادوا من كثرة الوافدين والمهاجرين اليه فجعلوه مكانا سياحيا ومستقطبا يليق بمن يحط الرحال به ، وهو ما يعزز مقولة ياقوت الحموي في معجمه (مربد البصرة من أشهر محالها ، وكان يكون سوق الإبل فيه قديما ثم صار محلة عظيمة سكنها الناس ، وبه كانت مفاخرات الشعراء والخطباء، وهو الآن بائن عن البصرة نحو ثلاثة أميال وكان ما بين ذلك كله عامرا وهو الآن خراب, فصار المربد كالبلدة المنفردة في وسط البرية ).
لقد شجع المربد الشعراء ودعاة الكلام واعلام اللغة والادب والخطابة والنقاد والرواة على زيارته واصبح يزاحم حياة المثقفين ، ويكون جزءا من استكمال المشروع الثقافي لأي منهم ، وكأن من لم يزره لا يحظى بمكانة ادبية مرموقة وسمعة تليق به . فتهافت المثقفون من كل حدب وصوب وهم يسجلون الحضور، ويوثقون لأعمالهم وفعالياتهم وجلساتهم الادبية . فهذا أبو عمرو بن العلاء يسأل الأصمعي: (من أين أقبلت؟ فيجيبه: (جئت من المربد) فيقول: (هات ما معك) فيقرأ عليه الأصمعي ما كتب في ألواحه ، فإذا ستة أحرف لم يعرفها أبو عمرو، فيخرج يعدو في الدرجة ويقول للأصمعي: (شمَّرت في الغريب) أي: غلبتني .
وعلى الرغم من ان الخراب قد طال المربد لمرات ومرات ، الا ان المربد بقي محتفظا بهويته حاله وبقية مدن العراق التي طالها الخراب والدمار ، لكنه احتفظ ايضا بمكانه ومكانته ، وحرص على بقاء معلمه الذي صار مثابة ومحطة ومحجا للمتزودين من بضاعة الادب والشعر والنقد ، كما حرص على امتداده العمراني والبنائي والذي يصل البصرة فيذكر ياقوت الحموي في معجمه ان مشهد البناء والاعمار والسكن المتصل كان يربط البصرة بالمربد ، وهو امر عجيب لم نجده حتى في مربد اليوم القائم في مدينة الزبير .
واخيرا ، تأثر المربد بحركات وموجات وتيارات غير عربية وافدة وقادمة من الشرق والبحر ، احتواها بطريقته الحداثوية التي اختلفت عن سوق عكاظ الذي كانت تحيطه القبائل العربية المعروفة ، فموقع البصرة البحري كان وما زال مشجعا لاستقدام لغات وثقافات اجنبية ، ونزوح اقوام واختلاط هجرات فارسية وغيرها مرت او استقرت في البصرة . وهذا ما جعل لغة المربد تختلف عن لغة عكاظ الذي يقع في قلب الجزيرة العربية ، ومع كل هذا حافظ المربد على الهوية العربية ، ونقد اللحن في القول ، وشخص الغريب والحوشي في الكلام ، وبين فساد اللغة وعجمتها ولحنها ، الامر الذي شجع البلغاء والفصحاء والنقاد للتصدي الى هذه الممارسات ، وحصرها وتشخيصها وتقويمها من خلال مهمة اعلام اللغة والادب والشعر والنحو والبلاغة ، وهو الامر الذي جعل مساحة المربد الفكرية تنوف على عكاظ ، لاسيما وان رسالته لم تقتصر على الشعر والرجز والرواية ، انما شملت وانفتحت على العديد من الممارسات والاعمال والحلقات الفكرية الاخرى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا


.. الفنان أيمن عزب : مشكلتنا مع دخلات مهنة الصحافة ونحارب مجه




.. المخرج المغربي جواد غالب يحارب التطرف في فيلمه- أمل - • فران


.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال




.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة