الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فرج فودة … عِشْ ألفَ عام!

فاطمة ناعوت

2022 / 6 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في شهر يونيو من كلّ عام، يتذكّر المثقفون داخل مصر وخارجها رجلا نبيلاً من طراز فريد، غُدِر برصاصتين في قلبه، فعاش أكثر من قاتليه. خَلُدَ اسمُ المفكّر التنويريّ في ذاكرة العالم، واندثر اسمُ قاتله، الذي نجا بجريمته. فالعظماءُ عصيّون على النسيان وإن رحلوا، والخاملون منسيون وإن عاشوا.
كان من أوائل مَن فضحوا فِكرَ الإخوان الانتهازي وشهوتهم العمياء للوصول إلى كرسي الحكم سيرًا على جثامين البشر. ولا شك عندي بأن آراءه التي طرحها في كتبه، لو كانت دُرِّست في المدارس منذ أربعة عقود، لما استفحل الفكر المتطرف الذي خرّب وجه مصر المشرق نصف قرن. هو الرجلُ الوطني الذي أحبَّ مصرَ بكل خفقات قلبه فقدَّم روحَه قربانًا لتنوير دروب صنع عتمتَها ظلاميون سُودُ القلوب شاغرو العقول. دافع عن العقل النقدي البناء الذي يفكّر ويحلل ويستنتج. وتنبأ بأن الشعب المصري سوف يلفظ الفكر الإخواني والتطرف، وصدقت نبوءةُ الرجل المستنير.
في يونيو ١٩٩٢، اخترقت رصاصةٌ عمياءُ قلبَ رجل كان يحلم بمصر أجملَ وأعدلَ وأكملَ وأرقى، فدفع عمرَه ثمنًا لهذا الحُلم العصيّ. طارت روحُه إلى عالم العدل والكمال، ولم تزل كلماتُه في عقول من حملوا عنه مشعلَ التنوير؛ فعاش أكثر من قاتليه الذين لا يذكرهم أحدٌ إلا باسم: “قتلة فرج فودة"؛ فأصابتهم لعنةُ أن يظلوا نكراتٍ حاملين اسم شهيد استشهد على أياديهم. لكن حلمه العصيّ بدأت ترتسم ملامحُه اليوم في مصر الراهنة.
حارب الإرهاب الفكري في كتابه "النذير"، قائلا: "تيار الإسلام السياسى نجح فى تكوين دولة موازية، تستخدم نفس أجهزة ومؤسسات الدولة الحاكمة". استشرف مبكرًا خطر جماعة الإخوان، التى كانت الرافد الأساس للإرهاب المسلّح منذ ثلاثينيات القرن الماضى، وأفرخت تياراتٍ وليدةً تمارس أشكالا شتى من العنف باسم الدين.
أحدُ صنّاع الجمال الذي علّمنا أن ننتقدَ ما يحيد عن ساحة الجمال والتحضُّر. عاش يحاربُ القبحَ والعنفَ والوحشية التي تُبكي وجهَ السماء. فحاربه أعداءُ الجمال مثلما حاربوا "نصر أبو زيد"، و"الإمام محمد عبده"، و"طه حسين" و"الحلاج" و"السهروردي" و"ابن عربي" و”أبو بكر الرازي” و"ابن رشد"، وكل مَن دعا إلى إعمال العقل بالعلم، وإعمار القلب بالحبِّ من أجل الوصول إلى جلال الله الأعظم. فيهم مَن كُفِّر ومن نُفي ومن قُتِل ومن قُطّعت أطرافُه وحُرق وصُلب وضُرب على رأسه بمؤلفاته حتى فقد البصر. لكنهم جميعًا خُلِّدوا وانقطع ذكرُ قاتليهم.
أوقنُ أن يومًا قريبًا، في ظلّ "الجمهورية الجديدة" المستنيرة بنور العلم والفكر والعدل والتحضّر والسمو، سوف يشرقُ اسم "فرج فودة" على مدرجات الجامعات وفي كتب المدارس ومناهج التعليم حتى يتعرّف النشءُ الصغير على رموز بلادهم وحملة مشاعل التنوير. أوقنُ أن اسم "فرج فودة" سوف يشرقُ في جنبات مصر والعالم العربي مثلما يشرقُ اسم "ابن رشد" في جنبات أوروبا التي مازالت تدينُ له بنهضتها الفكرية والعلمية الكبرى.
في أسبانيا، أحرصُ على العروج إلى مدينة "قرطبة”؛ لكي أتجول في شوارعَ ومدارسَ وجامعاتٍ وميادينَ تحمل اسمَ Averroues. أما Averroues فلم يكن ممثلاً أمريكيًّا شهيرًا، ولا هدّافًا في فريق ريال مدريد، ولا شاعرًا إنجليزيًّا، ولا رسامًا فرنسيًّا من عصر الرينيسانس ولا روائيًّا روسيًّا ولا موسيقارًا ألمانيًّا يستحق تخليده على هذا النحو اللافت في أوروبا. بل كان شيخًا مسلمًا مثقفًا من القرن الثاني عشر اسمه: “أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد"، ولِد في قرطبة الأندلسية، ومات حزينًا منفيًّا في مراكش المغربية، بعدما طُرد من بلاده لأن ثقافتنا بكل أسف تحارب الأذكياء الواعين وتحتفي بالخاملين المظلمين. كان طبيبًا وفيزيائيًّا وفلكيًّا وفيلسوفًا وقاضيًّا. احتفى به الغربُ لأنه كان كلَّ ما سبق. وحاربه متطرفو المسلمين لأنه كان كل ما سبق! وتلك واحدة من عجائب الزمان! ذبحوا تاريخَه واغتالوا إرثه لأنه ارتكب الجريمة الكبرى التي لا يغفرها الظلاميون. كان "يفكّر" و "يعقل" في مجتمع يكره التفكير ويمقت العقل. مقتوه لأنه قال: (الحقُّ لا يضادُّ الحقَّ. الدينُ حقٌّ والفكرُ والفلسفةُ حقٌّ. والحقّان لا يتضادان.) فرماه الجهلاءُ بالكفر والزندقة وأحرقوا كتبَه النيّرة. وكما تحتفي أوروبا بالعظيم "ابن رشد"، أنتظرُ بإذن الله يومًا مشرقًا تحتفي فيه مصرُ بالعظيم "فرج فودة"، فتضعُ اسمَه على المدارس والميادين وقاعات الجامعات. وكلي إيمانٌ بأن هذا اليومَ صار وشيكًا في ظلّ مصر الراهنة المشرقة بنور العلم والتنوير والعدالة والتحضر.
رحم الُله شهيدَ الكلمة "فرج فودة" وأنار مشعلَه الذي لا يخبو. “الدينُ لله والوطنُ لمن ينادي باستنارة الوطن.”
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز


.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب




.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53