الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نونية أبو البقاء الرندي في رثاء المدن الأندلسية

ابراهيم محمد

2022 / 6 / 23
الادب والفن


تعريف الشاعر: أبو البقاء صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم بن علي بن شريف الرندي الأندلسي (601 هـ -684 هـ الموافق: 1204 – 1285 م) هو من أبناء (رندة) قرب الجزيرة الخضراء بالأندلس وإليها نسبته.
عاشَ في النصف الثاني من القرن السابع الهجري، وعاصر الفتن والاضطرابات التي حدثت من الداخل والخارج في بلاد الأندلس وشهد سقوط معظم القواعد الأندلسية في يد الأسبان، وحياتُه التفصيلية تكاد تكون مجهولة، ولولا شهرة هذه القصيدة وتناقلها بين الناس ما ذكرته كتب الأدب، وإن كان له غيرها مما لم يشتهر، توفي في النصف الثاني من القرن السابع ولا نعلم سنة وفاته على التحديد.
نظم أبو البقاء هذه القصيدة بعد ضياع عدد من المدن الأندلسية ، بعد عدة حروب طاحنة..أدى ذلك إلى انهيار جزء كبير من جسد الدولة الإسلامية في بلاد الأندلس.. وسقوطها بيد الأسبان فقال هذه القصيدة يستنصر أهل أفريقيا من بني مرين ، بعد أن أخذ بعض ملوك بني الأحمر بالتنازل عن عدد من القلاع والمدن للأسبان استرضاء لهم ، وأملا في أن يبقى له حكمه على غرناطة ، وكان ذلك نذيرا بسقوط الأندلس ، وزوال ملك المسلمين فيها ، بسبب تناحرهم واستعانتهم بعدوهم .وانشغال العديد من سكانها بأمور دنيوية.
القصيدة
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ من سرَّهُ زمنٌ ساءته أزمانُ
وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شانُ
يمزق الدهر حتمًا كل سابغةٍ إذا نبت مشرفيات وخرصان
وينتضي كل سيف للفناء ولو كان ابن ذي يزن والغمد غمدان
أين الملوك ذوو التيجان من يمنٍ وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ
وأين ما شاده شدَّادُ في إرمٍ وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ
وأين ما حازه قارون من ذهب وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ
أتى على الكل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من مُلك ومن مَلك كما حكى عن خيال الطيفِ وسنانُ
دار الزمان على دارا وقاتله وأمَّ كسرى فما آواه إيوانُ
كأنما الصعب لم يسهل له سببُ يومًا ولا مَلك الدنيا سليمان
فجائع الدهر أنواع منوعة وللزمان مسرات وأحزانُ
وللحوادث سلوان يسهلها وما لما حل بالإسلام سلوانُ
دهى الجزيرة أمرٌ لا عزاء له هوى له أحدٌ وانهد نهلانُ
أصابها العينُ في الإسلام فارتزأتْ حتى خلت منه أقطارٌ وبلدانُ
فاسأل بلنسيةَ ما شأنُ مرسيةٍ وأين شاطبةٌ أمْ أين جيَّانُ
وأين قرطبةٌ دارُ العلوم فكم من عالمٍ قد سما فيها له شانُ
وأين حمصُ وما تحويه من نزهٍ ونهرها العذب فياض وملآنُ
قواعدٌ كنَّ أركانَ البلاد فما عسى البقاء إذا لم تبقى أركان
تبكي الحنيفيةَ البيضاءَ من أسفٍ كما بكى لفراق الإلف هيمانُ
حيث المساجدُ قد أضحتْ كنائسَ ما فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصلبانُ
حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ
يا غافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ إن كنت في سِنَةٍ فالدهر يقظانُ
وماشيًا مرحًا يلهيه موطنهُ أبعد حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطانُ
تلك المصيبةُ أنْسَتْ ما تقدَّمها وما لها مع طولَ الدهرِ نسيانُ
يا راكبين عتاقَ الخيلِ ضامرةً كأنها في مجال السبقِ عقبانُ
وحاملين سيوفَ الهندِ مرهقةُ كأنها في ظلام النقع نيرانُ
وراتعين وراء البحر في دعةٍ لهم بأوطانهم عزٌّ وسلطانُ
أعندكم نبأ من أهل أندلسٍ فقد سرى بحديثِ القومِ ركبانُ

2. فن الرثاء في الأدب العربي
عرف العرب الرثاء منذ عصر ما قبل الإسلام ولا زالوا يعتبرونه من أهمّ أغراضهم الشعرية في عصرنا هذا، وكان من غاياته الرئيسة إبراز صورة صادقة عن الأسى والحزن الشّديدين لما ألمّ بالمرثي، وهذه الصورة تعكس عمق التلاحم الاجتماعي وواقع العلاقات الإنسانية المبنية على الإحساس بالآخر والتعاطي معه في مسراته وأقراحه. وعند قراءتنا لعدد غير قليل من القصائد الشّعرية الرثائية ألفينا الشاعر يسيطر عليه وقعٌ شعوري نتيجة تألمه لحال مفجوعه حيث تتفجر قريحته الأدبية والشّعرية، وتتوقد العواطف السّاكنة لتظهر إحساسا متدفقا ينبئ عن حسرة وافتقاد، ومن هنا يرسم لنا الشاعر بكلماته نظما يُعبر فيه عما يجيش بصدره، وكلما قوّيت هاته التّجربة الشعورية أبدع في نظمه وتفنن في رسمه، وليس هناك أقوى ولا أشد على الإنسان من موت حبيب أو فقد قريب أو هلاك صديق، لذا فالرّثاء من أصدق الفنون الشعرية نبلاً ومشاعرا وأشّدها عاطفة وأكملها وفاء.
تحديد المفاهيم: الفرق بين مصطلح الرّثاء والتأبين والنّدب والنّعي، لأنها ترد بعض المرات مترادفة ومتداخلة وتوحي لموضوع واحد هو "رثاء الميت"، لكن بينها فوارق لغوية ودلالية يجب الوقوف عندها عليها:
1- الرثاء:
الرّثاء في اللغة مُشتق من الفعل (رثى) يُقال: رثَى الميْتَ رثياً رثّاهُ، ورثيْتُ الميّتَ رثياً ورثاءً ومرثاةً ومرثيةً، ورثَيتُهُ مدحْتُهُ بعدَ الموتِ وبكيتُهُ ، ورثي له: أي رقَّ لهُ ورثا الميّتَ يرثوهُ رثواً: بكاهُ وعدَّدَ محاسِنَهُ .
والرثاء في الاصطلاح هو تأبين الميّت وذكر محاسنه وفضائل أخلاقه، وهو تصوير ما يترك فقده من أثر في القلوب من أسىوحسرة وفزع سواء بالشّعر أو بالنثر، ويرتكز الرّثاء خاصة على الجانب العاطفي؛بل يمكن القول أنه لصيق بالجانب الشّعوري وبمواجيد النفس الإنسانية، لأنّه يستمد مادته من أحاسيس القلب، ويجد فيه الراثي متنفساً عما يكنه قلبه من آلام وأشجان يؤطرها بأشعار ومقولات سامية عميقة، تتخلد كلما ذُكر المرثي.
2- التأبين:
عرّفه أهل اللغة بأنّه:"مدح الرّجل بعد موته" ، ويذكر ابن منظور في اللّسان:أبّن الرجل تأبيناً، أي مدحه بعد موته وبكاه" ، وقد اعتُبر شعر الخنساء مزجا بين التأبين والرثاء، ولا فرق بين المدح والتأبين ذكره قدامة فقال:" لا فضل بين المدح والتأبين إلاّ في اللفظ دون المعنى"
عرَف العربُ النّدب في جاهليتهم إذ كانوا يجتمعون لمشاركة أهل الميّت مصابهم، وقد أباحه الإسلام بشّرط ألاّ يصاحب البّكاء خمشُ ولطمُ للوجه وحلق للشّعر والضرب بالنّعال...مستندين بالحديث الذي يقول فيه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم"المَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ" ، وقد عرّف الجوهري النّدب فقال:"هو بكاءُ الميّتِ وتعداد حسناته والنواح عليه بألفاظ حزينة، وعبارات تُذيب الأكباد الغليظة مما يصاحبها من صياح وعويل" ، ومن هنا فالنّدب هو بكاء النفس وأسفِها على فقدان الأهل والأقارب.. بل يمتد إِلى رثاء العشيرة والوطن والدولة حين تصاب بمحنة من المحن المحزنة.
3- العزاء: المفهوم العام للعزاء هو الصبر على ما يُصيب الإنسان من مصائب وأقدار وأوجاع، وقد اقتصر مفهومها على مصيبة الموت التي تخطف الولدان والأحبة، والعزاء هو الصبر عن كل ما فقدت. تقول: عزّيت فلاناً أُعزيهُ تعزيةً، أي آسيتُه، وضربت له الأسى، وأمرته بالعزاء فتعزى تعزياً، أي تصبَّر تصبراً، وتعازي القوم: عزى بعضُهم بعضاً ،
4- النّعي: النّعي هو الإخبار وإشاعة الموت المقرون بمدح الميّت وتعداد صفاته، فنعى الميّت ينعاهُ نعياً، ونِعياً، إذا أذاع موته، وأخبر به، وإذا ندبه ، قال ابن الاثير:"والمشهور في العربية أنّ العرب كانوا إذا مات منهم شريف، أو قُتِلَ بعثوا راكباً إلى القبائل ينعاه إليهم، يقول نعاء فلاناً، أو يا نِعاء العرب: أي هلك فُلان أو هلكت العرب بموت فلان" ،
5- النياحة: النياحة هي إظهار الجزع والتسخط على موت الميت، والإحساس بالفاجعة،قال ابن حجر الهيثمي في الزواجر: "النّوح: هو رفع الصوت بالنّدب، ومثله إفراط رفعه بالبكاء" ، وصورته كما ذكر القرافي (ت: 1286م):"أنْ تقول النائحة لفظًا يقتضي فرط جمال الميت وحسنه، وكمال شجاعته وبراعته، وأبهته ورئاسته، وتبالغ فيما كان يفعل من إكرام الضيف، والضرب بالسّيف، والذّب عن الحريم والجار، إلى غير ذلك من صفات الميت التي يقتضي مثلها أن لا يموت، فإن بموته تنقطع هذه المصالح، ويعز وجود مثل الموصوف بهذه الصفات، ويعظم التفجع على فقد مثله، وأن الحكمة كانت بقاءه وتطويل عمره لتكثر تلك المصالح في العالم..." ، إذاً فالنياحة مثل ما تقدم هي رفع الصوت والإحساس بالحزن ومجارات المحزون وأهله ومواساته بالبّكاء والشفقة عليه.
ومن هنا نلاحظ ارتباطا كبيرا بين هذه المفاهيم:الرثاء،التأبين، النّدب، العزاء، النياحة.. ومدى التصاق معانيها بالحزن والأسى والصبر، على فقدان الميت ومدحه بذكر محاسنه وفضائله، وقد أدرك الشّعراء والبلغاء واللغويون هذه المعاني وفرقوا بينها لغويا، ولكن المعنى الاصطلاحي والدلالي واحد، وهذا الإحساس نابع من النظرة الإنسانية والعاطفية والأخلاقية التي يشترك فيها الفرد مع أخيه وعشيرته وأهل بيئته.
الرثاء في بلاد الأندلس:
اتخذ الرثاء في الأندلس نفسَ مسار الرثاء في المشرق العربي من وصف للمصيبة والأحزان، وتعديد لمناقب المفقود والأسى على فقدان الأخلة والأحباب.. وقد حافظ على نمطه التقليدي في سيرته الأولى في استهلال القصائد بالحِكَم، وختمها بالعبر والعظات؛ إلاّ أنّ في هذه الفترة بالذات(711-781م)، ظهر شكل جديد من الرثاء في الأندلس هو "رثاء المدن والممالك"؛ حيث أوجدته الظروف السياسية والحوادث التاريخية التي مرت بها الأندلس، وقد وفرت الظروف نشوء هذا النوع من الشعر، يقول مصطفى الشكعة:"فهو الغرض الأندلسي الذي نبعت سماته وأفكاره من طبيعة الاضطراب السياسي في الأندلس، وكان مجال إبداعٍ في الشعر الأندلسي" .
وقد افتن الشعراء بهذا الفن، تبعاً لتلاؤم السّياق الداعي لذلك، وتوطدت الصلات بين الشعراء ووُلاة أمورهم وصاروا يتبارون في مجالس الملوك ويتناثرون بأشعارهم خير النظم وأرقهِ، إذ لم يمت خليفة ولا وزير، ولا قائد ولا عظيم، إلا رثّوه رثاء حاراً وأبَّنوه تأبيناً رائعاً، مبرزين في قصائدهم كل ما كان يتحلى به الفقيد في حياته من مناقب وما كان له من فضل حتى أصبح تمدن الأندلس مختص بنوع أدبي معين، "فكانت أشعار الروضات ببلنسية وشرق الأندلس، وكثرت الموشحات والأزجال في اشبيلية لتخصصها في الغناء وآلات الطرب، وظهرت قصائد وصفا لحيتان وعواصف البحر في شرق الأندلس دونغربها لنشاط موانئه للتجارة والصيد البحري ، وكذا نشطت الحركة الأدبية الأندلسية على مستويات مختلفة.
رثاء المدن والماليك في نونية أبي البقاء الرندي
أهم الدول التي رثاها الشعراء "نونيةأبي البقاء الرندي" ، التي رثت حاضرة الأندلس بعد سقوطها أنشدها بالمغرب سنة665ه عندما تنازل ابن الأحمر(629-897ه) عن بعض القلاع والأمكنة والأسوار للمسيحيين) وقد خلطت القصيدة بين الحبو وصفا لطبيعة والحنين إلى موطنه الأصلي "قرطبة" متذكرا ذكريات الصبا ولوعة الفراق.
القصيدة الرثاء المدن الأندلوسية
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ من سرَّهُ زمنٌ ساءته أزمانُ
وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شانُ
يمزق الدهر حتمًا كل سابغةٍ إذا نبت مشرفيات وخرصان
وينتضي كل سيف للفناء ولو كان ابن ذي يزن والغمد غمدان
أين الملوك ذوو التيجان من يمنٍ وأين منهم أكاليلٌ وتيجانُ
وأين ما شاده شدَّادُ في إرمٍ وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ
وأين ما حازه قارون من ذهب وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ
أتى على الكل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من مُلك ومن مَلك كما حكى عن خيال الطيفِ وسنانُ
دار الزمان على دارا وقاتله وأمَّ كسرى فما آواه إيوانُ
كأنما الصعب لم يسهل له سببُ يومًا ولا مَلك الدنيا سليمان
فجائع الدهر أنواع منوعة وللزمان مسرات وأحزانُ
وللحوادث سلوان يسهلها وما لما حل بالإسلام سلوانُ
دهى الجزيرة أمرٌ لا عزاء له هوى له أحدٌ وانهد نهلانُ
أصابها العينُ في الإسلام فارتزأتْ حتى خلت منه أقطارٌ وبلدانُ
فاسأل بلنسيةَ ما شأنُ مرسيةٍ وأين شاطبةٌ أمْ أين جيَّانُ
وأين قرطبةٌ دارُ العلوم فكم من عالمٍ قد سما فيها له شانُ
وأين حمصُ وما تحويه من نزهٍ ونهرها العذب فياض وملآنُ
قواعدٌ كنَّ أركانَ البلاد فما عسى البقاء إذا لم تبقى أركان
تبكي الحنيفيةَ البيضاءَ من أسفٍ كما بكى لفراق الإلف هيمانُ
حيث المساجدُ قد أضحتْ كنائسَ ما فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصلبانُ
حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ
يا غافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ إن كنت في سِنَةٍ فالدهر يقظانُ
وماشيًا مرحًا يلهيه موطنهُ أبعد حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطانُ
تلك المصيبةُ أنْسَتْ ما تقدَّمها وما لها مع طولَ الدهرِ نسيانُ
يا راكبين عتاقَ الخيلِ ضامرةً كأنها في مجال السبقِ عقبانُ
وحاملين سيوفَ الهندِ مرهقةُ كأنها في ظلام النقع نيرانُ
وراتعين وراء البحر في دعةٍ لهم بأوطانهم عزٌّ وسلطانُ
أعندكم نبأ من أهل أندلسٍ فقد سرى بحديثِ القومِ ركبانُ

تحليل قصيدة الرثاء المدن الأندلوسية
بعد أن وضح الحقيقة التي لايختلف عليها اثنان ، انتقل إلى ذكر المصاب الذي أصاب الأندلس فهوى وسقط لهذا الجلل والمصاب جبل أحد وتكسر وتضعضع جبل ثهلان ذلك الجبل الواقع في نجد ولك أن تسأل بلنسية ما حال مرسية ، وأين هي شاطبة ، وقرطبة ، التي كم فيها من عالم قد سمت وارتفعت حاله ، نعم تلك العواصم التي كانت منارات للعلم ومعاقل الإسلام ، سقطت في أيدي النصارى فما ينفع البقاء إذا لم تبق أركان .
ثم انتقل إلى تصوير حال الإسلام بعد سقوط المعاقل الإسلامية حيث أصبح حزينا فهاهي الحنيفية تبكي من شدة حزنهاكما يبكي المحب لفراق إلفه وحبيبه نعم تبكي على هذه المعاقل التي خلت من الإسلام وأقفرت، فصارت الأندلس كلها نصرانية، عامرة بالكفر وجعلت النواقيس في الصوامع بعد الأذان، وفي مساجدها الصور والصلبان، بعد ذكر الله وتلاوة القرآن... فيا لها من فجيعة ما أمرها، ومصيبة ما أعظمها، وطامة ما أكبرها" فحتى الجمادات تأثرت لما حدث فأخذت المحاريب والمآذن تبكي وترثي نفسها .
ثم أخذ الشاعر يتحدث ويذكر حال بالمسلمين حيث تحولت عزتهم وقوة منعتهم لما شاعت بينهم المنكرات بلا نكير إلى ذل وهوان وإنكسار، سامهم إياه النصارى حتى بيع سادة المسلمين آنذاك في أسواق الرقيق وهم يبكون وحالوا بين الأم وطفلها وفرقوا بينهما عند البيع كما تفرق أرواح وأبدان فلو رأيت هذا المنظر وتلك الذلة لراعك الأمر ولأحزنك ، فأي كربة وأي شدة مرت على المسلمين فلمثل هذا يذوب القلب من الكمد والحزن ، ذلك إن كلن في القلب إسلام وإيمان .
تحليل القصيدة تحليلا أدبيا :
أولا : المعاني والأسلوب : تدور هذه الأبيات حول رثاء الأندلس وما حل بها وبأهلها من ذل وهوان بعد أن كانوا يرفلون بثوب عز الإسلام ، وقد صاغ هذه المعاني بأسلوب قوي جزل واضح خل من التعقيد يميل إلى التدبر والعظة .
ثانيا : الألفاظ والعبارات : جاءت ألفظ الشاعر كما هي في الشعر الأندلسي واضحة ، سهلة معبرة عن الأسى والحزن بسبب ما حل للأندلس ومن تلك الألفاظ ، بكاهم عند بيعهم ، لمثل هذا يذوب القلب من كمد ، تبكي الحنيفية ، كما أنها تتميز بالقوة والرصانة والفصاحة كما جاءت العبارات مناسبة للموضوع في التزامه بحدة الوزن والقافية .
ثالثا : العاطفة : عاطفة إسلامية حيث يصور وينقل إحساسة وشعوره لما حدث لمعاقل المسلمين فلا غرو أن تكون صادقة أثرت فينا حين قرأناها فقد حركت إحساسنا خاصة ونحن نمر في هذا الزمن بأحداث مشابهة ، فما العراق عنها ببعيد .
رابعا : الصور الخيالية : الصور الخيالية قليلة في هذه الأبيات ولكن الشاعر حقيقة امتاز ونجح في تشخيص الأمور المعنوية وتجسيدها وبث الحياة والحركة في الجمادات ، التي جعلت كل من يقرأ هذه القصيدة يتصور حالهم وكأنه معهم . وأبرز تلك الصور : يارب أم و طفل حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدان والاستعارة المكنية في قوله : تبكي الحنيفية البيضاء من أسف، كما بكى لفراق الإلف هيمان حيث شبه الحنيفية وهو أحد المذاهب ، بالإنسان ، وحذف المشبه به وأتى بشيء من لوازمه وهو " البكاء . ومثلها في قوله : حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان
والتشبيه في قوله : عليهم من ثياب الذل ألوان
كما يوجد الطباق والمقابلة في قوله : من سره زمن ساءته ازمان
وكذلك الاستفهام الذي خرج إلى معنى للتحسر في قوله : ما شأن مرسية ؟ ، وأين قرطبة دار العلوم ، فكم والقصيدة تحتاج الى وقفة طويلة لتأمل معانيها وعاطفتها الصادقة وأحاسيسها الجياشة ولا أظن الوقت يسمح بالحديث عنها ، ولعل ماكتبته
تعالج نونية أبي البقاء الرندي ندب بلاد الأندلس أو "الفردوس المفقود" ، وهي قصيدة رثاء مفعمة بأعمق المشاعر وأسمى الأحاسيس، بكى فيها أبو البقاء مصير الإسلام والمسلمين في اسبانيا بعد سقوط قرطبة واشبيلية بيد سان فرناندو، وقد احتوت على مواعظ وحكم وبيان أحوال الدنيا وتقلبات الدهر، لكونها من عيون الرّثاء التي قيلت في الدولة الإسلامية والممالك المنهارة، وقد اختار لها مطلعا من أجود ما قيل في الحكمة، ومع أنّ هذه الأبيات عبّرت عن فكرة الاعتبار في الماضي الزائل، إلاّ أنّ أبا البقاء استطاع أن يضفي عليها ألوانا وعبارات استخلصها من أعماق تاريخنا المجيد، فكانت هذه الأبيات خير مدخل وُفق فيه الشاعر للتمهيد لموضوعه، ونالت هذه القصيدة الشّهرة التي تستحقها سواء في القديم أو في الحديث ، وجاء مطلعها:
لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ فَلا يُغَرَّ بِطِيبِ العَيْشِ إِنْسَانُ
هِيَ الأُمُورُ كَمَا شَاهَدْتُهَا دُوَلٌ مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أَزْمَانُ
وقد اختار الشاعر ألفاظا جيدة السّبك واعتنى ببِّنائها الفني، فجاءت كلماته رشيقة معبرة، واستخدامه للوسائل البلاغية الملائمةكالاستعارة ورسم الصور البيانية، وهذا دليل على ثقافة الشاعر وإتقانه لصنعة الشعر، وقد "استطاع أبو البقاء أنْ يرتب أفكاره ويلون عباراته ويعطيها إيقاعا يميزها عن سواها، على الرغم من تشابه المضمون عند غير شاعر" ، فالشاعر الراثي في هذه الفترة كان يعقد مقارنة بين الماضي والحاضر؛ ماضي الإسلام في مجده وعزه، وحاضره في ضعف وهوان، ودور العبادةغدت كنائس وبيعًا للنّصارى وصوت النواقيس أضحى يجلجل مكان الأذان، واستبيحت حرمات الفتيات المسلمات وصارت الدويلات المسلمة تستعين بأعوان النّصارى.. وتمتلئ كل هذه المشاهد بشعور عميق يطفح بالحسرة والنّدم، وصارت لوحة أبي البقاء الرنديحزينة وريشته كئيبة، لفنان عاش النّكبة واكتوى بنارها، وهي نونية تربعت على عرش رثاء المدن في الشعر العربي المغربي القديم.
والظاهر أنّ غرض الرثاء في هذه المرحلة تطور من رثاء المدن، ورثاء الممالك إلى رثاء الأندلس كلها بعد أن سقطت، لأنّ الرثاء في العصر الجاهلي لم يكن له متخيلة عن المدينة أو المملكة يرثيها ويبكي على خرابها، كانت هنالك مراثي على فقد الأخلة والأحبة في وسط الصحراء الشاسعة من مكان إلى آخر، ولعل البُّكاء كان مركزا على الطلل الذي أندرس، وهو لون تعبيري نابع من العاطفة الحية.
معجم القصيدة: تندرج بنية الرّثاء لدى الشاعر في ثلاثة حقول دلالية:
• الموت والفناء:الحزن والأسى وما يتصل بها من ألفاظ مثل:
نقصانُ، الإساءة، القضاء، لا تبقي على أحد (الفناء)، دار الزمان، العينُ باكيةُ القلب حيرانُ، الفراق، الغافل، المصيبة، النّسيان، الظلام،الجور، طغيان...
طغت على القصيدة جو من الكآبة والحزن والفرار من الوقع، وهذه المفردات دليل على أنّ الشاعر انكسر خاطره وضعفت همته وخورت قوته، لما آل إليه الوضع، ومن هنا فدلالة هذه الألفاظ توحي بسواد وظلمة وعتمة لا تصيبها شمس الضحى، لأنّ الجرح غائر والمصاب جلل.
• التسميات: ذكر الأمجاد وأثار المدن
ذي يزن، اليّمن، أرم، ساسان، الفرس، قارون، عاد، شداد، قحطان، بلنسية، مُرسيةً، شاطبـة،جيـَّـانُ، الأندلس...
التفريض على ما فات، وذكر أمصار غابرة، وملوك عابرة ...توحي أنّ الشاعر لا زال قلبه يعيش في ماضيه الذي يتمنى أن يرجع برجاله وأبطاله وحصونه، وهذه المفردات فيها عنصر "التمني"؛ أي يتمنى أن يصطلح التّاريخ مع المكان وتعود الأندلس لسالف عهدها ؟!!
• الديني: الحساب والثواب
الاسلام، المساجد، الكنائس، النواقيـس، الصلبان، الكفر، عباد الله، إخوان، الياقوت والمرجان،
حشد الشاعر في هذا الباب تراكيبا دينية ومواعظ أخلاقية متناصة مع النّص القرآني، مع العلم أن الشاعر فقيه وحافظا للحديث النبوي الشريف، وقد استعان بالمعجم الديني لأنّه الأقرب إلى النّصح والوعظ وذكر العاقبة والمآل.
ومن هنا نلاحظ أنّ الشاعر لمَّ في قصيدتهألفاظا موحية بمعاني الحزن والأسى مستبغة بنزعة العزاء والتأبين والتسليم لقضاء الله والصبر على المكروه، كما غلب على النّص الأسلوب الإنشائي المتمثل في الاستفهام غرضه التمني المناسب لفن الرثاء، مثل: أين الملوك ذوي التيجانِ من يمنٍ؟ والنداء في: يا غافلاً وله في الدهر موعضةٌ؟
وقد وظف الشاعر أسلوب السّرد والقص والمحكيات عن حقائق التاريخ المرّ مثل: ذييزن، شـدادٌ، قحطـانُ ؟ كما نّوع في استخدام الجمل الفعلية والاسمية بغية تشخيص الحوادث ووصفها، وهذا دليل على وجدان الشاعر المحترق، والمشاعر المسحوقة بالألم والأسى مثل:أين قرطبةٌ دار العلوم؟ وأيـن شاطبـة أم أيـن جيـَّـانُ؟
كما لمسنا وضوحا في المعاني وسهولة في الأفكار، فأفكاره مباشرة وواقعية خالية من التكلف والتعقيد،لأنّ المقام يستدعى معاني صادقة ورؤية حقيقة، ومن هنا فقد "حوت قصيدة أبي البقاء الرندي التوظيف الأنسب للمقاطع اللغوية المنسجمة في المباني الإفرادية والتركيبية وتراوحت كميات نهايتها ما بين مقاطع مفتوحة وأخرى مغلقة ما يولد تنوعا صوتيا يتفاعل والحالة الشعورية للشاعر الرندي" .
3- الخصائص التعبيرية والفنية للقصيدة:
يلجأ الشاعر إلى توظيف التشخيص والتصوير، فالتشخيص حينما يصور حالة الثكلى والمصابين بهول المصيبة من أصوات النحيب والعويل وحيث المأساة والمعاناة والقتلى، وآهات المعذبين، وجاء التصوير مليئا بالألوان التي تستدعي من المتلقي استخدام الذهن للوصول إلى كنه هذه الصور المعبرة بحق وبعمق عن الدهر وأرزاءه، مثل قوله: يُمزق الدهر حتماً كل سابغةٍ وقوله: دارَ الزّمانُ على دارا وقاتلـهِ... ومن هنا فبكاء الأطلال من بكاء الشاعر، وهذه الحالة النفسية الشعورية استدعت هذه الصور المتكاملة، وهي بطريقة أخرى تشكل لنا التجربة الشعرية والفنية التي عاشها الشاعر.
• اهتمامه بالصورة اللغوية المجرد وبالصورة التشبيهية لتقريب الفهم، مثل قوله: ولا مَلكَ الدُّنيـا سُليمـانُ.. إلى جانب توظيفه للاستعارة كركن بلاغي مهم في بيان معاني الألفاظ. وكأني بالشاعر يسعى إلى تحقيق التوازن بين عواطفه وبين والواقع من حوله، عن طريق اللجوء الى التمثيل بالاستعارة. مثل: فالدّهرُ يمزِق، والحنيفيةُ تبكي، والمحاريبُ تنُوح، والمنّا بعترثي، والدّهر يقظان.. كل هذه الألفاظ المستعارة تفرض على الملتقى نوعا من العمل الذهني وتصور مرارة الوضع والتناص معه كأنه أمامك.
• توظيف الموروث الديني والتّاريخي والثقافي في عملية البّناء الشعري، فهو ينتقل من الحاضر إلى الماضي ويتطلع إلى أفق أرحب، موظفا طاقته الإبلاغية والتواصلية القائمة على البرهنة والحجاج، مثل: وأين ما حازه قارُونُ من ذهبٍ؟ وأين عادٌ وشـدادٌ وقحطـانُ ؟ كما نلاحظه يوظف عناصر الصياغة المنطقية والاستدلالية القائمة على الأداء الفني والتشكيل اللغوي بهدف كشف الشّق الاقناعي والبرهان المتواري مثل التقابلات التالية: التّمام والنقصان،البقاء والفناء، السُّرور والحزن، غافل ويقضان، خالية وعمران، المسّاجدوالكنائس...
• تشقق المعاني، بحيث يستنطق الحوادث التاريخية والمآثر الخالدة بتوليد مغزاها ومعناها قصد رفع الهمم واستدراك النقص وبناء الذات القوية التي لا تخور.مثل: وصار ما كان من مُلكٍ ومن مَلكِ كما حكى عن خيالِ الطّيفِ وسنانُ..
الفائدة
القصيدة وثيقة تاريخية تسرد وضعية شعب في فترة ومكان معلومين، يتسفيد منها المؤرخ في حقل تاريخ البلدان والأمصار، والباحث الاجتماعي في معرفة نظام الحياة الاجتماعية بالأندلس واللّساني في دراسة شعرية الرثاء، فهو نّص تاريخي حواري مفتوح ومتّجدد.

النتيجة

تعتبر نونية أبي البقاء الرّندي ملحمة تراثية وعملا فنيا متماسكا، اشترك في تأليفها عنصر التاريخ والمكان وحوادث مماليك الأندلس، ولونت صورها بلغة شاعرية وتركيب منطقي استجابت للفكر وتمثلات الواقع، الذي أُخرج من البعد الإسلامي إلى البعد الإنساني، وصارت القصيدة مضرب النّدب لكل حاضرة ومدينة تُستباح، وبقى شعراءها يتصفون بشعراء النّكبة والمرثيات لإقامتهم في ندب موتاهم وتذكر أسراهم وخراب دواوينهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا