الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المشرق العربي: التجزؤ وإعادة رسم الحدود، 100 عام على سايكس بيكو (1)

محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)

2022 / 6 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


ترجمة: محمود الصباغ
صاغ المؤرخ اللبناني البارز جورج قرم، في العام 2007 (1), عبارة: "من البلقنة إلى اللبننة" للإشارة إلى العملية التاريخية الجارية في الشرق الأدنى(2) . ومازال السؤال مطروحاً، حتى اليوم، حول ما إذا كان تقويمه هذا لا يزال مناسباً. يوضح قرم أن الحرب الأهلية في بلاده (1975-1990) وعدم قدرة دول الشرق الأدنى الأخرى على الظهور كأمم دائمة تدين بالطبيعة المجزأة للجهات الفاعلة المحلية، التي لا تعترف بفكرة "الأمة" بأي معنى مألوف لدى الغربيين(3). بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أصبح الشرق الأدنى مبلقناً من خلال قيام دول: سوريا ولبنان والأردن وإسرائيل والعراق. وتشير اللبننة، التي توصف بأنها نقطة نهاية للبلقنة، إلى انحلال الدولة في إطار حرب أهلية(4)، وإعادة تشكيلها تحت تأثير الجهات الخارجية. وفي حالة لبنان، تشمل هذه الجهات الخارجية إسرائيل (حتى انسحابها العسكري في العام 2000) وسوريا (حتى انسحابها العسكري في العام 2005)، وكذلك المملكة العربية السعودية وإيران. وبعد خمسة وعشرين عاماً من نهاية الحرب الأهلية، لا تزال أجزاء كثيرة من لبنان خارج سلطة الدولة. أما خارج لبنان، يمكن تطبيق فرضية اللبننة بوضوح على سوريا والعراق اليوم.
شهد الشرق الأوسط، كما قسمته فرنسا وبريطانيا أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، في نهاية المطاف انفصال سوريا ولبنان إلى دولتين مستقلتين في العام 1945، وفي العام 1947، تقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية. أعلنت إسرائيل استقلالها في أيار/مايو 1948 وأقامت حدودها الإقليمية من خلال الانتصارات العسكرية على خصومها العرب. وسرعان ما تم ضم الجزء العربي من فلسطين من قبل مملكة شرق الأردن. كل هذه التطورات نشأت عن انتهاء حالة الانتداب البريطاني والفرنسي، اللذين قاما قبل حوالي ثلاثين عاماً. في تلك السنوات بين الحربين، تم قمع محاولات الانفصاليين لإنشاء حكم ذاتي، مما سمح لدول الشرق الأوسط المختلفة بالحفاظ على سلامتها الإقليمية: وفي العام 1932، على سبيل المثال، تم ذبح الآشوريين في شمال العراق، أثناء سعيهم إلى منطقة حكم ذاتي. وسوف يظل الأكراد، بالمثل، ضحايا لسياسات بغداد حتى العام 1991. في هذا الوقت تقريباً، لم يحفز سقوط الاتحاد السوفيتي، ونهاية الحرب الباردة ظهور جولة جديدة من البلقنة في الشرق الأوسط، كما حدث في يوغوسلافيا. بل أن جلّ ما حدث تمثل في اشتعال صراع رئيسي بين المملكة العربية السعودية وإيران، وهو ما أضعف دول المنطقة، وشكّل تحدياً بارزاً لحدود سايكس بيكو.
سايكس بيكو وإنشاء الشرق الأوسط المعاصر
"لم يكن كافياُ أن يكون مضيق البوسفور، لوحده، سبباً في خلق مشاكل للعالم. بل تم خلق مشكلة ثانية شبيهة به لكنها أكبر منه بكثير، لأنها لا تقع بين جزئين من بحر داخلي؛ بل هي ممر يربط بين جميع البحار الرئيسية. وسوف يكون هذا الممر، في حسابات الحرب البحرية العليا، النقطة الأكثر أهمية التي سوف يقاتل فيها ومن أجلها الجميع بأسرع مما نظن. لقد حدد هذا الممر المائي مكان المعارك الكبرى في المستقبل"(5).
إرنست رينان ، 1885
أدى حفر برزخ السويس، في العام 1869، إلى إعادة إطلاق المنافسة بين القوى الأوروبية الكبرى للسيطرة على طريق الهند، وهو أمر حيوي للإمبراطورية البريطانية، وعلى نطاق أوسع للعلاقات بين أوروبا وآسيا. في نهاية القرن التاسع عشر، نشأ صراع مصالح ثلاثي في البحر الأبيض المتوسط. أرادت بريطانيا السيطرة على الممرات الملاحية، وخاصة طريق الهند عبر السويس. كما أرادت فرنسا تحويل البحر الأبيض المتوسط إلى "بحيرة فرنسية". وسعت روسيا إلى منفذ مباشر لها على البحر الأبيض المتوسط. وهكذا، فإن الإمبراطورية العثمانية، "رجل أوروبا المريض"، رغم أنها كانت تحت رحمة هذه التعديات القارية، حصلت على قدر من الراحة بسبب هذا التنافس. ففي العام 1878، على سبيل المثال، ساعدت بريطانيا العثمانيين على منع روسيا من الاستيلاء على مضيق البوسفور، وفي المقابل، حصلت على حق حماية قبرص. وفي العام 1879، أصبحت بريطانيا المساهم الأكبر في شركة السويس، وفي العام 1881، فرضت الحماية على مصر، وضغطت على فرنسا. منذ ذلك الحين، أصبحت حماية قناة السويس هاجساً بريطانياً حدد سياستها في الشرق الأوسط بأكمله.
الإمبريالية الأوروبية والحرب العالمية الأولى
إبان اندلاع الحرب العالمية الأولى، كانت بريطانيا وفرنسا تتفاوضان، في العام 1915، بشأن مستقبل الإمبراطورية العثمانية، التي وقفت إلى جانب ألمانيا في الصراع. وسوف تؤدي هذه المناقشات إلى اتفاقية سايكس بيكو في العام 1916، وهي أساس الشرق الأوسط الحديث. وطالبت فرنسا، لنفسها، بحق حماية "سوريا الطبيعية" الممتدة من جبال طوروس، في جنوب تركيا، إلى شبه جزيرة سيناء، ومن الموصل إلى البحر الأبيض المتوسط. لكن هذه التطلعات اصطدمت بالمطامح البريطانية التي أرادت، على الأقل ، تقليص الوجود الفرنسي، وإقامة مملكة عربية برئاسة الأمير فيصل الهاشمي نجل شريف مكة، أحد الشخصيات البارزة في الكفاح العربي ضد الأتراك العثمانيون. وفي النهاية، اتفق الطرفان على أن تدير فرنسا الساحل اللبناني مباشرة وأن تؤول السيطرة على جنوب العراق إلى البريطانيين. في غضون ذلك، اعترفت بريطانيا أيضاً بسوريا الداخلية كمجال نفوذ فرنسي، وفي المقابل، اعترفت فرنسا بالسيطرة البريطانية على منطقة بغداد. وأوضحت المحادثات أن فلسطين سوف يتم تدويلها، وتنقسم إلى مناطق نفوذ مختلفة. ارتبطت روسيا (أيار/مايو 1916) وإيطاليا (آب/أغسطس 1917) بهذه الاتفاقية، وحصلتا على وجود في فلسطين وكذلك السيطرة على أراضي في الأناضول. (انظر الخرائط 1 و 2.)
فرنسا وبريطانيا في المشرق العربي
سوف يتم تغيير سايكس بيكو، كما تم وضعها في البداية، بسبب خروج روسيا في أعقاب الثورة البلشفية في العام 1917، والتنافس الأنجلو-فرنسي، والصعوبات الفرنسية في السيطرة على جميع الأراضي المطالبة بها. حتى عندما استولى الجيش الفرنسي، بقيادة الجنرال هنري غورو، على دمشق، بسهولة، في العام 1920، مطارداً الأمير فيصل، فبالكاد استطاع السيطرة على كيليكيا (جنوب الأناضول) وولاية الموصل. وكان البريطانيون قد احتلوا الموصل منذ ربيع العام 1918، واعتبروها، ضمناً، جزء من العراق. في العام 1923 ، بُنيت معاهدة لوزان على معاهدة سيفر لعام 1920، والتي أضفت الطابع الرسمي على تفكيك الإمبراطورية العثمانية. واحتلت إيطاليا واليونان كيليكيا وأراضٍ أخرى، في حين تخلت فرنسا عن ولاية الموصل لبريطانيا مقابل المشاركة في غنائم شركة نفط العراق و الحصول على دعم بريطاني لمطالبها في الضفة الغربية لنهر الراين.
إن الشرق الأوسط الحالي، كما قسمته فرنسا وبريطانيا، هو نتيجة لاستراتيجيات دولية ومحلية: حماية قناة السويس؛ الدوافع الاقتصادية والسياسية والدينية للفرنسيين؛ ادعاءات المسيحيين اللبنانيين. وخاصة الحركة الصهيونية. يجب أن تضاف إلى هذه القائمة الجهود السعودية لتأمين منفذ إلى البحر الأبيض المتوسط، أو على الأقل حدود مع سوريا. في فلسطين، تلاقت المصالح الصهيونية والبريطانية لأن إقامة وطن لليهود كان جزءً من خطة دفاع التاج البريطاني عن قناة السويس. ودعم البريطانيون، في المفاوضات مع فرنسا، المساعي الصهيونية للسيطرة على مجرى مياه نهر الأردن بأكمله، والذي تضمن ضم مرتفعات الجولان وجنوب لبنان. ومع ذلك، رفضت فرنسا، بشدة، مثل هذه المطالب سعياً إلى حماية دولة لبنان الكبير الجديدة. غير أن البريطانيين استطاعوا ، في المناطق التي يسيطرون عليها، حصر الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية لنهر الأردن، وحظروا على اليهود الاستقرار في مملكة شرق الأردن الجديدة، بقيادة عبد الله الهاشمي، ابن شريف مكة، حيث لعب شرق الأردن كدولة عازلة بين فلسطين، ومناطق الانتداب الفرنسي في سوريا، وطموحات ابن سعود، أمير نجد والمنافس الرئيسي لعشيرة الهاشميين في الحجاز. تم تصميم الحدود الشرقية لشرق الأردن لمنع ابن سعود من الوصول إلى سوريا وبالتالي تعطيل محور حيفا - بغداد. إن الحفاظ على هذا الممر والسيطرة على نفط الموصل يشكلان أسس قيام العراق. عند التنازل عن الموصل بسهولة لفرنسا خلال محادثات سايكس بيكو، تصرف البريطانيون بدافع الرغبة في تجنب الاتصال المباشر مع روسيا. لكن انسحاب روسيا بعد الثورة البلشفية واكتشاف النفط وضرورة حماية جنوب العراق من تركيا غيرت حسابات البريطانيين. لذلك ارتبطت محافظة الموصل بالعراق، وتخلت الجمهورية التركية بشكل نهائي عن أي مطالبة بالمنطقة في العام 1926.
اختزلت خسارة كيليكيا والموصل من نطاق السيطرة الإقليمية الفرنسية على لبنان وسوريا، وانضم إليها لاحقاً تسليم سنجق اسكندورنة إلى تركيا في العام 1939 (مقاطعة هاتاي اليوم، ومركزها أنطاكيا) واحتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان منذ العام 1967. وكانت فرنسا قد سعت، في أهدافها الأولية، للسماح للسوريين بالوصول إلى البحر عبر لبنان بقيادة مسيحية، بالإضافة إلى سنجق اسكندورنة المستقل. ويعكس هذا النموذج تقريباً نموذج سايكس بيكو الذي يفضل السيطرة المباشرة على المناطق الساحلية والتأثير على المناطق الداخلية، ولكن مع التمييز بأن فرنسا ستحكم كلا المنطقتين مباشرة. ومع ذلك، اعتقدت فرنسا أن مثل هذه السيطرة يمكن الحفاظ عليها بسهولة أكبر على الساحل منها في الداخل. كانت الأقليات المسيحية والشيعة المسلمون الاثنا عشرية، بالإضافة إلى العلويين والإسماعيليين والدروز، أكثر ميلاً لقبول هذا الوجود من العرب السنة، الذين تصوروا الأمر وكأنه مثالاً واضحاً على استراتيجية فرق تسد. (انظر الخرائط 3 و 4.)
خلق لبنان المسيحي
في 10 تشرين الثاني 1919 ، وافق رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو، في رسالة وجهها إلى البطريرك الماروني إلياس الحويك، على منح لبنان الحكم الذاتي والوضع الوطني المستقل. وفي حين أكد الفرنسيون موافقتهم على مبدأ توسيع الأراضي اللبنانية، إلا أنهم لم يتمكنوا، حتى الآن، من تقديم معايير دقيقة. أبدى البطريرك الماروني، من خلال موافقته على ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، ثقة مفرطة في قدرة المسيحيين السيطرة على منطقة تبلغ مساحتها ضعف مساحة متصرفية جبل لبنان التي كانت تتمتع بحكم ذاتي فضفاض (6) حيث كان المسيحيون يمثلون 80% من السكان. امتد لبنان الكبير إلى السهول المحيطة (عكار والبقاع) التي كان يسكنها المسلمون. وكان البقاع يعتمد في السابق على ولاية دمشق وليس على ولاية بيروت. وقد أدى إدراج مثل هذه المناطق إلى تحويلها لسلة خبز وطنية لتلبي ما عبرت عنه النخب، التي عانت من مجاعة مروعة خلال الحرب. كما تم دمج مدينة طرابلس الساحلية في لبنان ، بشكل منفصل، حيث يشكل المسيحيون ربع سكانها فقط، وذلك لمنعها من أن تصبح ميناءً سورياً منافساً لميناء بيروت. وهكذا ازدهرت طرابلس، عاصمة لبنان الكبير، وسرعان ما طغت على موانئ بلاد الشام الأخرى.
بالنظر إلى سلسلة جبال لبنان الشرقية إلى الشرق، تم تحديد نهر ساحلي صغير يعرف باسم النهر الكبير الجنوبي على أنه حدود لبنان "الطبيعية". هذه الحدود "الطبيعية"، مع ذلك، تم كسرها في مكانين، "دير العشائر" و"الطفيل"، على الجانب الشرقي من جبال لبنان الشرقية، ليظهرا بمثابة كماشة بين لبنان المسيحي الودود ومدينة دمشق الأقل وداً. وإلى الجنوب، ظلت الحدود مع فلسطين صعبة التتبع، بالنظر إلى المطالب الصهيونية، كما نقلها البريطانيون، لمستجمعات مياه نهر الأردن بالكامل لتأمين إمدادات المياه في شمال فلسطين. وهكذا سمحت فرنسا بالاستيطان الصهيوني في وادي الحولة، لكنها حظرت على الحركة الصهيونية شراء الأراضي في جنوب لبنان. في غضون ذلك، أدى اندماج جبل عامل الشيعي في لبنان إلى تقليص الهيمنة المسيحية. بالتأكيد، كان لبنان الأكبر أكثر قابلية للحياة اقتصادياً، ولكن من خلال توسيع الخيمة لتشمل قدراً أكبر من التنوع الإثني والديني، كان المسيحيون اللبنانيون يرهنون فعلياً هيمنتهم المستقبلية. وفي العام 1924 تم تثبيت حدود لبنان الكبير بشكل دائم وفصله عن دولة سوريا. وأضفى الانتداب الفرنسي في لبنان الطابع المؤسسي على "نظام الملة" الذي كان سارياً في العهد العثماني، حيث عملت كل جماعة دينية بموجب قوانينها الخاصة، وتم تمثيلها بشكل متناسب في البرلمان. في هذا النظام، تم تكليف المسيحيين الموارنة، وهم أكبر طائفة دينية في لبنان، ويشكلون ثلث سكان البلاد، برئاسة البلد بشكل غير رسمي، في حين عاد منصب رئيس الوزراء إلى المسلمين السنة ورئاسة مجلس النواب إلى المسلمين الشيعة.
على الرغم من أن دستور العام 1926 حدد بوضوح بأن لبنان "جمهورية برلمانية"، إلا أن الرئيس كان يتمتع بسلطات واسعة دون أن يكون مسؤولاً أمام مجلس النواب. في الواقع، على الرغم من انتخابه من قبل أعضاء البرلمان، لا يمكن عزل الرئيس من قبلهم. بل يمكن عزل رئيس الوزراء بالمقابل إذا كان يفتقر إلى الأغلبية البرلمانية. علاوة على ذلك، فإن محاولة المجتمع المسيحي للاحتفاظ بالسلطة، على الرغم من انخفاضهم عددهم بين مجموع السكان، يفسر سبب إجراء التعداد السكاني الأول والأخير في العام 1932. تأسس استقلال لبنان في 8 حزيران/ يونيو 1941، لكن القوات الفرنسية لم تغادر إلا بعد خمس سنوات. في العام 1943، منح الدستور اللبناني الجديد ثلاثين مقعداً برلمانياً لمسيحيي لبنان وخمسة وعشرين مقعداً لمسلميها، وهي نسبة لم تأخذ في الاعتبار التركيبة السكانية المتغيرة. ومن خلال اتفاقية تسمى الميثاق الوطني، وهو الميثاق التأسيسي للبنان، تم تعيين المسيحي بشارة الخوري، الذي ترأس حزب الدستور، رئيساً للبلاد، وأصبح المسلم السني رياض الصلح رئيساً للوزراء. في هذا الترتيب، اعترف السنة بفصل لبنان عن سوريا مقابل الاعتراف بأن لبنان سيوجه نفسه نحو العروبة، متعاوناً مع أشقائه العرب "إلى أ قصى حد ممكن ".وهكذا ، في اجتماع جامعة الدول العربية في 7 نيسان/ أبريل 1945، انضم لبنان إلى الدول العربية الأخرى في معارضتهم تحقيق المشروع الصهيوني، كما تم التعبير عنه في ولادة إسرائيل بعد ذلك بثلاث سنوات.
دول طائفية طارئة للعلويين والدروز
أنشأ الفرنسيون في سوريا، إلى جانب الدول الكبرى في دمشق وحلب، دولتين خاضعتين للإدارة الأوروبية، إحداهما علوية والأخرى درزية ، وبالتالي بدا أن فرنسا تحترم حق تقرير المصير في بلاد الشام. وهكذا، ظهر إن العلويين والدروز، وكلاهما محتقر من قبل السنة، سوف يعيشون محصورين داخل الجبال ويحتفظون بتنظيم عشائري. لكن في الواقع، اعتمدت سلطة الانتداب على التقسيمات الطائفية لترسيم الحدود داخل الأراضي السورية. في عهد الإمبراطورية العثمانية، كانت منطقة جبل العلويين الساحلية، محاطة بشبكة من المدن والبلدات التي يسكنها المسلمون السنة والمسيحيون والإسماعيليون. وهو ما جعل منظومة الطرق تتجنب جبال العلويين بسبب الثورات المزمنة هناك، ومع ذلك كان هناك طريق واحد يتركز بشكل فعال على جبال العلويين، ويربط بانياس بحماة، عبر مصياف والقدموس، اللتين كانتا فيما بعد تجمعات سكانية إسماعيلية تعتبر أكثر أماناً من القرى العلوية لإنشاء مثل هذا الطريق. وُضع الإسماعيليون تحت الحماية العثمانية بسبب تنافسهم مع العلويين. وقاموا، في المقابل، بتوفير الأمن لطريق بانياس - حماه ، والذي ظل مع ذلك قليل الاستخدام. ولأن الجبل لم يستطع أن يعطي ثماراً للحفاظ على النمو السكاني المتزايد، فقد أُجبر العلويون في أواخر القرون العثمانية على العمل كمزارعين في المزارع الخاصة المملوكة للأفراد latifundias التي تديرها الأوليغارشية السنية والمسيحية في السهول المحيطة. وهكذا تم دمجهم في النظام الاقتصادي للمنطقة ولكنهم تنازلوا عن الحماية السياسية العلوية في هذه العملية. وقد ساعد هذا السيناريو العام في إلهام فرنسا لإنشاء دولة علوية، حيث سيتمكن أولئك "الذين نسيهم التاريخ" ، كما قال الجغرافي الفرنسي جاك ويلرس، من تحرير أنفسهم من سيطرة السنة وبناء مجتمعهم المستقل. بناءً على التنازلات التي تم التوصل إليها في العام 1924، ستضم الدولة العلوية أيضاً مناطق في شمال اللاذقية السني بشكل رئيسي، والتي كانت تعتمد اقتصادياً على المنطقة وليس على منطقة أنطاكيا، في سنجق اسكندورنة. كان العلويون في الدولة الجديدة، في العام 1935، يمثلون ثلثي السكان (224000 من 350.000)، يليهم السنة (64500)، الذين سكن معظمهم في المدن وفي الشمال. ركزت سلطات الانتداب الفرنسي على جهود التعليم لتهيئة النخبة العلوية القادرة على التحكم في مصيرها، بالنظر إلى أن السنة والمسيحيين ما زالوا يحتلون مناصب رئيسية، لكن هذا الجهد لم ينجح في الغالب. كما وفرن الخدمة في جيس الشام بقيادة فرنسا، في الوقت نفسه للسكان جبل العلويين الذين كانوا أميين في معظمهم، فرصة مهنية متاحة ووسيلة جاهزة للنهوض الاجتماعي.
وأنشأت فرنسا دولة جبل الدروز على نفس المبدأ الذي قامت عليه الدولة العلوية. إلى الغرب، وتعينت الحدود من قبل المجتمعات السنية؛ إلى الشرق، شملت بعض مناطق السهوب غير المأهولة التي يستخدمها الرعاة الدروز. يتألف جبل الدروز من 50328 نسمة فقط، 85% منهم من الدروز، وانضمت إليهم الطوائف المسيحية، والبالغ عددهم حوالي 7000 شخص، كانوا يعيشون دائماً في وئام مع الدروز. كان عدد السنة أقل بكثير - في السويداء، كما كانت الدولة معروفة في بعض الأحيان، بلغ عدد البدو والمسؤولين والعائلات السنة حوالي 700 شخص. قبلت العشائر الدرزية الرئيسية الانتداب الفرنسي والتقسيم مع دولة دمشق (التي تشكلت عام 1920) لأنها زودتهم بوسائل الحفاظ على هيمنتهم وتعزيز امتيازاتهم. لكن بعض العائلات الأخرى كانت غير راضية. وفي العام 1925 ، ثار زعماء الدروز بقيادة سلطان الأطرش، الذين ينتمون لعائلة في جنوب الجبل، ضد الإدارة الفرنسية. على مدى العامين التاليين، انتشرت الثورة في جميع أنحاء سوريا وأجزاء من لبنان، وهزت الإدارة الفرنسية بشدة، التي اضطرت لإرسال طائرات للتغلب على المقاومة الدرزية. في النهاية، لم تكن الدولة العلوية ولا الدرزية قادرة على البقاء اقتصادياً. علاوة على ذلك، ونظراً لحساسيتها لنداء القومية العربية، قامت النخب الدرزية والعلوية الجديدة بحملة في العام 1936 من أجل اندماجهما في الدولة السورية. وقبل ذلك ثلاث سنوات، ساهم ترحيب الحاج أمين الحسيني، المفتي العام للقدس، بهذه الجماعات الدينية في الإسلام، إلى تخفيف التحفظات بشأن وضعهم في دولة يهيمن عليها السنة. كانت الدول التي تشكلت من الانتدابين الفرنسي والبريطاني نتاجاً جزئياً لاتفاقية سايكس بيكو، لكنها ظهرت أيضاً، كما لوحظ، من عوامل محلية مثل الرغبة في حماية المسيحيين اللبنانيين، والتحالف بين دمشق وحلب، والدفاع عن جنوب العراق ضد تركيا. بالنسبة لسكان الدول العربية الوليدة، تم تعويض الانقسامات العرقية والدينية من خلال النضال ضد الاستعمار ودولة إسرائيل الجديدة. على الرغم من أن هؤلاء الأعداء الخارجيين كان لهم دائماً تأثير موحد على الجبهة الداخلية، إلا أنهم غير كافيين لإنشاء دولة. وبمجرد تحقيق الاستقلال، سعت دول الشرق الأوسط جاهدة للحفاظ على التماسك الإقليمي على أساس الانقسامات الاستعمارية وتحقيق الوحدة الوطنية. في حين قسمت فرنسا وبريطانيا المجتمعات بطريقة تحافظ على الأقليات، سعت الحكومات الجديدة إلى حل مثل هذا التعريف المجتمعي لصالح الهوية الوطنية.
القومية العربية ومحاربة المحلية
كانت الطائفية، كما أظهر القسم السابق، مسألة مركزية في الميثاق الوطني اللبناني لعام 1943. وفي العام 1989، خفّض اتفاق الطائف، الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، التمثيل البرلماني المسيحي إلى 50 %، ولكن ذلك كان مقابل انخفاض عدد السكان المسيحيين بنسبة 40 % فقط. أما في سوريا، فقد ألغيت الطائفية السياسية في العام 1950، لكنها بقيت موجودة في الأردن، حيث حجز المشرّعون المسيحيون والشيشان والشركس والبدو مقاعد في البرلمان. كما اعترف دستور العراق للعام 1924 بالتمثيل السياسي للأقليات غير المسلمة، لكنه لم يشر إلى الأكراد أو الشيعة. وألغيت في العام 1958، إثر سقوط النظام الملكي العراقي، المقاعد التي كانت مخصصة في السابق للمسيحيين واليهود. لكن الأقليات الدينية استعادت عدداً قليلاً من المقاعد المحجوزة (9 من 328) من خلال دستور ما بعد صدام الذي أقر في العام 2005. و يؤخذ الانتماء الديني في الاعتبار للزواج والميراث على نطاق أوسع في قوانين دول الشرق الأوسط،. ويساعد الغياب المقابل للزواج المدني في الحفاظ على الانتماء المجتمعي القوي الذي تسعى الدول عادةً إلى تقليصه كجزء من سياسة حقيقية للتكامل الوطني. وبعد الاستقلال، ظهرت القومية العربية كإيديولوجية رسمية للدول الجديدة، مما سمح لها بتجاوز الخطوط الدينية. لكنه أدى أيضاً إلى عقبتين: رفض غير العرب (معظمهم من التركمان والأكراد) والتخطيط المسبق الفعال لانهيار كل دولة من خلال التوحيد النهائي للأمة العربية. كما عكس الاتجاه نحو العروبة اعتراف العائلات الحاكمة مثل الهاشميين في الأردن بالحماس الشعبي الطاغي لهذا المفهوم. وفي العام 1958، وافقت سوريا على الاتحاد مع مصر جمال عبد الناصر في الجمهورية العربية المتحدة. وفي نفس العام، اندلعت الاضطرابات في لبنان بين حكومة الرئيس كميل شمعون واليسار اللبناني، مما استدعى تدخل الولايات المتحدة لإنقاذ حكومة شمعون ومنع ضم لبنان إلى الجمهورية العربية المتحدة. في هذه الأثناء، وبعد أن استشعرت أن ترتيب الجمهورية العربية المتحدة مع مصر كان بمثابة ضم أكثر من كونه اتحاداً بين نظراء عرب، تركت سوريا دولة الوحدة في العام 1961. ولا شك أن الرئيس المصري كان يدور في ذهنه الكلمات الشهيرة لجوزيف ستالين: "كل شعوب الاتحاد السوفييتي هم أخوة، لكن الشعب الروسي هو الأخ الأكبر". لكن الحكومات الأخرى عانت من آثار هذه المقولة، مثل حكومة رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد، التي سقطت في العام 1958 رداً على مظاهرات تطالب العراق بالتخلي عن ميثاق بغداد والانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة. (نوري السعيد نفسه اغتيل في هذا الحدث). توجه عبد الكريم القاسم، رئيس الدولة الجديد، نحو الاتحاد السوفيتي لتجنب المصير التعيس لسلفه.
تعطل نمط حياة البدو الرحل، ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر، في ظل الحكم العثماني، بسبب التطورات الحاصلة في المنطقة، مثل المشاريع الزراعية الكبيرة في وادي نهر الفرات، فضلاً عن ظهور الحدود الجديدة بين الدول في فترة الانتداب. وهكذا، أصبح البدو مستقرين تدريجياً بسبب عدم تمكنهم من ممارسة حياتهم السابقة والانخراط في تقاليد هجرتهم المعتادة بين المراعي الصيفية والشتوية. وتم تشجيع هذا الاتجاه من خلال توفير وسائل الراحة الحكومية مثل الأراضي والمياه الجارية والمدارس والطرق، والتطورات التي كانت نتيجة طبيعية لبناء الدولة.
بناء الدولة على أساس المركزية
تعكس شبكات النقل في سوريا والأردن المركزية السياسية لكلا البلدين. أما في لبنان، فقد جعلت القوة النسبية للسلطات المحلية الوضع أكثر تعقيداً، لكن التركيز العام للأنشطة الاقتصادية في بيروت الكبرى على حساب المدن الطرفية، أسفر عن نفس النتيجة الإجمالية. وحتى الستينيات، كان لدى سوريا شبكة طرق تتمركز في حلب ودمشق، وهذا دليل على توازن القوى بين المدينتين. غير أن الإرادة المركزية للنظام البعثي قلبت هذا التوازن لصالح دمشق. وأدى إنشاء طرق مباشرة بين وادي نهر الفرات ودمشق إلى عزل سكان منطقة الجزيرة، مما أضر بوصولهم إلى حلب، من خلال تسهيل وصولهم إلى دمشق. وفي الوقت نفسه، فإن عدم وجود طريق سريع بين حلب واللاذقية بات يتطلب توجيه البضائع عبر جبل العلويين وحمص للوصول إلى موانئ سوريا على البحر المتوسط. أعاقت المدن الثانوية في لبنان والأردن، مثل طرابلس وإربد، لوصول إلى بقية البلاد بسبب عدم كفاية وسائل النقل بهما وقربهما من سوريا. وربما كان للطرق السريعة التي تربط هذه المدن بعواصمها الوطنية وأماكن أخرى تأثير غير مقصود في استنفاد الاستقلال الاقتصادي المحلي. علاوة على ذلك، كان السخط في طرابلس ذات الأغلبية السنية من الحكومة التي يقودها المسيحيون مفيداً لبيروت. وانعكس تهميش المدن الإقليمية على الصعيد الإداري أيضاً، حيث كان وضعها معادلاً تقريباً لوضع البلدات الريفية المحمية حديثاً. وهكذا، كانت إربد من الناحية الإدارية معادلة لمدينة الطفيلة الأصغر منها بكثير. كما تقاسمت طرابلس المكانة مع النبطية الأصغر. وحلب أصبحت تضاهي إدلب الأصغر منها. وأدى الجهد المركزي القوي، في سوريا والأردن، إلى بروز شبكة إدارية متشددة، مما سهل سيطرة أفضل على الأراضي من خلال تعزيز عمل المؤسسات العامة. وهكذا ظهرت في سياق هذه العملية دورة عمل، حيث قامت بيروقراطية محلية بتوظيف السكان المحليين الذين استفادوا بدورهم من الخدمات المقدمة بالإضافة إلى الدخل والترقيات الوظيفية. ومع ذلك، وحتى ضمن في هذه العلاقة، لم يكن تقديم الخدمات مرتبطاً دائماً بشكل مباشر بالنمو السكاني بل بالقرارات المتخذة في مراكز القوة في الدولة(8). فقد سهّلت عائدات النفط المباشرة وغير المباشرة، في سوريا والعراق، تطوير الطرق والاستثمارات في الحكومة والقطاع الصناعي العام القوي. واستفادت سوريا والأردن، من موقعهما على خط المواجهة مع إسرائيل، بعد العام 1973 من مساعدة كبيرة من دول الخليج النفطية. ولكن لبنان كان أقل حظاً من هذا الدعم، وقد تسببت الحرب الأهلية هناك، التي بدأت في العام 1975، في منع اللبنانيين من استثمار المساعدات الخليجية في تمتين البنية التحتية. وشهدت سوريا والأردن، منذ العام 1974 وحتى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، نمواً اقتصادياً استثنائياً. ولكنهما غرقتا في أزمة اقتصادية خطيرة مع توقف المساعدات العربية، في منتصف الثمانينيات، والصعوبات التي واجهتها قريباً في مواجهة أكثر أنماط التنمية المصطنعة لهذه البلدان القائمة على توسع القطاع العام(9). ورداً على ذلك، قام البلدان باتخاذ خطوات على طريق تحرير اقتصاداتهما. اثناء ذاك ، ومع بداية التسعينيات، اختلفت السياسة الاقتصادية اللبنانية عن سياسة جيرانها بسبب الحاجة إلى إعادة الإعمار في أعقاب الحرب الأهلية، وسرعان ما تركز الاستثمار في البنية التحتية بشكل أساسي على وسط مدينة بيروت(10). وسعى رفيق الحريري ، الذي شغل منصب رئيس الوزراء في تسعينيات القرن الماضي، ثم في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلى الاستثمار من ممالك النفط والشتات اللبناني، ولكنه بدل أن يستثمر في خطط اقتصادية منتجة، ركز جهده على قطاع العقارات(11). ولتحقيق هذا الهدف كان على لبنان أن ينفتح على نطاق واسع على الاقتصاد العالمي، حتى لو كانت السياسة التجارية الحمائية ستساعد في تحفيز الانتعاش الصناعي المحلي. أما بخصوص العراق، فقد كان بوسعه المضي قدماً، بفضل ثروته النفطية، في سياسة المركزية حتى في مواجهة الحرب مع إيران (1980-1988) وحظر ما بعد حرب الخليج (1990-2003). ولكن منذ الغزو الأمريكي الثاني، حفز عدم الاستقرار في بغداد والاستقلال الذاتي لكردستان العراق على تطوير مدن هامشية مثل البصرة وأربيل على حساب بغداد أو الموصل. وعلى على الرغم من الحصص البرلمانية المشار إليها سابقاً، فقد كان الأردن أكثر تجانساً من جيرانه. حيث يشكل العرب السنة 97 % من سكان الأردن، والأقليات هناك مندمجة بشكل جيد.
ومع ذلك، يسود الخلاف في فشل النظام الهاشمي في دمج سكان "شرق الأردن" والفلسطينيين في هوية وطنية واحدة. وشملت الجهود المبذولة لخلق مثل هذه الوحدة الوطنية زواج الملك عبد الله من سيدة من أصول فلسطينية، مثلما تزوج الرئيس العلوي بشار الأسد في سوريا من مسلمة سنية للإشارة إلى الانفتاح على هذا المجتمع. ومع ذلك، فشلت مثل هذه الإيماءات، بجانب عقود من الجهود في كلا البلدين، في رأب الصدع الذي تفاقم على ما يبدو بسبب الإفلاس الواضح للإيديولوجية العربية التقدمية والقومية. وبالعودة إلى لبنان، كنموذج للهوية المجتمعية، على الرغم من التطور الاقتصادي، يمكننا أن نستذكر أن الحرب الأهلية اندلعت خلال فترة ازدهار وطني غير مسبوق -في بلد كان يُعرف باسم "سويسرا الشرق الأوسط". مثل هذه النتائج تقلب النموذج الدوركايمي الذي بموجبه يكون للتضامن الأفقي الأسبقية على التضامن الرأسي. وحتى العام 2011 ، كان لبنان حالة متطرفة من الانقسام الطائفي الإقليمي، ولكن تم تجاوزه اليوم من قبل سوريا والعراق اللتين تمزقهما الحرب. إن عملية اللبننة جارية في كلا البلدين، وبالكاد يخفّفها الإجماع الدولي الهش على الاستقرار، في حين استعصى لبنان حتى الآن على الحرب. سوف تؤثر نتائج الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية والحرب في سوريا بشكل كبير على مستقبل الدول القومية في الشرق الأوسط، لكن المستقبل الأوسع سيشمل أيضاً تحديات يطرحها التهميش الجيوسياسي والاقتصادي.
منطقة مهمشة
عندما كانت فرنسا وبريطانيا تقتسمان النفوذ في الشرق الأوسط، كانت المنطقة بمثابة رابط مهم بين أوروبا وآسيا. كانت قناة السويس، والسيطرة على النفط العراقي الذي ظهر استغلاله كقضية استراتيجية، هما الشغل الشاغل للإنجليز. ويبدو أن الشرق الأوسط، بعد قرن من حقبة سايكس بيكو، أقرب ما يكون شبهاً بطريق مسدود، تم تجنبه أو الالتفاف حوله وتجاوزه بفضل بالتدفقات الاقتصادية. سوف تظل قناة السويس أهم طريق تجاري في العالم بكل تأكيد، لكن مرور البضائع لم مهدداً منذ تطبيع العلاقات بين مصر وإسرائيل، من خلال اتفاقية كامب ديفيد (1978)، وفيما بعد، بين إسرائيل والأردن (1994). ). لا مصلحة للقادة المصريين في إغلاق الممر، وهو المصدر الثاني للعملة الأجنبية، بعد تحويلات المهاجرين. وهكذا أصبحت القوى العربية السابقة في الشرق الأوسط، مصر وسوريا، توابع هامشية لدول الخليج القوية اقتصادياً. وعلى الرغم من أن الشرق الأوسط ما انفك يفقد ميزة الاهتمام الدولي به بشكل مطرد منذ القرن السابع عشر، وبعد ذلك مع افتتاح قناة السويس، إلا أن موانئ بلاد الشام بقيت محطات مهمة للتجارة والأنشطة المختلفة من العراق الحديث والأناضول ومواقع أخرى مماثلة. وكان هذا الوضع لا يزال سارياً في العام 1920، عندما أدى انقسام الأراضي الواقعة تحت الانتداب البريطاني والفرنسي إلى منع نفوذ ميناء حيفا على جنوب سوريا. ومع ذلك، أصبحت محطة نفط حيفا واحدة من خطي الأنابيب اللتان كانت تستخدمهما شركة نفط العراق - وظهرت مدينة حيفا كميناء رئيسي لفلسطين. كما أصبحت بيروت ميناء الانتداب الفرنسي الأبرز في بلاد الشام، على حساب طرابلس وسنجق اسكندورنة. وأدى قيام دولة إسرائيل في العام 1948 وانهيار الاتحاد الاقتصادي بين لبنان وسوريا في العام 1950 -بعد استقلالهما المنفصل عام 1943- إلى تطوير ميناءين: العقبة في الأردن واللاذقية في سوريا. وكانت الدول الجديدة، بما في ذلك الأردن، التي تفتقر إلى الوصول إلى حيفا، حريصة على ضمان الاستقلال الوطني. وظلت بيروت وطرابلس مراكز مستخدمة على نطاق واسع من قبل الأردنيين والسوريين، لكن البيروقراطية الجمركية المرتبطة بصعوبة المرور البري، وخاصة صعود حزب البعث في سوريا، أدت على نحو متزايد إلى التقليل من استخدام هذين المدينتين، فازدادت حركة المرور في العقبة واللاذقية تدريجياً حتى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، الأمر الذي دفع إلى خطط متسارعة لتطوير موانئ دولية جديدة. وبدأت سوريا، في أوائل السبعينيات، في أعمال بناء ميناء دولي ثانٍ في طرطوس، لاستيعاب انفجار حركة المرور وجني فوائد العبور، وخاصة إلى العراق، الذي نمت ثروته نتيجة ارتفاع أسعار النفط. لكن سوء إدارة الموانئ، والضوابط الجمركية المرهقة، والمشاكل السياسية مع العراق سرعان ما حطمت مثل هذه الآمال الثنائية. وأتاح تحسن العلاقات بين البلدين، في أواخر التسعينيات، ظهور انتعاش طفيف لتجارة الترانزيت في اللاذقية وطرطوس، على حساب العقبة، لكن الحظر الدولي المفروض على العراق حد من هذا النشاط. وتشهد الموانئ السورية واللبنانية، اليوم، حركة مرور داخلية في الغالب. كما ابتعد مرور نفط الخليج كلياً عن بلاد الشام. فبعد اندلاع الحرب اللبنانية في العام 1975، كان الساحل السوري بمنزلة الميناء النفطي البحري الوحيد على المتوسط الذي يستخدمه السعوديون والعراقيون. لكن المنافسات السياسية والمطالبات المالية المتزايدة بشأن نقل النفط السوري دفعت السعوديين والعراقيين إلى تجنب هذا المسار. فاختارت المملكة العربية السعودية قناة السويس عبر مصر، وأنشأ العراق خط أنابيب باتجاه تركيا. وفي التسعينيات، تمت استعادة الاهتمام بسوريا والأردن كنقاط وسيطة بين الخليج وتركيا، إلا أن الحرب الأهلية في سوريا دمرت كل شيء.
باختصار، تم تحويل نقاط العبور هذه نحو العراق بين عامي 2011 و 2014، لكن استيلاء [تنظيم] الدولة الإسلامية على الموصل قطع هذا الطريق. وتستخدم الشاحنات التركية الآن الطريق البحري بين مرسين وحيفا في طريقها إلى الأردن والمملكة العربية السعودية. لكن التكلفة أعلى بكثير من السفر على طريق حلب - درعا السريع، واحتياطات السلامة في حيفا تزيد من تعقيد الأمور. وتتمتع موانئ الشرق الأوسط العربي، بما في ذلك اللاذقية وغزة، بحركة مرور محدودة بالإضافة إلى شحن المواد الهيدروكربونية التي تغطي الاحتياجات الوطنية فقط. كما تتجنب التدفقات بين أوروبا ودول الخليج النفطية البنية التحتية لميناء البحر الأبيض المتوسط، والتي هي بنى صغيرة ومتداعية في كثير من الأحيان، وغير متصلة بشكل جيد بالشبكات الأرضية، ومعروفة بالروتين الجمركي. كما أن العبور البري بين الأردن والعراق لم يصبح قط محوراً رئيسياً للترانزيت، بالنظر إلى أن خليج العقبة القريب يتصل بالبحر الأحمر وليس بالبحر الأبيض المتوسط. كما يعد ميناء البصرة، على طول الخط الساحلي الضيق المتاح للعراق، ميناءً محلياً بامتياز نظراً لأن نشاط حركة المرور فيه نشاط عراقي فقط. ومع ذلك، يمكن أن يحقق خط سكة حديد البصرة - عمان - دمياط للتجارة أهمية إقليمية، لكن تشييده محفوف بالمشاكل الجيوسياسية. علاوة على ذلك، طورت دول الخليج العربية بنية تحتية عالمية المستوى للموانئ والنقل متعدد الوسائط، وهو ما يتجاوز بكثير التسهيلات المتاحة في أماكن أخرى في الشرق الأوسط.
سياق جيوبوليتكي جديد
افترض الرئيس العراقي صدام حسين، في العام 1990، أن الغرب سوف يمنحه تصريحاً في حال قام بغزو واحتلال الكويت، مع الأخذ في الاعتبار الاضطرابات التي صاحبت نهاية الحرب الباردة. في العقد الماضي، كان صدام قد تلقى دعماً من الغرب وممالك النفط الخليجية في حربه ضد إيران. لكن الزعيم العراقي أخطأ في التقدير. ففي غضون بضعة أشهر نشرت قوة عسكرية ضخمة بقيادة الولايات المتحدة تتألف من مئات الآلاف من القوات في الخليج لحماية المملكة العربية السعودية وتحرير الكويت. كانت حرب الخليج الأولى بمثابة بداية فترة من الهيمنة الإقليمية للولايات المتحدة استمرت حوالي عقدين، وكان التعبير الأكثر لفتاً للانتباه هو حرب العراق 2003-2011. لكن مع ظهور الأزمة السورية، قللت الولايات المتحدة من دورها الإقليمي.
عادت روسيا بقوة إلى المشهد الإقليمي الحالي، مقابل انحسار الوجود الأمريكي، على الرغم من أهميته. وأتت العودة الروسية بعد انقطاع استمر طيلة فترة ما بعد الحرب الباردة، كما تعمل الصين على ملئ فجوات الفراغ الجيوسياسي في المنطقة، في الوقت الذي يبدو فيه الاتحاد الأوروبي أكثر حذراً. وهكذا يبقى هناك مجال لتركيا والمملكة العربية السعودية وإيران، كل منها يريد توسيع نفوذه الإقليمي، بمساعدة، أو بدون مساعدة الجهات الفاعلة الدولية. كانت تركيا، العضو في الناتو، تنتمي بوضوح إلى المعسكر الغربي حتى لو لم تكن شارك الغرب الأولويات دائماً، واستمر هذا التموضع التركي على الأقل حتى محاولة الانقلاب المزعزعة للاستقرار في صيف العام 2016. كما أظهرت المملكة العربية السعودية انفصالاً متزايداً عن الولايات المتحدة بناءً على الانتقادات بشأن مشاركة واشنطن غير الكافية في الحرب السورية وإبرام الاتفاق النووي الإيراني. ومن جانبها، خرجت الجمهورية الإسلامية [الإيرانية] من عزلتها بمساعدة التدخل الروسي والصيني في المنطقة. علاوة على ذلك، يمنح الاتفاق النووي إيران موارد مالية إضافية ويساعدها في تطبيع علاقاتها مع الغرب.
لجأت روسيا، في سبيل إعادة دخولها إلى الشرق الأوسط بقوة عن طريق الحرب السورية، إلى القانون الدولي لتبرير دفاعها عن بشار الأسد، بمعنى الدفاع عن المنطق القائل بأن أي تدخل أجنبي ضد حكومة دولة ذات سيادة هو سبب للحرب، وتشاركها الصين في مثل هذا الموقف. إذ لا تريد القوتان الأوروآسيويتان أن يتدخل الغرب، من خلال الأمم المتحدة، في محيطهما الهش. وعلى الرغم من أن القاعدة البحرية الروسية في طرطوس بسوريا ومحطات الرادار التابعة لها في البلاد لا تشكل مصالح استراتيجية أساسية، إلا أنها تدعم سوريا كحليف في منطقة تكتسب فيها الصراعات تداعيات دولية متسارعة. في غضون ذلك، يرى الصينيون أن الوصول إلى احتياطيات النفط ومشتقاته في الشرق الأوسط أمر جذاب للغاية، بالنظر إلى احتياجاتهم من الطاقة، في حين أن الروس لديهم ما يكفي من الغاز والنفط المحليين. أخيراً، ترى موسكو وطهران وبكين، في مواجهة الإرهاب الإسلامي السني المتجسد في تنظيم الدولة الإسلامية، أصداءً لمسلحين محليين مزعزعين للاستقرار، لا سيما في جنوب روسيا وغرب الصين. إن غياب الاتحاد الأوروبي عن الشرق الأوسط واضح في العديد من الخطط. في حملة ليبيا 2011، على سبيل المثال، قدمت الولايات المتحدة 70% من اللوجستيات التشغيلية، على الرغم من الوجود الأنجلو-فرنسي. وفي آب/ أغسطس 2013، وجدت فرنسا نفسها وحيدة في سوريا بعدما رفضت بريطانيا الاشتباك عسكرياً، وخصوصاً بعد التحوّل الأمريكي، عندما ألغى الرئيس باراك أوباما قصف سوريا رداً على هجوم النظام بالسلاح الكيماوي على ريف دمشق. علاوة على ذلك، فإن أي نشاط فرنسي أو بريطاني في سوريا يعوقه بطء وخجل اتخاذ القرار الجماعي داخل الاتحاد الأوروبي، والذي يبدو أنه يعتمد بشكل كبير على قرارات الناتو، وبالتالي على القرارات الأمريكية. كما أن الاتحاد الأوروبي يحتل مرتبة ثانوية، من الناحية الاقتصادية، في معالجة القدرة المالية الهائلة لممالك النفط الخليجية وبلدان البريكس(البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا). وبالتالي، أصبح الشرق الأوسط الآن أكثر تركيزاً داخلياً مما كان عليه في العقود الماضية، وأصبح فريسة صراع دائم بين القوى الإقليمية الثلاث، تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية، التي تطمح إلى احتلال المساحات التي أخلتها الأجهزة العسكرية السياسية الغربية المتضائلة.
نظام ما بعد فستفالي في الشرق الأوسط؟
صرّح رئيس العلاقات الخارجية لحزب الله، عمّار الموسوي، في تشرين الأول/ أكتوبر 2013، في مقابلة أن الصراع الإقليمي سيستمر "طويلا" -ومن المعروف أن مصطلح "طويل" يعادل، في القاموس الغربي، عدة عقود. ولم يشر الموسوي بشكل مباشر إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي يظل أولوية لحزب الله. ومع ذلك، فقد تحدث عن الصراع بالوكالة في سوريا، حيث وضع المملكة العربية السعودية في مواجهة إيران. وعلى الرغم من أن الموسوي لم يذكر العنصر السني الشيعي صراحة، فقد فعل ذلك زعيم حزب الله حسن نصر الله، متهماً المملكة العربية السعودية بإثارة فتنة جديدة. في الحرب السورية، ويرى حزب الله وإيران أن الوضع في سوريا بمثابة أزمة وجودية لهما، آخذين في اعتبارهما الهجوم السني المتصور المدعوم من تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية، وهي دول تخشى إعادة تأهيل إيران وتوسيع نفوذها الإقليمي، على النحو الذي سهله الاتفاق النووي. سوف يستفيد الاقتصاد الإيراني من رفع العقوبات الدولية، وسوف تكون القوى الغربية، الحريصة على توقيع عقود مربحة مع الجمهورية الإسلامية، أكثر تسامحاً، من ذي قبل، مع سلوك طهران.
ثمة سابقة عالمية للحرب السورية حدثت قبل نحو أربعة قرون، أي الصراع في بوهيميا (1618-1623)، الذي بدأ حرب الثلاثين عاماً. واليوم، تقوم القوى العالمية مثل روسيا والصين والولايات المتحدة وأوروبا بتقويم مصالحها الإقليمية والتدابير التي ستتخذها لتحقيقها. وفي غضون ذلك، يمكن للنزاع نفسه أن ينمو فقط، كما يظهر ذلك في مثال اليمن، في ضوء تحرير الجهات الفاعلة المحلية. ولكن وسط حالة عدم الاستقرار الكبيرة ، يظهر نظام فستفالي جديد في الشرق الأوسط، والذي سينطوي في النهاية على تقسيم إقليمي جديد يتم فرضه على اتفاقية سايكس بيكو بدلاً من أن يعمل على محوه.
....
العنوان الأصلي: The Lines That Bind, 100 Years of Sykes-Picot
اسم المؤلف: Fabrice Balanche
الناشر: THE WASHINGTON INSTITUTE FOR NEAR EAST POLICY, www.washingtoninstitute.org
.....
ملاحظات
1- انظر، Georges Corm, Le Proche-Orient Éclaté [The Near East Erupted], 1956–2007 (Paris: Gallimard/Histoire, 2007).
2- حسب التعريف الفرنسي يشمل الشرق الأدنى الذي يشكل بلاد الشام (إسرائيل ، فلسطين ، الأردن ، لبنان ، العراق ، وسوريا).
3- انظر، Xavier de Planhol, Les Nations du Prophète (Paris: Fayard, 1993).
4- انظر، Stéphane Rosiere, Géographie Politique et Géopolitique: Une Gram- maire de L’Espace Politique (Paris: Ellipse, 2007).
5- إرنست رينان ، 1885 ، يتحدث عن الشرق الأوسط، ردًا على خطاب الدبلوماسي ورجل الأعمال فرديناند دي ليسبس، الذي كان قد دخل لتوه إلى الأكاديمية الفرنسية.
6- بعد العام 1860 تدخلت جهات أجنبية في لبنان لحماية المسيحيين إثر مذبحتهم على يد الدروز. وهكذا سمحت الدولة العثمانية بحكم ذاتي واسع لجبل لبنان تحت حكم متصرف مسيحي غير لبناني صادر عن السلطان العثماني بموافقة القوى الأوروبية. كان من المقرر أن يساعد المتصرف مجلس إداري مؤلف من اثني عشر عضوا من مختلف الطوائف الدينية في لبنان.
7- انظر، Helene Carrere d’Encausse, L’Empire Éclate: La Revolte des Nations en U.R.S.S (Paris: Flammarion, 1978).
8- انظر، Fabrice Balanche, “Municipalities in Baathist Syria,” Revue Tiers Monde, no. 193 (January–March 2008): pp. 169–88
9- انظر، François Rivier, Croissance Economique dans une Economy Assistée: Le Cas de la Jordanie (University Press of Lyon, 1980) Mr. Chatelus, “Economic Growth: Changing Structures and Dynamic Imbalance,” in André Raymond, ed., Syria Today (Paris: Editions du CNRS, 1980), pp. 225–72.
10- انظر، Georges Corm, Le Liban Contemporain: Histoire et Société (Paris: La Découverte, 2005).
11-استفادت شركة سوليدر العقارية، المكلفة بإعادة إعمار وسط بيروت ، بشكل كبير من هذا الترتيب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هجوم إسرائيل -المحدود- داخل إيران.. هل يأتي مقابل سماح واشنط


.. الرد والرد المضاد.. كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟ و




.. روايات متضاربة حول مصدر الضربة الإسرائيلية لإيران تتحول لماد


.. بودكاست تك كاست | تسريبات وشائعات المنتجات.. الشركات تجس الن




.. إسرائيل تستهدف إيران…فماذا يوجد في اصفهان؟ | #التاسعة