الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- نون - و - مُنى - بنت الطبيعة والرومانسية الساذجة

شريف حتاتة

2022 / 6 / 15
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


" نون " و " مُنـى " والرومانسية الساذجة
----------------------------------------------------
منذ ست سنوات تقريباً، سنة 1990 ، عندما كنت نائبا لرئيس تحرير مجلة "نون" التي كانت تصدرها جمعية تضـامن المرأة العربية، برئاسة نوال السعداوى ، أجريت حوارا مع فتاة اسمها "مُنـى " ، كانت تغني في كورال الفرقة القومية للموسيقى العربية فى دار الأوبرا المصرية ، بقيادة "سليم سحاب". سميت هذا الحوار "بنت الطبيعة"، وفي آخر الحوار سألتها: "إن أردت أن تلخصى حياتك في جملة واحدة ماذا ستقولين؟" . فأجابت: "أقع ثم أقف، ثم أقع ثم أقف، ثم أقع ثم أقف، لكني لا أتوقف".
علمتنی حیاتی عبارات، وألفاظا كنا نستخدمها فـي النشـاط السياسي مثل توازن القوى، أو فن الممكن، أو الاستفادة مـن التناقض في صفوف الأعداء، أو إقامة التحالفـات، ومازلـت موقنا أن هذه الأشياء يمكن أن تكون ذات فائدة في ممارسـة السياسة. كنا نطلق على علـم السياسـة "فـن إدارة صـراعات لسلطة ".
عندما تركت السياسة كما كنت أمارسـها، وأصبحت أكتـب الروايات، عندما أصبحت أتعامل مع النـاس لـيـس كقطـع مـن الشطرنج، أو جنود في لعبة التحالفات، أو فـي الأحـزاب، أو فئات نسعى إلى كسبها بهدف الوصول إلى البرلمان، أو الدخول في معارك سياسية لتنفيذ المبدأ الديمقراطي المسـمى بتـداول بين الأحزاب، وإنما كبشر لهم حياة، وعقل، وعواطف، ومشكلات، وأحلام. يبكون، يتألمون، ويصـمدون، ويرفعـون رؤوسهم للسماء ليرقصوا في لحظة الانتصار. بشر لهم إرادة، وشخصية، وإبداعات، ولهم تلك القدرة العجيبة للحياة فـي أن تنمو، وتتوسع، وتصعد، وتملأ الفراغ، كالنبات يشق طريقـه مخترقا طبقات الصخر، والطمى، والتراب ليرتفع فوق الأرض ويعرض للشمس أوراقه الخضراء.
عندما حدث كل هذا ، أدركت أن ما قالته لي "بنت الطبيعة" يوم أن أجريت معها الحوار ، علمنـى ما لم أكن تعلمته في ميادين السياسة أو في صفوف اليسار، رغم الحديث المستمر عن الشعب، والجمـاهير. علمتنـى أن الحسابات الباردة للعقل المفصولة عن قلب، وإرادة الإنسان لا تكفى وحدها، لأنها قد لا تضع في حسابها فطرة المقاومة التي نولد بها .
" صراع الطبقات" ، تعبير تغير أو توارى في عصر الكوكبة، والسـوق الحرة، وسيطرة 447 مليارديرا يملكون من الثروات ما يزيـد على إنتاج نصف سكان العالم، عصر التقدم العلمـى الهـائـل، والشركات العابرة للقارات، والاستهلاك، ورؤسـاء المافيا، وتجار السلاح، والمخدرات، والرقيق الأبيض، وأنصـارهم، عصر يموت فيه مئات الألوف من اللاجئين في رحلة العـودة إلى الديار لأن "موبوتو" مازال يحكم في "زائيـر"، وأفريقيـا مازالت ضحية أطماع "الاستعمار الجديد" الذي أصبح اسـمه عهد "ما بعد الاستعمار"، أو "التكيـف الهيكلـي"، أو " تكامـل الحضارات".
" المقاومة " هي من صلب الحياة، ومولودة في كل فرد، والتي بـدونها لمـا حققت الإنسانية ما وصلت إليه.
إن علم السياسة الذي لا يضع في تقـديره هـذا العنصـر المجهول إلى حد كبير، لأنه لا يمكن تقديره بميزان دقيق ، ليس علما بالمعنى الصحيح. فالعلم الحديث يقول لنا الآن أن اليقين غير وارد في حركة الأشياء.
كل ذلك يقودني إلى المقال الذي نشـره صـديقي "محمـد عباس سيد أحمد" منذ شهور في "الأهرام" عـن أهميـة بـدء الحوار بين اليسار المصري، والإسرائيلي حـول موضـوع السلام. و"محمد عباس" من الذين أحمل لهم ودا خاصا ، لأنـه مازال يحافظ على جزء مـن نـقـاء الشخصـية الـذي فقـده الكثيرون.
شعرت وقتها بشئ من عدم الارتياح. تساءلت لمـاذا هـذا الموضوع الآن؟ . ما وزنه في عملية استرجاع حقوق الشـعب الفلسطيني في الأرض التي انتزعتها منه إسرائيل؟ . ألن يفتح في صفوف المثقفين ثغرات، أو يوسع ما هو موجود بينهم؟ . ولماذا بدأت كلمة الحوار العربي ـ الإسرائيلي، أو المصرى الإسرائيلي تزحف لتصبح الموضة هذه الأيام ، بينما اختفت كلمة الصراع في كثير من الأوساط، وكأنها عبارة "غير متحضرة" تصلح فقط للتداول بين الغوغاء؟ لماذا نتحدث عن حـوار المثقفين، وكأن هناك تقسيما للعمل جديـدا يتـرك للطبقـات الحاكمـة وحكوماتها موضوع الصراع ، وهي ليست متحمسة له على أية حال، ويترك لنا، أي للشعب، والمثقفين مجال الحوار؟؟.
مرت الأيام بعد نشر المقـال وفوجئنـا بمشكلة "إعـلان كوبنهاجن" وتكوين التحالف الدولي (الذي بدأ "شعبيا") بـين المثقفين العرب، والإسرائيليين من أجل السلام.
في رأيي أن الكلام الذي نشره " محمد عباس"، أن الحوارات التي كانت تدور بالفعل داخل بعض المؤسسات مع عـدد مـن المثقفين كأفراد أو كمجموعات ، أسهمت في التمهيد للتحالف الذي جاء فيما بعد. لكن لأن "محمد عباس" مازال يعتبر نفسـه امتدادا لنضال طويل يعتز به ، رفض الانسياق في هذا الموضوع، فاستحق بذلك التقدير الذي لقيه موقفه من الكثيرين.
لكن مشكلتي مع ما يدور ، لا تتعلق بأية رغبة فـي إدانـة البعض ومديح الآخرين. مشكلتي أننا أصبحنا نعيش فـي جـو يحيطه الاستسلام. أصبح مسألة عاديـة نمارسـه، ونتنفسـه بمسميات مختلفة ، مثل القدرة على إدراك طبيعـة العصـر، أو تطوير أدوات النضال أو الحوار بين الحضـارات، أو أشـياء أخرى هي حق يمكن أن يقودنا إلى التخاذل المستسلم ، ومنها هذا الحوار بين المثقفين العرب والإسرائيليين المطروح الآن.
أنا لست ضد الحوار في أي موضوع ، شريطة أن نـدرك أن الحوار شكل من أشكال الصراع ، تتوقف نتائجه ـ إلـى حـد كبير - على توازن القوى بين الأطراف، وربما على الأخـص عندما نواجه دولة لهـا طبيعـة دولـة إسـرائيل، ومثقفـين إسرائيليين لهم تجارب خاصة، وتاريخ مشحون بردود الفعـل المرتبطة بهذا التاريخ. ربما في وقت معين يكون الرفض، أو الصمت، أو المقاطعة، أو أشكال أخرى مـن المقاومـة أكثـر فعالية. وهي تتطلب ألا نفقد ذلك الدافع الفطرى الـذي يجعـل الإنسان يقاوم حتى آخر رمق ، وهو غير واثق من النجاح، لأننا لا نستطيع أن نتنبأ دائما بالنتائج، ولأن المستقبل فـي هـذه الروح التى تقاوم حتى النهاية ، وليس في الحسابات السياسية والدبلوماسية وحدها.
منذ أيام قرأت المقال الذي كتبه "محمد عباس" في جريـدة "الأهرام" بتاريخ ۲۷ فبراير سنة ۱۹٩٧ ، تحت عنوان "مرحبـا بالحوار العربي ـ العربي . مرة أخرى توقفت، وتساءلت، وظل ما كتبه يدور في ذهني، ويتحرك في ذلك الجـزء مـن الـعقـل الباطن الواعي، ليشغلني عن رؤية النيل، والصيادين، وحركـة المدينة المستيقظة مع شروق الشمس، وأنـا أتـريض علـى الكورنيش.
فأنا موافق على الكثير مما كتبه، وعلى أهميته، ولكن مـا استوقفني هو الجزء الأخير، فهو يدعو إلى الحوار العربـي ـ العربي ، كضرورة لإنضاج موقف المثقفين مـن السـلام مـع إسرائيل، وتوحيده على قدر الإمكان. لكنه في الوقت نفسه يشير إلى احتمال وجود آراء رافضة للسلام، وإلـى ضـرورة إفصاحها عن نفسها. ولكن السؤال الذي يطرحه هذا الكلام هو: ما الذي نقصده بالسلام؟. هل كل رفض لما يحدث الآن، لمسار "مدريد" أو "أوسلو" ونيتانياهو ـ عرفـات، أي فـي إطـار التسويات، والمفاوضات التي تتم هو رفض للسلام؟ . هل هنـاك منُ يعترض على الاكتفاء بتسوية ، تعيـد الحقـوق السـورية والفلسطينية في الأرض كاملة ، ومازال يسعى إلى زوال دولـة إسرائيل؟ . هل رفض التطبيع ضد السلام؟ . هل مختلـف أشـكـال المقاومة للاحتلال تعتبر ضد السلام ، بما فيها العصيان المدني، أو رفض التعاون؟ .هل نرضى أن نجد أنفسنا مدفوعين إلـى السلام بأي ثمن، وما حدود هذا الثمن في ذهن المخططين؟.
إن القضية المطروحة شديدة التعقيد، وستختلف فيهـا الآراء. لذلك فإن تبادل الرأي، والحوار على أوسع نطاق في الاتجاهات العامة، وفي التفاصيل المجسدة على أرض الواقع مهم. وفـي هذا الحوار من حق أي طرف أن يشارك برأيـه كـاملا، ألا يصادر عليه، وألا توزع النعوت المدمرة مثـل الخيانـة، أو العمالة، أو الصبيانية، أو التطرف، أو المراهقـة، أو غيرها.
فالوطن ملكنا جميعا ، وليس ملك فئة دون غيرها لأنهـا تمـلـك القوة، أو المركز، وتريد أن تفرض رأيها، وكل رأى من الآراء يعبر عن قطاع من الناس لـهـم وجـود، ومـاض، وحاضـر يتمسكون به، لأن التعارض بين الآراء مفيد مادام في العلـن، كالشرار يضئ جانبا من الحقيقة التـي لا يملكهـا أحـد دون الآخر.
إن الإسـرائيليين يستخدمون الآراء المختلفـة لصـالح السياسات التي يريدون تنفيذها. يستفيدون من مواقف غـلاة اليمين الديني ، لفرض تنازلات على ما يسمونه "الحكـم الـذاتي الفلسطيني"، بينما نحن نستغنى بسهولة، عن وسائل ضـغطنا بطريقة تنم عن أننا لا ندرك ما نحن مقدمون عليـه. فلـيـس المهم عندي أن يحضر "نيتانياهو" أو لا يحضـر إلـى بلادنـا ويناقش مثقفينا. ولماذا يتعجل "محمد عباس"، في التنبؤ بمثل هذه الافتراضات وكأنه يوحي بها، والتي تترك الانطبـاع بـأن حياتنا أصبحت معلقة بتحركـات وتصـرفات رئيس وزراء إسرائيل، فأصبحنا نستيقظ، وننام في كل يوم على اسمه بسبب ما يكتب في الصحف القومية أو غيرها، وهو مظهر آخر مـن مظاهر التبعية الفكرية في حياتنا ؟؟.
فليقاطعه منُ يريد، وليحاوره منُ يريد بصلابة المتمسـك بحقه، وبحيث نستفيد من كل المواقـف المتشددة أو الأكثـر مرونة في انتزاع حقوقنا، فمن المستحيل أن نتوقع أن المثقفين جميعا سيفكرون، وسيتصرفون بنفس الطريقة.
أنا من أنصار السلام، ولا أرى أن الحرب أصبحت ممكنـة كوسيلة لنيل حقوق العرب. لكني لا أستطيع أن أديـن الـذين يضحون بحياتهم في سبيل الدفاع عن حقهم. الانتفاضة كانـت عاملا أساسيا في فرض المفاوضة على دولـة إسـرائيل، ولايستطيع أحد أن يتنبأ بأشكال المقاومة التي يمكن أن تنشأ فـي سبيل السلام العادل. ربما هناك منُ لا يزال يؤمن بأن السـلام الحالي ليس إلا هدنة، ومثل هؤلاء قد يكون لهم دورهم. ففـى إسرائيل توجد قوة غالبة ، مازالت تؤمن بأن السلام ليس ضمانا لبقاء دولتهم فقط، ولكن أيضا فرص للتوسـع علـى حسـاب العرب.
كل الأفكار، والنيات واردة. المهم أن نتعامل معها بحيـث نستفيد إلى أقصى حد ممكن ، من كل ذرة قوة في مهمة استرداد حقوق العرب، وهي مهمة طويلة ومعقدة، وأن نجدد وسـائلنا بهدف زيادة فرص المقاومة، وصقل أدواتنا.
إنه صراع طويل الأمد سنخوضه يوما بعد يوم، وسنة بعد سنة، ولا يستطيع أحد أن يتنبأ بمصيره. فهناك ذلـك العامـل الذي تذكرني به "بنت الطبيعة" دائمـا، والـذي أصـبح يثيـر السخرية، أو الازدراء، أو الاستخفاف لـدى بعـض "مفكرينـا الكبار".
لكننى مازلت أصر ، على أنه عامل أساسي حتى إن أطلق عليه هؤلاء وصف "الرومانسية الساذجة" أو غيرها من الأوصاف. فلولا هذا الخيال أو حتى "الجنون"، لولا المقاومـة الفطرية القادرة أحيانا على أن تقلب كل الحسابات ، لما تحقـق شيء في نضالنا.
من كتاب " يوميات روائى رحّال " 2008
----------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تتطور الأعضاء الجنسية؟ | صحتك بين يديك


.. وزارة الدفاع الأميركية تنفي مسؤوليتها عن تفجير- قاعدة كالسو-




.. تقارير: احتمال انهيار محادثات وقف إطلاق النار في غزة بشكل كا


.. تركيا ومصر تدعوان لوقف إطلاق النار وتؤكدان على رفض تهجير الف




.. اشتباكات بين مقاومين وقوات الاحتلال في مخيم نور شمس بالضفة ا