الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة التربية والتعليم في عالم سريع التغيير

قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)

2022 / 6 / 17
العولمة وتطورات العالم المعاصر


 يعد التعليم أهم المؤسسات الحيوية المخولة بإعادة إنتاج المجتمعات وتمكينها وتطويرها بما تقوم به من وظيفة تكوّن الأجيال الجديدة بتربية وتنمية العقول ونقل الخبرة وحفظ المعرفة وتداولها، وذلك بحسب رؤية فلسفية مدركة أو مضمرة عن النخبة المعنية بأمر تسويس المجتمع وتدبيره. والمؤسسة التربوية التعليمة هي تكوينية بالأساس، إذ تنهض بمهمة تصميم وتشكيل وتمكين النمط الثقافي المرغوب في مجتمعٍ من المجتمعات. إذ مازال مفهوم العلم في الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة محاطاً بكثير من اللبس والغموض والتشويش, وذلك بسبب الخلط المضطرب بين الاستعمالات المختلفة للكلمة.يورد ابن منظور، "علم: من صفات الله عز وجل العليم والعالم والعلام .. والعلم  نقيض الجهل، علم علما، ورجل عالم وعليم من قوم علماء، والعلم بمعنى (الفقه والتفقه)، فالعلم بالشيء هو الفقه فيه. والعلم بمعنى (اليقين)، وهكذا تعددت معاني كلمة (علم) في الثقافة العربية الإسلامية لتشمل حقولا كثيرة ودلالات مختلفة، منها: العلم بمعنى التأويل والإيمان،وقد ألمح ابن خلدون في تصنيفه للعلوم إلى "أن العلوم التي يخوض فيها البشر ويتداولونها في الأمصار تحصيلاً وتعليماً هي على صنفين: العلوم الشرعية النقلية والعلوم العقلية" ورغم ما تضمنه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من إشارات إلى العلوم العقلية؛ مثل (تعليم اللهِ آدمَ الأسماء كلها) وتعليم (سيدنا داؤود استعمال الحديد)، وحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في  تأبير النخيل (أنتم أعلم بأمور دنياكم)؛ إلا أن توبي أ. هف، ذهب إلى "أن بنية الفكر والعواطف في الإسلام في القرون الوسطى بشكل عام كانت ذات طبيعة جعلت طلب العلوم العقلية وعلوم الأولين أمراً يثير الشكوك" وفي عصرنا الراهن مازال الجدل محتدماً بشأن كلمات (العلم والعالِم والعلماء) التي نطلقها على كثير من أنماط المعرفة لا يشملها مفهوم (Science) العلم بالمعنى المتواضع عليه في الابستيمومولوجيا المعاصرة. كتب ريموند وليامز: "قد تبدو كلمة Science علم - الآن - بسيطة جداً، ولكنها خضعت لمسار تاريخي واجتماعي طويل حتى استقر معناها منذ منتصف القرن التاسع عشر حينما صرّح عالم  الكيمياء الإنجليزي هول عام 1840 معربًا عن قلقه بشأن معنى العلم والعلماء، قائلا: "نحن في أمس الحاجة إلى اسم يصف من يدعي العلم Science بشكل عام بما يجعلنا نصفه بالاسم scientist عالِم"، ويضيف وليامز: "بحلول عام 1867 تم العثور على الوصفة الواثقة الواعية المستوعبة لجدة الاستعمال والمعنى الذي منحه إياها الإنجليز بمعنى علم مادي وتجريبي مستبعداً الثيولوجيا والميتافيزيقا" على هذا النحو اكتسب مفهوم العلم مسارًا متعرجًا في تحولات المفهوم وسياقات المعنى؛ ففي بواكير العصر الوسيط "كانت الكلمة scientia)) تطلق على المعرفة النسقية المكتسبة بالدراسة المنتظمة، وقد استخدمها فرنسيس بيكون بمعنى المعرفة التي تضم التاريخ والفلسفة ومبادئ الأخلاق واللاهوت ()، تمييزاً لها عن كلمة (art) التي تعني فن بمعنى مهارة وحرفة. وقد ظلت الكلمة تطلق على حقل الدراسة النظرية النظامية  حتى أواخر القرن التاسع عشر؛ إذ جرى استبعاد مجالات معرفية أساسية وأصيلة مثل الفلسفة والأدب والتاريخ واللاهوت لينحصر معنى الكلمة على العلوم الطبيعية التجريبية (الفيزياء والكيمياء والأحياء)  وهذا هو ما حفز عالم الاجتماع الفرنسي أوجست كونت إلى محاولة تأسيس علم اجتماع وضعي يستلهم منهج العلوم الطبيعية. وهكذا تم تصنيف العلوم في الابستيمولوجيا المعاصرة إلى: العلوم الطبيعية البحتة بوصفها علوماً حقيقة، والعلوم الإنسانية الاجتماعية وتأتي في المرتبة الثانية في سعيها إلى اكتساب جدارة المعرفة العلمية، والعلم هو نوع من المعرفة، لكن ليس كل معرفة علماً. ويذهب روبرت موتون إلى "أنه إذا كان مصطلح (علم) يعبر عن حقائق مختلفة للغاية، فإن علم اجتماع العلم يهتم بالصيغة التي ترى العلم بوصفه مجموعة قيم ثقافية تؤثر في النشاطات المعرّفة أو (المصنفة) علمية" وفي قاموس أكسفورد المختصر جاء: "العلم هو ذلك الفرع من الدراسة الذي يتعلق بنسق مترابط من الحقائق المبرهنة، بصيغة قوانين عامة، ومسلمات مستخلصة عبر طرق ومناهج موثوق بها، لاكتشاف الحقائق الجديدة في ذات التخصص" في ضوء ما تقدم ولأغراض هذا البحث يمكن تعريف العلم : بمنظومة الأفعال والأقوال التي يمارسها العلماء في بحث ودراسة الظواهر الطبيعية والإنسانية ومحاولة تفسيرها وفهمها والكشف عن حقائقها المحتملة على الدوام، وذلك باستعمال مجموعة من الطرق والأدوات المنهجية التجريبية والاستدلالية العقلانية بالتزام قيم معيارية موضوعية ومجردة قابلة للقياس والنقد والتقييم. وفي ذات السياق يمن لنا تعريف مفهوم العلوم الإنسانية Human Science: إذ أن مصطلح العلوم الإنسانية يتضمن العلوم الاجتماعية "فالكثيرون وعلى رأسهم كلود ليفي شتراوس, يطابقون بين مصطلحي (Human Science وSocial Sciences ) وترى يمنى طريف الخولي أن مصطلح العلوم الإنسانية الذي بدأ يسود في السنوات الأخيرة يبدو أصوب؛ لأن الإنسان هو محور هذا النمط من الدراسات. وربما بدأ التمييز بين العلوم الاجتماعية والإنسانية على نحو جاد في السنوات الأخيرة، وهذا هو ما فعله عالم النفس الأمريكي جيروم كيغان في ،الثقافات الثلاث؛ إذ حاول تحديد نطاق كل من العلوم الثلاثة: الطبيعية والاجتماعية والإنسانية في جملة من المحددات والسمات في قائمة بيانية أسماها (مقارنة الثقافات الثلاث من خلال تسعة من النطاقات). إذ حدد العلوم الاجتماعية بـعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأنثربولوجيا وعلوم اللغة وعلم السياسة وعلم الاقتصاد، أما العلوم الإنسانية فهي بحسب زعمه تضم الفلسفة والتاريخ والنقد الأدبي والجمالي والدراسات النسوية وعلم الأخلاق والدراسات الثقافية. تجدر الإشارة إلى أن جيروم صنف العلوم من منظور علاقاتها بالمنهج العلمي؛ إذ "يتفاوت العلماء في درجة اعتمادهم على ثلاثة أنماط من الهياكل العقلية حال وصفهم أو تفسيرهم للظواهر أيًّا كانت: المفاهيم والمعادلات الرياضية، وشبكات التعبير اللغوي، والوصف القائم على تنظيم المدركات الحسية" وتلك هي الأدوات المنهجية التي يستعملها كل من أراد أن يشتغل بأحد العلوم الثلاثة.في الوقع لا توجد حدود قطعية بين أنساق المعرفة العلمية الثلاثة، فجميع العلوم هي إنسانية في آخر ألمطاف بمعنى أنها من إبداع الإنسان ومن أجل سعادته، وربما كان التمييز بينها يأتي لضرورة منهجية. وبالخلاصة يمكن تعريف العلوم الإنسانية بأنها: تلك العلوم التي تهتم  بدراسة الإنسان بوصفه كائناً اجتماعياً وتضم العلوم الاجتماعية والنفسية والتربوية والاقتصادية، فضلا عن الفلسفة والأنثربولوجيا والتاريخ والسياسة والقيم واللغة والعلم والدين والأدب والثقافة عامة.
إن نظرة متأملة في تراثنا التربوي التعليمي العربي الإسلامي التقليدي تجعلنا نؤكد بإن الإطر القيمية التربوية والتعليمية المعرفية والذهنية التي كانت ولا تزال سائدة في حياتنا الراهنة لم تعد قادرة على القيام بوظيفتها أمام تحديات ومتغيرات الحياة الراهنة بل غدت عديمة الفائدة وشديدة الخطر بما تحمله من قيم تربوية وتعليمية عفى عليها الزمن .إذ ما زالت المدرسة عندنا عبارة عن مصنع لإنتاج البضاعة ذاتها منذ أبو الحامد الغزالي وسفينة الصحراء - أي إنتاج المجتمع القديم ذاته لان نٌظمناالتربوية والتعليمية هي هي لم تتغير لتواكب متغيرات الحياة النامية باستمرار ولم تفسح المجال للتلاميذوالطلاب في أن يفهموا ما يعرفونه جيدا. إن كل طالب مجبر خلال عشر أو عشرين سنه من حياته على البقاء جالسا في أحسن وقت من يومه في قاعة مكتظة اكتظاظا شبه دائم أمام الوح الأسود لكي يتابع دروسا فرضتها عليه إدارة بعيدة عنه ولاتمت بصلة تذكر إلى اهتماماته السيكولوجية والثقافية والفكرية والاجتماعية والبيولوجية أو حتى الاقتصادية والبيئية- في هذا التعليم الذي لا يعني شيئا للتلاميذ والطلاب يجعلهم يلجأون إلى الحلم والشرود الذهني أو النوم، إذ نجدهم ليسوا حاضرين حقا وفعلا في قاعة الدرس الا باجسامهم أما حضورهم الذهني فلا يكون إلا بمعدل دقائق في اليوم؛ لحظة دخولهم القاعةوخروجهم منها فقط. غير أن هدوءهم وخجلهم المصطنع في مقاعد الدراسة خوفا من العقاب فضلا عن كبت فضولهم واسئلتهم ورغباتهم مجبرين لا مختارين يتحول فيما بعد الى "غبا ارتكاسي" وسلوك منحرف وجنوح خطر إذ إن طاقة المراهقة فيهم وقد كبتت وتركت دون رعاية وتنمية وتربية ، تجعلهم يصرفون النظر عن الثقافة الجادة لحساب ثقافة تحتية أو سلبية عنيفة كما تشهد بذلك نتائج التعليم التقليدي الراهنة في حياة مجتمعاتنا العربية واجيالها المتناسلة.
أن التربية السليمة لا تقوم في تكوين بشر بحسب إنماط جاهزة ونماذج مشتركة ومسبقة التصور والتصميم ، بل تكمن مهمتها الأساسية في الإفراج في كل طالب وطالبة عما يحول دون أن يكون ذاته/ ذاتها الإنسانية الناضجة، وفي أن تخوله أن يحقق ذاته بحسب خصائصه الفردية وقدراته واهتماماته ومواهبة الشخصية العميقة التي تختزنها ذاته/ ذاتها في أعماقها وكل ما تحتاجه هو الحريّة الكافية للتعبير عنها وتنميتها، وعندما نبلغ أعمق ما في الذوات الفردية للناشئة فإن ذلك العمق هو ماسوف يكون بنائيا خلاقا وناميا وجديرا بالقيمة والتربية والتنمية نحو الأفضل نفعاً وعدلا وجمالا وخيرا وكمالاً. وحينها تستطيع الجامعة أن تحقق مثلها الأعلى في تنمية وتنوير العقول إذ أن المثل الأعلى للجامعة لا يتمثل في منح الطلاب المعرفة بقدر ما يتمثل في منحهم القدرة على فهم واستخدام المعرفة التي اكتسبوها في سنوات حياتهم العشرين الأولى وبذلك تكون وظيفتها الجوهرية هي العمل على تحويل معرفة الاولاد والبنات؛ التلميذات والتلاميذ إلى قدرة الرجال والنساء المعول عليهم في بناء وتنمية المجتمعات. في حين أن نظام التربية والتعليم التقليدي بمناهجه وأدواته وقيمه البالية هو من يعمل على هزيمة الأهتمام والفضول والدهشة والرغبة في المعرفة والانتباه وإحباط فطرة الإنسان في حب الاستطلاع والتساؤل والحلم والخيال والتخييل ومثل هذا النمط من التعليم التقليدي الذي يقوم على الحفظ والتلقين لا ينتج إلا أناسا ممتثلين أو متمردين أو منحرفين خطرين على ذواتهم وعلى أسرهم وعلى مجتمعاتهم وعلى التعليم ذاته ويعمق الغربة والاغتراب بين الافراد وحياتهم وعصرهم وزمانهم . وحين نضغط على الأطفال التلاميذ والطلاب والطالبات أو نثقفهم بثقافة الطاعة والسكون والأدب يبقوا صامتين منفذين للتعليمات بروح سلبية لا مبالية بدلا من تشجيعهم على طرح الأسئلة وتنمية قدراتهم ومواهبهم بحرية وهنا يتحول الفضول الطبيعي إلى سلبية ورغبة في تجنب الآخرين، كما يتعود الأطفال على تخطي واهمال أسئلتهم وأجوبتهم النابعة من ذواتهم الحرة وبدلا من ذلك يسعون إلى توجيه الاسئلة والاجابات التي يعتقدون إن الآباء والامهات وكبار السن والأساتذة يودون سماعها منهم، وما أن يصلوا مرحلة الجامعة حتى يكون الطفل الموجه داخليا قد أصبح الراشد الموجه خارجيا وهكذا يحل الحذر والسلبية محل الفضول والاهتمام والرغبة في التساؤل، كما يحل تدوين ملاحظات افكار الآخرين محل التفكير النابع من الذات، كما يحل التقين محل التفكير. وحين نرهق الولد بمتاع لا يجيب عن أي سؤال يعنيه ويهمه، وحين نتخمه بغذاء لا يسد أي رمق أو لا يشبع جوع، أو يبل عطش، وحين نخنق تلك الحاجة العجيبة لدى التلاميذ إلى المعرفة والفهم والاستكشاف والنشاط واللعب، أي بكلمة حين نخنق الحاجة إلى أن ينمو، أي يصير انسانا، لا طفلا كبيرا- والشرير هو طفل كبير أسيئت تربيته- وقد أكدت الدراسات العلمية إن كبت الحاجات الفطرية للفضول والتساؤل والفهم والاكتشاف عند الأطفال والمراهقين حد اختفاءها الظاهر لا يعني محوها واختفاء أثرها من حياتهم الراشدة بل يعمد الاوعي الى تأجيلها أو إزاحتها واستبدالها وتمظهرها على نحو لا إرادي تتجلى في جملة من مظاهر السلوك الشاذ أو غير السوي كحلم اليقظة والشرود الذهني، والانحرافات الشاذة، والمشاغبة واللامبالة والكسل والتسيب والتسرب والخوف والاتكال والكذب والنفاق والجبن والتهور واللا انضباط والعنف والغش والجنوح والإدمان والتطرف والسطحية والابتذال وازدواج الشخصية واضطربها وغير ذلك من الأفعال وردود الأفعال غير السوية الضارة بالحياة الاجتماعية. وهكذا يجب أن نعي ونفهم إن سيكولوجية الولد المكبوت تثأر لنفسها بطرق ووسائل سلبية وخطيرة، كما تفعل دينامية الاقتصاد المكبوت في الدول الشمولية في ازدهار السوق السوداء ومنافذ التهريب والرشوة والفساد.يقول عالم النفس كارل ساغان" أن كل فرد يولد مزود بحب الاستطلاع والدهشة مما حوله، غير أن المجتمع يتولى هزيمة ذلك في نفسه، فالأطفال الصغار الذين سيكتشفون العالم المحيط بهم ببطئ ويوجهون التساؤلات البريئة، حول، مثل لماذا لون العشب أخضر؟ أو اين الله ومن هو الله؟ ومن اين ولدت؟ وكيف ولدت؟ يواجهون بردة فعل غاضبة وصارمة وزاجرة كأن يقال لهم لا توجهوا أسئلة غبية؟ أو أستغفر الله العظيم! أو تسخر منه أو تحملق في وجهه أو تضربه .. الخ.  وهذا ما يعيق تفتح فطرته الطبيعية ونموها وتنميتها عقلانيا وإنسانيا. ومعلوم إن الكائنات البشرية تولد بغريزة فطرية بالفضول وحب الاستطلاع والتعجب والدهشة والتساؤل المؤدي إلى الاستكشاف والمعرفة والفهم وتقوم التربية السلمية على تنمية هذه القدرة الفطرية وتهذيبها. يقول جون هوليت:"ليس علينا أن نجعل البشر أذكياء، فهم يخلقون كذلك بالفطرة وكلما علينا أن نفعله هو التوقف عن تربيتهم وتعليمهم الغباء الذي نحمله"
بيد أن مسألة نمو العلم وتقدمه وازدهاره ليست مسألة علمية بل تتعين في تلك المجالات الواقعة خارج العلم حيث يتأمل البشر طبيعة الكون والإنسان بأعمق معانيها وأشدها غموضا، وحيث يخلق الخيال الإنساني المؤسسات التي تسمح للأفراد بالاستمتاع على الدوام بالفضاءات المحايدة أو الأطر الميتافيزيقية والثقافية الأوسع التي تجري ضمنها أنماط العلاقات والممارسات والخطابات التي تتشكل في سياقها تصورات الإنسان عن ذاته وعن عالمه وعن الآخرين تشكيلاً عميقاً، وهذا هو معنى الثقافة بعدها منظومة كلية مركبة من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله أو نتملكه أو نفضله كأعضاء في المجتمع، فالثقافة السائدة في حضارة ما بوصفها نموذجاً إرشادياً (باراديم) إما أنها تدعم قوى الإنسان العقلية والإبداعية أو تحد منها وتضيق فرص نموها وازدهارها. في ضوء هذا المنظور يمكن تمثيل العلاقة بين العلم والثقافة بعلاقة الابن والأم، فالثقافة هي الرحم الحي لتخصيب وميلاد ونمو العلم، فكيفما كانت صحة الأم يكون الابن سليماً أو سقيماً. وهكذا كانت وما برحت وظيفة الثقافة هي: تحضير ولادة الفيلسوف والمفكر والعالِم والفنان والمؤرخ والفقيه والأديب والناقد والكاتب والخبير والمربي والسياسي وكل ما يتصل بتفتيح وتنمية قوى الإنسان وقدراته ومواهبه العقلية والعاطفية والبدنية. والثقافة بهذا المعنى تتميز بجملة من السمات منها:
1 - التهيؤ: كما هو الحال بالتربية البدنية التي تهتم ليس بتمرين عضو معين من أعضاء الجسم الإنساني بل بتمرين وتهيئة الجسم كله وإكسابه اللياقة اللازمة للنشاط والطاقة والحيوية والحركة والاستدارة بمرونة ورشاقة.والثقافة بوصفها استراتيجية للتنمية العقلانية المستدامة، تمنح الأفراد القدرة على استعمال جميع المعارف والمهارات المكتسبة لمجابهة الأوضاع المختلفة وحل المشكلات الجديدة؛ أي (الذكاء العاطفي) إذ (هي ما يبقى بعد نسيان كل شيء) والثقافة بهذا المعنى هي تجسيد لمفهوم الهابيتوس عند بيبر بورديوبوصفها نسقا من الاستعدادات المُكتسبة بالتربية والممارسة الاجتماعية التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى الآخرين والحياة و الكون، وهو أشبه ما يكون بطبع الفرد أو بالعقلية التي تسود في الجماعة، لتشكل منطق رؤيتها للكون والعالم. ووفقاً لهذا التصور، يعد «الهابيتوس» جوهر الشخصية والبنية الذهنية المولدة للسلوك والنظر والعمل، وهو في جوهره نتاج لعملية استبطان مستمرة ودائمة لشروط الحياة ومعطياتها عبر مختلف مراحل لوجود، بالنسبة للفرد والمجتمع.
-2 الاستيعاب؛ بمعنى استخدام المعرفة وتجريبها ذاتيا؛ لأن المرء لا يستطيع أن يتصرف بمعرفة ما إلا عندما يستوعبها ويجسدها في لغته وذهنه وخبراته وتجاربه الاجتماعية. فكل معرفة غير مستوعبة من الفاعلين الاجتماعيين تظل بالنسبة لهم خارجية وغريبة ومستبعدة من حياتهم. فالمعرفة لا تتحول إلى ثقافة إلا إذ توطنت في البنية الثقافية للمجتمع المتعين وصارت نسقًا أصيلًا في تفكيرهم وسلوكهم.
-3 الشمول؛ بمعنى القدرة على الربط العميق بين المعارف المستوعبة والموضوعات والقضايا التي تبدو متباعدة، والنظر إليها برؤية كلية قادرة على الجمع بين أجزاءها في نسق فكري ثقافي منطقي واضح ومقنع.
-4 الحكم؛ بمعنى القدرة على التجرد والتجريد الذي يعني في العلم (الحلم) وفي الفن (الذوق) وفي الأخلاق (الضمير) وفي الحياة (الفهم) ذلك هو هدف وغاية كل تعليم وتعلم، فإذا كان التعليم يعلم المعرفة فإن التعلم يعلم الفهم وبدون أن يفهم الناس المعرفة التي يدعون امتلاكها تظل معرفتهم بلا قيمة ولا جدوى. والعلم هو أن تعرف كل شيء عن شيء محدد ومتخصص في علم من العلوم بينما الثقافة هي أن تفهم شيء عن كل شيء تعرفه وهذا هو كل ما يمكن انتظاره من الثقافة، وبدون هذا الـ(كل) لا وجود لشيء جدير بالقيمة والاعتبار. لاشك بأن هناك علاقة عضوية بين العلم والثقافة، فالهدف الأساسي من التعليم والتربية هو خلق الإنسان السوي الحر القادر على مواجهة مشكلات مجتمعه وعصره بروح ايجابية وسعة أفق عقلانية مرنة وخلاقة تمنحه القدرة اللازمة على التعاطي الفعال مع واقعه وهويته وتاريخ مجتمعه وقيمه و تراثه في سياق حاضره و تحدياته المتغيرة باستمرار بما يجعله قادر على بناء مركب ثقافي علمي إنساني عقلاني جديد يمزج بين أصالة الماضي وحيوية الحاضر واستشراف المستقبل. وبذلك تكون الثقافة في جوهرها الإنساني التاريخي الإبداعي بوصفها ذلك الكل المركب الذي يشكل تفكيرنا وخيالنا وسلوكنا وقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا وهي فضلا عن ذلك أداة لنقل السلوك ومصدر دينامي للتغيير والإبداع والحرية وتهيئة فرص الابتكار والمنافسات والمبادرات الفردية، وهي مصدر للطاقة والإلهام والتنوع والاختلاف والشعور بالهوية والانتماء.
إن التغيرات المتسارعة في مختلف مناحي حياة المجتمع اليوم تجعل مفاهيم التربية والتعليم التقليدية موضع تساؤل : إذ كيف نعلّم التلاميذ بينما هناك نظريات ومناهج وموضوعات يكون قد عفا عليها الزمن قبل أن يترك التلاميذ مقاعدهم في المدرسة ويضيف أننا نعيش لحظة تاريخية فارقة تجعل التغييرات في الأشخاص عاجزة عن ملاحقة سرعة التغيرات الاجتماعية والثقافية والعلمية المتسارعة في العالم المعولم الذي يشهد انفجار الثورة العلمية والتقنية الرقمية على نحو لم يسبق له مثيل من آدم حتى الآن أقصد إن المعارف العلمية والقيم التربوية في عصر العولمة وإنكماش الزمان والمكان. عصر العلم والميديا الجديدة تعيش حالة من التغيير والتبدل بوتيرة متسارعة في بضع ساعات فقط. وهذا يعني إن تحديات الحياة المعاصرة لا يمكن مواجهتها الإ بالاستجابة الإيجابية الفعالة وتلك الاستجابة لا يمكنها أن تكون الإ بتغيير جذري في أدوات ومحتويات ووسائل وطرق التربية والتعليم العتيقة. فمجتمع الغد أما أن يكون في الروضة والمدرسة أو لا يكون. وهكذا يظل سؤال التربية الملح كما كان في كل العصور. ماذا نريد أن نكون؟!
 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل