الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يا طالع النخلة .. مهلاً … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2022 / 6 / 28
الادب والفن


لنعد الى ما قبل سبعين عاماً خلت ، لنجد بطل قصتنا ( برهوم ) ، وقد تجاوز الستين من العمر .. وتزاحمت على وجهه التجاعيد ، فزادته قبحاً .. مركون على التقاعد كقطار قديم يأكله الصدأ .
ورغم سنه المتقدمة واحساسه بأنه بات يفقد كل يوم شيئا من نشاطه وحيويته ، إلا أن برهوم لم يستسلم ، وبقيت روحه شابة ، عنيدة ، مكابرة ، فهو لا يترك صغيرة ولا كبيرة في بيته إلا ويصر على القيام بها بنفسه .. سواء كان تصليح ، أو ترميم ، أو حتى بناء .. رغم اعتراض زوجته ( فهيمة ) ، وخوفها عليه ، فهو كل شيء في حياتها ، فان حصل له مكروه لا سمح الله ، فماذا سيكون مصيرها ؟
عندما تزوج برهوم من فهيمة كانت فتاة جميلة حتى قالوا كيف يحتمل كل هذا الجمال الرائع رجل قبيح مثل برهوم الذي كان يكبرها بأكثر من عشرين عاماً ، ورغم انها لم تنجب منه مثل بقية زوجاته السابقات ، إلا انها فضلت أن تكمل مشوار حياتها معه .. لكنها شاخت قبل أوانها .. واكتنزت ، ثم ترهلت وضاع جمالها !
رغم أن برهوم كانت تربطه علاقة جيرة هادئة مع الجميع ، إلا أننا - اطفال الحي - كنا مولعين بمشاكسته .. كأننا كنا ننفس عن فائض طاقتنا في المسكين برهوم ، وكان يطاردنا بالعصا وبالحجارة ، وهو يجز على أسنانه ، ويسب ويشتم !
وفي يوم .. جاء بالسلم وأسنده على الحائط ، ثم صعد الى سطح البيت لتهديم سياج مائل حتى يعيد بنائه ، وكنا نرصد كل تحركاته .. فتسلل اثنان من الصبية ، وسحبوا السلم ، وهم يتضاحكون ، وطرحوه أرضاً .. وولوا هاربين !
وبقي برهوم معلقا فوق السطح يريد النزول ولا يستطيع ، والجو حار لاهب .. يصرخ على زوجته كالملدوغ ، والغضب يكاد يمزق انفاسه ، وزوجته تغط في سابع نومة ، فضج الجميع بالضحك ، وبرهوم يكاد يطق غيظاً ، ثم أخذ يسب ويلعن حتى سمع صراخه أحد الجيران ، وأعاد السلم الى مكانه ونزل أخيراً برهوم .
لكن برهوم لم يكن صيداً سهلاً .. كما كنا نتوهم .. فقد اختار منا زعيمنا ، والقائد الاعلى للزمرة ، والاشقى فينا ( حسن ) ونصب له كميناً محكماً على طريقة ( استدرج الذئب بالدجاجة ) حتى أمسك به ، والقاه في مراحيض مهجورة في اطراف البيت لاربع ساعات كاملة دون أكل أو شرب .. حتى قال الله حق ..
وعندما أطلق سراحه .. جاءنا يترنح كالمخمور ، وقد تحمم جسده بالعرق ، وفاحت منه روائح نتنة .. وانكبَّ على سطل الماء وشربه كله ، وأتى على كل ما كان بين أيدينا من طعام وحلوى في لحظات ، وهو يهدد بصوت أكبر من عمره الذي لم يكن يتجاوز العاشرة ، ويتوعد برهوم بأيام سودة سيعيشها على يديه ، ولا ندري حتى اللحظة ما هو الطُعم الذي استدرج به برهوم الصبي المزعج .. حسن ؟! هززنا حسن ونخلناه لعل السر يسقط منه .. لكننا لم نحصل على شيء .
حتى حدث ما حدث …
وكان الجو صيفي حار خانق في أواخر شهر آب .. أي في نهاية ما يسميه البصريون بطباخات الرطب .. وقف برهوم في وسط الحوش .. ومرَّ باصابعه على ذقنه كأنه يفكر ، ثم رفع رأسه الى الاعلى ، وهو يتطلع الى نخلة ( البرحي ) الوحيدة التي تزين وسط البيت ، ورأسه وعنقه مشرئبان ناحية عناقيدها الذهبية !
وكانت زوجته تقف الى جانبه ، وعيناها تلتهمان حبات التمر المتدلية بشغف ، وهي تحمي عينيها بيدها من أشعة الشمس .
وقالت كأنها تحاول أن تخنق خططه السوداء التي تجول في رأسه :
— اطلب من ( الأبار ) مهدي أن يأتي ليحصد عناقيد التمر …
قال وكأنه يفتعل الدهشة :
— وأين ذهبتُ أنا ؟!
انها تعرفه مقفل عنيد لا يتزحزح عما في رأسه ، فقالت في استسلام :
— طيب .. اطلب ( التبلية ) من مهدي واطلع بها .. لمجرد الأمان ..
لكنه رفض .. وأصر أن يطلع النخلة بيديه العاريتين كما كان يفعل أيام كان شاباً .. بدون التبلية ، ولا حتى الحبل .
تبتسم فهيمة في قلة حيلة وتسكت ..
وطلع برهوم النخلة ، ويا ليته ما فعل .. !
بدء أولا بالبسملة ، وقراءة الفاتحة ، ثم عانق النخلة بحنان وقبلها ، ووضع قدمه اليمنى على الكربة الاولى ، وصاح بأعلى صوته كأنه يؤذن : يا الله .. ! وانطلق يتسلقها .. ينزع رجل ويثبت الاخرى ببطء شديد ، ثم عادت به الذاكرة فجأةً سنينًا طوال الى الوراء .. الى أيام لم تسقط من ذاكرته بالتقادم .. أيام الصبا .. التي يكاد يشم رائحتها العطرة الان .. عندما كان يعود من المدرسة مع اصدقائه ، ويتوقفون عند بستان حجي صالح حيث تلهو الخضرة وتضحك ، وهي تحيط بالمكان كأنها تعانقه .. وطيور الماء تغمس مناقيرها في النهر الساجي ، ثم ترفع رأسها الى أعلى لتترك للماء سبيلاً لينزل .
يلقون بكتبهم على الأرض ، ويتسابقون على طلوع النخل .. من يصل أسرع الى عناقيد التمر ، ومن يصل منهم الى القمة يلمس العنقود لمسا فقط دون أن يقطع منه ولا تمرة واحدة ، ويقف واحد منهم في الاسفل يراقب ليكون هو الحكم ، وكان برهوم الأول دائماً .
كانت امهاتهم تحشوا رؤوسهم ، وهم صغار بقصص الملائكة والانبياء والأولياء ، فكانوا يخافون أن يرتكبوا اثما من أي نوع كان .. حتى ولو كان قطع تمرة واحدة دون موافقة أهل البستان .. قلوب نظيفة قبل أن تفسدها زحمة الحياة !
انزل .. انزل .. يسمع صوت زوجته يقطع عليه فلم الذكريات الذي كان يطوف في خياله .. ويدعوه الى النزول .. ! قال مع نفسه : إن سمع كلامها ، ونزل سيتحول الى أضحوكة ، فقرر أن يواصل زحفه حتى النهاية ، وما كاد يصل الى منتصف النخلة حتى بدأ يطلق أنفاسا لاهثة ، ويتصبب عرقا ..
يا الله.. هل ينزل ، ولم يتبقى له سوى خطوتين أو ثلاثة ؟ عيب .. لم يحصل له أن خسر رهاناً مثل هذا ، ثم ما موقفه امام زوجته التي تطارده بعينيها ؟ حتى شعر بالثقل يزداد على ساعديه ، وتتراخى قبضته تدريجياً ، ثم اختل توازنه ، وبقي معلقا لثوانٍ على ساق واحدة كالذبيحة ، والاخرى تتدلى في الهواء .. حتى ضعفت مقاومته ، وتبخرت طاقته ، وخارت قواه ، وسقط على الارض كتلةً واحدة .. !
وسمع شهقة زوجته .
كُسر ظهره وتدشدشت عظامه ، وشج رأسه .. واصيبت أحدى عينيه بتلف .. !
صرخت فهيمة ، والهلع يملأ وجهها ، وهي ترى زوجها ممدداً على الارض مثخن الجراح ، ثم اقبلت عليه ، وهي تبسمل وتولول ، وتضرب بكفها على صدرها في دهشة ، ثم قالت وهي تبتلع ذعرها :
— صخام .. عبالك بعدك شاب ؟!
احتضنته وهي تمسح باصابعها على شعر رأسه الأبيض .. وطبقة من الدموع تكسو عينيها ، ثم صاحت على ابن أخيه ليساعدها .. أقبل الشاب مهرولا ، وحمله الى الغرفة ، وهو يتأوه من الألم ، وانفاسه تلهث كأنه كان يجري الماراثون ، ويتمتم بكلمات غير مفهومة ، ويرسم على شفتيه نصف ابتسامة خجلة ..
احتضنته زوجته بين عينيها في اشفاق ، ودموعها تسيل ولا تكف عنها ، ثم قالت في جزع :
— لا أعرف كيف تمكن منك شيطانك .. ؟! أعوذ بالله من شر الشيطان الرجيم ….
وجاء الطبيب الى البيت ، وهو واحد من اصدقاء الطفولة ، وبرهوم لا يزال يئن من الالم .. قال الدكتور مداعباً بعد ان تحمد له على السلامة :
— والله وعجزت يا برهوم مثل خيل الحكومة ؟!
ثم اعطاه مسكنات ، واخبرهم أن العلاج سيطول ، وعليه بالراحة ، وبحليب الجاموس ، وهي فرصة ليرتاح من الاعمال الشاقة التي حكم بها على نفسه ، وتركه ووعد بزيارة اخرى .
تناول برهوم الدواء ، ثم استسلم الى نوم عميق تتخلله كوابيس مزعجة .. لا يقدر على دفعها .. !!

( تمت )
( الأبار ) ؛ طالع النخل ..
التبلية ؛ وسيلة بدائية لتسلق النخلة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه