الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصر و عصور إضمحلالها( 14)

محمد حسين يونس

2022 / 6 / 18
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الجزء السابع من المقال الثالثِ.. ( سنين الإستيقاط ..وسقوط محمد علي )
خلال 23 قرن تمتد من (525 ق.م الي 1801 م ) تراوحت مصر بين أن تكون مستقلة و لكن تحكمها أسر(عائلات )غريبة عن أهلها ..بطلسية، طولونية ،إخشيدية ،فاطمية ،أيوبية بالإضافة إلي أسر مملوكية متعددة .. و في زمن تال أسرة محمد علي ..ثم أوليجاركية عسكرية.
او أن تكون ولاية من ولايات إمبراطورية سائدة مثل الامبرطورية الفارسية و الرومانية ُوالبيزنطية و إمبراطوريات الخلفاء الراشدين العرب .. فالاموية و العباسية و العثمانية ..و في زمن تال الإمبراطوريتين البريطانية ثم الأمريكية .
خلال الحالات الاولي كانت دائما ما تتكون أرستقراطية منعزلة عن أهل البلد تستعمل لغتها الخاصة وتتمتع بإمتيازات..تزيد من فقر وتخلف الشعب ليظل ينتج من أجل رفاهيتها وتمويل قصورها ..وجيوشها و أساطيلها و حروبها و إنجازاتها
و كانت عادة ما تبدأ قوية تتوسع خارجيا .. ثم مع الرخاء والترف و عدم الكفاءة و بسبب الصراع الداخلي بين أفرادها .. تضعف و تفقد تميزها .. حتي تسقطها أسرة أخرى أو إمبراطورية ناشئة .
هذه الارستقراطية كانت تحتكر .. توريث الحكم والنفوذ والسيطرة علي بيت المال و كانت تعتمد في إخضاع الناس علي جماعتين أحدهما تضم الشرطة و الامن الداخلي و الجواسيس و الوشاة .. والأخرى حزمة من الكهان تقوم بجعل تصرفاتها أمام الناس متوافقه مع أصول الدين .
في حين يعيش الشعب علي الكفاف مراقبا من العسس خائف .. تغذيه احلام إنتصارات ( أغلبها وهمية ) تجعله يشعر (وهو المغلوب علي امره ) أنه ينتمي الي بلد ترتفع اعلامها الي عنان السماء و أن مصرمش أم الدنيا فقط.. بل قد الدنيا كمان .
يكفي مناظرة الحياة الرغدة في اسكندرية البطالسة و مساحة الأقطار التي كانت تحكمها كليوبترا السابعة .. وما قابلها من تعاسة باقي أجزاء المحروسة ..ثم حزن الشعب علي كسرة (إكتيوما ) التي لم يشترك فيها الا بالتصفيق و الهتاف و التمويل .
او تلك المباني الفاخرة التي أقامها المماليك من وكالات واربع وقصورومنازل و نفوذ ملوكها و سلاطينها الذى غطي الشام و الحجاز.. في مقارنة مع قرى ومدن الشعب المهملة غير الادمية .. وحزن العامة علي ما جرى لطومان باى .. لنكتشف كم كان حجم التضليل و الشحن عميقا.لقد تصوروا المعلق علي باب زويلة منهم و يدافع عنهم .
أو الفخر بإنتصارات محمد علي و إبنه إبراهيم ..و إمتداد ملكهما شرقا و جنوبا .. في حين أنها كانت تنفيذا لتعليمات و أوامر الباب العالي .. و لم تنل منها مصر إلاالضحايا .. و فقد الثروة و الأموال التي جلبتها تحويل مصر لمزرعة قطن..ثم كارثة أن يحكمها متخلف مثل عباس حلمي الأول ..أو الخديوى توفيق .
أو ما أنفقه جمال عبد الناصر علي قوميته العربية في سوريا و اليمن و غيرها و هزائمة في سيناء و ديونه من أجل شراء سلاح تركه ضباطه في أرض المعركة و هربوا .. بينما الشعب في حالة فقر و عوز و وقوف بالساعات أمام الجمعيات للحصول علي فرخة .. و حجم الأحزان التي ودعه بها الشعب في جنازة مليونية بعد وفاته لقد تصوروا أنه واحد منهم يعمل لصالحهم .
و أترك لسيادتكم تصور ما ستكون عليه العاصمة الجديدة الصيفية و الشتوية .. بمونريلها و قطارتها السريعة .. و شوارعها وقصورها و ملاهيها و حدائقها و نوافيرها .. و مقارنتها بقرى مصر و كفورها و عشوائيات المدن و معاناة الناس من الضرائب و شتى أنواع الجباية لتسديد الديون .. ثم تهليل البعض لإنجازات الأوليجاركية العسكرية الحاكمة .

في الحالة الثانية عندما تتحول مصر الي عزبة يمتلكها الخليفة او القيصر شخصيا يكون النهب واضح و نزح الثروة للخارج واضح .. و السقوط واضح.. و الكومبرادور الذى ينفذ سياسة المستعمر أيضا واضح
و الشعب في حالة إنكسار وجهل و تخلف مستسلم للخرافات والايمان بالخوارق و حقن تسكين رجال الدين ..و علي المنكسرين توريث إنكسارهم للأبناء و الأحفاد ليستمر السقوط جيل بعد أخر.
النهب الإستعمارى لم يتوقف منذ دخول قمبيز لمنف حتي الزمن الحديث بعدما حكمت جماعة الضباط و خسرت حروبها و تدهورت بالبلاد فربطت مقطورتها بقاطرة البنك الدولي في إستعمار إقتصادى حديث يستنزف فيه كومبرادور الناس بواسطة الضرائب و الأتاوات لتسديد الديون و خدمتها .

بكلمات أخرى .. في حالة الإستقلال أو التبعية .. كان الشعب هو الضحية لإستبداد الحكام ..يعيش في فاقة و جهل .. و إستسلام .. دام ل26 قرن و لازال الإستبداد قائم ..غير الوجوه و لم يغير السياسات .
مع إنتهاء القرن الثامن عشر و جلاء قوات نابليون 1801 م عن مصر كانت الصفوة من أهلها قد تعلموا درسا جديدا ..أن بالعالم يوجد بشر يختلفون عن بني عثمان و أن عليهم ألا يقبلوا أساليب ظلم الإنكشارية و المماليك الذى عاد من جديد
وأن بمقدور مصر بالحرية و الأخاء و المساوة ..أن تخرج من جب التبعية العثمانية الي براح الحكم الذاتي الذى إفتقدته يوم مكن المرتزقة جنود قمبيز بتخطي التحصينات و إحتلال البلاد .
علي الجانب الأخر من البحر الأبيض المتوسط ..كان علماء الأنثروبولجي يعيدون كتابة تاريخ العالم و التعرف علي مصر و ما بين النهرين من جديد بعد فك رموز الهيروغليفية و المسمارية ..
وكانت اوروبا تضوى بأنوار الفنون الراقية من موسيقي و نحت و تصوير وبالية، و الفلسفات الكلية التي جعلت لاهوت العصور الوسطي يخبو و ينكسف .
وما أن إنتهي هذا القرن حتي كان هناك علم إسمه إيجبتولجي يدرس في الجامعات و يجذب الباحثين و العلماء ..و كانت نظريات مثل الدروانية و الماركسية و التحليل النفسي وقوانين الوراثة و الفلك و العلوم الرياضية و الفيزيقية الذرية و الكونتم ..تخدم التطور التكنولوجي بحيث توصلت اوروبا الي إستخدام طاقة الهواء و البخارو الوقود السائل و الكهرباء في تسيير القطارات والبواخر و الطائرات .و إستخدام التلغراف و التليفونات و أصبح العالم أكثر قربا وتفاعلا يتطور بمتوالية هندسية.. تصل بالبشر لإرتياد الفضاء و النزول علي القمر .
هذا التطور المبهر واكبة عاملين محبطين الاول هو قوة البنوك العالمية و إستخدامها القروض لفرض إرادة الدول الكبرى علي الدولة المدينة فينا يسمي بالإستعمار الحديث
ثم الاستعمار الكولوني العسكرى الذى قامت به دول اوروبا خصوصا إنجلترا و فرنسا لدول العالم الجديد و إفريقيا و أسيا ..وإستمر مع أمريكا و روسيا في تنافس مرهق علي الاسواق و مصادر المواد الخام.
و قدعانينا من كليهما بعد أن ضعف ابناء محمد علي و تحولوا إلي دمي يتلاعب بها البنوك والمستعمرون.. و حتي اليوم مع ما يسمي (بالإصلاح الإقتصادى) و ما سببه من ديون و خفض لقيمة الجنيه من جانب والتبعية لأمريكا من جانب أخر
المشهد في مصر في مدخل القرن التاسع عشر كان محزنا كما قال الدكتور عبد العزيز الشناوى في كتاب عن عمر مكرم .
(( لقد تعرض الشعب بعد جلاء الفرنسيين لفترة من أحلك الفترات التي مر بها في تارخه الحافل سادت البلاد فوضي سياسية عنيفة لم ير الشعب مثيلا لها من قبل تصارع كل من العثمانيين والمماليك علي الحكم و النفوذ.. وتصارع كل من الانجليز والفرنسيين علي السيطرة و كان الشعب الكادح هو الضحية .
.إضطرب الامن ،إنقطعت وسائل الاتصال ،تدهورت الحالة الاقتصادية و عزت الاقوات و إمتلأت مصر بأخلاط شتي من جنود كانوا ينهبون المتاجر ويهاجمون المنازل ويعتدون علي الاعراض و يخطفون العمائم من فوق رؤوس المارة و مضي العسكر العثمانلي يمعنون في عمليات السلب و النهب و القتل و ينشرون الرعب في الريف و الحضر وتدخل السيد عمر مكرم لدى السلطات لوقف هذه الاثام و لكن كان الزمام قد إنفلت من أيديهم )).

(( ولما إشتد الكرب بالشعب وجاوز الظالمون المدى قاد السيد عمرمكرم هبة شعبية هادرة في وجه الوالي العثماني (احمد باشا خورشيد ) الذى أسرف في ظلم الشعب و نجحت الهبة بإنقلاب مايو 1805 م بحيث إستطاع الشعب فرض محمد علي وعزل الوالي )) .

تاثير السنوات الثلاث التي عاش فيهما المصرى يستمع من الفرنسيين الي شعارات الحرية و الاخاء و المساواة أثمرت عن (منافيستو) وضعه الشعب وقبله محمد علي
و كان اهم بنوده ((إقامة العدل و الكف عن المظالم وعدم إستغلال الشعب و الرجوع الي الزعماء ))
و رضخ الخليفة العثماني لهذا التطور فاصدر مرسوم تعيين (محمد باشا علي) متصدرا
و (( حيث رضي بذلك العلماء والرعية )) ..و لا حاجة للقول بانها كانت المرة الأولي التي تذكر فيه كلمة الرعية في مرسوم سلطاني .

إختلف الباحثون في التعريف( بمحمد علي ) فحين رفعه البعض الي مستوى باني مصر الحديثة إعتبرة أخرون طاغية شرقي مستبد كأى حاكم ابتليت به البلاد خلال القرون الستة السابقة .
فمن المعروف أن السيد عمر مكرم فضلا عن عبد الرحمن الجبرتي إنتقداه بشدة وكان رد فعل الوالي الجديد أن عزل عمر مكرم من نقابة الاشراف ونفاه من القاهرة مبعدا إياه عن الحياة العامة بينما قتل إبن أخ الثاني و كان يعتمد علية بعد أن بلغ السبعين فتوقف بحسرته عن الكتابة حتي توفي

كل الطغاة فعلوا هذا .. عزلوا من ساعدوهم .. أو نفوهم أو قتلوهم ..أو نكلوا بهم .. و التاريخ القريب يحكي الكثير .
الشيخ محمد عبده كتب ((ما الذى فعله محمد علي ؟ لم يستطع أن يحي ولكن كان بإستطاعته أن يميت ، كان معظم الجيش معه و كان صاحب حيلة بالفطرة فأخذ يستعين بالجيش و من إستماله من الاحزاب لاعدام خصومة ،ثم يعود بقوة الجيش وحزب أخر علي من كان معه و أعانه فيمحقه وهكذا حتي إذا ما سحقت الاحزاب القوية وجه عنايته الي رؤوس البيوت الرفيعة فلم يدع فيها رأس يستتر فيه ضمير (انا ) وإتخذ من الامن وسيلة لجمع السلاح من الاهلية وتكرر ذلك منه مرارا حتي فسد بأس الاهالي وزالت ملكة الشجاعة منهم وأجهزعلي ما بقي من البلاد ،من حياة في أنفس بعض أفرادها فلم يبق في البلاد راسا يعرف نفسه حتي خلعه من بدنه او نفاه الي السودان فهلك هناك ))
((أخذ يرفع الاسافل ويعليهم في البلاد والقرى حتي إنحط الكرام وساد اللئام ولم يبق في البلاد إلا آلات له يستعملها في جباية الاموال وجمع العسكر بأى طريقة فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأى وعزيمة و إستقلال نفس ليعيد البلاد جميعها إقطاعا واحدا له ولاولاده)).

و القاريء يندهش .. هل كتب هذا الأمر في 1805 أم 1954 ..أم 1971 .. أم 2014 ..إنه خطاب صالح لكل العصور

الطرف الاخر يقول ((اتجه محمد علي إلى بناء دولة عصرية على النسق الاوروبي في مصر ، واستعان في مشروعاته الاقتصادية والعلمية بخبراء أوروبيين ومنهم بصفة خاصة اتباع سان سيمون من الفرنسيين الذين أمضوا في مصر بضع سنوات من ثلاثينيات القرن التاسع عشر وكانوا يدعون إلى إقامة مجتمع نموذجي على أساس الصناعة المعتمدة على العلم الحديث.
وهكذا جاءت دولته معاصرة في سياستها التعليمية والتثقيفية، (بإيجاد تعليم عصري يحل محل التعليم الأزهرى التقليدي) و بإقامة إدارة فعالة واقتصاد مزدهر يدعمها ويحميها،وكان يؤمن بأنه لن يستطيع أن ينشئ قوة عسكرية على الطراز الأوروبي المتقدم ويزودها بكل التقنيات العصرية دون تعليم موازى وإقتصاد قوى )).
((وهكذا عندما قرر تأسيس قوة عسكرية نظامية حديثة .. بدأ بإعادة الضبط والربط لجنود الجيش المؤلفً من فرق غير نظامية تميل بطبيعتها إلى الشغب والفوضى، معظمها من الاكراد والالبان و الجراكسة ، إضافة إلى جماعات من الاعراب الذين كان الولاة يلجأون إليهم كمرتزقة ، وبذل جهده في إنشاء جيش يضارع به الجيوش الأجنبية في قتالها ولكنه فشل فقرر أن يستبدل جنوده غير النظامية بجيش على النظام العسكري الحديث)).
بعد محاولات متعددة لتكوين هذا الجيش من الارناؤط و الارمن و الجركس لم تؤتي ثمارها إستعان بالسودانيين ففشل
((لذا لم يكن أمامه إلا الاعتماد على المصريين... قاوم الفلاحون في البداية تجنيدهم، لأنهم لم يروا مصلحة لهم فيه، واعتبروه عملاً من أعمال السخرة. ولكن بمرور الوقت تجاوبوا مع الوضع الجديد، استشعروا تحت راية الجيش بالكرامة وبحياة مأمونة الملبس والمسكن لا يعانون فيها معاناتهم في الزراعة.
وبحلول شهر يونيو من عام 1824، أصبح لدى محمد علي ست كتائب من الجند النظاميين، يتجاوز عددهم 25 ألف جندي)). سكان مصر في ذلك الزمن كان 4 مليون نسمة أى 0.6 % من السكان

((بذلك أصبح لمصر جيش نظامي بدأ يتزايد باطّراد حتى بلغ 169 ألف ضابط وجندي ( 4% من السكان ) في إحصاء عام 1833، وإلى 236 ألف ( حوالي 6% من السكان ) في إحصاء عام 1839))
(( كما أنشأ محمد علي ديوانًا عرف بديوان الجهادية لتنظيم شئون الجيش وتأمين احتياجاته من الذخائر والمؤن والأدوية، وتنظيم الرواتب
وكانت أول مشاركات هذا الجيش في حرب المورة، التي أظهرت ما وصلت إليه العسكرية المصرية من تقدم وهو ما جعل لها شأنًا بين القوى العسكرية المعاصرة ، وقد اعتمد عليه إبراهيم باشا في حملته على الشام والأناضول)).
جيش مصر الذى تكون من مصريين لاول مرة منذ 23 قرن أرسل محمد علي من أجله البعثات العلمية لاوروبا
((في عام 1813 ابتعث محمد علي أول البعثات التعليمية إلى أوروبا، وكانت وجهتها إلى إيطاليا ، حيث أوفد عدد من الطلبة إلى ليفورنو وميلانو وفلورنسا وروما لدراسة العلوم العسكرية وطرق بناء السفن والهندسة والطباعة ، ثم أتبعها ببعثات لانجلترا و فرنسا كانت البعثات الأولى صغيرة، حيث كان جملة من بعث به خلالها لا يتعدى 28 طالبًا، ورغم ذلك فقد لمع منهم عثمان نور الدين الذي أصبح أميرالاي الأسطول المصري ونقولا مسابكي الذي أسس مطبعة بولاق بأمر من محمد علي عام 1821
إلا أن العصر الذهبي لتلك البعثات، كان مع بعثة عام 1826 التي تكونت من 44 طالبًا لدراسة العلوم العسكرية والإدارية والطب والزراعة والتاريخ الطبيعي والمعادن والكيمياء والهيدروليكا وصب المعادن وصناعة الأسلحة والطباعة والعمارة والترجمة
تبع تلك الحملة حملة ثانية عام 1828 إلى فرنسا، وثالثة عام 1829 إلى فرنسا وإنجلتراوالنمسا، ورابعة تخصصت في العلوم الطبية فقط عام 1832. وشهد عام 1844، أكبر تلك البعثات العلمية والتي أرسلت إلى فرنسا، وعرفت باسم (بعثة الأنجال)لأنها ضمت 83 طالبًا بينهم اثنين من أبناء محمد علي واثنين من أحفاده. كان إجمالي عدد تلك البعثات تسع بعثات، ضمت 319 طالبًا)).
((أنشأ محمد علي العديد من الكليات وكانت يطلق عليها آنذاك (المدارس العليا)، بدأها عام 1816، بمدرسة للهندسة بالقلعة لتخريج مهندسين يتعهدون بأعمال العمران. وفي عام 1827، أنشأ مدرسة الطب في أبي زعبل بنصيحة من كلوت بك للوفاء باحتياجات الجيش من الاطباء ، ومع الوقت خدم هؤلاء الأطباء عامة الشعب، ثم ألحق بها مدرسة للصيدلة، وأخرى للقابلات (الولادة) عام 1829. ثم أنشأت مدرسة المهندسخانة في بولاق للهندسة العسكرية، ومدرسة المعادن في مصر القديمة عام 1834، ومدرسة الألسن في الأزبكية عام 1836، ومدرسة الزراعة بنبروة ومدرسة المحاسبة في السيدة زينب ، ومدرسة الطب البيطري في رشيد ومدرسة الفنون والصنائع وقد بلغ مجموع طلاب المدارس العليا نحو 4,500 طالب.))

رفاعة رافع الطهطاوى الذي صاحب ((بعثة الانجال )) كان بداية اتجاه نقل الثقافة بعيدا عن الجيش و إحتياجاته ((فاشتغل بالترجمة في مدرسة الطب، ثُمَّ عمل على تطوير مناهج الدراسة في العلوم الطبيعية.
وأفتتح سنة 1835مدرسة الترجمة، التي صارت فيما بعد مدرسة الالسن وعُيـِّن مديراً لها إلى جانب عمله مدرساً بها، وفى هذه الفترة تجلى المشروع الثقافى الكبير لرفاعة الطهطاوى ووضع الأساس لحركة النهضة التي صارت في يومنا هذا، بعد عشرات السنين إشكالاً نصوغه ونختلف حوله يسمى الاصالة أم المعاصرة كان رفاعة أصيلاً ومعاصراً من دون إشكالٍ ولا اختلاف، ففى الوقت الذي ترجم فيه متون الفلسفة والتاريخ الغربي ونصوص العلم الأوروبى المتقدِّم نراه يبدأ في جمع الآثار المصرية القديمة ويستصدر أمراً لصيانتها ومنعها من التهريب والضياع.))
((وكانت ضمن مفاخره استصدار قرار تدريس العلوم والمعارف باللغة العربية (وهي العلوم والمعارف التي تدرَّس اليوم في بلادنا باللغات الأجنبية) وإصدار جريدة الوقائع المصرية بالعربية بدلاً من التركية ، هذا إلى جانب عشرين كتاباً من ترجمته، وعشرات غيرها أشرف على ترجمتها.))
وهكذا بدأ حكم أسرة (محمد علي) بعد أن خرجت مصر من نفق المماليك و العثمانيين لترى شمس اخرى ساطعة ومحرقة.

اليوم عندما نقيم ما حدث مع مدخل قرن الانعتاق من النير البدوى المملوكي العثماني نجد أن ما عرضناه من مقولات الطرفين المختلفين (في محمد علي ) صحيحة

فهو قد بدا بداية مملوكية كديكتاتور ثم تحول الي حاكم عصرى علماني له مجلس شورى قوانين1829 وجيش حديث او فلنقول أنه بعد أن صد حملة فريزر البريطانية في رشيد وخاض الحرب الوهابية في شبه الجزيرة العربية وضم السودان بجيوش شبه بدائية جاءت حرب المورة و حملات الشام معبرة عن بصمات تطور الجيش الذى أنجب بعد ذلك البارودى و عرابي.
كيف إستطاع محمد علي تدبير تكاليف هذه النهضة و هذه الجيوش التي فاقت جيوش السلطان تنظيما و فاعلية ..لهذا حديث اخر حزين دفع قيمته شعب مصر سخرة و عمل وإستنزاف في زراعة القطن وإنتهي بمصر مستعمرة بريطانية سلمها لهم أبناء محمد علي و احفاده بإحتفاء.
فقد ورط الباب العالي (جيوش مصر ) في حروب عديده بصفتها ولاية عثمانية يحكمها الوالي محمد علي حروب في شبه الجزيرة العربية للقضاء علي الوهابية وفي السودان ثم في اليونان لردع ثورة المورة.. إنتهز الوالي المغامر هذا ليحقق إنتصارات شملت بعد ذلك التغلب علي جنود الانكشارية أنفسهم في الشام و كاد أن يصل بجيوشه لمقر السلطان العثماني .
انتهى هذا الطموح عندما تحالفت دول اوروبا ضده وارغموه بناء علي معاهدة (لندرة ) على ان ينسحب من الاماكن التي استولى عليها فى مقابل ضمانهم له أن يصدر السلطان العثمانى فرمانين (في 13 فبراير 1841) يمنح فيهما حكم مصر له و لأبنائة من بعده.

بداية التحول الحزين جاءت قبل الفرمانين بأربعة عشر سنة عندما لاقي الاسطول المصرى بقيادة إبراهيم باشا هزيمة ساحقة أمام سواحل اليونان في 20 أكتوبر 1827 فيما سمي بعد ذلك بمعركة نيفارين البحرية .
(( قتل فى المعركه 30.000 بحار من ال 42.000 الذين كانو فى الاسطول ، و غرقت 19 سفينه مصريه من ال 31 سفينه التي شاركت فى المعركه و اعداد ضخمه من الناقلات ، و ضاعت مبالغ ماليه مهوله دفعها الشعب المصرى هباء)).
بعد نيفارين تجنب محمد علي مواجه الدول الغربية و لكنه زحف(بتشجيع منها ) بجنودة إلي الشام وإستولي علي أجزاء واسعة منها تعويضا عن الاضرار التي لحقت به من حرب المورة ..وظل يحكمها ..حتي تم عقد معاهدة بين الدول الاوروبية و السلطان العثماني في لندن عام 1840 أجبر فيها محمد علي ،علي سحب قواته من الشام في مقابل ما سبق ذكره من ضمان حكم مصر له و لابنائة من بعده .
بعد الانسحاب وبمرور الوقت و تنفيذا لهذه المعاهدة الظالمة فقد جيش محمد علي قدراته القتالية ثم تقلصت أعداد جنوده و عتادهم ثم تم إغلاق معظم المدارس و المصانع التي كان قد أنشأها لخدمة احتياجاته العسكريه ..
و تفرغ بعد 1841 هو و أبناؤه ولنهاية عمره لترسيخ حكما إستبداديا في مصر و علي أراض سودانية منحه إياها الفرمان العثماني .
هل توقف بعد ذلك الزج بجنود مصرفي حروب لا ناقة لهم فيها و لا جمل.؟؟
لا ...فمنذ هذا الانكماش و السقوط وعلي مدى القرنين التاليين لم يتوقف إستنزاف الدم المصرى في حروب تفرضهاعلي الحكام قوى مسيطرة خارجية

في زمن عباس الاول حرب القرم (1855 ) بأوامر من السلطان و في (1863 ) أرسل سعيد جنودنا ليحاربوا في المكسيك بجوار فرنسا..و (1874)أرسل إسماعيل قواتنا لتحارب في الحبشة...و عام (1881 ) كانت مواجهة الثورة المهدية في السودان مع الانجليز وإستمرت حتي (1899) و ..عام (1948 ) أرسل فاروق الجيش ليحارب في فلسطين .. ثم بعدة عبد الناصر عام ( 1962 ) ذهب بقواته لليمن .. و حتي بعد الهزيمة في 67 أرسل قوات مصرية لنيجيريا .. السادات (1977 ) حارب في ليبيا و مبارك (1991 ) حارب جيوش العراق في الكويت.

فكرة إنشاء جيش قوى في مصر ظلت باقية تراود الحكام التاليين .. بين حين و أخر .. و تكلف الشعب ما لا طاقة له من أموال و جهد لشراء معداته و أسلحته و تدريبه و إعاشتة .. و تعويض خسائره ..و في النهاية ..لا نجد له دورا إلا ما تمليه عليه القوى العالمية المسيطرة .. و ما تسمح به من تسليح و قدرة و قد نقول أيضا و معارك .
لم تنتصرجيوش مصر بعد حرب الشام ضد السلطان العثماني في أى حرب خاضتها ، بل كان مصيرها في الغالب أنها أضاعت البشر و الاموال و الفرص
و كان تأثيرها (أى الحروب ) دوما سلبيا علي آليات تنمية مجتمعنا الذى بسبب إستنزاف أمواله لتجهيز الجند و تمويل المغامرات العسكرية لازال رغم مرور قرنين علي تجميد نهضة محمد علي يعاني من الردة لاساليب حكم مجتمعات ما قبل القرن التاسع عشر عندما كان يدير مصر المماليك و الدراويش بالارهاب وإفقاد الوعي .فلم تقم لنا قائمة أوإستطاعنا الخروج من أسر القرون الوسطي أو تعلم كيف نعيش في دولة معاصرة حتي يومنا هذا 2022 ..(نكمل الحديث قبل الأخير من المقال الثالث قريبا )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. توقيف مساعد نائب ألماني بالبرلمان الأوروبي بشبهة التجسس لصال


.. الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين تهز عددا متزايدا من الجامعات




.. مسلحون يستهدفون قواعد أميركية من داخل العراق وبغداد تصفهم با


.. الجيش الإسرائيلي يعلن حشد لواءين احتياطيين -للقيام بمهام دفا




.. مخاوف من تصعيد كبير في الجنوب اللبناني على وقع ارتفاع حدة ال