الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من سؤال الإنسان إلى سؤال التاريخ

قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)

2022 / 6 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لجامعة بغداد مكانة خاصة في قلبي وعقلي ففي كلية آدابها أمضيت أربعة سنوات من 2000 إلى 2004م. سنوات حصار العراق واجتياحها الغاشم. كانت لحظة خانقة للعراق العريقة وللعالم أجمع ولكنها بالنسبة لي لحظة فارقة أكاديميا. إذ ذهبت اليها بمشاعر أهل اليمن الأرق قلوبا والآلين أفئدة ! فضلا عن ثقافة فلسفية وجودية تزودت بها أثناء دراستي للماجستير بإشراف الأستاذ الدكتور أحمد نسيم برقاوي بعنوان الوجود والماهية عند جان بول ساتر. كانت تلك الجرعة الفكرية الوجودية الملهمة كافية لمواصلة البحث في فلسفة القلق والحرية غير أن العراق التي تشبه اسمها بالعراقة والرسوخ التاريخي غيرت كل شيء فهناك وجدت نفسي وجها لوجه مع التاريخ الذي ينيخ بكلكله الثقيل على عاتق الحضارة البشرية. فتحول السؤال الوجودي عن من هو الإنسان؟ إلى سؤال فلسفي تاريخي عن ما هو التاريخ؟ وكيف يتحرك وإلى اين يسير؟ ولما كان قدرنا أن نكون شاهدين على هذا العصر ومنفعلين بما يحدث فيه من تغييرات وأحداث ومشكلات، فمن الأجدر بنا أن نفهم ما يدور حولنا ونتعرف طبيعة المنطلقات الفلسفية والمسارات العامة التي توجه دفة قيادة التاريخ العالمي في عالمنا المعاصر، والفلسفة هي النافذة التي نطل منها لتعرّف حقيقة عصرنا ومشكلاته ذلك لأنها روح عصرها ملخصاً بالفكر، ولا مندوحة لنا نحن القاطنين في هذا المكان المتوسط من الأرض من الفهم العميق للروح الفلسفية العامة التي تكمن خلف كل تلك المظاهر والأحداث والملامح التي تشكل وجه عالمنا الجديد، وتشكل وجهنا في نسيج هذا العالم الخارج عن نطاق سيطرتنا، والخاضع لديناميات قوى عالمية غربية وشرقية وإراداتفاعلة أخرى، قابضة على نواصي التاريخ والحضارة والمدنية والثقافة.ولما كانت الفلسفة حواراً بين الفكر والواقع، بين الإنسان وعصره، بين الشعوب والحضارات، حواراً يجدد الدهشة ويثير التأمل ويفتح الآفاق ويضيء السبل والممكنات لفهم المشكلات وحل الأزمات،فإن حاجتنا ماسة لمثل هذا الحوار الثقافي الذي يعين البشر على تحديد الأسئلة الجوهرية والبحث عن الإجابات المناسبة والممكنة عنها، ولاسيما بعد أن صرنا اليوم دون أجوبة لأن الأسئلةالتي طرحناها لم تكن مطابقة للواقع، لذا جاءت أجوبتها مخيبة للآمال. فما أحوجنا لفهم شيءعن عصرنا وطبيعة مشكلاته وحقيقة فلسفاته، كي نتمكن من التعاطي معه على أسس عقلانية واقعية نقدية. هناك في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة بغداد أعدت التفكير في التاريخ الذي يكسر رؤوس البشر ولم يتكسر رأسه أبداً. فكان سؤال التحدي والاستجابة عند الذي أستوقفني إذ كيف لنا اليوم أن نواجه تحدي التاريخ العالمي؟ لا سيما ونحن نعلم أن العالم العربي يزخر بتراث تاريخي حضاري وثقافي غني جدا ففيه نشأت نصف حضارات العالم القديم في جبال اوراس إلى النيل والفرات واليمن وما بينهما ( الحضارة المصرية القديمة والاشورية والسومرية والكلدانية والبابلية والكنعانية والفينيقية وحضارات الشمال الافريقي والمغرب العربي الكبير والحضارة اليمنية في جنوب الجزيرة العربية وغيرها) فضلا عن كونه مهد الديانات الابراهيمية الثلاث( اليهودية والمسيحية والإسلام) لكن التاريخ بوصفه تراثا لا يضي الموقف المعتم في اللحظة العالمية الراهنة فلا بد لنا من التعرف على الأخر الذي يعيد تشكلنا فالآخر هو مرآة الذات لكن مشكلة وعي الذات وفهم الآخرين ليست من البساطة بحيث تنكشف للانا بذاتها ولذاتها دون عنأ أو جهد يذكر، بل هي عملية شديدة التعقيد وعسيرة الفهم، إذ قد يعيش الناس عشرات أو مئات السنين في بعض الحالات دون أن يتمكنوا من إختراق الحجب والأقنعة التي تحول دون وعيهم لذاتهم وللآخرين، فالذات إذا ما تركت لذاتها دون خبرة التفاعل والإحتكاك المباشر بالآخرين تظل عمياء ساذجة وفطرية غير واعية لذاتها وغير مدركة لهويتها التي تميزها عن هوياتهم المختلفة إذ بأضدادها تتمايز الأشياء. والطريق الوحيد لتحقيق كشف المحجوب في عمليات الذات والآخر لا يتم إلا بالإحتكاك والتفاعل المتبادل بين الفاعلين الاجتماعيين في أثناء الممارسة الحياتية وتغذيتها الراجعة في سياق تفاعلي مقارن، فرصد الآخرين وتأويلهم هو الوسيلة الممكنة في فهم الذات؛ فالآخر هو دائماً مرآة الذات ومبعث هويتها. هناك في العراق التليدة شهدت بنفسي لحظة الصدام التاريخي القاسي بين بداية التاريخ ونهايته وما كان لها من نتائج مروعة على الوطن العرب والعالم كله. فجاءت اطروحتي في فلسفة التاريخ الغربية محاولة لفهم التاريخ ومساراته العالمية في ضوء نظرية التحدي والاستجابة. وهي محاولة لتسلط الضوء على فلسفة التاريخ في الفكر الغربي المعاصر، آرنولد توينبي موضوعاً، إذ يعد العصر الحالي منذ بدء القرن العشرين أكثر العصور نزوعاً الى التفكير بصورة تاريخية، وذلك بسبب ما شهده مشروع الحداثة الغربية من أزمات خانقة وأحداث عاصفة ومتغيرات كثيرة في مجمل الخبرة التاريخية في الثقافة والحضارة والمدنية، وهذا ما أفضى إلى ازدهار فلسفات التاريخ المعاصرة على نحو لم يسبق له مثيل. إذ شغلت مشكلة التاريخ وقواه وحركته وتطوره، ومشكلة الحضارة الغربية ومصيرها عدداً واسعاً من الفلاسفة والمفكرين، أمثال شبنجلر وتوينبي وبليخانوف وپوپر وكروتشه وجورج لوكاتش وكولنجوود وكولن ويلسن واشفيتسر وليفي شتراوس وسارتر، وهيرمان، وجارودي وفوكو وتوفلر وهنتجتون وفوكو ياما غيرهم وتقدم هذه الأطروحة تحليلاً نقدياً شاملاً لأبرز الاتجاهات الفلسفية المعاصرة التي فسرت التاريخ والحضارة من زوايا نظر مختلفة ومتصارعة وأهمها: الاتجاه المادي الماركسي، والاتجاه الحيوي النيتشوي، والاتجاه الوضعي التجريبي، والاتجاه التأملي المثالي، والاتجاه البرجماتي الذرائعي، والاتجاه الليبرالي الجديد الذي يعد ارنولد توينبي ابرز ممثليه، إذ أن دراسته للتاريخ والتي بناها على مدى أربعة عقود، تقف معلماً بارزاً في الليبرالية الحديثة، فهي تعبر عن مميزاته عن فشلها، وعن التشاؤم التاريخي الكامن خلفها.وفي سياق تتبعنا لنشؤ تطور فلسفة التاريخ وتطورها تناولنا أهم التصورات الأسطورية واللاهوتية والميتافيزيقية في تفسير التاريخ وقواه وحركته واتجاهه وغاياته وخلصنا إلى أن فلسفة التاريخ من حيث هي تشريع أنساني عقلي لم تزدهر إلا بعد الثورة المنهجية الكبرى منذ عصر النهضة الأوربية وبدء الحداثة الغربية التي جعلت الإنسان محوراً لكل فكراً وسلوكاً، إذ سادت نظرة تقدمية ليبرالية متفائلة في تفسير التاريخ والحضارة الأوربية ومنذ نهاية القرن التاسع عشر أخذت تشيع في مختلف الدوائر الثقافية الأكاديمية الغربية نزعة تشاؤمية في فلسفة التاريخ والحضارة، إذ حلت فكرة الاضمحلال والانحلال محل فكرة التقدم والتطور، وحل الخوف والقلق والشك محل الثقة والطمأنينة، وحلت النسبية والعرضية محل الحتمية والضرورة في صورتي التشاؤمية الثقافية والتشاؤمية التاريخية، وخلصنا الى ان الصراع بين فلاسفة التاريخ لم يكن صراعاً معرفياً أكاديمياً منهجياً حول معنى التاريخ والمعرفة التاريخية، بل كان صراعاً على التاريخ ذاته بهدف السيطرة عليه وقيادته وتوجيه مساره والفوز بخيراته. وفي وسط ذلك الصراع تقف فلسفة ارنولد توينبي الليبرالية الجديدة كمحاولة للتوفيق بين جميع الاتجاهات الفلسفية إذ جمعت بين النظرة الدورية للحضارات والنظرة الخطية للعناية الإلهية، وذلك بتأكيد التعاقب الدوري للحضارات مع الحفاظ على دور الوثبة الحيوية في نظرية التحدي والاستجابة.وإذا كان توينبي قد كتب نقشاً على ضريح الحضارة الغربية فان المتشائمين الثقافيين أمثال نينشه شبنجلر وفوكو يتجمعون للاحتفال والسهر حول الجثة قبل دفنها. وعلى الرغم من تشاؤمية توينبي التاريخية ألا انه أبقى باب الأمل مفتوحاً, مشدداً على مسئولية الإنسان الأخلاقية في توجيه مسار التاريخ والحضارة للنماء أو للفناء, إذ دعا توينبي لقيام دولة عالمية تظم جميع الحضارات والشعوب والأديان منتقداً فكرة المركزية الأوربية والإمبراطورية والاستعمار والتعصب القومي والمذهبي، غير انه في دراسته للحضارة الإسلامية أعتمد على التراث الاستشراقي وجاءت أحكامه مضطربة ومتناقضة في كثير من المواضع، وكان موقف الفكر العربي من توينبي موقفاً احتفالياً أكثر منه نقدياً أكاديميا.
تلك كانت أطروحتي التي أنجزتها بإشراف الأستاذ الراحل مدني صالح رحمة الله عليه وناقشتها لجنة علمية مكونة من الأساتذة الأعزاء وهم: الأستاذ الدكتور حسام الدين الاوسي رئيس لجنة المناقشة والأستاذ مدني صالح مشرفا علميا الأستاذ الدكتور ناجي حسين عودة رئيس قسم الفلسفة في جامعة المستنصرية عضو لجنة المناقشة والأستاذة الدكتورة أفراح لطفي عبدالله الشيخلي استاذ فلسفة العلوم بجامعة بغداد عضوا والأستاذ عبدالامير سعد الشمري استاذ الفلسفة في جامعة المستنصرية مناقشا خارجيا والأستاذ الدكتور سعد خميس الحديثي استاذ الفلسفة بجامعة بغداد عضوا وذلك في ديسمبر 2004م بكلية الآداب جامعة بغداد باب المعظم قاعة ابن خلدون. ومنذ ذلك الحين جرت مياه كثيرة وشهدت المنطقة العربية والعالم احداثوتحولات تاريخية خطيرة وكانت فلسفة التاريخ ترشدني لرؤية الأحداث بعيون مختلفة عما كنت أراها من قبل إذ زرت عدد من البلدان التاريخية منها: مصر والسودان والجزائر والمغرب العربي وكتبت عن ابن خلدون وفلسفته في التاريخ وكتبت عن اوفين توفلر وحضارةالموجة الثالثة وقرأت الكثير من كتب فلسفة التاريخ منها كتاب البحر والتاريخ فشعرت بأهميةإعادة طباعة كتاب فلسفة التاريخ في الفكر الغربي المعاصر في ضوء ما اكتسبته وفهمته منمعرفة جديدة. وحينما تكون في أرض الكنانة تكون في قلب التاريخ والحضارة ثمة أشياء واشياء خفية تشدني إلى مواطن الحضارات النهرية واولها الحضارة المصرية الراسخة في أعماق التاريخ، وحضارةبلاد الرافدين والكنعانيين، وحضارات الهند والصين واليونان وروما. ربما كان ذلك الانشداد الآسرللحضارات النهرية الخالدة بحافز تخصصي في فلسفة التاريخ والحضارة ودوافع كثيرة أخرى لاأعلمها.هنا في أم الدنيا سنحت لي الفرصة لإعادة النظر في كتاب فلسفة التاريخ وتنقيحه وتطعيمهبافكار جديدة واعدت طباعته في جزئين؛ الجزء الأول بعنوان فلسفة التاريخ الغربي من هيردوت إلى شبنجلر والجزء الثاني من توينبي إلى اولفين توفلر. قدمه الأستاذ الدكتور مصطفى النشار أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة ورئيس الجمعية الفلسفية المصرية إذ كتب " "إن علينا أن نكف عن تقديس الماضى ومحاولة احيائه لأن هذا مسار محكوم عليه بالفشل ، كما أنعلينا أن نكف عن الاكتفاء بالنظر إلى ماتحت أقدامنا متشبثين باللحظة الحاضرة لأن الأحداثالعالمية والقوى العالمية المحركة لها سرعان ماتدهس الحاضر وتتجاوزه محاولة تحقيق أهدافهاالخاصة فى السيادة والهيمنة وان لم نكن قادرين على قراءة ذلك والوعي به والاستعداد له سنكونمن بين ماتدهسهم الأقدام .. وكم يؤلمنى قول القائل أننا أمة لاتفكر فى المستقبل ولاتهتم به وغيرمستعدة له وليس لديها علماء مستقبليات ولاعلما للمستقبل..الخ! وليس أفضل من الرد على هذه المقولات المحبطة إلا هذا الكتاب الذي بين أيدينا وأمثاله ؛ فلقد بدأنانهتم منذ فترة ليست بالقليله بالمستقبليات عموما وبفلسفة التاريخ خصوصا وهى من الفروعالفلسفية المهتمة كما سبقت وأشرت بالتنبؤ بالمستقبل وتقديم الرؤى التنبؤية حول مسارات التحولات التاريخية والحضارية. إن هذا الكتاب الذى أسعد وأتشرف بتقديمه للقارئ العربي اليوم هو أحد تجليات هذا الاهتمامبالقراءة الشاملة للتاريخ وأحداثه ومساراته حيث يقدم لنا مؤلفه الدكتور قاسم المحبشى عرضا وافيا وشافيا لأهم ماقدمه فلاسفة التاريخ المحدثين والمعاصرين من رؤى ونظريات مفسرة للتاريخورؤى هؤلاء الفلاسفة التنبؤية بما يمكن أن يحدث فى المستقبل من انهيار لحضارات وصعود أخرى . وقد تميز هذا الكتاب الذي بين أيدينا بعدة مميزات لعل أهمها هو سلاسة أسلوبه فى العرضالذي يكشف عن مدى وعي وفهم د. قاسم لكل ماعرضه فهما أدى إلى ذلك العرض الشيق الجميلالذي تضافرت فيه المعلومات التاريخية التى تشكل خلفية النظريات الفلسفية المفسرة للتاريخ والخلفية الفكرية لأصحابها مع النظريات الفلسفية التى توقف عندها لدى فلاسفة التاريخ الغربيين .كما أن هذا العرض تميز لدى صاحبه حقيقة بغزارة المادة العلمية التى استند إليها ، ومن ثم فقدنجح فى المزج بين ماهو تاريخى وماهو فلسفي بشكل جذاب وممتع للقارئ فلا يكاد يشعر بالملل من المعلومات والخلفيات التاريخية التى يقدمها ولا من النظريات الفلسفية التى آثر أن أن يتوقف عندها " ذاك الكتاب هو الذي أهديته إلى صديقي العزيز الأستاذ الدكتور عمر كامل حسن استاذ الجغرافيا السياسية في جامعة الأنبار العراقية حينما تلقينا في مؤتمر المشترك الثقافي في القاهرة وارسلت معه نسخه هدية للقسم العلمي الذي أدين له به واليوم وصلت النسخة إلى رئيس قسم الفلسفة في جامعة بغداد الأستاذ الدكتور علي فالح. حملها اليه مشكورا الدكتور عماد زيدان. شكرا أستاذ عمر كامل حسن وفيت وكفيت يا صديقي وشكرا دكتور عماد زيدان لتوصيل الكتابة وتحية وتقدير لقسم الفلسفة في جامعة بغداد وللعراق الحبيبية تحملني الأشواق. والحنين وجع الذاكرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما ردود الفعل في إيران عن سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز


.. الولايات المتحدة: معركة سياسية على الحدود




.. تذكرة عودة- فوكوفار 1991


.. انتخابات تشريعية في الهند تستمر على مدى 6 أسابيع




.. مشاهد مروعة للدمار الذي أحدثته الفيضانات من الخليج الى باكست