الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وجه الخير- أصابع النهر

كمال جمال بك
شاعر وإعلامي

(Kamal Gamal Beg)

2022 / 6 / 15
الادب والفن


بين هشاشة ال(هنا) وبين وهن ال(هناك) تنصهر الوجوه في هيولى ليس لها شكل ولا صورة معيّنة، وقابلةٌ للتشكيل في شتَّى الصُّور. (هناك) صورة مسروقة لأبيه وأخرى رُدمتْ تحت الثَّرى، و(هنا) صورتان متقابلتان، وكلاهما مستعادة بابتسامته في مرآة حمّام المشفى، وبصابون مستعار من صديقه السويدي لارش. مسح وجهه بعد الحلاقة براحتين فارغتين من خليط عطور أبيه المميّز، له رائحة لازمت ذاكرته الشميَّة، ولم يخطئ مرة في الاستدلال عليها.
(هناك) رأى الفتى سبّابة قدم أبيه اليمنى ناشفة، متفحّمةً، منفصلةً في قطعة شاش فازولين، سبقها الإبهام في الرحيل بعملية جراحية، تبعهما أصبعا الوسطى والخنصر. قدم ظلت تسعى وهي عرجاء لكسب لقمة نظيفة. هنا – أي هناك – هدّه التعب جسوره وألزمه البيت، فمشى مرفوع الرأس والصدر، جالساً بالاتكاء على راحة يديه وبقوة دفع ذراعيه.
في منتصف الثاني عشر من عمره وقفت سيارة الأجرة أمام باب بيتهم، لنقل أبيه إلى مشفى المحافظة. انتظر الجميع خروجه من الغرفة في حوش الدار الطيني، أبوه وأمه وزوجته وأبناؤه والسائق. لم يتأخر عليهم. طلب من أبنائه أن يراهم مجتمعين أمامه. ارتجفت يده قبل أن تصل فوهة مسدسه الصغير بريتا 6 إيطالي إلى رأسه. ثوان من العراك مع أصابعه حسمت لأيادي المجتمعين في سحب أداة الموت منه. ألغى السَّفر باستدارة ظهره عائدا إلى الغرفة المجلل بابها الخشبي شتاء بأقمشة ملونة. لحظات بدهر "كأن الجمع على رؤوسهم الطَّير". متسللا لحق بأبيه. عاجله بضمة من ظهره. أمسك السكين متأخراً عنها بشق في الحنجرة، رماها جانباً. رفع غطاء الباب وبكى دم أبيه صارخا. دمه الذي جرى وهو يطلب الموت، كتب له عمرا جديدا، لم تصل السكين إلى الوريد السباتي، والمتابعة الطبية اكتشفت أخطاء في المعالجة السابقة. أكثر من عشرين سنة عاش بعدها أسماها العمر الزائد. وفي اللحد أسند رأسه أخيرا ونام.
****** ******
هناك من جيل إلى جيل تتهادى الأغنيات عذوبة من القلوب وتسيل رقة على الألسن وتجري بين ضفاف الشفاه، لتنهل منها الطيور وتملأ حوصلاتها وتحلق بكل ما فيها من جمال آسر. على نقر الدفوف في بيت أهل صديقه اعتادت أذنه مع كل حلقة ذكر في الخميس تقسيم الموسيقى إلى مقاطع، وتقطيع الأوزان الشعرية بنقر الأرض بإبهام قدمه. وعلى طريق البساتين الذاهب إلى الفرات امتزجت طفولته وفتوته بين ما هو ديني واجتماعي وتراثي، في المحيا ليلة النصف من شعبان، وفي ليلة القدر، وفي السابع والعشرين من رجب.
وللنسوة جمعتهن مع أطايب الطعام والغناء، وللجيران والأقرباء حصتهم من المأكل والحلويات. وللأطفال والفتيان ألعابهم النارية. حتى النهر يبدو مسالما في تلك الأماسي وهو يحمل على ظهره قطعاً من الخشب عليها شموع مضاءة تدفعها النسوة نذوراً يخاطبن بها الخضر، ويوزعن أرغفة رقيقة مطلية بالدبس يسمونها خبز العباس! بل إن جيرانه بيت آرو من يحتفل معهم بشجرة الميلاد ورأس السنة، يشاركون أيضا في هذه الطقوس.
ومن أغنيات حبابته زهرة التي يرددنها، عن أمه عن حبابتها عمشة عن حبابتها مريم:
يا ام الثويب الأحمر يا حيف ما لو جيب
يا حبّتك بالگلب لي ما يطيح الشيب
ما اسلى وليف الجهل إلا البغال تجيب
وإلا نقصّ الغزال وتسلم الحيّة
يا ام الثويب الأحمر يا دم الرعافي
سايلتك بالنبي لا تعاشري خلافي
إن گان ميّگ كدر حدري على الصافي
وإن گان ما بي قدح ارويگ بايديّا
****** ******
و(هنا) في غرفة طبية أمسكوا به أخيرا بعدما ألقى خطبة في آخر الممر، متمسكا بفلاشة ذاكرة ألكترونية، عليها ملفات جلبها من الهناك، صارخاً: " هذه ذاكرتنا.. إن ضاعت ضعنا". ووسط لغط المتجمعين من أطباء وممرضين وعاملين ومترجمة، بدت الوجوه له بعد وخزة إبرة المهدئ باهتة ألوانها. ونام في الضباب.
مرارا ألفته المشافي والعيادات النفسية والعقلية والطرقات التي تظاهر فيها منفردا وهو يتحزم علم ثورة شعبه. وعلى مفرقين تناوبت عليه حالات الاضطراب المتباينة. صعودا إلى ما لايدركه، وهبوطا إلى ما لا يعيه، وفي هذه البئر استغل غياب أمه وأقفل باب غرفته من الداخل، وتمدد في فراشه، والتهم خليطا كبيرا من الأدوية. أسعف بعدها إلى مشفى شوبينغ على بعد ساعة، وهناك – أي هنا – تحسس وجهه المتورم بيدين حنونتين. وبعد الهبوط الثاني، وتكرار النوبة الصاعدة فجائيا اكتشف الأطباء خطأ دوائيا، مثلما تنقلوا في التشخيص من قبل بين ثلاث حالات.
****** ******
المسافة بين ال(هنا) وال(هناك) محروقة كما بدت صورتها في حجرات قلبه، وعلى سرير كل وريد أو شريان لها أنفاس نبضات تتهادى. هنا – أي هنا - الاسم المحبب عنده لارش، دكتوره الأول المشرف على علاجه، ومنقذه من التسفير إلى فرنسا وفق معاهدة دبلن، ومساعده في الشؤون الإدارية والاجتماعية. ومحاوره الذكي في الشعر والصحافة. لارش قال له بوجهه البشوش دائما: ما سنفعله معاً أن ننزل الصخر الذي على ظهرك صخرة.. صخرة. مكانك هنا. ومستقبلك هنا. لارش وفى بوعده. فبتقريرين طبيين منه تغيرت قرارات المحكمة والهجرة. ومع رسو سفينة الإقامة أبحر لارش إلى مدينة أوبسالا مكرمّا في أكاديميتها بساعات تدريس للطلبة المتدربين بعد أن أتم سنوات التقاعد. كما لو أن وجوده تصادف لإنجاز هذه المهمة. لارش أيضا أقرب النزلاء إليه صداقة، فيه من صفات لارش الحكيم الكثير، وله خصوصيات يتفرد بها عن الآخرين. وبين لارش ولارش متوالية من الأسماء. للارش الأول وأهله الطيبين شمله بإهداء كتاب، وعن صديقه كتب:
" تقاسمت ولارش في المشفى نجوم ليلة البارحة
هو يعدها بالفاكهة وأنا أعدها بالسجائر
بعد منتصف الليل تبادلنا الأدوار
أعطاني برتقالة، وأعطيته سيجارة
في الصباح افتقدت صديقي لارش في فسحة التدخين
فدخنت سيجارتين واحدة لي والأخرى للارش".
****** ******
من كيسه في المشفى .. مقتطفات من نص بعنوان وجه الخير








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع