الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زاما -دونكيشوت- انطونيو دي بينيديتو

وليد الأسطل

2022 / 6 / 18
الادب والفن


عندما نقرأ رواية، فإننا ننصب على طول قراءتنا متوازيات، ومقارنات، التي يأتي ثراؤها من مدى قراءاتنا، وثباتها في ذاكرتنا. تمنح هذه الروابط خلفيات للكتب التي تعتبر فريدة بالنسبة لنا، والتي في رأيي، تشكل أحد الاهتمامات الرئيسية للأدب.

عند قراءتي لرواية "زاما" التي كتبها أنطونيو دي بينيديتو، وهي رواية أرجنتينية، من منظور الشخص الأول، تسرد المغامرات السيئة لموظف مدني إسباني ورجل نبيل في القرن الثامن عشر في مستعمرته النائية في أمريكا الجنوبية، فكرت في إحدى قراءاتي القديمة، أقصد(ضمير زينو) ل إيتالو سفيفو. زينو وزاما، إلى جانب التناسق الصوتي القائم بين اسميهما (من المسلم به أن زينو مجرد اسم أول)، يشتركان في بعض الأشياء، أولها، وهو بالتأكيد الأكثر وضوحًا، أن القارئ لا يمكنه الوثوق بهما، على الرغم من نيته الحسنة، براءته، أو سذاجته، ينتهي به الأمر إلى التمرد على نص صممه الكاتب عن عمد ليكون نداء مشوها، ملتبسا بقدر ما هو ترفيهي.

إن ما يكتبه زينو وزاما غير مؤكد، ومضلل في بعض الأحيان، وهو مركب غامض إلى حد ما من سوء النية الفظ والاستنكار الذاتي الخفيف. يواجه القارئ بعض الصعوبة في الحكم على هذه النصوص المنحرفة، حيث، شيئًا فشيئًا، يخلف عدم الثقة المعمم ميثاق الثقة الأصلي، مؤسس فعل قراءة الرواية. لقد كان هذان الراويان مصممين تمامًا على قول كذا وكذا، والتصرف بطريقة كذا وكذا، عندما طغى عليهما اهتمام استراتيجي أو أخلاقي مفاجئ، دفعهما إلى تغيير رأيهما. وهما بذلك يبرران تقلباتهما العقلية ب"الخير والعدل". وبالمثل، كانت لديهما إمكانية واضحة للاختيار ولكنهما فضلا استدعاء القدر لتبرير عجزهما المذنب.

ما يقدمانه كضرورة وجودية، غالبًا ما يكون مجرد اعتراف بالكسل أو القصور. وبنفس الطريقة، فإن شرفهما وأخلاقهما، اللذين تم تأكيدهما بفخر من الناحية النظرية، يجدان دائمًا في بعض تفاصيل الحياة اليومية دافعًا، لعدم وضعهما حيز التنفيذ، أو لإعفائهما من العمل، إن جاز لي استخدام هذا التعبير. إننا نجد كلا من زينو وزاما يمتلكان شيئًا ساخرًا وإنسانيًا عميقًا حولهما كذلك، حبة خشنة الملمس، مما يمنحهما عمقهما وصدقهما، على حساب عظمة روحهما المزعومة. هاتان الشخصيتان اللتان تبدوان غير بطلتين، تحملان داخلهما إنسانية أكثر، للأسف، من العديد من الأبطال. جبانان، عاديان، ضعيفان، قبيحا الأفعال. إنهما يكثفان عليهما عيوبنا. ومع ذلك، لا ينشغل القارئ بالضرورة في لعبة التعاطف. إن الشفقة التي يمكن أن يولدها الانحدار التدريجي ل زاما، على سبيل المثال، يقابلها اليقين بأن الشخصية، مكتظة بصفات سيئة، شخصية أقرب إلى لقيط سارتر الشهير من الضحية التي يدعيها. لا يهم، في الأساس، أن يشعر القارئ بالتأثر بهذه الشخصية، أو أنه يجد نفسه فيها، أو أنه ساخط عليها، فالتفاصيل الفردية أقل أهمية من النوع العام للرجل الذي تتبعه الكاتب.

مع زينو، رسم سفيفو الإنسان المعاصر، المتنقل، المتقلب، الموزع بين الإفراط في الوعي بالحاجة والرغبة المتعثرة باستمرار في العمل.
من خلال زاما، يركز دي بينيديتو على سلسلة من السمات المتناقضة والمتكررة لرجل أمريكا اللاتينية (وربما للرجل بشكل عام). هيدالغو المختال والمهين، المحلف دييجو دي زاما يدرك تمامًا ماضيه المجيد - خريج جامعي، ذكاؤه معترف به، على الأقل محليًا - مثل حاضره غير المؤكد، معزول في مدينة بعيدة، في مشكلة مع المجتمع الكولونيالي.

لقد توقع بالفعل، من خلال آلية النبوءة التي تحقق ذاتها، والتي يعتقد أنها لا تخلو من التحفظات، غدًا صعبًا وربما مأساويًا.

كنت أشعر أنني أقرأ عن إنسان يجسد الصورة التي صنعتها إسبانيا لنفسها خلال الانحطاط الطويل الذي أعقب عصرها الذهبي. لم أعد أتذكر أي كاتب شدد على أن المدة الطويلة للانحدار الإسباني (1650-1950) قد شكلت حضارة استثنائية للغاية، حيث كان الإدراك الشديد للانحدار يجاور الفكرة السامية عن الإنجازات الماضية والخوف الذي لا يقهر من مجيء الانهيار. كانت الإمبراطورية شديدة الاتساع، منهكة اقتصاديًا بسبب التضخم وهجرة السكان من عاصمتها، تخشى خسارة القليل الذي لا زال لديها من الحاضر. يلخص دييجو دي زاما نفس التناقضات مثل النظام الملكي الذي يخدمه، كما لو كان يعكس هذا الوضع الإمبراطوري المعقد.

على فترات متقطعة، أشعلت الامال والأوهام النيران في جسده، وسرعان ما أعقبها غد من الرماد. آماله الكبيرة محكوم عليها بالإحباط.

تكمن المأساة في فجوة اللاواقعية هذه بين ضعف الإنسان غير القابل للاختزال وعظمة أحلامه التي لا يمكن تجاوزها. زاما الذي يتقاضى راتبا سيئا من تاج محاصر، يحيا حياة الفقر. يحلم أحيانًا بأنه سينضم إلى المحكمة وأنه يلمع هناك. كل شيء ملك خياله. لا ينتهز الفرصة الملموسة الوحيدة التي من خلالها يقدم له حاكم المكان دعمه الفعال. رجاء كبير يدمر الآمال الصغيرة. حياته العقلية لا تستقر بين طموحات سامية للغاية وشعور كبير بالاخفاق المحتم. يُظهر دي بينيديتو رجلاً ممزقًا بين ما يود أن يكون وما هو عليه وما يعتقد أنه عليه.

يريد امرأة بيضاء من أصل إسباني، مثالية، تتوافق تماما مع ما يتوقعه المجتمع منها. امرأة شريفة ومحترمة، أيقونة. ثم عندما تصحو الرغبة الحسية فيه، عند مرور فتاة مولدة، أو بدعوة كريمة من جارة قبيحة وحيدة ومسنة، فإنه يستسلم على الفور تقريبًا. سوف يدعي أن هذا قد حدث ضد إرادته. وبالمثل، فإن إحساسه بالشرف يخدمه قبل كل شيء، كما يصرح به، لرشوة زوجة رئيسه. وهكذا ترتبط الدناءة ارتباطًا وثيقًا بعظمة الروح التي تخدمها في جميع أنحاء الرواية. يصدق زاما أكاذيبه. وبالتاكيد، إن الرجل المسكين، المقتنع بعجزه، يسمي نفسه ضحية الظروف، ضحية هذا الآخر نفسه الذي يحتل جسده، ضحية ما هو عليه دون أن يكون ضحية مستعمرة القيل والقال مثل النساء الشريرات، ضحية تردده في اختياراته، ضحية أحلام نبيلة للغاية وأفعال وضيعة للغاية.

تناقض! ف زاما يظهر في كل شيء تقريبا شخصية صبيانية، غير متسقة. لديه وعي كبير بشرفه ورتبته، لكنه يمارس أفعالاً سافلة، ما دامت تسمح له بإشباع كسله وجبنه ونزعته إلى التسويف. يدعي أنه رجل يتمتع بأخلاق عالية، رجل مخلص لزوجته المبعدة، قادر على ضبط النفس و على أن يكون عفيفا، لكنه يسلم نفسه لما يرضي جسده بمجرد أن تتاح له الفرصة - الأكثر سرية الممكنة - . إنه يرغب في الحصول على مناصب عليا، ويسعى لتحقيق ذلك بكل ضراوة ممكنة، قبل أن يسمح لنفسه بالسقوط في أفعال مخزية، وفي رحلات استكشافية بائسة.

عندما تخدمه الأحداث - لأنها تخدمه أحيانًا - يلاحظها بلمسة من الرضا الممزوجة بالندم العاطفي، بين الحزن لأنهم لم يعودوا يخدمونه والرضا بأن العدالة قد أُنجزت له أخيرًا. وهكذا، بعد استفزاز غير مؤذ من أحد زملائه - استفزاز ربما لم يكن استفزازًا، باستثناء الضمير المعذب والغريب للبطل - يندفع زاما في غضب على الجاني؛ يتقاتل الرجلان وينتهي بهما الأمر مصابين. وللحكم عليهما، يقارن الحاكم درجتيهما من النبلاء: الجاني هو الأقل لقبًا. لذلك يعاقب ويسجن في اليوم التالي. يلاحظ البطل(زاما) بارتياح هذا القرار الهرمي (هل كان يعلم أنه من الممكن؟) قبل أن يندم على هذا الارتياح بعد مدة قصيرة، مثل المنافق الصالح، ليمنح نفسه الإحساس بأنه يمتلك ضميرا حيا. وسرعان ما يدفن في أعماقه حلقة تعطي صورة متدنية جدا عن أخلاقه وشخصه. وسيظهر نفس السخرية فيما يتعلق بضيفه الأوروغواني، الذي يؤسفه موته المفاجئ لأنه يحرمه من الوصول بسهولة إلى امرأة مرغوبة. مثال آخر على تناقضاته. تعذب زاما رغبة جنسية متكررة. فهو متزوج، ترك زوجته في بوينس آيرس ولا يسعى لإعادتها. إنه يقنع نفسه أن هذا القرار هو الأفضل، وأنه فقير جدًا بحيث لا يسمح لها بالعيش معه، فهو مدرك جدا للقيمة العالية لزوجته التي لا تسمح له بإنزالها للعيش في المقاطعة البعيدة التي يعيش فيها... إلخ.
يفضل زاما أن تكون زوجته بعيدة عنه لأن هذا يسمح له بجعلها مثالية، ووضعها في مجال الأشياء المثالية التي لا علاقة لها بدناءة الرغبات الحسية.

موزعا بين رغبتين متناقضتين، السمو والدناءة، يشكل زاما كائناً مزدوجاً: زوجته هي أكثر كمالا كلما كانت بعيدة، وكلما لا يمكن الخلط بينها وبين الأجساد الدنيئة التي يختلط بها في ليالي الرغبة. وبنفس الطريقة، تلد خادمته طفلا من صلبه، فيأسف لذلك، فكيف سيربيه وكل هذا الفقر يحيط به؟ لذا فإنه يفضل أن ينظر بعيدًا ويتخلى عن كليهما! وعندما يقترح سكرتيره الزواج من الخادمة وتبني الطفل، فإنه سيقبل لما في ذلك من خير للجميع وخاصةً لمصلحته.

يمثل زاما شخصية مجمدة في نوع من الطفولة المطولة، عالم من الأحلام وعدم المسؤولية، حيث لا يمكن توقع الأفعال، حيث كل شيء ممكن دائمًا (مثل هذا المظهر النهائي المخيف للأمل عندما يضيع كل شيء، عن عمد)، حيث يلوح في البعيد مستقبل مجيد، في الأفق، حيث نكتفي من الحياة بالحلم.
في زاما شيء من دونكيشوت، ولكنه دونكيشوت منحط، بلا مبادىء، أناني وغير متسق، دونكيشوت ستبدو له طاحونة الهواء عملاقا، فيهاجمها ويهلك.

يتيح لنا المشهد الافتتاحي فهم الفكرة المغلوطة التي لدى زاما عن نفسه. ففي كل مرة يصل قارب من بوينس آيرس، حاملا الركاب والبريد، يذهب دييغو دي زاما إلى الميناء على أمل أن تكون زوجته قد أتت لتعيش معه، أو على الأقل لتنقل إليه بعض الأخبار الجديدة. لكن للأسف يصاب دائما بخيبة أمل، كونها لا تأتي.

وفي أحد الأيام، بعد خيبة أمل أخرى، بينما كان يحدق في الفضاء، شاهد النهر وهو يتدفق في المحيط، لاحظ جثة قرد، ملقاة بجوار المياه. الجثة لا تختفي، تبقيها التيارات المعاكسة بين الساحل والبحر المفتوح، بين الجنوح إلى الضفاف والغطس في المياه. وقف زاما مفتونًا، لا يرفع عينيه عن جثة القرد. ثم وبالانتقال من فكرة إلى أخرى، انتهى به الأمر برسم موازٍ بين وضعه الشخصي وهذه الجيفة العالقة بين مائيين، غير قادرة على التحرك إلى الأمام أو على أن تغرق. هذا المشهد الافتتاحي للرواية له فضيلة برمجية. فهو يمنحنا فكرة عن أجوائها. إنه يشير أيضا، بطريقة غريبة وناجحة إلى حد ما إلى المشكلة المركزية لدييجو دي زاما، المحاصر بين تطلعاته التي تغذيها مُثُل يتعذر الوصول إليها (المحيط المفتوح) ورغبته في الانحلال و السقوط (البقاء على الشاطئ). بين هذين القطبين اللذين لا يمكن التوفيق بينهما، يتأرجح زاما من دون إرادة مثل جثة القرد، وفقًا للأمواج. إنه يعتقد أنه واقع تحت سطوة واقع يتفوق عليه. ليس لديه أي سيطرة على وجوده تماما مثل جثة القرد. ينتظر بشكل سلبي الأحداث لتقرر نيابة عنه. هذا التمثيل للذات في موقف جامد ونهائي له دلالات تنبؤية. إنه يقود الرواية، كما أعتقد، إلى نقطة لا مفر منها لأن الشخصية تعتقد أنها غير قادرة على التطور أو تغيير مصيرها. ستجتمع المواجهات والمخاطر المالية والقرارات السيئة في الأخير، لتمنحه الكارثة التي كان يسعى إليها دون أن يؤمن بها، بسبب عدم قبوله أو ربما عدم قدرته على تحمل- هو الشخص "الناضج" - المسؤولية.

أعتقد أن تأريخ دي بينيديتو للحدث كان أكثر دقة من تأريخه للمكان. سيكون القارئ قادرًا على التقدير دون أن يخطئ أن أحداث الرواية تدور على الساحل التشيلي أو الأرجنتيني، باختصار، في منطقة تابعة لنائب الملك في لابلاتا. ليس هذا مهما، كل ما عليك فعله هو أن تتخيل المكان كقطاع إقليمي، منعزل ونموذجي، أي مكان في أمريكا الجنوبية المستعمرة. عدد قليل من الإسبان العابرين، وأقلية من السكان المحليين المتعلمين، والكتلة المسيطرة، والعبيد والمولاتو، تم اختزال هذا إلى أبسط تعبير، المجتمع الكولونيالي كما كان موجودًا في أمريكا الناطقة بالإسبانية لمدة ثلاثة قرون. من ناحية أخرى، يضع المؤلف روايته بدقة على محور الزمن. تدور الأحداث الثلاثة بفارق سنوات قليلة، في العشرين سنة الأخيرة من القرن الثامن عشر. هذه هي اللحظات الأخيرة للإمبراطورية الإسبانية، وهي النقطة التي يمكن عندها ملاحظة رجل من أمريكا الجنوبية قبل الاستقلال مباشرة، في آخر نقطة له من عدم النضج. لدي أيضًا انطباع بأن ما يثير اهتمام المؤلف في رواية زاما، هو نوع معين من أمريكا الجنوبية، كان لا يزال موجودًا في منتصف القرن العشرين. الجزء الثالث، المخصص لحملة استكشافية عقابية مثيرة للشفقة في الغابة، يعلن بالفعل، في صورة مصغرة، عن تمردات وثورات من أجل لا شيء، عن اللصوص الأبطال والانقلابات الدموية العنيفة التي لا جدوى منها. وجدت في هذه الأحداث ما يمكنني اعتباره صدى لمدينة سولاكو في رواية (نوسترومو) لجوزيف كونراد، وتصورا مسبقا لكانودوس في (حرب نهاية العالم)ل بارغاس يوسا، ذكرتني بما كتبه غارسيا ماركيز وكاربنتير وأستورياس. تشكل رواية دي بينيديتو نوعًا من مقدمة وجودية لتاريخ مأساة أمريكا الجنوبية.
اختار دي بينيديتو أسلوبًا متوترًا، يسود فيه التقشف والحذف والتجسيدات النصية غير المعلنة لأفكار الراوي وأنصاف الحقائق. وراء شخصية زاما المثير للشفقة تختفي الشرور القادمة من قرن ونصف من الكلام واللامسؤولية والأكاذيب وخداع الذات.

إن عدم نضج الشخصية الرئيسية يعبر أيضًا عن مجتمع كولونيالي عالق بين ميله إلى استيراد الاحلام وقمعه للكوابيس التاريخية. يتسكع في فترة مراهقة أبدية، تهدهده أحلام كبيرة جدا، تجعل حياته اليومية البائسة و الحزينة محتملة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثلة رولا حمادة تتأثر بعد حديثها عن رحيل الممثل فادي ابرا


.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب




.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي