الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البيت العراقي القديم ... القسم الأول

حامد خيري الحيدر

2022 / 6 / 25
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


رغم تغيّر أنماط البيوت وعمارتها وتصاميمها وأساليب بناءها عبر التاريخ، تزامناً مع تطور ثقافات البشر وعلومهم وتزايد احتياجاتهم ضمن بيئاتهم المختلفة، إلا أن البيت بجميع صوره يُمثل المنشأة التي يأوي إليها مجموعة أفراد يكون بينهم أتفاق أو توافق أو عقد اجتماعي مُعيّن، لغرض العيش والاحتماء من الأخطار وعوامل الطبيعة، ولقضاء الحاجات اليومية وباقي المتطلبات الحياتية الأخرى، وممارسة النشاطات الاجتماعية وأحياناً الإنتاجية أيضاً، لذلك فأنه يُعتبر من أهم الاحتياجات الأساسية للإنسان لغرض استقراره وتطوير كيانه، كما أنه يُعتبر الوحدة الأولى والأساسية التي من خلال تجمّعها يتم تكوين المؤسسات السكانية بمختلف صورها سواء كانت قرية أو مدينة أو حاضرة.
واستناداً الى ما أثبتته التحريات والتنقيبات الأثرية فان الأنسان في وادي الرافدين لم يعرف البيوت والمساكن المُشيّدة مع بدايات حياته، خلال فترة العصور الحجرية القديمة بأدوارها الأدنى والأوسط والأعلى، التي تمتد منذ بدء وجوده هناك قبل ما يَقرب المائتي ألف سنة وحتى فترة العصر الحجري الوسيط قبل حوالي خمسة عشرة الف سنة، حيث أنه خلال تلك الفترة الطويلة قد لجأ الى الكهوف والمغاور الجبلية، وأتخذ منها أماكن لسكناه وتجمعه كي تَقيه التقلبات المناخية وتَحميه من هجمات الحيوانات الضارية، وقد كشفت التحريات والتنقيبات الأثرية في عدد من تلك الكهوف مثل "زَرزي" و"هزارميرد" و"برده بلكا" و"بالي كَورا" في محافظة السليمانية، و"شانيدار" في محافظة أربيل، على العديد من الدلائل التي تُشير الى سُكناها من قبل "الأنسان القرد المنتصب القامة" و"أنسان النيادرتال" والمُتمثلة بالهياكل العظمية أو الأدوات الحجرية المتنوعة التي كان الأنسان يستعملها خلال حياته اليومية، وكذلك عظام الحيوانات التي كان يصطادها للانتفاع من لحومها وجلودها وفرائها.
وخلال فترة العصر الحجري الوسيط الذي تزامن مع حالة الدفأ النسبي التي سادت منطقة الشرق الأدنى القديم بعد أن أعقبت العصر الجليدي الرابع "فيرم"، أخذ الانسان في وادي الرافدين بالانتقال بعيشه من المناطق الجبلية حيث مَأواه القديم في الكهوف والمغاور نحو وديان الأنهار والسهول المحيطة بها، ليبدأ مع هذا التحول الكبير مرحلة جديدة في حياته أنتجت مع ديمومة استقراره في هذه المناطق ثورته الزراعية الكبرى التي جعلته كائناً مُنتجاً للقوت، ثم ما لحق بها بعد ذلك من تطور مُطّرد في شكل وطبيعة سُكناه ضمن قرى ومستوطنات ثابتة، وعند هذه المرحلة التي يمكن اعتبارها فترة انتقالية هامة لحياته الاقتصادية القادمة شيّد الأنسان أولى بيوته مع بداية تفاعله مع بيئته الناشئة، والتي لم تكن سوى خيام مؤقتة مَعمول هيكلها من أغصان الأشجار تقوم على أسس دائرية الشكل لا تتعدى أقطراها الثلاثة أمتار مَبنية من قطع الحجر أو الحصى الكبيرة، ثم يتم تغطية ذلك الهيكل البسيط بجلود وفراء الحيوانات أو أغصان الأشجار، بشكل يُشابه الى حدٍ كبير خيام الهنود الحمر في أمريكا أو القبائل البدائية التي لا زالت تعيش في الغابات الأفريقية، وهذا ما كشفت عنها التنقيبات والتحريات الأثرية في مواقع "كريم شهر" و"مُلفعّات" في محافظة السليمانية وموقع "زاوي جمي" في محافظة أربيل.
وأحياناً تكون المساكن أكثر بساطة وبدائية تتمثل بحفر بيضوية الشكل أقطارها بحدود مترين ونصف تحفر بعمق متر ونصف تقريباً تتم تغطيتها بأغصان الأشجار، كانت تُستخدم فقط للمنام وتُخصص لشخص أو شخصين على الأكثر، كما في مواقع "مطارة" في محافظة كركوك و"تلول الثلاثات" في محافظة نينوى، وكانت هذه الأنواع من البيوت البسيطة يتم تهيئتها للسُكنى فقط خلال فترات الربيع والصيف ثم يتم تفكيكها ليعود قاطنوها مجدداً مرة أخرى الى مأواهم القديم في الكهوف خلال الشتاء، وتلك المساكن قد فرَضها التواجد المؤقت الآني للإنسان في المناطق السهلية بسبب حاجة الانسان لحصاد الحبوب البرية الغيّر مُدّجنة وأيضاً الصيد وقطف الثمار البرية، وذلك حسب التغيّرات المناخية التي تفرّضها الطبيعة وما تَجود به عليه من مقومات الحياة.
لقد جَرى التطور الكبير في بناء البيوت وتحولها الى الشكل الثابت الدائمي مع بدايات فترة العصر الحجري الحديث عند الألف الثامن قبل الميلاد، بعد أن حتّم التغيّر الهام في حالة الاستيطان البشري وجوب بقاء الأنسان الى جوار أرضه المزروعة ورعايتها على مدار العام، لغرض تنفيذ الأعمال المرتبطة باستصلاحها، مثل تهيئة البذور وصنع الأدوات والمعدات الازمة في الزراعة، مما فرَض تواجده المستمر فيها وفق ما تتطلبه احتياجاتها، وأدى ذلك بالتالي الى انفصاله تماماً عن واقعه المتنقل السابق، ليكون ذلك بمثابة خطوة الأنسان الأولى لتأسيسه أولى التجمعات البشرية المُستقرة المُتمثلة بالقرية، حيث منها بدأ مَسيرته الطويلة التي أدت به في آخر المطاف الى تَشييده الحضارة المدنية، وهذا ما أوضحه التطور المفصلي الذي حدث في المراحل المتأخرة لقرية "زاوي جمي" فيما بعد، حيث أخذت تُشيّد هناك بيوت ساذجة ذات تخطيط غير منتظم لكنها تقرب الى الشكل الدائري أو البيضوي، بُنيّت جدرانها بكتل الطين على أسس من الحجارة تم تسقيفها بأغصان وجذوع الأشجار.
كما كانت قرية "جَرمو" الأثرية الواقعة شرق مدينة كركوك والتي يعود تاريخها الى أواسط الألف الثامن قبل الميلاد، أحدى أهم القرى النموذجية الدالة على حدوث الثورة الزراعية خلال فترة العصر الحجري الحديث في وادي الرافدين، ومن أوضح الأمثلة على ذلك التطور الهام في حياة الأنسان الرافديني، وذلك من خلال العديد من الدلائل الأثرية التي تم العثور عليها فيها، ومن بينها عمارة البيوت، والتي تُشير بوضوح الى تطور ملحوظ في أسلوب تشييدها، حيث تم البناء وفق مُخطط جديد يَتمثل بعدة حجرات صغيرة مربعة أو مستطيلة الشكل أطوال أضلاعها كانت بحدود ثلاثة أمتار، في الغالب كانت تخلو من النوافذ، تكون الواحدة بجانب الأخرى وتنفتح على بعضها عن طريق مداخل صغيرة، وكانت أرضياتها تُبلط بطبقة سميكة من الطين المخلوط بالحَصى الناعم والتبن، كما يتم تسقيفها بأغصان وجذوع الأشجار ثم تُسيّع بطبقة سميكة من الطين المخلوط بالتبن.
أما جدرانها فقد بُنيت بكتل الطين "الطوف" ثم تم تسييعها بملاط من الطين المخلوط بالتبن، كما اثبتت التنقيبات الأثرية بوجود عدة مَلاطات متتالية أحداها فوق الأخرى، مما يُشير الى حدوث تجديدات متكررة بشكل منتظم على هذه البيوت، وهي حالة لم تكن معروفة سابقاً تدل دون شك على حالة الاستقرار المعيشي في هذه القرية والمُمتدة لفترة طويلة من الزمن، مما كان يتطلب أجراء صيانة دورية على البيوت كل فترة معينة من الزمن، وهذه الحالة لازالت متّبعة في البيوت الطينية لفلاحي ريف العراق، وكانت هذه الوحدات السكنية البسيطة قد تم تشييدها الواحدة بجانب الأخرى لتشكل بمُجملها أشبه بحي أو تكتل سكني عشوائي غير منتظم التخطيط، كانت مداخل بيوته تطل على أشبه بالممرات أو الأزقة الضيقة، ويرجع السبب في ذلك غالباً الى الطابع القبلي أو العائلي الذي يربط افراد هذه القرية، مما جعل ذلك التجمع يغدو بهذا الشكل من أجل الحماية المشتركة والتعاون المتبادل في زراعة الأرض وتقاسم منتوجها، وكان التطور اللافت في هذه البيوت هو دفن الموتى وخاصة الأطفال منهم تحت أرضيات حجراتها، ويُعتقد أن هذه الممارسة لها علاقة ببعض الأفكار الدينية التي أخذت تترسخ تدريجياً في عقلية الأنسان المزارع والمُتزامنة مع عملية إنبات البذور.
لقد حدث التطور الحقيقي في بناء البيوت خلال الدور الثاني من العصر الحجري الحديث والمعروف باسم "حسونة" نسبة الى أسم التل الأثري الذي يقع ضمن محافظة نينوى الى الجنوب من مدينة الموصل، ويقدر تاريخه بحدود ستة آلاف سنة قبل الميلاد، حيث تم خلاله اعتماد أسلوب جديد في هندسة وبناء البيوت، يتمثل بتحديد رقعة أرض مربعة أو مستطيلة تُشيّد عليها بكتل الطين "الطوف" حجرات صغيرة مختلفة المساحات ذات جدران بسُمك حوالي أربعين سنتيمتراً تُحيط فناءً مكشوفاً وتطل عليه بمداخل صغيرة، ويبدو أن هذا التخطيط المُبتكر قد فرضته طبيعة المناخ وأيضاً الحاجة الضرورية ضمن الحياة الزراعية الجديدة لدى الأنسان، حيث استخدمت الغرف التي تم تبليط أرضياتها بطبقة من الطين المَمزوج بالتبن للنوم ومعيشة العائلة وكذلك للطبخ وخزن الغِلال، فيما جُعل من الفناء رَحبة واسعة لممارسة الفعاليات والاعمال والشؤون المنزلية للعائلة وحفظ أدوات العمل المُستخدمة في الحقل، وكذلك لتربية الحيوانات المُدجّنة من ماعز وخنازير.
أما طريقة تسقيف هذه البيوت فكان يتم في الغالب برّص أغصان الأشجار بصورة متشابكة على شكل سطوح مائلة من الجانبين وفق شكل "الجَمَلون" ثم يتم كِسائها بطبقة سميكة من الطين المخلوط بالتبن، ومن مُميّزات الأسلوب الجديد أيضاً بناء عدة دكاك عالية تبرز على جوانب البيت الخارجية من أجل زيادة تقويّتها وأسنادها، وقد غدا هذا الشكل البنائي الأساس بما يُعرف بالفكرة المعمارية المُسماة "الطلعات والدخلات" المُحدثة في جدران الأبنية، والتي أصبحت أحدى أهم مَيّزات العمارة العراقية القديمة على مدى تاريخها الطويل ومنه انتشرت الى المناطق الأخرى، كما وتكمن أهمية هذا التخطيط الجديد ذو الفناء الكشوف أنه أصبح النموذج الرئيسي المُعتمد في عمارة جميع مناطق وادي الرافدين فيما بعد، وخاصة بعد انتقال السُكنى والاستيطان الى أقسامه الجنوبية، حيث أضفيت عليه هناك نوعاً من القدسية الدينية لتُشيّد كذلك وفق فكرته وأسلوبه العام المعابد والمَزارات والقصور، مع أجراء بعض التحويرات عليه أهمها توجيه أركان البناء الى الجهات الأربعة الرئيسية، ثم انتقال هذا الأسلوب الى معظم مناطق الشرق الأدنى لتوافقها وتشابهها مع ارض الرافدين في الطبيعة المناخية وأيضاً الأحوال الاجتماعية والاقتصادية.
ليغدو تخطيط بيوت السكن المربعة والمستطيلة بنوعيها ذات الغرف المُتلاصقة والفناء المكشوف هو الأسلوب المُعتمد الذي أستمر وساد بعدها خلال الأدوار التاريخية اللاحقة كما في دور "سامراء" ومثاله الواضح موقع "تل الصوان" في محافظة صلاح الدين وموقع " أم الدَباغية" في محافظة نينوى بأشكل بيوتهما الطينية المتعددة الغرف ذات التخطيط المتعامد الذي يشبه حرف (T) اللاتيني، حيث يُلاحظ كذلك في بعض البيوت هناك وخاصة ذات المساحة الكبيرة احتواءها أكثر من فناء واحد، وهذا بالطبع يَتماشى مع كبر مساحتها ويَتناسب مع عدد القاطنين فيها وبالتالي تُشير الى سعة المستوطن وعديد ساكنيه، ومن العناصر المعمارية الجديدة التي كُشف عنها في موقع "تل الصوان" أيضاً وتظهر لأول مرة هي السلالم المُدرّجة، حيث كانت تُبنى ملاصقة لإحدى جوانب البيت لغرض الوصول منها الى سطحه، علماً أن السقوف في هذه الفترة كان يتم عملها بشل مستوي من خلال مَد جذوع الأشجار على الجدران ثم يتم تغطيتها بالحصير بعدها تُملّط بطبقة سميكة من الطين يتّم تُسّليطها باتجاه أحد الأركان لغرض تصريف مياه الأمطار.
كما ظهر فيما بعد عند فترة العصر الحجري المعدني خلال الألف الخامس قبل الميلاد وتحديداً في الدور الثقافي المعروف بـ"حَلف" نوع من البيوت ذات التخطيط الدائري في عدد من المواقع الأثرية الواقعة ضمن حدود محافظة نينوى مثل "يارم تبة" و"تبة رَشوة"/"الأربجية"، تتراوح أقطارها ما بين السبعة والعشرة أمتار، يفصل بينها مَمرات وأزقة بعرض مترين تقريباً تم فرشها بالحصى الناعم، كانت جدرانها مُشيّدة بالطين بسُمك يتراوح ما بين الخمسين والسبعين سنتيمتراً، تم تقسيمها من الداخل بجدران قليلة السُمك الى حجرات صغيرة منفتحة الواحدة على الأخرى بمداخل صغيرة، وكانت أرضياتها تُبلّط بطبقة سميكة من الطين المَدكوك، أما سقوف هذه البيوت فكانت على الارجح بشكل قبة، حيث وجدت على ما تبقى من جدرانها الخارجية إنحنائات تدريجية نحو الداخل، مما يُشير الى أتباع هذا النوع من طريقة التسقيف، وهو يُعدّ النموذج الأول المكتشف في وادي الرافدين، كما تذهب بعض الآراء الأخرى في هذا الجانب الى أن سقوف هذه البيوت كانت بشكل مخروط، وبأسلوب مشابه كثيراً لتصميم البيوت الدائرية التي لازالت تُشيّد حتى الوقت الحاضر في مناطق سنجار وغرب الموصل وشرق الفرات في سوريا، التي اعتمد سكانها العديد من الموروثات القديمة في حياتهم المعاصرة ومن ضمنها تصميم بيوتهم على شكل الخيام البدائية المتنقلة التي كان يتم نصبها في المستوطنات الزراعية المؤقتة الأولى، من جانب آخر يُشير التنوع المعماري الحاصل في معظم المواقع الأثرية في شمال الهلال الخصيب الى أن هذه المنطقة قد جَمَعت عدة ثقافات، نواتها الأولى وادي الرافدين إضافة الى بلاد الشام وجنوب أسيا الصغرى، ليُنتج تمازجها ثقافة جديدة ذات طابع خاص وصل تأثيرها فيما بعد الى مناطق بعيدة مثل جزيرة قبرص وبلاد اليونان.
لقد كان الاستيطان في القسم الجنوبي من وادي الرافدين مع مطلع الألف الخامس قبل الميلاد مرحلة تاريخية هامة في حياة العراقيين القدماء، حيث أبتدأ شعب سومر خلال هذه الفترة والمعروفة بـ"العصر الحجري المعدني" وتحديداً في الدور التاريخي المعروف بـ"العُبيد" بأدواره الأربعة (أريدو، حجي محمد وراس العمية، العُبيد القديم، العُبيد المتأخر)، أتباع انماط مختلفة في تنظيم حياته المعيشية مُعتمداً أساليب جديدة في الزراعة القائمة على طرق الري الصناعي، والتي أدت من خلال الوفرة الاقتصادية الناتجة عن ذلك الى تمهيد الطريق لأنشاء المدن وقيام ما يُعرف بـ"ثورة الاستيطان المدني" خلال دور "الوركاء" التاريخي في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، لتبدأ بعدها العصور التاريخية بمُدنها الجديدة الناشئة، التي توضحت صورتها وأسلوب تنظيمها بشكل جَلي خلال عصر دويلات المدن السومرية في مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، حيث حدث خلالها تغيرات كبيرة في بنية المجتمع الرافديني والسلوك الحياتي لعموم أفراده، خاصة بعد حدوث الفوارق الاقتصادية التي انتجها مبدأ تقسيم العمل والتباين في توزيع عوائد وسائل الإنتاج، الذي فرضه واقع حياة المدينة الجديد وطبيعة سير حركتها الاجتماعية، ومن هذه المتغيرات ما أنعكس بشكل مباشر على الصورة المعمارية لأسلوب تًشييد عموم الأبنية وبشكل خاص بيوت السكن، بعد أن حددتها عوامل عدة كان في مقدمتها طبيعة مواد البناء الاولية المتوفرة، ثم العامل الاقتصادي، يليهما مكان السكن بالنسبة الى حدود المدينة.
بالنسبة للضواحي الريفية المحاذية للمسطحات المائية عند الأهوار، كانت البيوت كما صوَّرتها مشاهد الأختام الأسطوانية والمنحوتات البانورامية المُنفذة على الأواني الحجرية المستخدمة في الطقوس والممارسات التعبدية الدينية، تُشير بوضوح الى أن الأنسان العراقي في بيئته الجديدة قد أستغل المادة الطبيعية الأساسية والرخيصة المتوفرة في هذه المنطقة، وهي القصب والبردي إضافة الى الطين ليُشيد به بيته الجديد، حيث أسّس هيكله من حُزم قصب مَشدودة بالحبال، تُثبّت بشكل صفٍ مستقيم على جانبي بُقعة أرض مستطيلة، بعد ذلك تُثنى أطرافها العليا الى بعضها نحو الداخل ثم يتم شدّها وعقدها بأحكام لتكوّن قبو طويل ذو سقف نصف دائري، بعدها يتم تغطية هذا الهيكل المَتين بالحصير المعمول من القصب أيضاً ثم يُغطى بطبقة من ملاط الطين لمنع تسرب مياه الأمطار إليه، أما المدخل فقد صُمم ليكون عند أحد طرفيه بعد أن يُدعّم جانبيه بحُزمتي قصب سميكة لغرض أسناد الباب، وهذا التصميم لا يزال معتمداً حتى الوقت الحاضر في بيوت سكان مناطق الأهوار المعروف بـ"الصريفة"، قد وردت الإشارة له باللغة الأكدية بصيغة "خصّو" التي يقابلها ضمن مفردات اللغة العربية كلمة "خُص" ويراد بها البيت المَبني من القصب أو أغصان الأشَجار، ثم استمر مدلول هذه التسمية فيما بعد في الفترات اللاحقة ليشمل كذلك الأكواخ الريفية البسيطة التي كان الفلاحون يَبنونها بالطين بشكل بضع حُجرات متلاصقة تطل بأبوابها على أراضيهم الزراعية.
ومن الاشارات المهمة لبيوت القصب التي أوردتها النصوص المسمارية المختلفة من أدبية ودينية، ما ورد في قصة الطوفان الرافدينية، وخاصة المذكورة في اللوح الحادي عشر من ملحمة "كَلكَامش"، حين نادى الإله "أينكي" بطل القصة "أوتونبشتم" حكيم مدينة "شروباك" السومرية، بشكل غير مباشر مُحذّراً إياه من قدوم كارثة الطوفان... (يا كوخ القصب، يا كوخ القصب، يا جدار، يا جدار.. أستمع يا كوخ القصب وأصغ يا جدار.. يا رجل "شروباك" يا أبن "أوبار توتو".. أهدم البيت وأبن سفينة.. أترك المال وأنشد الحياة)، ويبدو من ذلك أن تفكير الأنسان العراقي القديم قد أحاط هذه البيوت خلال الفترات التاريخية اللاحقة بهالة من القدسية المُميزة رغم بساطتها، كونها البيوت الأولى التي شُيّدها في القسم الجنوبي من وادي الرافدين، جاعلاً منها بيوتاً للآلهة وخاصة إلهة الحب والجنس السومرية "أينانا"، وكذلك ملجأً لإجراء ممارسة "الزواج المقدس" بينها وبين الإله "دومزي"، ومن الجدير بالذكر أن رمز الإلهة "اينانا" كما بينته القطع الفنية كان حزمة القصب التي تسند باب مدخل بيت القصب.
أما بيوت المدن فقد شهدت تطوراً ملحوظاً ترافق مع تنامي أساليب العمارة العراقية بشكل عام، حيث أخذت البيوت تُشييد وفق مخططات مربعة أو مستطيلة تتوسطها الساحة أو الفناء المكشوف تحيطه الحجرات والمرافق المُلحقة الأخرى، وهذا التخطيط قد سبق اعتماده في البيوت السكنية لفترة "حسونة" كما سبق القول، والذي ثبت ملائمته كذلك للظروف المناخية والبيئية في المنطقة الجنوبية لوادي الرافدين، كما أصبح من أهم مُميزات العمارة أيضاً استخدام اللِبن كمادة أساسية في عملية البناء لسهولة تشكيله بأشكاله المختلفة من فَرشي الى مُنتظم التكعيب الى مُستوٍ مُحدّب، مع استخدام الطين أو الجص كمادة رابطة في التشييد، ويرجع ذلك الى وفرة ورخص مادته الأساسية وهي الطين، وقابليته الكبيرة على العزل الحراري على مَدار مواسم السنة المختلفة، إضافة الى سهولة البناء به وفق الأسلوب والحاجة التي يُراد منها، كما أستخدم الطابوق كذلك لكن ضمن حالات خاصة ومحدود اقتصرت على تغليف جدران المعابد والزقورات والقصور.
من جانب آخر فقد كشفت التنقيبات الأثرية في مدن وحواضر العراق القديم، بأن بيوت عامة الناس كانت تتجمع بشكلٍ مُترّاص في أحياء سكنية مُزدحمة، حيث أن كل مدينة تضم عدداً من الأحياء المتباينة المساحة العشوائية التخطيط والتنظيم، تُستقطع للسكان غالباً أما حسب طبيعة مهنهم أو كما تفرزه أوضاعهم الاقتصادية واحوالهم الاجتماعية، وكان يوجد عند طرف كل منها مَكبّ للنفايات ومقبرة تخصّ سكان الحي، وتفصل الحي السكني عن الاخر طرق واسعة غير مستقيمة الامتداد بعرض سبعة الى عشرة أمتار، تتوزع على جانبيها المَحال والحوانيت التجارية ومرافق الخدمة العامة، تمتد من ضواحي المدينة الريفية حتى مركزها الاداري الرئيسي، الذي يكون أما في الوسط أو في أحد جوانبها ويظم المعبد الكبير مع الزقورة وقصور العائلة الحاكمة والمراكز التجارية الهامة، كما كانت تقطع الحي السكني الواحد شبكة من الأزقة تمتد بين صفوف بيوته بشكل ملتوٍ أو متعرج، وبعرض يتراوح من أثنين الى أربعة أمتار، تتوسطها في الغالب ساقية محفورة في الأرض لغرض تصريف المياه الآسنة والأمطار، تتوزع على جانبيها أبواب البيوت، التي صُممت في معظم الحالات بحيث لا تواجه إحداها الأخرى بشكل مباشر، آخذين بالاعتبار حُرمة البيت المُقابل، ومن يَتمعّن بتلك الأحياء القديمة ببيوتها المتلاصقة وأزقتها الضيقة، يرى أنها كبيرة الشبه بالمَحلات التراثية في مدن العراق المختلفة مثل بغداد والموصل وكركوك.
وإضافة الى التنقيبات الأثرية فقد أوضحت النصوص المسمارية، مثل عقود بيع البيوت والقوانين النافذة وكذلك التعابير المكتوبة على بعض المُخططات الموضوعة لتلك البيوت أنواعاً عديدة منها، وذلك حسب مكان تَشييدها وحجمها ومساحتها، ومنها تم الحصول على معلومات هامة عن البيت العراقي القديم وتفاصيل دقيقة عنه، والتي أشارت الى وجود تباين في تصاميم الواحد عن الآخر، أفرزه الواقع الاقتصادي لساكنيها بالدرجة الأساس، حيث كانت هناك بيوت كبيرة وضخمة للطبقة الثرية المُترفة مثل كبار الكهنة والتجار وقادة الجيش، بُنيت بطابقين وأحياناً بثلاثة وجاوزت مساحاتها المئتين وخمسين متراً مربعاً، كما بلغ عدد حجراتها وغرفها أكثر من اثنتي عشر، وأخرى للطبقات الوسطى والبسيطة كالكتبة والجنود والحِرفيين والمزارعين كانت بطابق واحد ولا تتعدى مساحاتها الخمسين متراً مربعاً تحوي عدة حجرات فقط لا تتعدى الثلاث أو الأربع، أما بيوت الفقراء المُعدمين من المستخدمين الأجراء وحَمّالي البضائع والعبيد وباقي الفئات المَسحوقة البائسة، فلم تكن سوى أكواخ صغيرة مَبنية بالطين خالية من التقسيمات الداخلية.
ويقتضي التنويه الى أن البيوت العراقية القديمة بشكل عام لم يحدث عليها تَغيّرات ملحوظة على مدى الزمن، والسبب الرئيسي في ذلك هو أن الناس كانوا يُشيّدون بيوتهم على أسس البيوت القديمة المُهدّمة والمنهارة، من دون أن يحفروا أسساً جديدة توفيراً للوقت والجهد والمال، لذلك ظلت على نفس مخططاتها السابقة باستثناء بعض الاضافات الأخرى التي يُنفذّها الساكن الجديد بناءً على حاجته.
كما بَيّنت النصوص المسمارية مثل عقود البيع والقوانين والتشريعات النافذة على مدى الفترات التاريخية لوادي الرافدين الكلمات التي تُعبّر عن معنى البيت، وكان أقدمها كلمة "أي" السومرية وتقابلها "بيتو" الأكدية، كما وردت أيضاً كلمة "أي دوا" بالسومرية وتعني "بيت مَبني" وتقابلها "بيت أيبشو" بالأكدية، وأيضاً كلمة "أي أورو" بالسومرية بمعنى "بيت مبني في المدينة" وتقابلها بالأكدية "بيت آلي"، في حين وردت كلمة "أي أورأور" بالسومرية وتعني "بيت صغير" أو "كوخ" وتقابلها بالأكدية "بيت خاموطي"، كما أوجبت القوانين العراقية القديمة وخاصة قانون الملك البابلي "حورابي" 1792_1750ق.م، أن يتم بيع وشراء البيوت وفق عقد مكتوب ومختوم ومشهود عليه من قبل عدة أشخاص، تُحدد فيه جميع التفاصيل المطلوبة لأثبات حقوق أطراف العقد بين بائع ومُشتري، وفق ذلك أورت عقود بيع البيوت العديد من مواصفاتها وتفاصليها مثل المساحة وعدد الطوابق والحجرات والغرف، إضافة الى باقي المرافق التي يتضمنها مثل وجود قبو أو قبور وعدد الأبواب، وبمقتضاها كانت تَتحدد قيمته المُثبتة في العقد والتي كانت تزيد أو تنقص حسب واقعها، إضافة الى خصائصه الاخرى مثل عُمر البناء والجَودة والمواد المُشيّدة به، ومن أمثلة مواصفات البيوت الواردة في تلك العقود.. (بيت مَبني مع دعائمه وبابه، مع فناء وحمام وجناح خدم وطابق ثانٍ ومخزن وقبو وقبر)... (بيت مَبني بدعائمه وأبوابه الأربعة مع حجرة طعام وحجرة نوم وحَمام وحجرة جَرش ومَخزن وطابق ثانٍ).
وليس بعيداً عن هذا الجانب فقد أشارت قوانين الملك "حمورابي" الى وجود أشخاص مُتخصصين مُمتهنين لحرفة بناء البيوت، كانوا ينخرطون ضمن ما يشبه النقابات المهنية، لغرض وتنظيم اعمالهم وتحديد أجورهم ودرجات مَهاراتهم المهنية، ومُساندة حقوقهم القانونية واعتباراتهم الاجتماعية أمام المحاكم، وكان القانون يحاسبهم بشكل صارم قاسٍ في حال اهمالهم لواجبهم وممارستهم غشاً في عملهم ينتج عنه تَصدّع أو انهيار بنائهم، مما قد يتسبب بأذى ساكني البيت فيما بعد، وفي ذلك فقد نَصّت المادة (229) من قانون "حمورابي"... (إذا بنى بنّاء بيتاً لرجل ولم يُقوّي عمله، بحيث أنهار البيت الذي بَناه وتسبب بمقتل الرجل، فيجب أن يُقتل ذلك البنّاء)، أما المادة (233) من القانون المذكور فقد نَصّت... (إذا بنى بنّاء بيتاً لرجل ولم يكن عمله مُتقناً وحسب الشروط مما تسبّب في تَصدع جدرانه، فعلى البنّاء أن يُقوي الجدران من ماله الخاص).
ومن كل تلك التفاصيل التي تم ذكرها وتوضيحها بالاستناد الى الأدلة الأثرية والكتابية، يُمكن أن نتصور تصميم عام للبيت العراقي القديم استمر العمل وفقه طيلة الفترات التاريخية المتعاقبة، ليكون بالشكل التالي...
شُيّد البيت العراقي القديم في الغالب بـ"اللِبن" الذي وردت تسميته باللغة الأكدية بصيغة مقاربة للعربية وهي "لبتو"، في حين شُيّدت بيوت الطبقات الفقيرة بكتل الطين المرصوف "الطوف"، وكان يتكون من فناء مكشوف يتوسط البيت ويكون مَركزاً له وفضاءً للحركة فيه، حيث أنه يحوي معظم العناصر الأساسية التي تحتاجها العائلة في حياتها اليومية مثل تنور الخبز وموقد النار، كما يُخصص في أحد أركانه مكاناً لتجميع الحطب مع حضيرة الحيوانات والطيور الداجنة، وهذا الفناء تُحيطه الحجرات والغرف والمرافق الخدمية الاخرى التي تطل بأبوابها عليه، يتقدمها مَمشى أو رواق يمتد موازياً لحافة الفناء، تعلوه سقيفة مَصنوع هيكلها من جذوع الاشجار أو النخيل وتُغطى بالحصير أو الاخشاب أو سَعف النخيل، الغرض منها الحماية من الشمس والأمطار، في حين تحتوي البيوت الكبيرة على أكثر من فناء واحد وتُشيّد بطابقين وأحياناً بثلاثة، حيث تُخصص حجرات الطابق الارضي غالباً للخدمة كمطابخ وحمامات ومخازن مؤونة وبيوت راحة "مرافق صحية"، وكذلك لاستقبال وإقامة الضيوف أو لسُكنى العبيد في حالة وجودهم، أما غرف الطوابق العليا فكانت تُخصص عادة لأفراد العائلة، وقد تُشيّد لها شُرفات معمولة من الخشب تطل على فناء البيت، وتَستند على دعامات مَتينة من جذوع النخيل تُثبت بشكل مائل على جدران الطابق السفلي، ويُمكن اعتبار هذا الشكل البنائي هو البدايات الأولى للتصميم المعماري العراقي المعروف بـ"الشناشيل".
أما حُجرات الطابق الأسفل وغُرف الطوابق العليا التي سُميَّ كلاهما بالأكدية "بيتانو"، فقد اختلفت مساحاتها حسب الحاجة والغرض، وكانت جدرانها سميكة نسبياً لغرض العزل الحراري، وتطل على الفناء بشبابيك متوسطة السعة مربعة الشكل لا يتعدى طول ضلعها النصف متر، وفي أحيان كثيرة تمت الاستعاضة عن النوافذ الواسعة بفتحات صغيرة للتهوية والإنارة، وفي الغالب تُبنى في الجدران مشكاة واحدة أو عدة مشكاوات بقياسات مختلفة، لغرض استخدامها في وضع مَسارج الإنارة أو اللوازم البيتية والشخصية الأخرى، وحيث أن الجدران كانت عُرضة للتأثر بالعوامل الطبيعية والظروف المناخية فقد كانت تُسيّع بطبقة سميكة من ملاط الطين الممزوج بالتبن من الداخل والخارج، لغرض حمايتها من الأمطار والرطوبة، وكانت هذه العملية تتكرر بشكل دوري مستمر كأسلوب تَرميم وصيانة كل بضعة سنوات من أجل دوام حماية الجدران، ولنفس الغرض أيضاً كان يتم طلاء الجدران غالباً باللون الأبيض أما بشكل كُلي أو بشكل إزارة ارتفاعها بحدود متر ونصف، من أجل منحه جمالية خاصة وكذلك لسَد المَسامات وعدم نفاذ الرطوبة، أو لمنع الحشرات الدبيبة والعظايا الصغيرة والعقارب من بناء مخابئ لها فيها، ولغرض حماية الجدران من صعود رطوبة الأرض إليها كان يتم وضع طبقة سَميكة من الرمل الجاف في حفر الأساس، وأحياناً تُطلى الأجزاء السفلى منها بالقار بارتفاع حوالي ثلاثين سنتيمتراً، كما كانت تُعّلق على الجدران بعض المنحوتات الخاصة أو أن تُرسم أو تُنقش عليها بعض الأشكال التجريدية المُميزة، التي تكون بمثابة تمائم أو أحراز سحرية يضعها أهل البيت لأبعاد الحَسد وطرد الشياطين والأرواح الشريرة.
وكانت مداخل الحجرات والغرف بشكل عام قليلة العرض لا تتخطى السبعين سنتيمتراً وارتفاعها واطئ نسبياً ودون مستوى هامة الأنسان، مما يَستدعي بالداخل الانحناء قليلاً ليتمكن من المرور خلالها، وقد بُنيّت عقودها العلوية غالباً بشكل نصف دائري، أما أبوابها فكانت تُصنع من عدة ألواح خشب أو شرائح جذوع نخيل يتم ضَمّها الى بعض، ثم يُثبّت أحد جانبيها على دعامة خشبية مَتينة تكون محوراً لتحريكها نحو الداخل أو الخارج من خلال ارتكازها على صنارة تدفن عند المدخل، تكون بشكل حجرة ثقيلة تحوي ثقباً غير نافذ يتم تثبيت المحور فيه، ولغرض منع وصول مياه الأمطار الى المداخل من الفناء أو الرواق، كانت تُبنى أمامها دكاك واطئة من الطابوق ارتفاعها بحدود خمسة عشر سنتيمتراً.
من جانب آخر فقد كانت أرضيات البيوت الكبيرة ترصف بالطابوق الفرشي المربع الشكل، أما البيوت الصغيرة فكانت تُبلط بطبقة سَميكة من الطين الأحمر "الصلصال" المَمزوج بالقش أو التبن والحصى الناعم، أما السقوف فكانت تُشيّد بوضع شرائح جذوع النخيل أو جذوع أشجار "القوَّغ" لقوتها وخفتها واستقامتها على أعالي الجدران، ثم تُمد عليها الحصران المعمولة من القصب أو الجَريد، تُسيّع بعدها بطبقة سميكة من الطين المَمزوج بالحصى الناعم والتبن، ويكون التسقيف بشكل مائل نحو الجانب الخارجي للبيت لتسهيل انسياب مياه الأمطار عن سطوحها، علماً أن هذا الأسلوب في التسقيف لازال مُتبّعاً في مناطق العراق الريفية، وخاصة الشمالية منها ويُعرف باسم "دام" أو "دامة".
وعادة يحتوي البيت على مدخل رئيسي واحد يطل على زقاق الحي، وقد يكون له عدة مداخل صغيرة ثانوية في جوانب البيت تؤدي وتوصل الى أزقة وأحياء سكنية أخرى، ويعتمد ذلك على مدى سِعة البيت وموقعه وحاجة ساكنيه، ويُصمم المدخل عادةً بشكل أعلى وأكثر عرضاً من أبواب الحجرات والغرف، ويكون مصنوعاً من الواح الخشب أو شرائح جذوع النخيل بسفّاقتين بالنسبة للبيوت الكبيرة أو بسفّاقة واحدة للصغيرة منها، لكن لا يتعدى عرضه في كل الأحوال عن المتر ونصف، وكان المدخل يوصل الى فناء البيت عبر مَجاز أو غرفة طويلة تُسمى بالأكدية "بابانو"، يختلف طولها وشكلها ومدى سِعتها حسب حجم البناء و أسلوب تخطيطه، وأحياناً يكون لها مداخل في جانبيها تُؤدي الى حجرات جانبية تخصص في الغالب لاستقبال الضيوف أو للخزن أو لاستخدامات خاصة أخرى.
ومن مرافق البيت الهامة مكان طهو وإعداد الطعام، وكان يُتخذ لهذا الغرض من إحدى حجرات الطابق الأسفل الكائنة عند أحد أركان الفناء مطبخاً لأعداد ما تحتاجه العائلة من مأكولات وأطعمة، يتم فيه بناء موقد حطب لأجل ذلك، يُصمم مكانه بحيث ينفث الدخان منه نحو الفناء المكشوف بعيداً عن الحجرات والغرف، وقد أمكن تمييز المطابخ من خلال بقايا آثار الدخان ولون السخام الأسود على جدرانها، وفي حالات أخرى بسبب صغر البيت وقلة مرافقه، كان يُجعل من أحدى أركان الفناء مطبخاً مكشوفاً بعد تغطيته بسقيفة مناسبة يُبنى فيه الموقد وكذلك تنور الخبز.
كما يوجد في البيت عادة سرداب أو قبو يُعدّ من مُميزاته التي تُثبّت في عقود البيع كما سبق الذكر، يكون أما تحت الفناء أو تحت أحدى الحجرات يتّم النزول إليه عن طريق سُلم مُدرّج قليل العرض، يُستفاد منه بسبب برودته ورطوبته في أغراض واحتياجات عديدة، حيث يُستخدم لخزن مختلف المُؤن، وكذلك جرار الزيوت والنبيذ ونقائع الفواكه، وقد يُجعل منه مكاناً لنوم وإقامة العبيد، أوقد يستخدم أحياناً لدفن الموتى من أهل البيت، وهي حالة قديمة موروثة تعود كما سبق ورأينا الى فترة العصر الحجري الحديث، وفي الغالب اصبحت الغاية منها خلال هذه الفترة هو لإثبات ملكية وعائدية البيت من خلال وراثة قبور أسلاف مالكيه.
أما بيوت الراحة (المرافق الصحية) فتُبنى عند أحد أركان الفناء وكانت أرضياتها تُرصف بالطابوق الفرشي، وقد صُمم مَقعدها كما في المراحيض الشرقية القديمة، بحيث يتم قضاء الحاجة فيها من خلال الجلوس بوضع القرفصاء، حيث أنها تُبنى بشكل دكتين مستطيلتين من الطابوق الكبير وأحياناً من الحجر، تُرصف فوق بالوعة عميقة، كما ويوضع عادة بجانب المقعد حوض صغير مصنوع من الفخار، يُملأ بالماء لغرض التنظيف بعد الاستعمال، أما الحمام فكان يُصمم موقعه عادة ملاصقاً لبيت الراحة لتسهيل تصريف مياههما معاً بنفس شبكة تصريف مياه البيت، وكان يَحوي أحواض الماء المُخصصة للاستحمام المصنوعة من الفخار، أما أرضيته فكانت تُبلط كذلك بالطابوق الفرشي، بالإضافة الى تُسييع الأقسام السفلى من جدرانه لارتفاع متر تقريباً بطبقة من القار لوقايتها من تَسرّب المياه والرطوبة.
وكان يتم تصريف المياه الثقيلة ومياه الاستخدام اليومي ومياه الاستحمام عن طريق مجاري معمولة من أنابيب فخارية، بشكل اساطين ذات أقطار مختلفة متداخلة الواحدة بالأخرى تمتد تحت أرضية البيت، تؤدي بتلك المياه أما الى قسطل كبير محفور وسط الفناء، أو الى الخارج لتصبّ في سواقي مكشوفة تتوسط زقاق الحي تُصَرّفها مع مياه البيوت الأخرى في الأنهار والجداول والترع الصغيرة المجاورة، في نفس الوقت لم تكشف التنقيبات الأثرية عن اماكن أو حجرات في البيوت الصغيرة يمكن أن تكون مُخصصة للاستحمام كما في البيوت الكبيرة، وفي الغالب كان يُتخذ من أحدى جوانب البيت أو الفناء المكشوف مكاناً لهذا الغرض، بعد عَزله بستارة مَعمولة من القصب أو جريد النخل، مع عمل ساقية خاصة لتصريف المياه، أو أن يكون الاستحمام عند ضفاف الأنهار والجداول خاصة في فصل الصيف مع ارتفاع درجات الحرارة.
وفي البيوت المُتعددة الطوابق كان يوجد سلالم مُدرّجة في أحد أركان الفناء عرضها لا يتجاوز الثمانين سنتيمتراً، توصل للغرف العليا وكذلك لسطح البيت، أما في البيوت الصغيرة ذات الطابق الأرضي الواحد فكانت تُبنى السلالم ملاصقة لأحد الجوانب الخارجية تؤدي الى السطح الذي كانت يُستغل عادة لتخزين وحفظ بعض حوائج وأغراض اهل البيت أو لتجفيف الأطعمة الحيوانية والنباتية، كما احتوت بعض البيوت على حجرة خاصة جُعل منها معبداً صغيراً لغرض إجراء الطقوس الدينة من قبل أهل البيت، تضّم في الغالب تمثالاً صغيراً لإله مَعبود ودكة لتقديم القرابين والنذور إليه، وفي الغالب يكون ذلك جزءاً من مفهوم الديانة الشخصية التي سادت بين أبناء العراق القديم على امتداد أدواره التاريخية.
ومن التصاميم المعمارية الهامة والمُميزة للغاية التي يُحسب ابتكارها لحضارة وادي الرافدين وتُشير الى مدى التطور العلمي والتقني الذي وصلت اليه، ما يُعرف بـ"مَلاقف الهواء"، لغرض تلطيف وتبريد الهواء داخل حجرات وغرف المنازل والأبنية الأخرى، بالاعتماد علي العناصر الطبيعية في تخفيف درجة الحرارة وتلطيف الجو، وهو شيء فرضته الطبيعة الحارة في الاقسام الجنوبية من البلاد، حيث كشفت التنقيبات الأثرية في بعض بيوت السكن الكبيرة التي يعود تاريخها الى فترة العصر البابلي القديم أي خلال النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد في مدن عديدة مثل "أور" و"لارسة"، و"اوروك"، عن قنوات مَبنية مع الجدران تشبه المدخنة، عرضها بحدود ستين سنتيمتراً، يصل طرفها العلوي عند سطح البيت تحوي فتحات من جهة الرياح السائدة، أما طرفها الاسفل فيكون بشكل فتحة مناسبة على ارتفاع مترين أو متر ونصف من أرضية الحجرات والغرف، يَمّر من خلال هذه القنوات الهواء البارد وتوجيهه نحو الأسفل، لتجري عملية تلطيف الهواء الموجود من خلال تبديله وفق مبداً خروج الهواء الساخن لخفته ودخول الهواء البارد لثقله، وهذا التصميم يُعُّد قريب الشبه كثيراً بـ"البادكَير" الذي كان موجوداً في العديد من البيوت البغدادية التراثية، علماً أن هذا الاسلوب المُبتكر الذي انتشر فيما بعد الى مناطق عديدة من الشرق الأدنى القديم مثل أيران وبلاد الشام ووادي النيل، قد كشفت التنقيبات الأثرية عن وجوده أيضاً في القصر المعروف بـ"الصيفي" الذي شَيّده الملك البابلي "نبوحذنصر" 604_562ق.م عند الأطراف الشمالية من مدينة "بابل"، لذلك سُميَّ من قبل المنقبين بهذا الاسم.
وعلى الرغم من الأسلوب والتخطيط العام لتشييد بيوت السكن الذي ساد وأنتشر في عموم وادي الرافدين، إلا أن بعض المُميّزات الخاصة قد وجدت أيضاً في بيوت اقسامه الشمالية، حيث ظهرت فيها عناصر بنائية جديدة لم تكن معروفة سابقاً، لكنها ظلت مُقتصرة على تلك المناطق دون أن تنتقل أو يتم استيعابها في الوسط والجنوب، وهذا ما كشف عنه في موقع "تبة كَورا" ومواقع أثرية اخرى في محافظة نينوى ضمن الطبقات الأثرية العائدة الى الألف الثالث قبل الميلاد، وأحد تلك العناصر هو بناء قاعة كبيرة يتم تسقيفها باللِبن بشكل قبو نصف دائري، تكون بخلاف حجرات البيت الأخرى مفتوحة بشكل كامل على الفناء الوسطي للبيت، ويُرجّح أن هذا التصميم يُمثل البدايات الأولى للتصميم المعماري المعروف بـ"الأيوان" الذي أنتشر بشكل كبير فيما بعد الى هضبة الاناضول وايران وبلاد الشام، بالإضافة الى عنصر آخر ظهر في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، تَمثَل ببناء سقيفة كبيرة من اللِبن تتقدم المدخل الرئيسي للبيت، الغرض منها مَنع تسرب مياه الأمطار إليه عُرف باسم "بيت خيلاني"، وفي الغالب أن هذا التصميم كان من ضمن التأثيرات القادمة من بلاد الشام.

المصادر:

_ تقي الدباغ ... من القرية الى المدينة ... المدينة والحياة المدنية/ الجزء الأول ... بغداد 1988
_ طه باقر ... مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة/ الجزء الأول ... بغداد 1973
_ عادل نجم عبو ... فن العمارة ... موسوعة الموصل الحضارية/ الجزء الأول ... الموصل 1991
_ فوزي رشيد ... الشرائع العراقية القديمة ... بغداد 1973
_ مؤيد سعيد ... العمارة منذ عصر فجر السلالات الى نهاية العصر البابلي الحديث ... حضارة العراق/ الجزء الثالث ... بغداد 1985
_ وليد الجادر ... التجمعات الزراعية الأولى ... المدينة والحياة المدنية/ الجزء الأول ... بغداد 1988
_ وليد الجادر ... العمارة من البداية الى عصر فجر السلالات ... حضارة العراق/ الجزء الثالث ... بغداد 1985
_ D. Potts … Mesopotamian Civilization, The Material Foundations … LONDON 1997
_ H. Frankfort …. The Art And Architecture of The Ancient Near East … MARYLAND 1970
_ J. Curtis … Fifty Years of Mesopotamian Discovery … LONDON 1982
_ M. Mallowan … Twenty Five Years of Mesopotamian Discovery … LONDON 1956
_ P. Charvat … Mesopotamia Before History … LONDON 2002
_ R. Carter , G. Philip … Beyond The Ubaid … CHICAGO 2006
_ S.Lloyd … The Arckaeology of Mesopotamia … NEW YORK 1978








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشدد مع الصين وتهاون مع إيران.. تساؤلات بشأن جدوى العقوبات ا


.. جرحى في قصف إسرائيلي استهدف مبنى من عدة طوابق في شارع الجلاء




.. شاهد| اشتعال النيران في عربات قطار أونتاريو بكندا


.. استشهاد طفل فلسطيني جراء قصف الاحتلال الإسرائيلي مسجد الصديق




.. بقيمة 95 مليار دولار.. الكونغرس يقر تشريعا بتقديم مساعدات عس