الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان مبدع العلوم وموضوعها

قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)

2022 / 7 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بين العلوم الإنسانية والاجتماعية وشائج قربى كثيرة فجميعها تبحث في الإنسان وافعاله وانفعالاته وتفاعلاته الاجتماعية إذ تقوم حياة الناس الاجتماعية وتتشكل الجماعات والمجتمعات البشرية وتنمو وتستمر وتستقر وتزدهر في سياق اجتماعي تاريخي ثقافي علائقي تفاعلي يتكون من أربعة انساق أساسية( فاعل، فعل، علاقة ، بنية) وما ينجم عنها من مظاهر وظواهر وأشكال ورموز وقيم وتمثلات يعاد صياغتها وبناؤها باستمرار في خضم عملية ممارسة الفاعلون الاجتماعيون لحياتهم المتعينة ماديا ومعنويا واقعيا وافتراضيا بمختلف صيغ وصور وأنماط تمظهراتها العلائقية ؛ بين أنا _ أنت ، ذات _ أخر _ نحن _ هم وغير ذلك من اشكال العلاقات الاجتماعية المتغيرة باستمرار والتي لا تدوم على حال من الأحوال وتجلياتها المختلفة والتي بدونها يصعب الحديث عن الظاهرة الاجتماعية بوصفها ظاهرة قابلة للرؤية والدراسة والفهم. والإنسان يشترك مع غيره من الناس في كثير من الأفعال. ويشترك معهم بكل شيء ويختلف عنه بكثير من الأشياء. الحالة الأولى هي موضوع العلوم الاجتماعية والثقافية والحالة الثانية هي موضوع علم الأحياء والعلوم المتاخمة والحالة الثالثة هو موضوع علم النفس والعلوم النفسية وكل فعل يتضمن فاعلين اجتماعية، ويسمى الفعل اجتماعيًا حينما يحدث بين فاعلين أو أكثر هي: ميكروسوسيولوجية وماكروسوسيولوجية صغيرة وكبيرة. وكل فعل اجتماعي يتضمن علاقة اجتماعية، وحينما تتكرر تلك العلاقة تتشكل في بنية أو أطار أو مؤسسية. وحينما تزاوج آدام وحواء لأول مرة تكونت الأسرة النووية وبتكرار التزاوج بين الفاعلين والفاعلات الاجتماعيات عبر الألف السنين واستمرارها تكونت البنى الاجتماعية؛ بنية الأسرة والقرابة والعشيرة والقبيلة والقومية والأمة والإنسانية الأممية اليوم. وبنية المؤسسة التعليمية إذ تحول فعل الدراسة والتدريس إلى علاقة ببن الطالب والمعلم وبتكرار تلك العلاقة تحولت إلى مؤسسة؛ الروضة والمدرسة والجامعة وكل مؤسسات التعليم والتربية التي لا يمكن لها أن تستمر وتدوم إلا باستمرار الفاعلين والعلاقة. والدين مؤسسة تكونت عبر فعل العبادة بين العابد والمعبود بكل اشكالها وأنماطها وبتكرر ذلك الفعل كل يوم وعبر الأجيال منذ الألف السنين بقيت واستمرت المؤسسات الدينية حول العالم . خذ أي ظاهرة أجتماعية وانظر اليه من زاوية نظر منهجية تكاملية ستجدها لا تخرج عن ذلك السياق العام. وبما أن المجتمع حالة متغيرة ومتحولة من حال إلى حال ولا تدوم في نقطة متجمدة فقد ميز علماء الاجتماع وأولهم أوغست كونت بين حالتين للظاهرة الاجتماعية؛ الحالة الديناميكية الحركية والحالة الاستاتيكية الثابتة نسبيًا. وتؤكد نظرية الثقافة على أهمية التعددية الثقافية كمعطى جوهري وحيوي للحياة الإنسانية، اذ أن الفرد في المجتمع يتفق مع بعض الناس في كل النواحي كما يتفق مع بعض الناس في نواح أخرى، ولا يتفق مع أي من الناس في نواح ثالثة.وتهتم علوم البيولوجيا والفسيولوجيا بدراسة الجانب الأول، كما تهتم علوم النفس بدراسة الجانب الثالث، اما الجانب الثاني فيشكل مجال اهتمام ودراسة علوم الاجتماع والانتروبولوجيا والجغرافي والدراسات الثقافية والفلسفة.
ولما كان الإنسان هو الموضوع المحوري لكل تلك العلوم بوصفها مجموعة متواشجة من العلاقات الاجتماعية فمن المهم أن تتكامل جميع العلوم في دراسته إذ لا يمكن لدراسة الفلسفة أن يفهم الكائن بدون فهم علم النفس ولا يمكن لعالم النفس أن يفهم الإنسان صحيح وهذا هو ما يفسر الارتباط العضوي بين الفلسفة وعلم النفس فمعظم الفلاسفة الكبار منذ الفكر الشرقي القديم مرورا باليونان وحتى الآن لم يقفلوا النظر إلى النفس البشرية ومدراتها الميتافيزيقية وكثير من عالما النفس يعدوا فلاسفة ومنهم فرويد وجان بياجية ولانج واريك فروم ولاكان وإبراهام ماسو وغيرهم.فالإنسان هو الموضوع المحوري لكل العلوم، وجوده ووعيه ومشاعره وافعاله وتفاعلاته وعلاقاته وقيمه ورموزه وعلى شاطئ القرن التاسع عشر ترسى سفينةالفلسفة لتفرغ حمولتها الثقيلة من المشكلات الميتافيزيقية العتيقة, وتفتح ابوابها امام الاسئلة الجديدة التي تطرحها المشكلات التاريخية المتحدمة, في اتون الاحداث الواقعية للعصر الجديد.اذ ذاك لم تعد الفلسفة تبحث في "الماهية" وحقيقة المثل الافلاطونية, وليست "النظر العقلي بالمبادئ الاولى والأسباب الاولى بحسب ارسطو, كما ان البرهان الانطولوجي لوجود الله كف عن كونه مشكلة فلسفية, ولم تعد مشكلة الجوهر اللامتناهي, التي شغلة الفكر الفلسفي الحديث من ديكارت حتى هجل, موضوعاً للفلسفة.ومع القرن التاسع عشر يدخل الانسان في علاقة مع قوى الخارج الجديدة, التي هي قوى التناهي, هذه القوى, الحياة, الشغل واللغة: الأصل الثلاثي للتناهي الذي ستتولد عنه البيولوجيا والاقتصاد السياسي وعلم اللغة, قوة الحياة وقوة التاريخ وقوة الثقافة بعد ان يتم اخضاع المتعالي للتجريبي.إذ يجد الانسان لأول مرة في التاريخ يجد نفسه بازاء قوى التناهي والاشتباك معها كقوى خارجيه عن ذاته الانسانية المتناهيه, اذ ذاك كان على قوى الانسان ان تتصدى للتناهي خارج ذاتها, ومن تم لتجعل منه في مرحلة ثانية, تناهيها هي, فتعيه حتماً كتاه خاص بها. وحينئذ كما يقول فوكو, يركب معها الشكل الانسان (وليس الشكل الله) وتلك بداية الانسان. وهذا هو ما تصدى اليه الهيجلي الشاب كارل ماركس حينما اخضع الفلسفة للممارسة التاريخية, وذلك بعد ان وجه نقداً لادعاً للفلسفة التأملية المجردة قائلاً: (اذا ما نظرنا الى الفلسفة من خلال تطورها النظامي بدت لنا لا شعبية, وبدت حياتهما السرية, للعيون الجاهلة نشاطاً غريباً بعيداً عن الممارسة, كأنها استاذ مختص في السحر لا تتشح تعازيمه بثوبا الجلالة والمهابة الا لانها غير مفهومة" في حين يرى ماركس ان الرسالة التاريخية للفلسفة تكمن في الاحتكاك بالواقع وفي الجمع بين النظرية والممارسة بين التأمل والعمل السياسي, ومعالجة المسائل التي تهز الجماهير الشعبية. هكذا يحدد ماركس وظيفة الفلسفة الواقعية, ففي حين كانت الفلسفة في الماضي تحلق في الآفاق البعيدة, وتحوم فوق الرؤوس مطلقة العنان لتأملاتها المجردة, صارت اليوم, فلسفة انضوائية تعيش بين البشر وتجوب الشوارع والمدن والبيوت والمصانع, وإن عليها ان تلازم الانسان وتسير معه كظله اينما ذهب, وذلك لان ليس من مهمة لدى الفلسفة, غير البحث في الانسان ومشكلاته هذا الكائن الذي يرى فيه ماركس اسمى الكائنات واعظمها إذ أنه صانع التاريخ والحضارة الانسانية كلها, مبدع الفلسفة والافكار والقيم والعلم والتقنية والدول والاشياء. وتعد الفلسفة الوجودية المعاصرة لحظة متميزة للعلاقة بين علم النفس والفلسفة
والقول بلا عقلانيتها ينطوي على مفارقة منطقية ذلك لان كل فلسفة هي عبارة عن إبداع عقلي للإنسان (الفيلسوف) وهي منظومة من المفاهيم والمقولات التي تبلورت خلال عمليات التفكير والحيرة والتأمل عبر الملاحظة والادراك والفهم والحدس والدهشة كما أن العقلانية عندما تتحول الى نزعة متطرفة واقنوم ثابت الصرامة والموضوعية المنطقية تكتسب صورة لا عقلانية عقيمة. فضلا عن إن مطلب العقلانية الصارم من الفيلسوف هو أمر مجاف للعقل، ذلك لان الفلسفة هي نتاج لإنسانية الفيلسوف الذي يفكر وينفعل يحس ويقلق, يحب ويكره, يفرح ويحزن, فكل فيلسوف هو إنسان من لحم ودم يعيش في سياق إنساني ويفكر ويكتب ويتوجه الى أناس من لحم ودم مثله أنه يتفلسف لا بعقله فحسب, وانما بقلبه وضميره ووجدانه وإرادته ومشاعره, بلحمه ودمه, بكل روحه, وبكل جسده, فالإنسان هو الذي يتفلسف وليس عقله فقط. وإذا كانت "العقلانية" قد حصرت موضوع بحثها بما كان يسمى بالقوى العقلانية, تحت وهم الاعتقاد بأن الكون يعمل على نحو ما يعمل العقل حيث يفكر بصورة موضوعية, تحكمه قوانين موضوعية كلية ثابته فإن الأحداث والوقائع التاريخية والخبرة الحياتية قد أثبتت بطلان مثل هذه التصورات عن الكون المحكوم بناموس ثابت يوجه حركته, كما بطل الاعتقاد بان العقل يعمل وفق قوانين صارمة على نحو عمل الطبيعة, ومن ثم يصعب عقلنته. هذا ما اكده العلم المعاصر حيث بينت نظرية الكوانتم والنسبية لاحتمية الحركة الطبيعية واثبتت العلوم الانسانية المختلفة كعلم النفس والسوسولوجيا والانثروبولوجيا وغيرها لا عقلانية الكائن البشري وسعت الدراسات إلى محاولة الكشف عن دور القوى الخفية في حياة الانسان وتطور المجتمع الانساني. وقد استطاع عالم النفس الشهير سيغموند فرويد بناء صرحا شامخا من العقلانية عندما بحث في الوجه الخفي للإنسان في اللا شعور, إذ إماط اللثام عن خطورة وأهمية الحاجة والرغبة الغريزية المتمثلة بالجنس والعدوان في حياة الانسان وأكد أن الانسان لا يخضع للتبرير العقلي الا بصورة جزئية, وما من أحدٍ يستطيع ان يفهم سر الشخصية وطابعها الفريد فهما تاما, فشخصية الانسان اكثر غموضا الى حد كبير من العالم الذي نعيش فيه, ذلك انها تشكل عالما بأسره؛ عالم مصغر يضم الاشياء كلها بين جانبيه بوصفه كائنا حيا يمتلك الوعي والشعور والارادة والحرية فهي يعيش في ابعاد متعددة ومتفردة يصعب عقلنتها كما هو الحال مع الأشياء الأخرى. واذا كانت الوجودية قد الحت على الذات والوجود الفردي الحر وبحثت في القلق والاغتراب والحرية والموت والعدم والاختيار والمسئولية.. إلخ فهي لم تبحث في مواضيع وهمية وغيبية, بل في مشكلات موجوده في الواقع, يعيشها كل كائن إنساني حي ويعاني منها. واذا كانت هذه المواضيع لاعقلانية في نظر البعض, فالذنب ليس ذنب الوجودية التي كشفت عنها واكدت اهميتها وخطورتها.إذ لم تكن الوجودية الا محاولة لفهم جانب من جوانب الحقيقة الإنسانية , أمًا أي من وجهات النظر اكثر قربا من الحقيقة او اكثر عقلانية, هذا آمر آخر . يمكن تمحيصه من خلال القراءة المتأنية لأفكار هذا الفيلسوف او ذاك, وفهم موقفه من القضايا الإنسانية الكبرى هذا اذا ما اتفق الجميع على أعتبار الانسان وكرامته وحريته ومستقبله هي المعيار الوحيد لقياس عقلانية او لا عقلانية أي فلسفة من الفلسفات. إذ ذاك يمكن القول أن نظرية ماركس عقلانية, بيد إن ذريته المنتصرين احالوها الى دوغما لا عقلانية, عندما اعلنوها مقدسة كلية القدرة ومطلقية الصحة, ووحدوها مع الحقيقة, وحصنوها ضد كل احتمالات التكذيب والنقد والقابلية للاختبار. كتب كارل بوبر :" لقد راقبت الخيلاء الفكرية التي لا يمكن تصورها للماركسية الرسمية, لقد كان امرا مهولا ان يتم إقامة شكل من المعرفة يجعل التضحية بحياة الاخرين واجبا مقدسا" وحينما تتحول الفكرة العقلانية إلى عقيدة مقدسة سوف تصيب البشرية في مقتل إذ قدمت البشرية عشرات الالاف من الانفس البريئة في سبيل عقائد متقلبة, بدون فحص نقدي ومن أجل حلم يبدو مستحيل التحقق.ان الوجودية اذ جعلت من الموجود العيني, الانسان مدار اهتمامها ومحور قلقها الفلسفي, قد انطلقت من زاويا نظر مختلفة ومتباينة أشد التباين في تفسيراتها, او بالاحرى تصورات فلاسفتها للانسان, وجوده حريته وقلقه واغترابه وخلاصه.وكما أن الفلسفة وجدت في الأبحاث الجديدة بالدراسات السيكولوجية زادا معرفيا جديدا فكذلك وجد علماء النفس بالفلسفة منطلاقاتهم الميتافيزيقية في النظر إلى الإنسان ومشكلاته. ففي نظرية الذكاءات المتعددة لعالم النفس الامريكي هاورد غاردنر عام 1983. ينطلق هاورد من رؤية فلسفية كلية للإنسان بوصفه كائنا متعدد الذكاءات. وعلى العكس النظريات التي تناولت مسألة الذكاء التي حصرت الذكاء في البعد العقلي والوجداني للإنسان ومعيارها يقوم على مقارنة سنوات عمر الطفل بذكاءه العقلي كنظرية بياجيه والنظرية السيكومترية ، و ما يجمع بين هذه النظريات كونها تتفق كلها في القول على أن الذكاء بنية متكاملة والأداء في مهمة ما، يرتبط بالأداء في مهام أخرى.  وجل هذه النظريات يركز على الجانب الخارجي (المظهر) لعملية التعليم و التعلم ولم تصل إلى جوهر الطالب و تحليل قدراته الفعلية كالذكاء مثلا والقدرة على مواجهة المواقف والمشاكل و إيجاد الحلول و التوصيفات لمثل هذه المسائل والمواقف. على عكس تلك النظريات القديمة جاءت نظرية الذكاءات المتعددة ثورة في الدراسات الإنسانية إذ تنطلق نظرية الذكاءات المتعددة من مسلمة مفادها أن  كل الأطفال يولدون ولديهم كفاءات ذهنية متعددة منها ما هو ضعيف ومنها ما هو قوي . ومن شأن التربية الفعالة أن تنمي ما لدى المتعلم من كفاءات ضعيفة وتعمل في الوقت نفسه على زيادة تنمية ما هو قوي لديه. أي أن هذه النظرية تتجنب ربط الكفاءات الذهنية بالعوامل الوراثية التي تسلب كل إرادة للتربية. وترفض هذه النظرية الاختبارات التقليدية للذكاء لأنها لا تنصف ذكاء الشخص فهي تركز على جوانب معينة فقط من الذكاء. إن الأمر يتعلق بتصور تعددي للذكاء، تصور يأخذ بعين الاعتبار مختلف أشكال نشاط الإنسان، وهو تصور يعترف باختلافاتنا الذهنية وبالأساليب المتناقضة الموجودة في سلوك الذهن البشري. و في هذا الإطار يقول جاردنر : ” إن الوقت قد حان للتخلص من المفهوم الكلي للذكاء، ذلك المفهوم الذي يقيسه المعامل العقلي، والتفرغ للاهتمام بشكل طبيعي للكيفية التي تنمي بها الشعوب الكفاءات الضرورية لنمط عيشها، ولنأخذ على سبيل المثال أساليب عمل البحارة في وسط البحار، إنهم يهتدون إلي طريقهم من بين عدد كبير من الطرق، وذلك بفضل النجوم وبفضل حركات مراكبهم على الماء وبفضل بعض العلامات المشتتة. إن كلمة ذكاء بالنسبة إليهم تعني بدون شك براعة في الملاحة. ولننظر كذلك إلى المهندسين والصيادين والقناصين والرسامين والرياضيين والمدربين ورؤساء القبائل والسحرة وغيرهم. إن كل الأدوار التي يقوم بها هؤلاء ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، إذا قبلنا تعريفاً جديداً للذكاء، باعتباره كفاءة أو قدرة لحل المشكلات أو إنتاج أشياء جديدة، ذات قيمة في ثقافةٍ ما أو مجتمع ما من المجتمعات، إن كل الكفاءات والقدرات التي يظهرها هؤلاء في حياتهم وعملهم تعتبر بدون شك شكلاً من أشكال الذكاء الذي لا يقتصر على المهارات اللغوية أو الرياضيات والمنطق، التي طالما مجدتها اختبارات المعامل العقلي، وعلى هذا الأساس، فإن نظرية الذكاءات المتعددة تقف موقفاً خاصاً من اختبارات الذكاء، التي طالما مجدت وقامت بإصدار أحكام بخصوص الطلاب ومستقبلهم الدراسي ”  (أحمد أوزي،1999)
نعم في ذات كل إنسان عدد من الذكاءات ومنها( الذكاء الوجداني والذكاء المنطقي الرياضي والذكاء الاجتماعي والذكاء البصري والذكاء الايقاعي الموسيقي والذكاء اللغوي والذكاء العضلي والذكاء الوجودي) هذا هو الطيف الواسع من المواهب والقدرات المتعددة التي تستدعي التأهيل والتنمية. وتلك هي وظيفة الثقافة بوصفها الراسمال الذي يبقى بعد نسيان كل شيءٍ! فالثقافة السائدة في حضارة من الحضارات بوصفها نموذجاً إرشادياً (باراديم) إما أنها تدعم قوى الإنسان العقلية والإبداعية أو تحد منها وتضيق فرص نموها وازدهارها ويمكن تمثيل العلاقة بين الذكاء والثقافة بعلاقة الابن والأم، فالثقافة هي الرحم الحي لتخصيب وميلاد ونمو الذكاءات المتعددة، فكيفما كانت صحة الأم يكون الابن سليماً أو سقيماً. وهكذا كانت وما برحت وظيفة الثقافة هي: تحضير ولادة الفيلسوف والمفكر والعالِم والفنان والمؤرخ والفقيه والأديب والناقد والكاتب والخبير والمربي والسياسي وكل ما يتصل بتفتيح وتنمية قوى الإنسان وقدراته ومواهبه العقلية والعاطفية والبدنية وهي بذلك تتميز بالسمات التالي طالما وقد كررنا ذكرها في مناسبات عدة وهي: 𔆑 -التهيؤ: كما هو الحال بالتربية البدنية التي تهتم ليس بتمرين عضو معين من أعضاء الجسم الإنساني بل بتمرين وتهيئة الجسم كله وإكسابه اللياقة اللازمة للنشاط والطاقة والحيوية والحركة والاستدارة بمرونة ورشاقة.والثقافة بوصفها استراتيجية للتنمية العقلانية المستدامة، تمنح الأفراد القدرة على استعمال جميع المعارف والمهارات المكتسبة لمجابهة الأوضاع المختلفة وحل المشكلات الجديدة؛ أي (الذكاء العاطفي) إذ (هي ما يبقى بعد نسيان كل شيء) والثقافة بهذا المعنى هي تجسيد لمفهوم الهابيتوس عند بيبر بورديو 
بوصفها نسقا من الاستعدادات المُكتسبة بالتربية والممارسة الاجتماعية التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى الأخرين والحياة و الكون، وهو أشبه ما يكون بطبع الفرد أو بالعقلية التي تسود في الجماعة، لتشكل منطق رؤيتها للكون والعالم. ووفقاً لهذا التصور، يعد «الهابيتوس» جوهر الشخصية والبنية الذهنية المولدة للسلوك والنظر والعمل، وهو في جوهره نتاج لعملية استبطان مستمرة ودائمة لشروط الحياة ومعطياتها عبر مختلف مراحل لوجود، بالنسبة للفرد والمجتمع.𔆒- الاستيعاب؛ بمعنى استخدام المعرفة وتجريبها ذاتيا؛ لأن المرء لا يستطيع أن يتصرف بمعرفة ما إلا عندما يستوعبها ويجسدها في لغته وذهنه وخبراته وتجاربه الاجتماعية. فكل معرفة غير مستوعبة من الفاعلين الاجتماعيين تظل بالنسبة لهم خارجية وغريبة ومستبعدة من حياتهم. فالمعرفة لا تتحول إلى ثقافة إلا إذ توطنت في البنية الثقافية للمجتمع المتعين وصارت نسقًا أصيلًا في تفكيرهم وسلوكهم. 𔆓- الشمول؛ بمعنى القدرة على الربط العميق بين المعارف المستوعبة والموضوعات والقضايا التي تبدو متباعدة، والنظر إليها برؤية كلية قادرة على الجمع بين أجزاءها في نسق فكري ثقافي منطقي واضح ومقنع. 𔆔- الحكم؛ بمعنى القدرة على التجرد والتجريد الذي يعني في العلم (الحلم) وفي الفن (الذوق) وفي الأخلاق (الضمير) وفي الحياة (الفهم) ذلك هو هدف وغاية كل تعليم وتعلم، فإذا كان التعليم يعلم المعرفة فإن التعلم يعلم الفهم وبدون أن يفهم الناس المعرفة التي يدعون امتلاكها تظل معرفتهم بلا قيمة ولا جدوى. والعلم هو أن تعرف كل شيء عن شيء محدد ومتخصص في علم من العلوم بينما الثقافة هي أن تفهم شيء عن كل شيء تعرفه وهذا هو كل ما يمكن انتظاره من الثقافة، وبدون هذا الـ(كل) لا وجود لشيء جدير بالقيمة والاعتبار.هكذا يمكن الخلاصة في تأمل العلاقة بين الفلسفة والإنسان والثقافة من منظور نظرية الذكاءات المتعددة.التي تؤكد أن عقول سيكولوجية الطفل هي أكثر قدرة على التفكير والخيال والدهشة والانفعال بحكم خلوها من أوثان الذاكرة التي تستبد بعقول الكبار. فالأطفال منذ سن ثلاث سنوات يبدون فضولا لا مثيل له في التعرف على العالم من حولهم. إذ نجدهم يتسألون عن كل ما يصادفهم في حياتهم( ما هذا؟ لماذا؟ من هو؟ وماذا يعني؟) والأطفال فضوليون بطبعهم، يحاولون بكل شكل إيجاد إجابات ممكنة الفهم لها علاقة بمعنى وجودهم، بما تعنيه الحياة بالنسبة لهم، في كل مرة تجيبهم عن شيء ما سوف يعاودونك بالسؤال "لماذا؟!" حتى تنتهي منك الإجابات عند خانة "لا أعرف"، لذلك حينما نتساءل عن: هل يمكن أن يتعلم الأطفال الفلسفة؟، فإن إجابة جون باجيه صاحب النظرية الشهيرة القائلة إن الأطفال حتى سن 12 لم يمتلكوا بعد الخبرة الإدراكية الكافية لفهم ما يعنيه "التفكير في التفكير" قد تترنح بالفعل أمام تساؤلات الأطفال اليومية والتي تدعنا – نحن الكبار – في حيرة – ربما – بالغة. وعلى النقيض من تنظير عالم النفس السويسري جان بياجيه، يذهب جاريث ماثيوز، الفيلسوف الأميركي المتخصص في تدريس الفلسفة للأطفال، أن نتائج العديد من الدراسات تؤكد أن الطفل في سن صغيرة قادر على بناء حجج جيدة، وصياغة تساؤلات مهمة عن القيم، واللغة، والميتافيزيقا، وحتى نظرية المعرفة. تلك إذن بداية جيدة للغاية. مع الأطفال تستعيد الفلسفة روحها حيث تولد الدهشة ويتولد العجب وتثار الأسئلة في منابعها الأصلية الفطرية البريئة من الأوثان والاحكام والتحيزات. 
وفي الختام يمكن الاشارة الى الفرق بين نمطين مناهج التربية التعليم: يرتكز منهج النقل والتلقين في التعليم التقليدي على مفارقة منطقية، فهو من جهة يدعو إلى تعليم عقول التلاميذ معارف سابقة جاهزة ومكتملة التكوين ومن جهة أخرى يدعوهم إلى التخلي عن عقولهم وعدم الثقة بها، فضلا عن كونه يقوم على فرضية خاطئة في النظر إلى عقول المستهدفين بالتعليم بوصفها أوعية ثابتة وجامدة يمكننا حشوها بما نشاء من معارف وأفكار جاهزة عبر النقل والتلقين دون الخشية من سوء الفهم والتاؤيل أو دون أن يخامرنا الشك بسلبيتها المطلقة في التلقي والحفظ والتخزين والاستعادة تماما كما نقوم بنقل الأموال وايداعها في البنوك الإسلامية كأمانة ثابتة نستعيدها وقت الحاجة بدون ربح أو فائدة! هذا النمط من التعليم المسمى بالتعليم البنكي، يكون فيه المعلم الشيخ أو الناقل هو الطرف الإيجابي الفاعل بينما يكون المستهدف بالتعليم (التلميذ)هو الطرف المتلقي السلبي إذ تقتصر وظيفة هذا الأخير على حفظ ما نُقل اليه واسترجاعه استرجاعا حرفيا دون بذل أي جهد فكري نقدي للفهم والتدبّر والتأويل والتفسير! وكلما زاد انتشار هذا النمط من التعليم التقليد كلما زاد عدد الأشخاص المنمطين تنميطاً صارماً في محاولة عابثة لاستنساخ النسخة الأصلية التي اثبتت الخبرة التاريخية والتجربة الاجتماعية استحالة نقلها وحفظها وتلقينها واسترجاعها بحذافيرها وذلك من طبيعة التاريخ الذي يستحيل إعادته مرتين! لان احداثه نوعية وفريدة في معطياتها التاريخية الزمنية والمكانية وسياقاتها الاجتماعية والثقافية، وكل محاولة لاستنساخ التاريخ هي مهزلة عابثة ! وهكذا يمكن القول أن التعليم الذي لا يوسّع من مدارك المستهدفين وينمي معارفهم وفهمهم بموضوعات ومشكلات واقعهم وعالمهم ويزودهم بالقدرة والذكاء الفعّال لمواجهتها وحلها،لا قيمة له ولا فائدة، فضلا عن كونه ممارسة لتكريس الجهل والتجهيل المزدوج ! وتكمن خطورة هذا النمط من التعليم التقليدي في قدرته على تشكيل وتنميط عقول المستهدفين تنميطاً صارماً وجعلها تعتقد انها وحدها من يمتلك العلم والمعرفة الصحيحة وما خلاها هو الجهل والضلا. وكلما تم تشكيل الاذهان على نمط من أنماط الاعتقاد المعرفي كلما بات من الصعب تغييرها! والمعرفة ليست اعتقادا مغلقاً بل هي ويجب أن تكون انفتاحا دائما للعقل على كل جديد وإنشغالا متقدا للفهم والذكاء في محاربة الجهل ونقد وتصويب الأخطاء وحل المشكلات وتصحيح المناهج والمسارات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يواجه محاكمة جنائية بقضية شراء الصمت| #أميركا_اليوم


.. القناة 12 الإسرائيلية: القيادة السياسية والأمنية قررت الرد ب




.. رئيس الوزراء العراقي: نحث على الالتزام بالقوانين الدولية الت


.. شركات طيران عالمية تلغي رحلاتها أو تغير مسارها بسبب التوتر ب




.. تحقيق باحتمالية معرفة طاقم سفينة دالي بعطل فيها والتغاضي عنه