الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القبر المنسي في أنقرة

سعد محمد موسى

2022 / 7 / 2
الادب والفن


على سفح هضبة (خضرلك) المتاخمة لقلعة (أنقرة) كان يلوح هناك شاهد قبر وحيد يعتليه قوس حجري، وتحت ثراه كان يرقد شاعر العرب العظيم (أمرؤ القيس) الذي وافته المنية أثناء عودته من مدينة القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية قاصداً دياره نحو مملكة كندة عام 540 ميلادي، وقد نقش على أحد الصخور المحيطة بالقبر بيت شعره الشهير:
"قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسقط اللوى بين الدخولِ فحوملِ"
وقبل زوال الشمس، حلق سرب القطا وطاف حول أطلال القبر وكأن تلك الطيور المهاجرة تعرف بأن هذا الشاعر المبتلى بالترحال سبق وأن ذكرها في بعض ٍ من أبيات شعره .. ثم أفل السرب جنوباً قاصداً مدينة (قونية) حيث مقام مولانا الشاعر جلال الدين الرومي!!
في ليلة الفجيعة والبلاء وبعد حياة الترف الباذخة والمفعمة بالشهوات وليالي الطرب والمجون تغيرت حياة الشاعر تمامأ لدى سماعه خبر اغتيال والده (حُجر بن الحارث) ملك قبيلة كندة.. فأنشد قوله المأثور أثناء مجالسته لرفاق الخمرة والطرب في آخر ليلة سمر " رحم الله أبي، ضيعني صغيراً، وحملني دمه كبيراً .. لا صحو اليوم ولا سُكرَ غداً.. اليوم خمر وغداً أمر "
بعد أن ودع حياة الصعلكة وغواني الليل والخمرة والشعر الماجن في (حضرموت)، تأهب الى أيام الحرب وتحشيد القبائل العربية المناصرة لأخذ ثآرات أبيه ومحاولة إسترداد الملك وأعادة هيبة مقام مملكة كندة من قبيلة بني أسد، فساندته بعض القبائل العربية التي كانت منضوية تحت سيادة مملكة كندة بينما تخلت عنه قبائل عربية أخرى لا سيما أن القبائل حينها كانت موزعة الولاءات ما بين أعظم قوتين متنافستين حينذاك وهما الفرس والروم.
ثم اِستمع امرؤ القيس "الملك الذي لم يتوج" الى نصيحة الغساسنة بالذهاب الى القسطنطينية وطلب مؤازرة ونصرة الإمبراطور (جستينيان الأول) قيصر الروم لنيل مسعاه في إسترجاع الحق المغتصب وتنصيبه ملكاً على كندة، فأنشد قصيدة وادناه مستهلها قبل بدء الرحلة الشاقة والمغامرة الخطيرة:
بَكى صاحِبي لَمّا رَأى الدَربَ دونَنا
وَأَيقَنَ أَنّا لاحِقانَ بِقَيصَرا
فَقُلتُ لَهُ لا تَبكِ عَينَكَ إِنَّما
نُحاوِلُ مُلكاً أَو نَموتُ فَنُعذَرا
وقد اختلفت الحكايات والتأويلات في أسباب عدم إيفاء الامبراطور بوعده الى أمرؤ القيس أو تبديل رأيه في إرسال جيش للقضاء على قبيلة بني أسد بعد أن آمنه وأكرمه ووعده بمبتغاه، وهنالك الرأي السائد وهو الاقرب للحقيقية يشير الى أن قبيلة بني أسد أرسلت مبعوثاً ذو دهاء الى ملك الروم لحثه وتحذيره من مساعدة أمرؤ القيس في تنصيبه ملكاً على كندة بعدة مقتل أبيه، لان الإبن سوف يؤلب القبائل في الجزيرة العربية ضد الدولة البيزنطية.
فرجع الشاعر "الملك الضليل" خائباً وأثناء عودته آلمّ به مرض الجدري فتوفي في أنقرة وأقيم له قبراً على هضبة خضرلك هناك ويقال لها أيضاً هضبة الخضر أو تيمورلنك.
لم أكن أعلم بأن لشاعر العرب العظيم يوجد له قبر في أنقرة إلا قبل بضعة أشهر رغم أني كنت مقيم في تركيا منذ عام ونصف، وقد صرح رئيس اتحاد أوراسيا في أنقرة وأشار الى ضرورة وأهمية ترميم القبر وتوسيع معالمه وإنشاء حدائق تحيط بالضريح، وأطلاق دعوات للشعراء والأدباء العرب لكي يكون لمقام شاعرهم الأعظم معلم ومزار معرفي وسياحي.
أكثر ما استوقفني في رحلة أمرؤ القيس وأنا أتخيل محطات حياته الكثيرة ومغامراته هي الليلة ما قبل الأخيرة في تلك الهضبة حين مرّ على قبرٍ دل شاهده انه يعود الى امرأة عربية مدفونة هناك فرثاها وكأنه كان يشعر بدنو منيته ومن غرائب الصدف أن يموت في الليلة التي تليها ويدفن بمحاذات قبرها :
"أجارتنا ان الخطوب تنوب
واني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا أنا غريبان هاهنا
وكل غريب للغريب نسيب
فإن تصلينا فالقرابة بيننا
وإن تصرمينا فالغريب غريب
أجارتنا ما فات ليس يؤوب
وما هو آت في الزمان قريب
وليس غريبا من تناءت دياره
ولكن من وارى التراب غريب"
أما ليلة الشاعر الأخيرة والموحشة فكان حينها وحيداً بعد أن تخلى عنه حتى رفيقه الذي صاحبه من ديار كندة والذي عاتبه فيما بعد تذمره من الرحلة الفاشلة الى القسطنطينية .. فكان يتوسد صخرة بجسده العليل الذي لم يسعفه بأكمال الرحلة ويقينه بأن لحده سوف لم يكن بين ديار الاهل ومرابع طفولته في (نجد) وأن الدرب بعيد وموحش والموت سوف لن يمهله فحلت الأقدار والمنية في ديار الغرباء.. فرثى لحاله وهو يناجي السماء حين أورثته الدنيا بعد مقتل أبيه كل هذا التأريخ المزدحم بالشقاء ولعنة البلاء والضياع :
"وليل كموج البحر أرخى سدولهُ عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و