الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسافة بين القرية والمدينة … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2022 / 6 / 22
الادب والفن


سوزان .. فتاة جميلة في العشرين من عمرها .. ملامحها دقيقة ، وبشرتها صافية تميل قليلاً الى الشحوب المحبب ، اكثر ما كان يثير الاهتمام في شخصيتها - المنديل - الذي كانت تربط به عنقها ، والذي أصبح جزءً مهماً منها ، ويزيدها إثارةً وغموضاً .
ربما تغطي به شيئا لا تريد أن يراه أحد .. يقولون آثار نُدبة .. كأنها آثار سكين .. عندما أراد أبوها نحرها لانها أحبت شاباً من قريتها ، وكانت تلتقيه في السر .. لكن الناس لحقوه ، وحالوا بينهما ، واوقفوا الذبح ، وبقي أثر السكين شاهداً على ذلك الحب .. وبعدها فرّت الفتاة من قريتها ، وغيرت اسمها ، واختفت في أحشاء المدينة الواسعة ، وزحام الحياة فيها .. حتى انتهى بها المطاف في حيّنا .
ثم تنقلت بين بيوت كبار الموظفين تعمل كخادمة .. فأخذت منهم مظاهر المدنية الحديثة ، والذوق النسائي الرفيع .. واستطاعت بذكائها أن تلم بالقراءة والكتابة التي دعّمت شخصيتها ، وساعدتها بعد ذلك على قراءة المجلات ، والاطلاع على آخر صيحات الازياء وتسريحات الشعر .. واشياء اخرى طبعت شخصيتها بالجرأة والتحدي ، فتكونت شخصيتها المدينية المتحررة كثمرة في غير موسمها .. ورغم ذلك ظلت في نظر الناس مجرد خدامة بدون زيادة أو نقصان !
وكانت اول فتاة تخرج على تقاليد مجتمعنا المحافظ المغلق ، وتقتحمه بمنتهى الجرأة .. إذ كانت تسير سافرة بدون عباءة ، وشعرها يتطاير في الهواء .. وقوامها الممشوق يتثنى بخفة كغصن الورد ، وعيون الرجال المتحفزة تجري خلفها .. حتى قال البعض عنها انها شيوعية ، وقال البعض الآخر انها مسيحية !
انها الحسناء سوزان .. حتى اسمها كان يثير لغطا .. ولا ندري اذا كان هذا اسمها الحقيقي ، أم هو مجرد اسم مستعار تخفي وراءه شخصيتها الحقيقية .. لكن البعض يجزم بأن اسمها الحقيقي هو نعيمة ، وبعضهم قال سعدية .. !
قالوا أن الزواج .. ستر ، واستكمال لشخصية الفتاة ، ولوضعها الاجتماعي ، فتزوجت سوزان أو نعيمة رجلاً مهاجراً من الريف .. كافح نفس كفاحها ، وأصبح يدير مطعما صغيراً ، ثم بدأت أحواله تتحسن ، ودخله يزيد ، وكان يمكن ان تكون سعيدة في زواجها لولا اصراره على أن تلبس العباءة والبوشية .. !
ورفضت .. كما لم ترفض في حياتها .. !
كان يمكن ان تتحمل أي شيء في الدنيا إلا أن تضع على وجهها البوشية ..
لكنه أصر ..
قالت دون أن تفقد هدوءها :
— تزوجتني وأنا هكذا .. ما الذي تغير ؟
قال في استسلام ، وهو يتنهد :
— لم أستطع .. لم استطع ..
انه كما يقول لا يحتمل أن يرى زوجته تسير في شوارع المدينة مكشوفة الوجه ، وفي ثوب يكشف عن ذراعيها وصدرها ، وتكون نهبا للعيون الجائعة .. !
وارضاءً له غطت ذراعيها وصدرها ولبست العباءة .. لكنه أصر على العباءة والبوشية معا .
قالت له بأنها سعيدة في العيش معه ، وتعرف كيف تحمي نفسها من الرجال ونياتهم ، وشرف المرأة لا يقاس بقطعة القماش الصغيرة على وجهها ، وقالت له أيضا انها تعرف الكثيرات لا يحفظن غيبة أزواجهن .. ولهن مغامرات كثيرة ، يتسترن بالبوشية ، ويفعلن الافاعيل من وراء ظهورهم !
لكنه لم يقتنع ، وبقي مصراً على رأيه .. !
كانت كأنها تقول للماء أن لا يتبلل ، والى الجمر أن لا يلسع .. شعرت انها أمام جدار سميك جداً من الغربة يفصلها عن هذا الرجل .. وهذا المجتمع .. !
حتى فاض بها الكيل .. فوقفت أمامه ، وقد قطّبت جبينها كأنها تجمع كل عنادها ، وكل قوتها بين عينيها ، وقالت له في صوت متحفز ليس فيه ضعف ، ولا بكاء ولا استجداء :
— تريد تحبسني في قمقم ؟ لن أضع البوشية على وجهي ، وأعلى ما في خيلك اركبه !
ارتفعت نظرة دهشة في عينيه كأنه فوجئ .. وقفز واقفاً كأنما لسعته نار ، ثم رفع كفه وصفعها .. وامتلأ البيت صراخاً ، ونشب بينهما شجار عنيف .. هددها وتوعدها ، فهربت من البيت ، وبقيت اسابيع عند بيت مخدومها حتى توسط البعض بينهما وعادت اليه ، فتحولت حياتهم بعد ذلك الى شجار مستمر لا يُحتمل .
وكانت نعيمة تجد في الاسطى حسن سائق سيارة بيت مخدومها .. قلبا حنونا طيبا ، فأخذت تشكوه همها ومعاناتها .. وحسن هذا شاب اسمر أنيق حلو التقاطيع فارع الطول .
وآساها الاسطى حسن ، وطبطب على ظهرها ، فوجدت نفسها تنساق في الاستماع اليه والى نصائحه ، وسرعان ما تحولت مواساته الى حنان دافق ، ثم انقلب الحنان الى حب متبادل .
وفي يوم .. وفي فترة ما بعد الغداء .. فترة الخمول والكسل ، وكان كل من في البيت نيام ، والجو حار خانق ، والانفاس ساخنة .. والاجساد ملتهبة منتفضة ، وجدت نفسها تذهب معه الى غرفته منقادة كأنها جاريته .. تحس بشيء في داخلها يرتعش ، ويشدها اليه ، ثم أصبح الحب خطيئة ..
وعادت الى بيتها ، وهي لا تدري كيف تواجه زوجها ، وبصمات اصابع رجل آخر لا تزال ساخنة فوق جسدها !
والغريب انها وجدت نفسها تقابله بابتسامة عريضة ، وتتحمل صراخه صامتة ، وتنحني لتخلع حذاءه ، وتهتم بعشائه كما لم تهتم به من قبل ، وتبالغ في حنانها ودلالها أكثر مما تعودت ، واعطته في تلك الليلة من نفسها ما شاء .. حتى امتلأ .. وارتوى !
ونام الزوج المسكين تلك الليلة سعيداً كالعصفور ..
وفي الصباح .. فتح عينيه ليرى زوجته أمامه ، وعلى وجهها البوشية ، وعلى جسدها العباءة .. فغر فاه دهشة ، وقال وبين شفتيه إبتسامة عتاب طيبة :
— مو كان من الأول أحسن ، يا نعيمة ؟!
كان يصر على تسميتها بأسمها الحقيقي ..
قالت في صيغة أكثر تواضعاً كأنها تريد أن تكفّر عن شيء ما يحز في نفسها :
— سماح .. تُبت وعقلتْ .. والله غفور رحيم ..
اتسعت ابتسامة الزوج حتى آخرها .. وارتسمت في عينيه فرحة كفرحة الاطفال ليلة العيد !
ثم رفع اليها عينين سعيدتين وقال :
— سماح هذه المرة .. نسأل الله أن يصلح الحال ..
استيقظت في صباح اليوم التالي ، وذهبت الى بيت مخدومها .. تكاد خطواتها أن تكون رقصاً .. بعد أن بذلت مجهودا اكبر في اختيار أحب فساتينها وأجملهن ، ودخلت الى غرفة الاسطى حسن ، وعطرها يسبقها .. وابتسامة واسعة معلقة على شفتيها ، وكل شئ فيها يهتز فرحاً ، ثم نزعت البوشية والعباءة ، والقت بهما على الأريكة ، وارتمت في غياهب أحضانه !
ولم تمر سوى أسابيع قليلة حتى استيقظ الناس على خبر اختفاء نعيمة ، أو سوزان .. الى الابد !
وعادت الى الطريق من حيث أتت .. !
كانت كأنها حلماً عابر .. مرَّ بمنام .. وطلع عليه فجر الحقيقة .. فتوارى .. !!

( تمت )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع


.. سر اختفاء صلاح السعدني عن الوسط الفني قبل رحيله.. ووصيته الأ




.. ابن عم الفنان الراحل صلاح السعدني يروي كواليس حياة السعدني ف


.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على




.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا