الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصِرَاع بين المَلَكِيَّات والجُمْهُورِيَّات

عبد الرحمان النوضة
(Rahman Nouda)

2022 / 7 / 1
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


موضوع هذا المقال هو الصِرَاع بَيْن المَلَكِيَّات والجُمْهُورِيَّات في العالم الناطق بالعربية.
وَأُطْرُوحَة المقال الحالي تُوَضِّحُ وُجود صِرَاعَات خَفِيّة، بين الأنظمة السياسية المَلَكِيَّة، والأنظمة السياسية الجُمْهُورِيَة، في العالم الناطق بالعربية.
وَأُعَرِّف التَنَاقُض بِكَوْنِه هو الاِخْتِلَاف، أو التَنَافُس، أو الصِرَاع. والتناقض مَوْجُود في كلّ شيء. في كلّ كَائِن مُجْتَمَعِي، وفي كلّ العلاقات القائمة فيما بين مُخْتَلَف الكَائِنَات المُجتمعية (سواء كانت هذه الكائنات المُجتمعية أَفْرَادًا، أو قَبَائِل، أو مَجموعات، أو شَرِكَات، أومُؤَسَّـسَات، أو دُوَل، أو مُجتمعات، الخ). وَكُلّ كَائِن مُجتمعي يُشارك في إنتاج مَنْتُوجَات أو خَدَمَات، وَيُشَارِك أيضًا في تَبَادُلها، سَوَاءً بِشكل مُبَاشِر أم غير مُباشر. وَتَنْظِيم الإِنْتَاج المُجتمعي، وتَنْظِيم المُبَادَلَات المُجتمعية، يَخْضَعَان هما أيضًا لِتَنَاقُضَات، وَلِصِرَاعَات مُجتمعية. وَتُوجَد تَنَاقُضَات وَصِرَاعَات فيما الأفراد المُسْتَغِلِّين، والأفراد المُسْتَغَلِّين. كما تُوجد تناقضات وصراعات فيما بين طَبَـقَات مُجْتَمَعِيَّة مُسْتَـغِلَّة، وطَبَـقَات مُجتمعية مُسْتَـغَـلَّة. وَيُضِيف المقال الحالي أنه تُوجَدُ أيضًا تَنَاقُضَات وَصِرَاعَات فيما بين المُجتمعات المُسْتَـغِـلَّة (مثل البلدان الغربية المُتَـقَدِّمَة، والقَوِيَّة، والإِمْبِرْيَالِيَة)، وَالمُجتمعات المُسْتَـغَـلَّة (مثل بلدان العالم الثالث، أو البلدان الناطقة بالعربية). وَتُوجَدُ كذلك تَنَاقُضَات وَصِرَاعَات فيما بين الأنظمة السياسية القَدِيمَة (مثل المَلَكِيَّات)، والأنظمة السياسية الجديدة (مثل الجُمْهُورِيَّات). إلى آخره.
وَالمَلَكِيَة (في العالم الناطق بالعربية) مَبْنِيَة على أساس العائلة المَلَكِيَة، والوِرَاثَة، وَالْاِحْتِكَار المُطْلَق لكلّ شيء في المُجتمع. بينما الجُمْهُورِيَة يُفْتَرَضُ فيها (نَظَرِيًّا) أنها مَبْنِيَة على أساس سِيَّادة الشعب، والانتخابات العامّة، والفَصْل بين مُختلف السُلُطَات. وقد تَكُون جُمْهُورية مُحَدَّدة رَدِيئَة وَمُتَخَلِّفَة مثل (أو أَسْوَأ مِن) المَلَكِيَة. وتختلف المَلَكِيَّات في العالم الناطق بالعربية عن المَلَكِيَّات في أوروبا. حيث أن المَلَكِيَّات في أوروبا، كانت هي أيضًا مُطْلَقَة في الأَصْل، لكن الثورات الشعبية فَرَضَت عليها إِمَّا أن تَزُول، وَإِمَّا أن تَكُون رَمْزِيَة، أو شَكْلِيَة، وَمَفْصُولَة عن كَلّ السُلَط (التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، والاقتصادية، والثقافية، والإعلامية).
وما هي الأمثلة على وُجُود صِرَاعَات حَدِيثَة بين المَلَكِيَّات وَالجُمْهُورِيَّات في العالم الناطق بالعربية ؟ كثير مِن الناس يعتقدون مثلًا أن الصِرَاعَات القائمة بين مَلَكِيَة المغرب وَجُمْهُورية الجزائر سببها هو فقط النِزَاع حول الصَحْرَاء الغَرْبِيَة. وهذا خطأ. لأن الصراعات الحَادَّة بين المغرب والجزائر كانت مَوْجُودَة قبل ظهور قضية الصحراء الغربية في سنة 1975. وكان الخِلَاف، وَالمُنَافَسَة، والمُقَاطَعَة، بَل العَداء، مَوْجُودَيْن بين المغرب والجزائر، منذ الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي في 1961. كما نَجِدُ تَنَاقَضَات وَصِرَاعَات بين مَلَكِيَة السَعُودِيَة وَجُمْهُورِيَة مَصْر؛ وبين مَلَكِيَة الأُرْدُن وَجُمْهُورِيَة سُورْيَا؛ وبين مَلَكِيَة عُمَان وَجُمْهُورِيَة اليَمَن؛ وبين مَلَكِيَّات السعودية والإمارات الخَلِيجِيَة وَجُمْهُورِيَة إِيرَان؛ وَبَيْن التَحَالُف الخَفِيّ لِلْمَمْلَكَات العربية وَالتَحَالُف الخَفِيّ لِلجُمْهُورِيَات العربية؛ إلى آخره.
وَيَظْهَرُ حَالِيًّا التاريخُ مُتَوَقِّفًا في المُجتمعات المُسْلِمَة، والناطقة بالعربية. وَرَغْم أن أحداثًا مُتنوِّعة تَتَلَاحَق داخل هذه المُجتمعات، فإنها تظهر كأنها تَدُور في حَلقة مُـفْرَغَة مِن التَخَلُّف، أو الانحطاط. والفَجْوَة بين المُجتمعات الناطقة بالعربية والمُجتمعات المتقدّمة في العالم (مثل أمريكا، وأوروبا، والصِين، الخ)، تَزْدَاد اِتِّسَاعًا، في كل يوم يَمُرُّ. والأسباب شَتَّى. مِن بينها نَوعِيَة الأنظمة السياسية القائمة في هذه المُجتمعات، بما فيها الأنظمة المَلَكِيَة، وحتى الأنظمة الجُمْهُورِيَة.
وَتَتَّسِمُ مُجْمَل هذه الأنظمة السياسية العربية (سواءً كانت مَلَكِيَة أم جُمْهُورِيَة)، وفي غالب الحالات، بالاستبداد، والفساد، والغِشّ، والرأسمالية الطُفَيْلِيَة والمُتَوَحِّشَة، والتَبَعِيَة لِلْإِمْبِرْيَالِيَّات الغَرْبِيَة. وَعلى العُمُوم، يَتَمَيَّزُ الأشخاص المُكَوِّنِون لِلطَبَـقَات السياسية السَّائِدة في هذه المُجتمعات (الناطقة بالعربية) بِِالأَنَانِيَة، والانتهازية. وَلَا يَخْدِمُون سِوَى مَصَالِحَهُم الشخصيّة الخُصُوصِيَة. وَيَنْهَبُون الثَرَوَات العُمُومية، وَيُبَذِّرُونَهَا في رَفَاهِيَة تَافِهَة، أو يُهَرِّبُونها إلى الدول الغربية.
وَيُمكن تَـقْسِيم التاريخ الحديث للصراع بين المَلَكِيَّات والجُمْهُورِيَّات، في العالم العربي (أي العالم الناطق بالعربية)، إلى مرحلتين مُتَمَيِّزَتَيْن. وَتَمْتَدُّ المرحلة الأولى تـقريبا من سنة 1945 (نهاية «الحرب العالمية الثانية») إلى سنة 2003. وهذه السنة الأخيرة (2003) هي السنة المِفْصَلِيَة بين المرحلتين. وهي السنة التي غَزَت فيها الإِمبريالية الأمريكية وَحُلَفَاءُهَا العِرَاقَ، وَخَرَّبَتْه بِمَنْهَجِيَة مُبَرْمَجَة، وَدَقِيقَة. وَتَمْتَدُّ المرحلة الثانية من سنة 2003 إلى اليوم (في سنة 2022).
وخلال المرحلة الأولى (1945 - 2003)، كانـت الأنظمة الجُمهورية تُهَيْمِنُ نِسْبِيًّا على بُلدان العالم العربي، بِوَاسِطَة قُوَّتِهَا السياسية، أو التَـعْبَوِيَة، أو العسكرية. وهذه الأنظمة الجُمْهُورِيَة هي خُصوصًا : مصر، العراق، سوريا، الجزائر، لِيبيا، اليمن، الخ. أمّا خلال الـمرحلة الثانية (التي تَمْتَدُّ تقريبًا من سنة 2003 إلى اليوم)، أصبحت الأنظمة المَلَكِيَّة والإِمَارَاتِيَة هي التي تُهَيْمِن على بُلدان العالم العربي، على الخُصُوص بِوَاسِطَة ثٍَرَوَاتِهَا النَـفْطِيَة، وَقُوَّتِهَا المَالِيَة. وهذه الأنظمة المَلَكِيَة وَالإِمَارَاتِيَة هي : السعودية، الإمارات، قطر، عُمان، الكويت، (الأردن، المغرب)، الخ. وفي المرحلة الثانية، غَدَت الأنظمة الجُمهورية (مثل : مصر، وسوريا، والعراق، ولبـنان، واليمن، والسودان، والصومال، الخ) غَارِقَة في حالات مِن الضُعْف، أو التَأَزُّم، أو التَخَلُّف، أو الاِنْحِطَاط. وكان غَزْو وَتَخْرِيب العراق في سنة 2003 هو المدخل الأساسي إلى إِضْعَاف مُجْمَل الأنظمة العربية الجُمْهُورِية، وإلى الـقضاء على مُنَاوَشَاتِهَا ضدّ الأنظمة المَلَكِيَة، وَعلى مُقاومتها لِلْإِمْبِرْيَالِيَة، وَلِلصَّهْيُونِيَة.
وخلال المرحلة الأولى، كانت الجُمهوريات في حالة هُجُوم، بينما المَلَكِيَات كانت في حالة دِفَاع. أمَّا خلال المرحلة الثانية، أصبحت الملكيات في حالة هُجُوم، بينما غَدَت الجُمهوريات في حالة دِفَاع.
وَفي مَجَال العلاقات بين الأنظمة الجُمْهُورِيَة، والأنظمة المَلَكِيَة والإِمَارَاتِية، دَاخِلَ العالم الناطق بالعربية، ظَلَّ يَسُودُ فيها تَسَابُق على الرِّيَادَة، أو القِيَّادة. وَيُوجد فيها تَنَافُسٌ حَادٌّ، وَصِرَاع شَرِس. وَلَوْ أن هذا الصِّرَاع ظَلَّ يَدُور في الخَفَاء.
وكيـف حدث التحوّل في ميزان الـقِوَى بين المَمْلَكَات والجُمهَوريات ؟ خلال المرحلة الأولى، المُتَمَيِّزَة بِهَيْمَنَة الأنظمة الجُمْهُورية، نَمَت حركات الكفاح الوطني ضدّ الاستـعمار. ثم جاءت مَوْجَة الطموح إلى الاستـقلال الوطني، وإلى التـنمية الاقتصادية، وإلى الديموقراطية، وإلى الاشتـراكية. وجاءت أيضًا الـقضية الـفلسطينية، وتصاعد النضال ضدّ الصهيونية، وضد الاستعمار، وضد التَبَعِيَة للإمبريالية.
وَلِاِنْـقَادِ مَصَالِحِهَا الأساسية، تَحَالَفَت الأنظمة المَلَكِيَة والإِمَارَاتِيَة مع الدُوَل المُسْتَعْمِرَة، ومع الإمبرياليات الغَرْبِيَة، وحتى مع الـقُوَّة الاستعمارية المَحَلِّيَة إسرائيل. وَلَا نَجِدُ عَبْر العالم ظَاهِرَة أُخْرَى مُمَاثِلَة لِظَاهِرَة قُدْرَة إِسرائيل على التَلَاعُب بِعُقُول حُكَّام الدول الناطقة بالعربية. وَقَد سَاهَمَت الأَنْظمة المَلَكِيَّة والإِمَارَاتِيَة، سواءً بشكل مُبَاشِر أم غير مُبَاشِر، وَسَوَاءً في فَتْرَة تاريخية أم أُخْرَى، في خَوْض مُنَاوَرَات سِرِّيَة، بِهَدَف إِضْعَاف، أو تَأْزِيم، أو تَخْرِيب، عدّة جُمْهُورِيَّات، مثل العراق، وسوريا، ومصر، وليبيا، واليمن، والسودان، والصومال، وبدرجة أقل الجزائر، وتونس، الخ. وقد يكون العكس صحيح أيضًا بالنسبة لبعض الجُمهوريات.
وَقَد تَحَايَلَت الإمبرياليات الغربية، والصهيونية، على مَصْر، بِاعْتِبَارها كانت طَلِيعَة مُتـقدمة في العالم العربي. وعملت الإمبرياليات الغربية وإسرائيل بِهَدَف تَحْرِيـفِ مَصْر عن نَزْعَتِهَا الوَطَنِيَة، والتَقَدُّمِيَة. وَعَمِلَت القِوَى الأمبريالية الخَفِيَة على إِخْرَاج مَصْر مِن مُقَاوَمَتِهَا لِلإمبريالية وَلِلصهيونية. وَكُلُّ أَلْوِيَة الجيش (généraux) المَصْرِي الذين خَلَفُوا جمال عبد الناصر سَـقَطُوا في مَصَائِد الإِمْبِرْيَالِيَة والصَهْيُونِيَة. وَكان من السّهل على الإمبرياليات أن تَتَلَاعَب بِقِيَّادة الجيش المَصْرِي الذي كان يَحْكُم البلاد. وَكانـت (وما زالت) قـيادة الجيش في مَصْر مُتَخَلِّـفَة على مُجمل المُسْتَوَيَات السياسية، والاستراتيجية. وَتَحَوَّلَ الجيش المَصْري إلى شِبْه حِزْب سياسي مُحَافِظ، وَيَمِينِي، وَرَأْسَمَالِي، وَاسْتِبْدَادِي، وَرَدِيء، وَفَاسِد. يَتَهَافَتُ على السياسة، وَلَا يُدْرِكُ شَيْئًا في قضايا الدفاع الوطني. وذلك هو ما كانت تُريده الإمبريالية وإسرائيل. ومنذ أن دخلت مَصْر في مُهَادَنَة الإمبريالية والصهيونية، سَقَطَت مَصْر في صَيْرُورَة من السَّذَاجَة، والتخلّف، والانحطاط، على جميع الأصعدة (السياسية، والاقتصادية، والثـقافية). [وَنُلَاحِظ، على عكس ذلك، أن إِيٍرَان اِتَّبَعَت خَطَّ مُقَاوَمَة الإِمْبِرْيَالِيَة والصَهْيُونِيَة، فَتَصَاعَدَت تَنْمِيَتُهَا]. بل غَدَت مَصْر، في المرحلة الثانية، لُعْبَة سَهلة بين أيدي السعودية، والإمارات، وقطر. وكانت الأَدَاة المُستعملة من طرف المَمْلَكَات والإِمَارَات في مَجال تَرْوِيض بعض الجُمهوريات هي خُصُوصًا الإِغْرَاءَات المَالِيَة.
وخلال سنوات 1970، ثم سنوات 1980، قَمَعَت المَلَكِيَّات، وكذلك الجُمْهُورِيَات، القِوَى اليَسَارِيَة النَاشِئَة. فَقَضَت عليها بِالكَامِل. وفي سنوات 2000، ثم في سنوات 2011، أَنْشَأَت، وَمَوَّلَت، وَدَعَّمَت، وَسَلَّحَت، الأنظمةُ المَلَكِيَة والإِمَارَاتِيَة تَنْظِيمَات إِسْلَامِيَة أُصُولِيَة. وَكانت هذه التنظيمات الإسلامية، في نفس الوقت، تُمَوَّلُ، وَتُوَجَّهُ، مِن طرف الإمبريالية الأمريكية (المخابرات، والأجهزة الخاصة). وَخَاضَت المَلَكِيَّات حربًا غير مُباشرة ضِدَّ الجُمْهُورِيَات، بواسطة هذه التنظيمات الإسلامية (مثلًا في سوريا، والعراق، وليبيا). وفي بعض البلدان الناطقة بالعربية، مثل مَصْر، وَتُونُس، اِسْتَـفَادَت هذه التنظيمات الإسلامية الأصولية من الأوضاع المُوَاتِيَة، وَوَصَلَت إلى السلطة السياسية. أما في سوريا، وليبيا، وبدرجة أقل في العراق، فقد كانت التنظيمات الإسلامية المُسَلَّحَة هي الأَدَاةُ المُنَـفِّـذَة لِبَرْنَامَج التَخْرِيب الشَامِل لهذه البلدان الجُمْهُورِيَة. وبعد عِقْدٍ أو عِقْدَيْن مِن تجريب نُصْرَة الحركات الإسلامية الأُصُولِيَة، اِكْتَشَفَت، أو اسْتَوْعَبَت، الجماهير الشعبية العريضة أن الأشخاص المُكَوِّنِين لهذه الحركات الإسلامية الأُصُولية، هُم يَمِينِيِّين، وَرَأْسَمَالِيِّين، وانْتِهَازِيِّين، وَلَا يَتَوَفَّرُون على مَبَادِئ، وَلَا على نَزَاهَة، وَلَا على بَرْنَامج اقتصادي، وَلَا على مشروع مُجتمعي. وَاَنَّهُم يَسْقُطُون بِسُهُولَة في العَمَالَة لِلإِمْبِرْيَالِيَّات الغربية. ولا يُمكن التَعْوِيل على الحركات الإسلامية. بَلْ هُي خَطَر على المجتمع. لكن سقوط الإسلاميّين لَمْ يُصَاحِبْهُ أُفُول المَلَكِيَّات.
وإذا قُمْنَا بِمُقَارَنَة تاريخية سريعة بين الأنظمة الجُمْهُورِيَة، والأنظمة المَلَكِيَة أو الإِمَارَاتِيَة، نُلَاحِظُ على العُمُوم، وَلَوْ بِقَدْر مِن التَلْخِيص وَالتَبْسِيط، أن الأنظمة الجُمْهُورِيَة كانت نِسْبِيًّا أكثر حَيَوِيَّةً، وَإِبْدَاعًا، وَتَقَدُّمِيَةً، وَمُرُونَةً، وَإِنْتَاجِيَةً، وأَكْثَرُ تَجَاوُبًا مع مصالح الشعوب. بينما ظَلَّت الأنظمة المَلَكِيَة والإماراتية وِرَاثِيَة، وَمُحَافِظَة، وَأَنَانِيَة، وَرَافِضَة لِلتَغْيِير، وَلِلتَـقَدُّمِيَة، وَلِلتـَنْمِيَة، وَلِلدِيمُوقراطية. كما كانـت الأنظمة المَلَكِيَة مُتَسَاهِلَة أكثر في مجال اِسْتِبَاحَة اِسْتِغْلَال أَوْطَانِهَا مِن طَرَف الـقِوَى الأَجْنَبِيَّة. وكانـت دائمًا الأنظمة المَلَكِيَة والإِمَارَاتِيَة مَيَّالَة لِلْعَمَالَة مع الاستـعمار، ومع الإمبريالية، ومع الصَهْيُونِيَة.
وحتّى إِنْ كانـت مُعْظَمُ الأنظمة الجُمهوريّة العربية تَتَّسِمُ بِالاستبداد، والـقمع، والتَحَايُل، والتِّيه، والغَطْرَسَة، والتناقض، والارتباك، فَقَدْ كان مُعْظَمُهَا (وليس كُلُّهَا) يَـتَلَافَى بعض الخُطُوط الحُمْر. وَمِنْهَا بِالضَّبْط أنها كانـت تَرْفُض التَحَوُّلَ إلى وَكِيل في خِدْمَة الإمبريالية. بينما الأنظمة المَلَكِيَة العربية كانـت مَهْوُوسَة بشيء واحد وَحِيد، هو دَوَامُهَا. وكانـت بشكل عام، سَوَاءً في العَلَن أم في السِرّ، عَمِيلَة لِلإِمبريالية، وذلك بِهَدَف ضَمَان اِسْتِمْرَارِيَتِهَا. وَمَثَلًا، حِينما أراد الرئيس الأمريكي دُونَالْد اتْرَامْب (Donald Trump) اِنْتِزَاع مِئات المَلَايِير من الدُّولَارَات الأمريكية من السعودية، قال عَلَانِيَّةً (ما معناه) : «بِدُون حِماية أمريكا، لَا يُمكن لِلْمَمْلَكَة السعودية أن تستمرّ خلال خمسة عشر يومًا». وما يَصْدُقُ على السعودية، يَصْدُقُ أكثر على المَمْلَكَات والإِمَارَات الأخرى. وَرَغْم كل مَا تُنْـفِـقُه في مَجال التَسَلُّح، تُعَانِي مِن مثل هذه الهَشَاشَة المُعْلَنَة مُجمل المَمْلَكَات والإِمَارَات العربية.
وظلّت الأنظمة المَلَكِيَة والإماراتية العربية تُحِسُّ أن شَرْعِيَّتَهَا السياسية ضَعِيفَة، وأنها غير مُلَائِمَة لِلعَصْر، وأنها لا تـقدر على خِدْمَة مصالح شعوبها، سِوَى عَبْر تَوْزِيع اِمْتِيَازت الرِّيع على بعض فِئَات السُكَّان المُقَرَّبِين مِن السلطة السياسية. وبعض المَلَكِيَّات أو الإمَارَات العربية هي مُجَرّد حُرَّاس آبَار نَفْط، أو حُرَّاس مَنَاجِم، أو غيرها مِن الثَرَوَات الوطنية. بل كانـت الأنظمة المَلَكِيَة والإماراتية تَشْعُرُ أن الاِسْتـرَاتِيجِيَّات المطلوبة مِن طرف شُعُوبها في مَجَالَات تَشْيِيد الدِيمُوقراطية، والتـنمية المُجتمعية، قد تَنْـقَلِبُ ضِدَّهَا، وَتُهَيِّئَ شُرُوطَ زَوَالِهَا. فَتَخْتَار هذه المَلَكِيَّات والإِمَارَات أن تَبْـقَى مُحَافِظَة، وأن تَكْتَـفِـيَ بِتَدْبِير الشُؤُون اليَومِية المُعْتَادَة، دُون طُمُوحَات، ولا تَخْطِيط، وَلا مَشَارِيع، ولا اِسْتِثْمَارَات. وَقَد أَدْرَكَت هذه الأنظمة المَلَكِيَة والإِمَارَاتِيَة أنها، مَهْمَا فَعَلَت، تَبْـقَى أَنَانِيَة، وَمُهَدَّدَة بالسُّـقُوط.
وبعد تلك السنة (2003) المِفْصَلِيَة بين المرحلتين، تَصَاعَدت أدوار الأنظمة المَلَكِيَة والإماراتية، وَتَهَاوَت أَدْوَار الأنظمة الجُمْهُورِيَة. وسنة 2003 هي السنة التي غَزَت فيها الإِمبريالية الأمريكية وَحُلَفَاءُهَا العِرَاق، وَخَرَّبَتْه بِمَنْهَجِيَة مَدْرُوسَة، وَمُبٍَرْمَجَة، وَكَلَبِيَّة. وَقَتَلَت أمريكا وَحُلَفَاؤُهَا عددًا مِن العِرَاقِيِّين غير معروف بدقة، قَدْ يَتَرَاوَح، حسب الدراسات، بين مِئَات الآلاف وأكثر مِن مليون قتيل، بين سنتي 2003 وَ 2011. وكان الهدف المُعْلَن، وَبِوَقَاحَة، من طَرَف الغُزَاة الأمريكان والصهاينة (مثلًا على لِسَان الرئيس الأمريكي جُورْجْ بُوشْ الإِبن) هو «إِرْجَاع العراق إلى العَهْد الحَجَرِي». وَزَرَعَت الإمبريالية الأمريكية في العراق الطَائِفِيَة، وأَرْجَعَتْهُ إلى الوَرَاء بِقُرَابَة 70 سنة. وَبَعد اِغْتِيَّال الرئيس العراقي صَدَّام حُسَيْن، وَبعد مُلَاحَقَة وَإِبَادَة العُلَمَاء العراقيّين، وَبَعْد قَتْل أَفْرَاد الطبقة السياسية العراقـية القديمة، مَنَحَت أمريكا السلطة السياسية في العراق إلى مَجموعات مِن العِرَاقِيِّين الْاِنْتِهَازِيِّين، وَالخَوَنَة، والعُمَلَاء، والمُرْتَزِقَة. وفي داخل الجيش الأمريكي الذي غَزَى وَخَرَّبَ العراق، شَارَك ضُبَّاط وجُنود إسرائيليّين بِبَدْلَات أمريكية، وَبِأَسْلِحَة أمريكية، وَقَامُوا بِأَدْوَار فَعَّالَة في غَزْو العراق وَتَخْرِيبِه. ومن بعد، ضَغَطَت الإمبريالية الأمريكية على المَمْلَكَات والإِمَارَات العربية لكي تُؤَدِّيَ كُلْفَة هذه الحرب («حرب الدَّمَار الشَّامِل») التي خَرَّبَت العراق.
وحتى السلطة السياسية في المملكة المغربية، لم تَجِد مِن حَلٍّ لِتَحْيِيد الدّور المُفْتَرَض لِلجُمْهُورية الجزائرية في قَضِيَة الصحراء الغربية، سِوَى الاِرْتِمَاء التَامّ في أحضان الإمبريالية الأمريكية، وَصَنِيعَتِهَا إسرائيل. كأن أمريكا وإسرائيل هما الْلَّتَان تَمْتَلِكَان سُلْطَة القانون الدولي لِمَنْح شَهَادَة تَمَلُّك الصحراء الغربية من طرف دولة المغرب. وقد وَصَفَ كثيرون هذه العلاقة بين المغرب وأمريكا بِكَوْنِهَا «تَحَالُفًا». وهذا خطأ. حيث يُفْتَرِضُ في «التحالـف» وُجُود تَوَازُن بين العُنْصُرَيْن المُتَحَالِفيْن. بينما مَمْلَكَة المغرب هي مُجَرَّد تَابِع خَاضِع لأمريكا ولإسرائيل.
وَمِن الغريب أن عَلَاقات كثير مِن المَمْلَكَات والجُمْهُورِيَّات العربية بِأمريكا، وَبِإِسْرَائِيل، تَتَمَيَّزُ بِسَذَاجَة سياسية لَا تُصَدَّق. فَكَمْ مِن مَرَّة، وَكَمْ مِن سَنوات، وَكَمْ مِن قُرُون، يَنْبَغِي أن يُخَادِعَ الأمريكان والإسرائيليّون المَمْلَكَات والجُمْهُورِيَّات العربية لِكَي تَتَخَلَّصَ هذه الأخيرة من سَذَاجَتِهَا السياسية ؟
وتجارب جُمْهُورِيَّات، مثل مَصْر، وسوريا، والعراق، والسودان، والجزائر، وموريطانيا، التي تَحْكُمُهَا قِيَّادة الجيش، كُلّها تُؤَكِّد الدَّرْسَ التالي : كل جَيْش يَتَحَوَّلَ إلى حزب سياسي يَحْكُِمُ البِلَاد، سواء بانـقلاب أم بانتخابات، يُصْبِحُ حَتْمًا رَدِيئًا، وَمُتَخَلِّـفًا، على كِلَا المُسْتَوَيَيْن السياسي، والعسكري. وَكُلّ الجيوش العربية التي اِسْتَوْلَت على السُلْطَة السياسية، أَغْرَقَت بِلَادَهَا في الاستبداد، والفساد، وَالتَخَلُّف، أو الانحطاط، مثلما حدث في مَصْر، وسوريا، والعراق، والسودان، والصومال، والجزائر، وموريطانيا. لأن العَسَاكِر يَزْعُمُون أن المَدَنِيِّين غير قَادِرِين على تَسْيِير البلاد. وَلأن العَسَاكِر غير أَكْفَاء في ميادين السياسية، والاقتصاد، والمُجْتَمَعِيَّات. ولأن مهمّة الجيش هي فـقط الدفاع الوطني، وليس خَوْض السياسية. ولا يَـفْـقَـهُ العساكرُ شيئًا في ميدان العُلوم السياسية. وَلَوْلَا استـغلال العلاقات المِهَنِيَّة العسكرية، وَسُلْطَة إِصْدَار الأوامر عبر رُتَب الهَرَم العسكري، لما استطاعت العساكر الوُصُول إلى السلطة السياسية. وَكُلَّمَا كان الجيش هو القُوَّة الوَحِيدَة في المُجتمع التي تَحْتَكِرُ التَنْظِيم (أي في حالة غِيَّاب أحزاب مَدَنِيَة سياسية جماهيرية، قَوِيَّة، وتَـقَدُّمِيَة، أو ثَوْرِيَة)، يُصْبِحُ مِن السَّهْل على قِيَّادة الجيش أن تَسْتَوْلِيَ على السلطة السياسية، وأن تَحْتَكِرَهَا. وتَعيش الأنظمة الجمهورية التي تَحْكُمُهَا قِيَّادة الجيش، من انـقلاب إلى آخر. وَكُلَّمَا حَوَّلَ الضُبَّاطُ الجيشَ إلى حزب سياسي سِرِّي يَحْكُمُ البلادَ، فَإِنَّهُم سَيُسِيئُون إلى وَطَنِهِم، وإلى أنفسهم. وَسَيَغْرَقُون حَتْمًا في الاستبداد، والفَسَاد، والرَّدَاءة، والتَخَلُّف.
وهكذا أصبحت الأنظمة المَلَكِيَة والإِمَارَاتِيَة العربية، خلال المرحلة التاريخية الثانية (من 2003 إلى اليوم)، هي التي تُهَيْمِن على العالم العربي، وهي التي تُوَجِّهُ مَصِيرَهُ. فهي التي تَحْظَى بِالأَوْلَوِيَة في العَلَاقَات بِالدول الإِمْبِرْيَالِيَة القوية. وهي التي تتسامح مع رؤساء الجمهوريات العربية إن كانوا خاضعين لِاِخْتِيَارَاتِهَا، أو تُطِيحُ بِهِم في حالة غَضَبِهَا على تَوَجُّهَاتِهِم الجَذْرِيَة، أو الثورية.
وهكذا، خلال المرحلة الأُولى، كانـت مثلًا مصر، وسوريا، والعراق، هم الذين يُحَدِّدُون الخُطُوط الحَمْراء التي لَا يَجُوز للسعودية، أو الإمارات، أو قَطر، أن يَتَجاوَزُوهَا، بينما خلال المرحلة الثانية، أَصْبَحت السعودية، والإمارات، وقطر، هم الذين يُحَدِّدُون الخُطُوط الحَمْراء التي لا يحق لِلعراق، أو مصر، أو سوريا، أو لُبـنان، أن يَتَخَطَّوْنَهَا.
فَنَحْنُ اليومَ هُنَا إذن، خلال المرحلة الثانية. وَيُوجَدُ فيها نَوْعٌ مِن «التَحَالُف» (غير المُتَوَازِن)، أو في حالة مِن «التَوَاطُؤ» الاستراتيجي الصَرِيح، الذي يَجْمَع المَمْلَكَات والإِمَارَات العربية، والإِمْبِرْيَالِيَّات الغَرْبِيَة، وإِسرائيل. وهذا «التَحالـف» هو مُوَجَّه ضِدَّ الشعوب الناطقة بالعربية، مِن المُحيط إلى الخليج، (بما فيها الشعب الفلسطيني المَقْهُور)، التي قد تَطْمَح إلى التَغْيِير، أو الديموقراطية، أو التَحَرُّر، أو الاشتراكية.
وَمعنى ذلك أن مَصِير مُعْظَم الشعوب الناطقة بالعربية، أصبح اليومَ خَاضِعًا، إلى حَدٍّ كبير، إلى مَا تُرِيدُه المَمْلَكَات والإِمَارَات العربية، وما تُرِيدُه الإمبرياليات الغربية وإسرائيل. ولِلخُروج من هذا الوضع العربي المُتَّسِم بِالاستبداد، والـقمع، وإرهاب الدولة، والـفساد، وَالنَّهْب، والتَبَـعِيَة، والعَمَالَة، تَحْتَاج الجماهير الشعبية إلى وُجود جُمْهُورِيَة (عربية) ثورية، أو جذرية، وَنَاجِحَة، لِـإِِلْهَامِ مَشَاعِرِها وَطُمُوحَاتِها (مثلما كان في عهد جمال عبد النَاصَر، أو هُوَّارِي بُومَدْيَنْ، الخ). لكن هذا النوع من الجُمْهُورِيَّات غير موجود اليوم. بِاسْتِثْنَاء فَاعِل من صِنْف جديد، هو جُمْهُورِيَة إِرَان الشِيعِيَة، التي لَا يَكُفُّ نَجْمُهَا عن الصُّعُود، منذ ثورة الإِكْلِيرُوس الشِيعِي في سنة 1979. وذلك بِفَضْل سياساتها المُتَّسِمَة بِالنَزْعَة الوَطَنِيَة، وَصِيَّانَة الاِسْتِـقْلَال الوَطَنِي، والعَـقْلَانِيَة، والمجهودات المُتَوَالِيَة في ميادين التـعليم العُمومي، والصِحَّة، والعلوم، والتِكْنُولُوجِيَّات، والجُرْأة على مُقَاوَمَة الإمبرياليات الغربية، وحليـفتها إسرائيل. وقد تُسَاهِمُ إِيرَان، في المستقبل القريب، ورغم بعض أخطائها أو عُيُوبِهَا، في خَلْق تَطَوُّرَات جديدة، وجذرية، في العالم الإسلامي أو العربي. لكن هذا مدخل لِمَوْضُوع آخر، مُعَـقَّد، وَصَعْب التَـنَـبُّـؤ.
رحمان النوضة (29 يونيو 2022).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حكومات العرب
على سالم ( 2022 / 7 / 2 - 04:22 )
الانظمه الملكيه العفنه فى الدول العروبيه انظمه فاسده سارقه واستبداديه مجرمه , هذه الانظمه الديكتاتوريه الظالمه يجب الثوره ضدها واسقاطها بل ويجب القبض على الملك الزنديق الشرير وتقديمه الى القضاء العادل لكى يقتص منه هو وبطانته واصدقاءه اللصوص الفجره لكى يتم عقابهم اشد العقاب نظير جرائمهم وسرقاتهم وفسادتهم فى حق شعوبهم المغلوبه على امرها , ملك المغرب يأتى على اول القائمه يليه ملك السعوديه الفاسد وملك الاردن والبحرين , كلهم لصوص زنادقه

اخر الافلام

.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري


.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا




.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.


.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي




.. صباح العربية | الثلاثاء 16 أبريل 2024