الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التنظيم البيروقراطي: من العقلانية الإدارية إلى عرقلة الإبداع

إدريس الخلوفي
أستاذ باحث

(Lakhloufi Driss)

2022 / 6 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ادريس الخلوفي
تقديـــــــــم:
يزخر قاموس علوم الإدارة في وقتنا الراهن بجملة من المفاهيم الرنانة التي تتماشى مع موضة العصر، فلا يكاد يمر يوم دون أن نسمع مفاهيم من قبيل: "الحكامة الجيدة"، "التدبير الجيد"، "ربط المسؤولية بالمحاسبة"، وهي مفاهيم تحيل مباشرة على نية ضبط الإدارة، أو بمعنى آخر، تجويدها.
وبالمقابل نجد تناميا لموضة جديدة معادية للبيروقراطية، فكلما ذكرت البيروقراطية، إلا وجاءت حمالة لمعاني؛ تعقيد المساطر الإدارية، والشطط في استعمال السلطة، والمغالاة في تطبيق القانون، حتى أصبحت عبارة البيروقراطي سبة تصم من وصف بها.
لكن هذا التطور يجعلنا ننسى أو نتناسى الدور الذي لعبته البيروقراطية في البداية، من أجل تقنين الإدارة، وتحديد أدوارها. من هنا يمكننا أن نتساءل حول هذه "الظاهرة" على حد تعبير ميشيل كروني الذي عنون كتابه القيم حول البيروقراطية في التنظيمات الفرنسية ب "الظاهرة البيروقراطية".
- فما علاقة البيروقراطية بجودة المنتوج الإداري؟ هل هي عامل نجاعة وفعالية، أم تباطؤ وتردي؟
- ألا يمكن القول إن المفاهيم الجديدة كالحكامة مجرد تسميات جديدة لنفس المدلول الذي تعنيه البيروقراطية؟
- هل فعلا أن البيروقراطية هي قتل للإبداع والابتكار، وتشبث بالمساطر، أو بالأحرى اختباء وراءها واحتماء بظلها؟ أم أنها ضبط للعمل، ومحاربة للكسل والاعتباطية في العمل، ومحاصرة للزبونية والمحسوبية ؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات تقتضي منا أولا الوقوف عند مفهوم البيروقراطية منذ نشأته، واقتفاء أثره عبر التطور الذي شهده، وصولا إلى زمن قال فيه عنها كروزيي أنها السبب الرئيسي لتخبط التنظيمات الفرنسية في ما يسمى بالحلقات المفرغة.
وسنحاول مقاربة هذا الإشكال من خلال العناصر التالية:
1- البيروقراطية كمفهوم.
2- البيروقراطية كركيزة لتدبير جيد.
3- البيروقراطية تدبير محكم، أم قتل للإبداع.
1- البيروقراطية كمفهوم:
من الناحية اللغوية، ورد في معجم المعاني أن كلمة البيروقراطية هي: "مجموع المؤسسات الإدارية العمومية التي يتولى فيها الموظفون البيروقراطيون تطبيق سلطة القانون حسب السلم الإداري، والتي تتسم بالبطء في التنفيذ مما يؤدي إلى عرقلة السير الطبيعي لشؤون المواطنين، وهي من العقبات التي تعترض تطبيق المشاريع" .
أما المعجم الغني، فقد عرفها بكونها: "سلطة موظفي المكاتب والتزامهم ما تعودوه، ويعاب عليها كثرة الموظفين وتسلسل الرئاسات وبطء التنفيذ، روتين حكومي مغالى فيه، نظام إداري تعيق الإجراءات المعقدة فيه العمل الفعال" .
وقد تم تعريف البيروقراطية في موسوعة ويكيبيديا باعتبارها "تطبيق القوانين بالقوة في المجتمعات المنظمة... ويعود أصل بيروقراطية إلى: "بيرو" أي مكتب، المستخدمة في بداية القرن الثامن عشر ليس للتعبير عن كلمة مكتب فقط، بل للتعبير عن الشركة، وأماكن العمل. وكلمة "قراطية" هي كلمة إغريقية معناها السلطة والكلمة في مجموعها تعني قوة المكتب أو سلطة المكتب" .
إن تأملنا في التعاريف التي أوردنا، خصوصا التي تناولت البيروقراطية كمصطلح لغوي، لم تتردد في إعطاء أحكام سلبية عن البيروقراطية، حيث ربطتها بالسلطة والهيمنة والبطء في الأداء. أما تعريف أنطوني غيدنز، فإنه استنجد برائد النظرية البيروقراطية، عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر(1864- 1920)، حيث يقول : " وإن كان أول من استخدم اصطلاح البيروقراطية عام 1745 هو الكاتب الفرنسي ديغورنيه، عندما دمج بين كلمة (بيرو) التي تعني مكتب، ومصطلح (كراتيا) الذي يعني الحكم باللغة اليونانية واستخدم هذا المصطلح أول الأمر للدلالة على حكم المسؤولين أو المكاتب الحكومية، غير أنه انتشر بعد ذلك ليشمل المنظمات بصورة عامة. وجرى استعمال هذا المصطلح أول الأمر بدلالاته السلبية، حتى إن الروائي الفرنسي المعروف أونوريه دو بالزاك وصف البيروقراطية بأنها السلطة الكبرى التي يمارسها الأقزام" . وهذا الأمر يؤكد كما سبق أن قلنا ارتباط مفهوم البيروقراطية في الأذهان بالتعقيد والإعاقة وانعدام الكفاءة والتبذير والهدر. ويضيف غيدنز في سياق حديثه عن البيروقراطية، بقوله: "هي تنظيم ذو طابع تدريجي يتخذ شكل السلطة الهرمية، وقد انتشر استخدام هذا التعبير بفضل ماكس فيبر. وفي رأي فيبر أن البيروقراطية هي أكثر أنماط التنظيمات البشرية الكبيرة الحجم كفاءة. ويذهب فيبر للقول بأنه كلما كبرت التنظيمات في الحجم، فإنها تميل بالضرورة إلى أن تصبح بصورة متزايدة أكثر بيروقراطية ."
لكن لماذا رجع غيدنز في تعريفه كما قلنا إلى ماكس فيبر؟ ولماذا ترتبط كلمة البيروقراطية إلى يومنا هذا بماكس فيبر؟
إن ماكس فيبر "يعتقد أن بعض أنواع التنظيم البيروقراطي قد نشأت وتطورت في الحضارات التقليدية القديمة... غير أن البيروقراطية لم تتطور وتكتمل إلا في العصور الحديثة باعتبارها تشكل المحور الرئيسي لترشيد وعقلنة المجتمع" .
إن أهم ما يميز النموذج البيروقراطي الفيبري، هو "عدد معين من السمات المرتبطة بشكل منظم، يمارس كل موظف عملا في أوضاع تسلسلية يتأمن التنسيق بينها إلزاميا بواسطة المراقبة التي يمارسها رؤساؤه عليه. يمارس الموظف نشاطات محددة بفعل صلاحيته المزدوجة، التقنية والقانونية. إن صلاحية الموظف محددة، فهي تشكل مجموعة من الحقوق والواجبات، تستند في آن معا إلى قدرته على ممارستها وإلى تفويض صريح من السلطة التراتبية التي وظفته والتي تراقبه. يحصل اختيار الموظفين وفقا لمعايير شمولية، من حيث المبدأ على الأقل، لم يوظف لأنه قريب أو صديق أو زبون أو عميل لمن اختاره، و لكن على أساس مواصفات عامة تشمل جميع المرشحين الذين يقتضي بقوة عدم التمييز بينهم إلا بناء على أهليتهم المتحققة علنا" .
يتضح إذن أن تصور ماكس فيبر للبيروقراطية قام في الأساس على مبدأ ترشيد الإدارة، وضبطها من أجل فعالية أكبر وبالتالي من أجل إدارة جيدة وتنظيم جيد. فهل نجحت البيروقراطية في ذلك؟ أم أنها حققت نتائج عكس ما رسمه الأب الروحي للنظرية البيروقراطية؟
2- البيروقراطية كركيزة لتدبير جيد:
ليس من باب الغلو أو المبالغة اعتبار ماكس فيبر الأب الروحي للسوسيولوجيا التي اهتمت بدراسة التنظيمات. فقد كان له قصب السبق في هذا المجال من خلال إسهاماته القيمة التي اعتبرت ولازالت مرجعا مهما في هذا الباب. ونخص بالذكر هنا مساهمته في علم الإدارة، والذي أسسه فيبر على نوع من العقلانية أو الشرعية كما يسميها صاحب "الاقتصاد والمجتمع". فالبيروقراطية من منظور فيبر هي أشد تجل نموذجي لعملية الترشيد التي باتت ضرورية في الغرب. وقد حدد فيبر جملة من السمات التي ينبغي أن تتوفر في عملية التدبير البيروقراطي.
- سمات التدبير البيروقراطي:
لقد حدد ماكس فيبر مجموعة من الصفات التي ينبغي توفرها من أجل تنظيم جيد، ولعل أبرز هذه الخصائص هي:
" التنظيم الدائم لتعاون قائم على القواعد الملزمة والواضحة واللافردية.
 تقسيم النشاط إلى مجالات كفاءة محددة يسمح بإقامة صلات تبعية.
مركزية المهمات وتدريجية الوظائف المشغولة، فكل فرد يقوم بعمل خاص وفقا لتكوينه ومؤهلاته.
 الفصل الكامل بين الحياة الخاصة والحياة المهنية.
 التدوين الكتابي لكل الأحكام الإدارية" .
إن الخصائص التي ذكرنا هي حسب ماكس فيبر أشد الحلول موضوعية وأكثرها تأقلما مع المجتمعات الحديثة، فقد وجد الانتقال الذي عرفه المجتمع الغربي من النمط التقليدي الإقطاعي، إلى النمط الرأسمالي الذي فرض مجموعة من التغيرات - أو ما أطلق عليه بالتحديث- أمامه مجموعة من العراقل، فالانتقال من العمل الفلاحي التقليدي، إلى الفلاحة المعصرنة، أو الانتقال من الضيعة إلى المصنع، استلزم تعديلا في عملية التدبير، لأن المجتمع وجد نفسه فجأة أمام كيان تنظيمي يسمى الإدارة. هذا الكيان تطلب تصورا نظريا لكيفية اشتغاله، وقد كانت البيروقراطية هي الإجابة التي قدمها فيبر عن هذا الإشكال، حيث تمكن الإدارة - وبشكل أعم- الدولة من سلطة فعالة، "فالبيروقراطية أداة لسلطة الحكام أو الدولة، ولكي يساهم التنظيم البيروقراطي في رفع مستوى هذه السلطة إلى الحد الأقصى، ينبغي تحقق سلسلتين من الشروط. يقتضي أن تحسن البيروقراطية فعل ما وظفت من أجله... فالبيروقراطية هي الإدارة بواسطة الخبراء. والشرط الثاني لكي يكون الجهاز البيروقراطي فعالا، هو أن يكون البيروقراطيون مطيعين وأن ينفذوا الأوامر، حتى ولو كانت الغايات النهائية للسياسة التي يساهمون في تحقيقها تفوتهم أو أنها لا تناسبهم" .
- البيروقراطية وعقلنة الإدارة:
مما لاشك فيه أن البيروقراطية قد ساهمت بشكل كبير في بعث الطابع العقلاني في التنظيمات، فهي كانت سباقة لضبط العمل وفق إيقاعات خاضعة للقوانين، حتى قبل أن يأتي تايلور بنظريته القائمة على (OST) التنظيم العلمي للعمل. ولعل أبرز أوجه الطابع العقلاني للبيروقراطية كأسلوب للتدبير، يتجلى من خلال التسمية في حد ذاتها، فسلطة المكاتب، تحيل بوضوح إلى ضرورة الاحتكام للقوانين، وتجنب الأهواء والرغبات الفردية، والاشتغال وفق ضوابط محددة سلفا، مع احترام المسؤوليات والتراتبية الإدارية، وعدم فتح الباب أمام الزبونية والمحسوبية.
إن التنظيم في هذه الحالة يعمل على تحقيق أكبر قدر من الضبط، وعدم ترك المجال لوقوع الخطأ، أو المفاجأة. ولهذا نجد أن التنظيمات/ الإدارات قد حققت نجاحا باهرا باعتمادها على التنظيم البيروقراطي الذي كان أفضل جواب يساير التغيرات المهمة في أنماط الفعل الاجتماعي، وقد كانت هذه التحولات نتيجة للتحول الذي عرفته أوروبا، "من المعتقدات التقليدية التي ترتكز على الشعوذة والدين والعادات والمواضعات الاجتماعية، وبدأ الأفراد عوضا عن ذلك بتبني أساليب التفكير العقلاني والترشيد والحساب التي تأخذ بالاعتبار معايير الكفاءة وتوقعات المستقبل" .
هذا التحول والتوجه نحو العقلنة هو ما أطلق عليه ماكس فيبر اسم الترشيد العقلاني الذي كان من بين مؤشراته، تطور التقنية، والتوجه نحو التصنيع، ونمو العلوم، وخصوصا ظهور البيروقراطية كنظام كفيل بمسايرة هذا التطور الناتج عن الثورة الصناعية وتنامي الرأسمالية. فقد اعتبر فيبر أن البيروقراطية هي دليل قاطع على سير المجتمعات الأوروبية في الطريق الصحيح نحو التقدم والتطور، وهي كفيلة بالحفاظ على هذا الخط التطوري، بل هي الضمانة التي يمكن أن تستمر بالتقدم نحو الأمام، وتحصنه من كل إمكانية للتقهقر أو التراجع، إن البيروقراطية حسب فيبر هي قدر لم يكن هناك بد منه، فالسلطة البيروقراطية "هي الأسلوب الوحيد للتعامل مع المتطلبات الإدارية والأنساق الاجتماعية. ومع تزايد التعقد في المهمات والواجبات غدا من الضروري تطوير أنظمة الضبط والسيطرة والإدارة لمعالجتها" . ولهذا فقد كانت البيروقراطية هي الجواب الأمثل لهذه التغيرات الاجتماعية.
- البيروقراطية في الإدارة المغربية ورهان الجودة:
إذا كانت البيروقراطية كمفهوم، قد ظهرت في أوروبا منذ عهد بعيد، فإن المجتمعات النامية، ومن بينها المغرب، تعتبر حديثة العهد بهذا المفهوم. فأغلب هذه المجتمعات – ونخص هنا المغرب – لم تعرف وجودا للإدارة إلا بعد دخول الاستعمار. لذلك فإن أي حديث عن البيروقراطية في المغرب غير وارد قبل دخول الاستعمار الفرنسي، الذي دخل بدريعة التحديث والتطويرـ فالبيروقراطية في المغرب هي إرث فرنسي بامتياز. ومنذ خروج الاستعمار سنة 1956، وجدت الدولة المغربية نفسها ملزمة بالحفاظ على الإرث التنظيمي- الإداري، الذي ورثته عن فرنسا. وقد كان هناك "تحديين بارزين نصب أعين المغرب المستقل:
أولا: إعادة تشكيل الجهاز البيروقراطي على أسس وطنية.
ثانيا: إعادة تحديد أهدافه وفق مقاصد وطنية محورها تحقيق الإنماء الاجتماعي.
ولم يكن هناك بد من تحمل الجهاز البيروقراطي عبء هذه المسؤولية، ويأتي اختيار الجهاز البيروقراطي لأداء هذه المهمة نتيجة لعدة أسباب:
أولها: أن الاعتماد على البيروقراطية، يسمح للدولة باكتساب شرعية عقلانية إلى جانب الشرعيات الأخرى الجارية.
وثانيها: نتيجة الإجماع الأصيل آنئذ لدى أصحاب القرار، والنخب السياسية - عالميا وقطريا- على أن البيروقراطية تمثل الآلة الأساسية لتحقيق أي تحول مجتمعي - خاصة بدول العالم الثالث الحديثة العهد بالاستقلال- عبر تنفيذ المخططات الوطنية وإنجاز الخدمات الأساسية وتنفيذ القوانين .
وقد كانت مبادئ النموذج الفيبري هي الإطار الملائم الذي التزم به المشرع المغربي في وضع جهاز إداري مغربي عصري، وكانت أولى أسسه تتمثل في المركزية المفرطة والتي تجد أصولها في الإرث المخزني، والممارسة الاستعمارية، وهكذا بادر المغرب في اتخاذ ثلاثة خطوات أساسية:
" أ- توحيد إدارة الدولة، حيث تم على الصعيد الإداري توحيد التراب وإرجاع المناطق التي كانت تحت الإدارة الدولية والإسبانية، وتقسيم التراب الوطني إلى أقاليم وعمالات يرأسها العامل الذي يمثل السلطة المركزية.
ب- تعريب الإدارة: تلافيا للازدواجية التي تعيشها الإدارة على صعيد لغة التواصل. وبذلك صدر في تاريخ أكتوبر 1973 منشور عن الوزير الأول وجه إلى الوزراء وكتاب الدولة ونوابهم يقضي بضرورة التعريب" .
هكذا قطعت الإدارة المغربية أشواطا، ومراحل مهمة لتحقيق نتائج أفضل، تحقيقا لما يمكن أن نسميه جودة المنتوج الإداري، مستندة في ذلك على البيروقراطية الفيبرية، كأسلوب له سياقه التاريخي، وأسباب نزوله المرتبطة بالمجتمعات الغربية، لذلك فإن هذا النموذج قد عرف مجموعة من الانتقادات، خصوصا وأن المواطنين يرون فيه أداة للعرقلة والبطء... ولعل خطاب الملك محمد السادس بمناسبة ذكرى افتتاح السنة التشريعية في الرابع عشر من أكتوبر 2016، والذي تناول خلاله الإدارة كموضوع أساسي في خطابه، داعيا إلى العمل جديا على إصلاحها، لخير دليل على أنها لم تنجح في القيام بمهامها على الوجه الأمثل، إن الهدف الذي يجب أن تسعى إليه كل المؤسسات، هو خدمة المواطن. وبدون قيامها بهذه المهمة، فإنها تبقى عديمة الجدوى، بل لا مبرر لوجودها أصلا، وفي ذلك يقول صاحب الجلالة: "وقد ارتأيت أن أتوجه إليكم اليوم، ومن خلالكم لكل الهيآت المعنية، وإلى عموم المواطنين، في موضوع بالغ الأهمية، هو جوهر عمل المؤسسات. وأقصد هنا علاقة المواطن بالإدارة، سواء تعلق الأمر بالمصالح المركزية، والإدارة الترابية، أو بالمجالس المنتخبة، والمصالح الجهوية للقطاعات الوزارية. كما أقصد أيضا، مختلف المرافق المعنية بالاستثمار وتشجيع المقاولات، وحتى قضاء الحاجيات البسيطة للمواطن، كيفما كان نوعها. فالغاية منها واحدة، هي تمكين المواطن من قضاء مصالحه، في أحسن الظروف والآجال، وتبسيط المساطر، وتقريب المرافق والخدمات الأساسية منه.
أما إذا كان من الضروري معالجة كل الملفات، على مستوى الإدارة المركزية بالرباط، فما جدوى اللامركزية والجهوية، واللاتمركز الإداري، الذي نعمل على ترسيخه، منذ ثمانينيات القرن الماضي. إن تدبير شؤون المواطنين، وخدمة مصالحهم، مسؤولية وطنية، وأمانة جسيمة، لا تقبل التهاون ولا التأخير. ولكن مع كامل الأسف، يلاحظ أن البعض يستغلون التفويض، الذي يمنحه لهم المواطن، لتدبير الشأن العام في إعطاء الأسبقية لقضاء المصالح الشخصية والحزبية، بدل خدمة المصلحة العامة، وذلك لحسابات انتخابية. وهم بذلك يتجاهلون بأن المواطن هو الأهم في الانتخابات، وليس المرشح أو الحزب، ويتنكرون لقيم العمل السياسي النبيل" .
الإدارة المغربية بين البيروقراطية و "اللابيروقراطية":
إذا كانت البيروقراطية كما رأينا هي تدبير عقلاني، هدفه هو الترشيد والضبط، وإغلاق الباب أمام الارتجالية... فيحق لنا أن نطرح سؤالا جوهريا هو: هل فعلا أن الإدارة المغربية هي إدارة بيروقراطية؟
إن المجتمع المغربي هو مجتمع مختلف كليا عن المجتمع الألماني، أو باقي المجتمعات الغربية. للمجتمع المغربي ثقافة تختلف عن ثقافة مجتمع فيبر. وإذا كانت البيروقراطية نبتة غرست في التربة الأوروبية، فإن استيراد هذه النبتة لغرسها بالمجتمع المغربي قد لا يثمر نفس الثمرة.
إن تقاليد المجتمع المغربي القائمة على مجموعة من الأساليب المتحكمة فيها، والراسخة في الضمير الجمعي للمجتمع، والتي هي في الغالب ميالة إلى التقليد أكثر منها إلى التحديث. إن المجتمع المغربي مجتمع يقتات من مقولات عدة مرتبطة بالقرابة، النسب، العرق... كما نجد مقولات أخرى، تتحكم في طبيعة العلاقات الاجتماعية، كتشارك "الملح"/الطعام وغيرها كثير، هذه المقولات أو العادات تحجب أحيانا نور العقل، ولهذا نجد أن البيروقراطية في المجتمع المغربي، ربما لا تحمل إلا الاسم. هل إداراتنا هي إدارات بيروقراطية / عقلانية؟ إن الإشكال في التنظيمات المغربية ليس هو الإفراط في البيروقراطية، بل سوء فهم البيروقراطية، أو سوء استخدامها. لذلك نعتقد أنه كلام سابق لأوانه، أن نقول: إن تطبيق البيروقراطية سبب في غياب الجودة عن المنتوج الإداري/التنظيمي المغربي، لأن حكما من هذا النوع قد يبخس البيروقراطية حقها، ونحن هنا لسنا بصدد الدفاع عن البيروقراطية، بقدر ما نحاول أن نوضح أن التنظيمات المغربية ليست بيروقراطية بالمعنى الفيبري للكلمة، ربما يتعلق الأمر في إداراتنا ببيروقراطية جديدة، بيروقراطية هجينة، أو إن صح التعبير نحن أمام بيروقراطية انتهازية، وذات وجهين، ترتدي قناع القانون تارة حين يكون القانون مفيدا، وترتدي قناع العادات والتقاليد عندما تريد ذلك. إن البيروقراطية كتنظيم إداري في المغرب، كما في مجتمع "الظاهرة البيروقراطية" عند كروزيي، تستغل من طرف الموظفين الذين يلجؤون للاحتماء خلف مساطرها، من جهة لتفادي أي مسؤولية أو متابعة قد تترتب على سلوكياتهم، ومن جهة أخرى، للتخلص من العمل أو تأجيله إلى وقت لاحق. كما أن تعامل الموظفين بنوع من الازدواجية مع المساطر البيروقراطية، يجعل المرتفقين في حيرة من أمرهم، فالموظف الذي قد يتساهل في إجراء إداري مع فرد ما، لوجود علاقة شخصية بينهما، أو لاستفادته من رشوة أو امتياز، هو نفس الموظف الذي قد يحرم فردا آخر من نفس الخدمة، أو يعقد أمامه المساطر والاجراءات. مما يجعلنا نطرح سؤالا: هل نحن متساوون بيروقراطيا أمام الادارة المغربية؟ هل البيروقراطية هي التي تقول بالتوظيف بالزبونية؟ هل البيروقراطية تدعو إلى التمييز بين المواطنين؟
-3 البيروقراطية تدبير محكم، أم قتل للإبداع؟
إن الغاية من البيروقراطية، كما أوضح فيبر هي التدبير المحكم والعقلاني، "فالبيروقراطية تتصف بثلاث صفات هي: التدرج الهرمي للسلطة: إذ تترافق البيروقراطية مع المركزية في تحديد المسؤوليات والتوجيهات. فالمستويات الإدارية المتدرجة تسمح بانسيابية اتخاذ القرارات، ويتخذ كل مستوى القرارات وينفذها بسرعة، وحتى دون حصول جدل وذلك لوضوح نطاق سلطاته ومسؤولياته" ، والتنظيم البيروقراطي يسمح بوضع حدود فاصلة واضحة بين الإدارات والمصالح، وبالتالي يسهل تحديد المسؤوليات، كما يمكن من ضبط التحكم في سريان المعلومات.
والتقسيم الإداري في النظام البيروقراطي يمكن من الفصل بين الشخص البيروقراطي والوظيفة التي يشغلها، "فلا تتخذ القرارات وفقا للمعارف، أو بما يخدم الأصحاب، ويحقق المحسوبيات، بل لما فيه مصلحة المنظمة، فتتم التوظيفات والترقيات بناء على الجدارة، وليس على أساس تقديم خدمة لصديق أو قريب" .
كما أن القوانين البيروقراطية تتماشى مع مبدأ الاستحقاق وتكافؤ الفرص، والاحتكام للكفاءات، فالإجراءات البيروقراطية لا تترك مجالا للنزوات والأهواء، والتفرقة الشخصية، إنها ضمان لمعاملة الموظف، والزبون، وحتى المواطن العادي معاملة عادية، وللحد من تحكم التاجر، أو البائع، أو البيروقراطي .
لذلك يبدو من البديهي الاعتراف بأن للبيروقراطية مجموعة من المحاسن، ونقاط القوة، وذلك على الرغم من سمعتها السيئة، فهي تقدم مستويات إدارية واضحة المعالم، متخصصة، وبإمكانها تحديد المشاكل وتصنيفها، قصد التعامل معها بالشكل المطلوب، كما أنها تشجع على الاستقرار الإداري والمؤسساتي، مما يساعد على تخفيض التكاليف، وزيادة الإنتاج والأداء، واستمرارية العمل واستقراره، والمساواة، ودعم القيم والسلوكيات الرسمية الموضوعية .
لكن إذا كانت هذه العناصر التي ذكرنا كلها، من مزايا البيروقراطية فلماذا كل هذا التذمر منها؟ لماذا أصبح الجميع يشتكي من ثقلها وبطئها؟ هل نحن فعلا أمام أفول نجم البيروقراطية؟ هل انحرفت البيروقراطية عن مسارها الصحيح؟ أم أنه التطور تجاوزها ولم تعد مواكبة لسرعة تطور التنظيمات؟ وهل آن الأوان لميلاد باراديغم جديد يحل محل الباراديغم البيروقراطي؟ أم نحن أمام بيروقراطية تحمل أسماء جديدة؟
ـ البيروقراطية كأداة للضبط:
مما لا شك فيه، أن البيروقراطية كأداة لتدبير وتسيير التنظيمات، هي وسيلة فعالة من أجل الضبط، فهي جملة من المساطر، والقوانين التي تفرض على التنظيم إتباعها في إنجازه، ومراقبته، وتتبعه للأهداف التي أنشئ من أجلها. فالفاعل داخل التنظيم، سواء أكان مديرا أو موظفا أو عاملا... هو ملزم بإتباع القانون، من خلال تطبيق المذكرات، والمساطر، واحترام الاختصاصات، والصلاحيات، وهذا الأمر يعطي للتنظيم قوة وفعالية، كما يمكنه من رسم سبل ومناهج واضحة ودقيقة من أجل تحقيق غاياته، هذا الأمر يجنبه كثيرا من المفاجآت أو النتائج غير المتوقعة، وإن كان الأمر بشكل نسبي، إلا أنه يبقى فعالا.
إن كل العلاقات التي تدور داخل تنظيم يحكمه الطابع البيروقراطي، هي في الواقع/ أو هكذا أريد لها، علاقات رسمية relations formelles ؛ أي أنها علاقات تمت صياغتها بواسطة المعايير أو القواعد الرسمية لنظام السلطة. وهي بذلك تهدف إلى تجنيب التنظيم من التحول إلى فضاء لقضاء الأغراض، أو المصالح الشخصية، فلكل فاعل داخل التنظيم، دور محدد ومضبوط قانونيا، حيث أن هامش الحرية يبدو شبه منعدم. كل الحركات محسوبة ومؤطرة تفاديا للسقوط في الاعتباطية، أو العمل وفق النزوات والأهواء، إذ أن التنظيم البيروقراطي يعمل على الفصل بين الشخص البيروقراطي والوظيفة التي يشغلها. "إن أكثر نقاط القوة في البيروقراطية، على الرغم من سمعتها السيئة، هي أنها تقدم مستويات إدارية واضحة المعالم، متخصصة، وبإمكانها غربلة المشاكل، (...) ناهيك عن استقرار المؤسسات العامة والخاصة" .
- البيروقراطية قتل للإبداع:
إذا كانت البيروقراطية كما رأينا، أداة للضبط، فهذا لا يمنع من وجود ثغرات، أو نواقص للتنظيم البيروقراطي، ولعل هذا ما يحاول إبرازه عدد من المفكرين وعلماء الاجتماع، خصوصا منهم أنصار البنائية الوظيفية، الذين وجهوا انتقادات كبيرة للنظريات الكلاسيكية في التنظيم، خصوصا فيما يتعلق بالإدارة البيروقراطية، والنظريات ذات البعد الواحد.
• البنائية الوظيفية:
إن المنطلق الأساسي للنظرية البنائية الوظيفية، هو كون الظواهر تتشابك فيما بينها، وأن التنظيمات عبارة عن أنظمة اجتماعية، تتكون من مجموعة من الأنساق الاجتماعية الفرعية، تتفاعل فيما بينها، وتهدف إلى تحقيق التكيف مع المحيط. إن التنظيم حسب هذا المنظور أشبه بالكائنات الحية، لها حاجات للاستمرار في الوجود، والتكيف مع البيئة، وتحمل بين أجزائها نمطا من الاتصال المتبادل. والتنظيمات هي أنساق مترابطة تتفاعل فيما بينها، كما تتفاعل مع المحيط. إن التنظيم حسب هذا التصور هو نسق اجتماعي يعمل ضمن نسق أكبر، ويحتوي في نفس الوقت على أنساق فرعية تتفاعل فيما بينها لتحقيق وظيفة بنيوية ضمن النسق الكلي.
ولعل أبرز مساهمة في هذا الإطار، هي تلك التي صاغها روبرت ميرتون،"Merton" الذي طرح جملة من القضايا، في تحليلاته الخاصة بالبناءات البيروقراطية، في إطار المدخل الوظيفي، والتي يمكن تلخيصها في العناصر الآتية:
- البناء الاجتماعي يتميز بطابع الرسمية والعقلانية في تحديد أنماط النشاط التي ترتبط في صورة وظيفية لتحقيق أغراض وأهداف التنظيم التي يرمي إليها.
- كل بناء تنظيمي حالة متكاملة من سلسلة من الوظائف مع قواعد والتزامات محددة.
- ضرورة توفير عنصر الكفاءة والفعالية وتحديد المسؤوليات المختلفة.
- السلطة قوة للضبط والتحكم داخل التنظيمات.
- المكانة العلمية والمعرفية تتحدد حسب دور الفرد التنظيمي، وتسلسله الإداري والمهني داخل بناءات التنظيم .
وعلى الرغم من أن ميرتون قد انطلق في تحليله من النظرية البيروقراطية، إلا أنه ركز على الجانب الوظيفي، فاعتبر أن البيروقراطية برشدها وعقلانيتها، وبتحديدها الأهداف المرجوة من التنظيم، وتحديد المسؤوليات وتنظيم العمل، فعلا تساعد على ضبط السلوك والتنبؤ به، لكنها تهمل شيئا أساسيا في نظر ميرتون، هو اتجاهات الأفراد، ومشاعرهم، والجماعات غير الرسمية التي تتكون داخل التنظيم الرسمي، والتي تلعب دوراه مهما.
وهو لا يقف عند هذا الحد، بل يؤكد أيضا على الملامح الوظيفية للبيروقراطية، ومدى أهميتها في الإدارة والتنظيم، والتي تكون في الغالب على حساب مشاعر واتجاهات الأفراد، فالقواعد المعيارية المجردة، تخلق نوعا من الصراع بين الأعضاء الرسميين، كالصراع على السلطة والتسلسل الإداري، فبالضرورة عند حدوث ذلك تظهر الحاجة إلى جماعات غير رسمية ثانوية تكون مهمتها تنظيم العلاقات الاجتماعية وتهتم بشؤون الأفراد. إن روبرت ميرتون لم يسع إلى "نفي صدق النموذج البيروقراطي لفيبر، لكنه سعى إلى توضيح جانب آخر، هو النتائج التي تتخذ اتجاها معاكسا لأهداف الفعل وأسسه" التي تؤدي إلى جمود السلوك وصعوبة التكيف مع مهام الوظيفة (المعوقات الوظيفية).
"حتى تصبح الصورة أكثر وضوحا، يسوق ميرتون مثال البيروقراطي الذي لا يخدم موقعه في الهيرا ركية {La hierarchie}، ويتصرف كممثل للقوة والهيبة في البناء الكلي، فيقوده ذلك إلى اتجاه استبدادي فعلي وواضح، وهذا التعارض بين متطلبات الموقع، والخروج عنها يثير احتجاج المكانات الدنيا، ويدعو إلى تضامنها، وهذا الصراع يحدث في المشاريع الخاصة بصورة أكثر وضوحا، أما في المؤسسات العامة يزيد التوتر بسبب التناقض بين الإيديولوجيا والحقيقة" (Merton 1968) .
هكذا يمكن القول، إن ميرتون قد انطلق في دراسته للتنظيم من النموذج المثالي للبيروقراطية كما وضعه فيبر، ثم حاول أن يوضح لنا الجانب الآخر للتنظيم البيروقراطي من الداخل. فإذا كان فيبر قد أكد على الجوانب الإيجابية للقواعد الرسمية في التنظيم البيروقراطي، تلك القواعد التي تضمن ثبات واستقرار البناء التنظيمي والتنبؤ مسبقا بسلوك أعضائه، فإن ميرتون قد أوضح لنا الجوانب السلبية لهذه القواعد، وما يمكن أن يؤدي إليه ثبات سلوك الأعضاء من تصلب وجمود سواء في التعامل داخل التنظيم أو في التعامل مع المحيط. بمعنى آخر، فقد أكد ميرتون أن للقواعد والإجراءات البيروقراطية وظائف ظاهرة وأخرى كامنة، وأن فيبر قد أكد على تلك الظاهرة وأغفل الكامنة منها، لذلك حاول ميرتون الإسهام في توضيح الوظائف الداخلية أو الكامنة في تحليله للنظام البيروقراطي، وقد عرض ميرتون تصوره النقدي هذا في مقال نشره عام 1940 تحت عنوان "البناء البيروقراطي والشخصية" .
- كروزيي والحلقات المفرغة للبيروقراطية:
إذا كانت نظرية الحلقات البيروقراطية المفرغة، تعود إلى جملة من المفكرين الذين عملوا على كشف حدود نموذج التنظيم البيروقراطي كما تصوره فيبر، فإن كروزيي قد عمل على إبرازها ميدانيا، في دراسة له بعنوان "الظاهرة البيروقراطية"، فقد قام بدراسة ميدانية لمشروعين من المشروعات العامة في فرنسا. وقد تمكن كروزيي من تجميع البيانات عن طبيعة العمل، وترتيب القوة العاملة، وحالة الإنتاجية، والروح المعنوية للعاملين، بهدف الوصول إلى صورة عامة للطبيعة البيروقراطية وآثارها، وربط المشكلة البيروقراطية بالإطار الثقافي والحضاري للمجتمع، "وقد اعتبر أن البيروقراطية حلقة جهنمية تقوم على العناصر الآتية:
- القواعد التفصيلية التي تحدد وظائف كل فرد في التنظيم، والتي توضع دون أي اعتبار للعامل الشخصي.
- تركيز سلطة اتخاذ القرارات في أيدي الأفراد، الذين يبعدون بحكم مناصبهم عن الميدان الحقيقي للعمل.
- انعزال فئات العاملين المختلفة وخضوع الفرد لضغط الجماعة"
وقد قام كروزيي بدراسة البيروقراطية على اعتبار أنها ظاهرة للروتين والتعقيد والجمود في التنظيمات، فالعناصر الثلاثة السابقة هي التي تشكل مظاهر الروتين، كما يرى أن مصدر الروتين ليس الفرد في حد ذاته، ولكن تأثير جماعة العمل وجو العمل على الفرد.
إن التنظيم البيروقراطي حسب كروزيي، هو تنظيم جوهره الثبات والاستقرار، والتغيير داخل هذه التنظيمات، هو شكل من أشكال معالجات اضطرارية للأزمات الطارئة، أو المتراكمة على امتداد مراحل التنظيم، فالتنظيم وإن كان ظاهريا يبدو في حالة استقرار "يكون مضطرا بشكل مستمر للعمل على مواجهة التحولات التي تفرض عليه، سواء من الداخل أو الخارج، ولا تطرح مسألة تغيير النظام البيروقراطي، إلا عندما يتعرض لأزمة هيكلية (...) حيث يحتفظ بالبنيات والأنساق البيروقراطية، طالما لم يصل الخلل الوظيفي مستوى تهديد حياة التنظيم برمتها (...) بهذا المعنى يصير التغير داخل التنظيمات البيروقراطية ملازما للأزمة (...) وذلك بسبب طول المدة التي يتطلبها تنظيم ما، حتى يعترف بالخلل البنيوي، والذي يمكن أن يترتب عن تراكم الاختلالات الوظيفية. وكذلك بسبب ما تتطلبه مقاومة هذه الاختلالات من جهود تنظيمية.
تتميز وتيرة التغير في التنظيمات البيروقراطية بالبطء، وبوجود مراحل ممتدة من الاستقرار، ومراحل قصيرة تطبعها الأزمات والتغيرات" .
لكن كيف يمكن للتوغل في البيروقراطية أن يسقطها في ما أطلق عليه كروزيي "الحلقات المفرغة" ؟
لقد أثبتت دراسات كروزيي حول تطوير أو إتقان النموذج البيروقراطي، أن تصميم التنظيم على أساس مضبوط ومعقلن، ومطالبة الفرد أن يتصرف طبقا للمتطلبات المحددة تنظيميا غير كاف لتحقيق تصرف رشيد، وأن فاعلية التنظيمات لا يمكن تحقيقها من خلال سن التنظيم لجملة من القواعد والقوانين الرسمية، والبيروقراطية، بل بالعكس فإن تنميط التصرفات يشجع على خلق سلوكات نمطية عند المسؤولين، والموظفين في التنظيم البيروقراطي. إن هذه السلوكات النمطية بالإضافة إلى التركيز على تحقيق أهداف التنظيم بشكل أكثر ضبطا؛ هو نتيجة طبيعة للثقة التي يضعها التنظيم في قواعده وضوابطه البيروقراطية، لكن بالموازاة مع ذلك يخلق هؤلاء الفاعلون أهدافا خاصة بهم، حيث يصبح من الضروري للمسؤولين والعاملين أن يحددوا أهدافا لأنفسهم، لتحمي بقاءهم في التنظيم البيروقراطي الذي يتصف بالقواعد العقابية. إن الأهداف التي يضعها المسؤولون لأنفسهم داخل التنظيم البيروقراطي تصبح هي- من ناحية عملية- أهداف التنظيم البيروقراطي، وهذه الظاهرة هي ما تعرف باختراق التنظيم غير الرسمي للتنظيم الرسمي.
إن التنظيم البيروقراطي الذي يعتمد على التخصص الدقيق، وتوزيع الأدوار، بحيث يكون الأشخاص محايدين ومعتمدين على بعضهم البعض، غالبا ما يؤدي إلى خلق نوع من الدفع بعدم الاختصاص والاعتماد الزائد على الضوابط والقوانين. لكن زيادة الاعتماد على القوانين التي تتطلب تصرفات نمطية يؤدي إلى جمود، هذا الأخير يؤدي بالتالي إلى كسل وزيادة في الصراع. إن عدم إتمام الأعمال وزيادة الصراع تخلق بدورها الحاجة إلى ابتكار مزيد من القواعد والقوانين الجديدة على اعتبار أن الأولى لم تعد كافية، لأن مناطق اللايقين التي يعجز التنظيم على ضبطها تزداد اتساعا، ومن هنا تخلق الدائرة المفرغة للبيروقراطية على حد تعبير ميشيل كر وزييه.
إن نقطة القوة التي يتميز بها التنظيم البيروقراطي، تمثل في الواقع العملي، والممارسة أكبر معوق لكي يكون التنظيم البيروقراطي فعالا. فمثلا التخصص والتحديد الدقيق للاختصاصات بقدر ما هو مفيد لتحقيق السرعة والكفاءة، بقدر ما يعمل على تحديد المسؤوليات، وبالتالي المساءلة، نجد أن هذه الميزة نفسها تكون أحد نقاط الضعف القوية. فالدفع بعدم الاختصاص ظاهرة واضحة في أي تنظيم بيروقراطي.
وحتى الإجراءات الروتينية المفروض فيها أن تؤدي إلى تنفيذ العمل بسهولة، ويسر، نجدها في الممارسة العملية، انقلبت وأصبحت روتينا جامدا سخيفا، يجد سندا له من خلال القواعد الرسمية وتركيز القرارات والفصل بين المستويات التراتبية.
إن القواعد الرسمية والتي من المفترض أن تحقق العدالة والنظرة غير الشخصية، تؤدي في الممارسة العملية إلى الالتزام بها حرفيا، وتشجع على المظاهر، والشكليات التنظيمية بصرف النظر عن النتائج، الأمر الذي يؤثر سلبا على مردودية التنظيم، وبناء على ذلك فالإدارة تتدخل للإصلاح عن طريق سن قواعد جديدة أكثر إحكاما من القواعد القديمة، وغالبا ما تكون قواعد عقابية. والنتيجة الطبيعية، أن يلتف الأفراد في مجموعات للدفاع عن مصالحهم المهددة ويكون دفاعهم بشكل غير واضح، وغير معلن مما يؤدى إلا تأخر الأعمال الذي يؤخذ من جانب الإدارة العليا على انه فشل، فتتدخل بقواعد ردعية وهكذا تعمل الحلقة المفرغة: مناورة الفاعلين للتحايل على القوانين يدفع الإدارة إلى إبداع قوانين جديدة، هذا الأمر يدفع التنظيم إلى الاجتهاد في تعديل القوانين وهكذا في عملية لا تنتهي.
حتى الأفكار الجديدة تستوعبها أهداف الأفراد، وأهداف المجموعات، وتعدلها بالكيفية التي تلائمها، وإذا لم تكن في مصلحة الفاعلين، ترفض هذه الأفكار الجديدة باسم المحافظة على مصلحة التنظيم، ولكن الواقع هو المحافظة على أهداف الفاعلين في التنظيم .
إن أي محاولة للتصحيح في التنظيم البيروقراطي مصيرها الفشل حيث تعمل (الحلقة المفرغة) بطريقة فعالة.
وفى رأي كروزيي أن (التنظيم البيروقراطي) في الواقع العملي والممارسة العملية هو التنظيم غير القادر على تصحيح أخطائه في الوقت المناسب.
في الوقت الذي يكون من المفروض فيه أن يتعاون أفراد التنظيم، فإنهم يتنافسون وإذا تعاونوا فإنهم يتعاونون على تحقيق مصالحهم المستقرة والشخصية أما أهداف التنظيم فليس لها اعتبار، والنتائج لا تأخذ الأولوية التي تستحقها، فالذي له اعتبار هو عدم مخالفة القوانين، وتحدد القوانين كل شيء فعلاقة الرئيس برئيسه محددة بالقانون ولا يستطيع الرئيس أن يفصل الموظف غير الكفء إلا من خلال مجموعة من المساطر المعقدة، أما سوء العمل فليس كافيا. كل فرد إذن محمي من رئيسه وغير مطالب بالابتكار وخاضع كلية للمساطر كما أن القرارات الكبيرة والمهمة تتخذ في أعلى مستوى.
بالإضافة إلى كل هذا نجد نوعا من التضامن بين الفاعلين من نفس الشريحة الوظيفية أو المتقاربين على مستوى السلم التراتبي، لهذا فقرارات الإصلاح الصادرة من الرئاسة، مصيرها أن تكون حبرا على ورق، لكل الأسباب المتقدمة متفاعلة مع بعضها، ولا يمكن تحقيق إصلاح في أي جهاز بيروقراطي إلا من خلال أزمة تهدد كيان الجهاز كله، ففي حالات الأزمة التي تهدد مصالح التنظيم كاملا، وبشكل قوى يمكن حينئذ أن يبدأ الإصلاح.
ولقد توصل ميشيل كروزييه في كتابه: "الظاهرة البيروقراطية" إلى أن التنظيم البيروقراطي، هو تنظيم ليس فقط غير قادر على تصحيح أخطائه في الوقت المناسب، بل أيضا التنظيم الجامد جدا الذي لا يمكن إحداث تغيير فيه إلا بناء على أزمة .
خاتمـــــة:
إن المشكلة الحقيقية في البيروقراطية، هي عدم رغبة الموظف في تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات، لأن ذلك يكون في الغالب متبوعا بالمحاسبة، وتحمل المسؤولية، وبالتالي يقلل من فرص الاستقرار، الذي يتمتع به الموظف الذي يحتمي بالقواعد والقوانين، لهذا يفضل الفاعل ترك مخاطر المسؤولية، ومتاعب السلطة لمن هم أعلى منه في المستوى. فالروتين يحمي الفرد من رؤسائه وزملائه، وبالتالي فالجميع لديهم الحافز للمحافظة عليه وتدعيمه، وتتضح آثار هذا الروتين في التنظيمات البيروقراطية من خلال:
- انخفاض الإنتاجية.
- تدهور الروح المعنوية.
- الانعزال الاجتماعي.
- نقص أواصر الصداقة بين أفراد المجموعة الواحدة.
كل هذه العناصر تؤثر بشكل لا يدع مجالا للشك في قتل روح الإبداع والمبادرة داخل التنظيم، وتترك آثارا تتفاعل وتتفاقم، وينتج عنها صعوبات وتعقيدات تنعكس على كفاءة التنظيم، وإنتاجيته مما يؤدي إلى تدعيم المركزية والقواعد غير الرسمية في التنظيم، وبالتالي اتساع رقعة "مناطق اللايقين" داخل التنظيم البيروقراطي.




بيبليوغرافيـــــــــا
 أنتوني غيدنز، علم الاجتماع، ترجمة د. سليم حداد، ديوان المطبوعات الجامعية الجزاْئر ط1. 1986، ص 409.
 أنتوني غيدنز، مقدمة نقدية في علم الاجتماع، ترجمة أحمد زايد وآخرون، مطبوعات مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، كلية الآداب، القاهرة، ط 2، 2006، ص 217.
 ر. بودون وف . بوريكو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ترجمة د. سليم حداد، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر، ط1، 1986، ص 109.
 جيل فيريول، معجم مصطلحات علم الاجتماع، ترجمة أنسام محمد الأسعد، دار ومكتبة الهلال بيروت، ط1، ص 38- 39.
 خطاب الملك محمد السادس بمناسبة افتتاح السنة التشريعية، 14 أكتوبر، 2016.
 رندة اليافي الزهري، الإبداع الإداري في ظل البيروقراطية، عالم الفكر، المجلد 30، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت، مارس 2002، ص 258.
 السيد الحسيني، علم اجتماع التنظيم، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1994، ص 83.
 حسين عبد الحميد أحمد رشوان، علم اجتماع التنظيم، مؤسسة شباب الجامعة، 2004، ص 110.
 محمد عبد الكريم الحوراني، النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، ط 1، 2008، ص 120- 121.
 محمد الجوهري وآخرون، ميادين علم الاجتماع، دار المعارف، القاهرة، ط 5، 1980، ص 227.

 M.crozier, le phénomène Bureaucratique, Ed, point, 1963. PP.257- 259
 WWW. Almaany.com/ar/ alict/ ar- ar
 موسوعة ويكيبيديا، https : //ar. m . wikipedia. Org
 الشبكة العربية للإدارة، www.arabmn.com
 فؤاد بالحسن الخميسي، الحوار المتمدن WWW.m.ahewar.Org








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هجوم إسرائيل -المحدود- داخل إيران.. هل يأتي مقابل سماح واشنط


.. الرد والرد المضاد.. كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟ و




.. روايات متضاربة حول مصدر الضربة الإسرائيلية لإيران تتحول لماد


.. بودكاست تك كاست | تسريبات وشائعات المنتجات.. الشركات تجس الن




.. إسرائيل تستهدف إيران…فماذا يوجد في اصفهان؟ | #التاسعة