الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على حافة الاعتراف

فوز حمزة

2022 / 7 / 1
الادب والفن


ابتلع المهندس عادل قطعةَ لحم كانت ساخنة جدًا .. فتح فمه وبدأ يتنفس بسرعة وبوادر غضب شديد ظهرت عليه، مع ذلك لم يتجاهل وجود زوجته علا فأشار لها بيده دون أن يرفع نظراته من على الصحن .. اعتدلت في جلستها وشبكت كفيها وبصوت يغلب عليه الحزن والتوتر قالت:
- ترددت كثيرًا قبل الوصول إلى قرار الاعتراف لأنني مؤمنة بمقولة حين تريد نتائج مختلفة.. عليك بفعل شيء جديد .. لهذا سأدع ما أرغب وأتمسك بما احتاج ..
صمتت قليلاً وهي تنظر إليه تحاول معرفة مدى تأثير حديثها عليه ثم استأنفت:
- وأنت ما احتاجه، لأنك الجسد الذي تسكن فيه روحي .. أنت كالرحمة التي تهبط فجأة على قلب سجين محكوم بالإعدام ..
قبل إكمال حديثها .. نظرت إليه بطرف عينيها بينما هو منشغل بالتهام صحن السلطة التي يفضلها:
- الليلة الماضية وأنت بعيد عني شعرت ببرد الوحدة .. كنت بأمس الحاجة لمن يواسيني .. غيابك يمنح الزمن عذراً ليركلني بل يمعن في نهب كل ما من شأنه أن يمنحني الأمان فينكسر مجدي وتثبت عليّ اللعنة كخشيتي من ضياع ذلك العقد الذي أخبرتني حينما أهديتني إياه إنه يجلب الحظ الحسن..
كلماتها الأخيرة أثارت اندهاشه ، أثارته فتنة المشهد الذي يشخص أمامه، حاول تذكر أين سمع ورأى ذلك .. فكر في سؤالها لكنه آثر الصمت لأنه يدرك أن كلمة واحدة منه قد تفسد كل شيء.
سحبت منديلاً ورقيًا لتنشف دموعها التي انتهت صلاحيتها للتأثير عليه كما السابق حينما كان الفزع يتولاه لرؤيتها تبكي مؤكدًا لها أن حزنها يحول النهارات المشرقة إلى مساحات كثيفة من الضباب بينما الآن يحمل بكل هدوء كأس الماء ويشرب وكأنه لم يستمع لكلمة واحدة .. لمحت منه نفادًا للصبر، فاستأنفت بسرعة:
- أرجوكَ !! لا تصعب الأمر عليّ .. حواسي مضطربة .. ظننت أمام شجاعتي تفتح كل الأبواب .. ثم استدارت نصف استدارة قبل أن تكمل حديثها:
- لقد خنتك مع السائق !! نعم . اعترف بذلك ..
حاول إخفاء دهشته وفكر ربما تفكر في خدعة جديدة ، لقد أحبها بكلِ عيوبها التي كان يراها متفردة حتى مع تلك العيوب .. لكن ما يحصل الآن فاق توقعاته .. تخونني مع السائق ؟! توقعتها ستختار مدير أعمالي المغرم بإلقاء النكات التي تضحكها أو محامي الشركة الحاذق الذي لا يخسر أية قضية يتولاها .. أقصى توقعاتي ذهبت إلى جاري الأرمل الوسيم صاحب الكلب الذي يهز لها ذيله كلما رأها .. لكن السائق !! هكذا هي .. لطالما تفاجئني.
ردد هذه الكلمات بينه وبين نفسه وهو ما يزال مأخوذًا بالدهشة لأنها استطاعت تحويله بكل بساطة لشخص آخر .. في بداية زواجه منها كان يستمتع بأفعالها، يعشق ذلك الجزء الفوضوي في شخصيتها الذي يشعره بأنه ما زال طفلًا مهما بلغ به العمر .. جنونها يشعره بالحياة .. صبيانيتها تأخذه بعيدًا عن عالمه .. الآن يبدو كعجوز يتنزه في الجبال ليلاً لا يعرف ما ينتظره.
تركت مقعدها واتجهت إلى الشرفة .. أرادت لفت نظره إليها قبل السماح لنصف جسدها العلوي بالتدلي كأنها تحاول الأمساك بشيء ما .. جسدها الرشيق الشهي بتلك النهدين المتدليين كتفاحتين كبيرتين من الجنة تحوفهما الملائكة جعله ينسى في التو ما كان يفكر به ثم منظر الأشجار وثمارها المتساقطة مما ملأ براحة الحديقة والأرجوحة التي توسطت شجيرات الورد .. ذهب به خياله لتلك الليالي التي مضت وهما يستمعان للموسيقى تحت نور القمر .. ما زال يذكر همساته لها وهو يحتضنها: أنا متيم بكِ !! أنتِ مدني وعاصمتي .. أنتِ دستوري .. لا أصدق الشهيق والزفير في صدري إذا لم تكوني بينهما .. الآن ومع كل أكاذيبها يرفض أبعادها عن قلبه.
صوتها وهي رافعة رأسها للسماء كأنها تحدث نفسها جعلته يعود إلى مكانه:
- في البداية .. بدا لي الأمر ملء للفراغ الذي يحيط بيّ .. فأخذني التيار بعيدًا ولا طوق نجاة يحميني من الغرق .. ثمة أجزاء من روحي تذوب بينما لا أفعل شيئًا سوى عد تلك الأجزاء ..
صوتها العذب يعيد ترتيب الأشياء في حياته ..
نظر إلى ساعةَ معصمه .. الوقت ظهرًا والنعاس يداعب جفونه .. تمنى أن يكون في فراشه كما يفعل كل يوم بعد الغداء .. أشعل سيجارة ليخفف من شدة التوتر الذي سيطر عليه ويطرد إحساسًا مرعبًا تسلسل إليه من فعل امرأة لا تدرك هول ما تقول وما تفعل .. تساءل في سره وهو ينظر لصورة زفافهما: هل هذه هي المرأة التي أحببتها ؟
شعر كأنها طفل مدلل مسلح .. ربما هناك المزيد .. يا إلهي كم هذا مؤلم ؟!
حالةُ سعال خفيفة انتابتها بعد مغادرتها الشرفة لتتجه صوب الجدار وتنزل من عليه صورة لطفل يركب دراجة بيضاء اللون .. وهي تجفف دمعها أعادت الصورة إلى مكانها بعد أن احتضنتها بقوة لتهمس له وكأنها خشيت من وجود أحد يتلصص عليهم:
- الطفل لا ذنب له .. أعرف أنك أجريت له فحص الـ دي - أن - أي لتتأكد من أنك لست والده .. صدقني أنا أيضًا لم أكن أعلم .. لم يكن في نيتي خداعك أبدًا ..
أخذتها نوبة بكاء شديدة جعلت من وجهها الناصع البياض لوحة لمسافر في محطة لا وداع فيها ولا لقاء حتى غدا كاليمونة شاحبة .
دموعها الغزيرة أثارت إعجابه بمهارتها في التمثيل والخِداع .. استولى عليه القلق فأخذ يهز سيقانه في حين أصابع يده تنقر على الطاولة نقرًا منتظمًا.. متأهب لفعل أي شيء .. تلبدت الغيوم في سماءِ الغرفة وإنذار بسقوط المطر .. أرسل نظراته للأعلى محاولاً التماسك ريثما تنتهي من حديثها.
عادت إلى كرسيها تنتظر خروج الخادمة وهي تضع صينية الشاي وتحمل بدلاً عنها الصحون الفارغة .. تفاجأ من قولها:
- أعرف ما الذي يدور في رأسك من أفكار .. لكن أؤكد لك، لم أخنك إلا مع السائق فقد كان حبيبي قبل زواجي منك .. ظهوره في حياتي أعادني إلى أيام الحب الأولى .. معه نسيت أنني زوجة وأم .. لا أدري كيف طاوعني عقلي على قول ذلك ؟!
الدمع والحزن جعل عيونها غدت كسحابة زرقاء ندية .. تمنى لو أنها تصمت و تنهي ذلك بإخباره إنه كان مقلبًا كعادته، أراد طلب سكوتها إلا أنه ارتأى الإستماع إليها حتى آخر لحظة ..
مع شربه الشاي الساخن فكر للحظة برميها خارج النافذة أو بالقاء أبريق الشاي فوق رأسها .. لكنه يعلم أنه لن يفعل كما كان لم يفعل أي شيء في السابق مما مضى بينهما من أيام وأحداث وما تدثرت من عشرتهما من ذكريات ..
إنه يحبها كما كان يحبها منذ أول لقاء بينهما .. وكيف كان يصلي من أجل يوم تكون فيه زوجته ..
لكن يا إلهي !! ..
ما يحدث الآن شيء لا يطاق .. ما تفعله يجعله يشعر بالوحدة لأجلها، أو ربما هو وهم في رأسه فقط وأنها لن تكون وحيدة .. أيعقل أنها تشعر بالوحدة معه ؟!
يحاول جاهدًا لمس العذر لها .. وفي كل مرة يستبدل عذرًا بآخر، شعر ببعض الكراهية الغريبة لنفسه .. لا يمكن لمثل أقوالها هذه أن تكون دون مبرر .. ذلك ما منحه شيء من الصبر والحلم في سماعها وقد تجمعت فيه كل حالات الفضول ..
ثم ما لبث حتى ألقى برأسه بين كفيه وهو في حالة وجل كأنه غير مصدق لما يسمعه ولما يقع على مسامعه من تلك الكلمات التي كأنها كرات من جمر فوق سطح قلبه ..
جال في خياله تلك الليلة التي راقصها بها بينما المطر أنساب عبر ثيابهما التي التصقت بجسديهما ..
ما حدث له كان فوق التصور، فوق القدرة لكنه لم يكن فوق طاقته..
فما زال يملك من الطاقة ما يكفي لسماعها ..
هنا ..
وفي لحظة فاصلة من الزمن دخل طفلهما ذو الخمسة أعوام.. عانقه كما لم يعانقه من ذي قبل ثم نظر إليها كأنه يقول ما ذنب الطفل؟
نظرت إلى ابنها الذي قالت عنه ذات مرة إنه إ نتاج حبهما بينما تنهيدة خرجت من بين أنفاسها كان الطفل ينظر نحوهما بعينين حائرتين حزينتين كأنه يعلم بما يجري .. طلب منه الأب الذهاب ليلعب بعد أن وعده بحب أنه سيجلب له هدية ستكون مفاجئة تسره كثيرًا ..
جاء صوتها متوسلاً لينقذه من نفسه:
أريد لروحي أن تتعرى من ثوب الدنس .. تذكر أنني الآن محطمة فلا تتركني لأقدام البشر كي تسحقني .. لا تدع الغربان تقترب من جثتي.
سأقتلها .. حتمًا سأفعل .. لقد نفذ صبري .. قالها مع نفسه وهو ينظر إليها تجلس على الكرسي وقد وضعت بحركة مسرحية رأسها بين كفيها قائلة بصوت رسم النهاية:
- طلبت من الخادمة الذهاب بحقائبي إلى السيارة .. تركت بعضًا منها في الخزانة لأشعر أن جزءًا مني ما زال هنا، سأشتاق إلى كل شيء ..
نبرة صوتها الدافىء أيقظ الحنين داخله .. راودته فكرة احتضانها في تلك اللحظة .. فعطرها ذكّره بالسرير.. تملكته رغبة شديدة في دعوتها لغرفة النوم .. إلى لمس يدها وتقبيل شفتيها المكتنزتين ، لقد اشتاق لها كثيرًا ، لكنه يعرف العواقب إن طلب ذلك الآن ..
وهو يغادر مكانه .. أطفأ سيجارته وارتشف آخر قطرات الشاي ليقول لها:
- هل انتهيتِ ؟
- لا !! هناك شيء آخر لابد من أخبارك به ..
- لاحاجة بكِ لذلك ..
- ولِمَ ؟!
- لأني أعرفه ..
.............................








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن