الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدينة روائى رحّال

شريف حتاتة

2022 / 7 / 4
الادب والفن


مدينة روائي رحّال
-----------------------------------
أكتب هذه الشهادة وأنا جالس على شاطئ جزيـرة "بيكس" عند الساحل الشمالي الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية. عندما أرفع رأسي عن الورق أري ميـاه المحيط الأطلسي ممتدا حتى الأفق، أزرق عميـق، أو فضي البريق تحت الشمس الصاعدة.
تفصلني عن مدينتي "القاهرة" آلاف الأميال، فأنا هكذا، روائي رحّال، قريب من مدينتي أحيانا، غريـب عنها، مقهور منها عادة. ولدت في "لندن" وقضـيت فيها جزءا من طفولتي. جئت إلى "القاهرة" لأقيم فـي بيت جدي، "دوّار" كبير في حي "الزمالك" أمام "تـادي الجزيرة"، فيه حظيرة للخيول، وبناء يأوي "الكاريتـة" وآخر للحنطور". جيراننا كانوا من الإقطاعيين مثـل جدي، أسرة الطف الله"، أسرة قبطيـة مـن أقاصـي الصعيد ، يمتد قصرها وملحقاته من نادي "الجزيرة" حتى كوبري "أبي العلاء" القديم، أو مثـل الأميـر "عمـرو إبراهيم"، أو غيره من الأمراء.
كانت قاهرتي إذ ذاك هـي هـذا الـحـي، فيـه حديقة " الأندلس"، وخط مفرد للترام رقم 7 ، يصل حتى النـادي لينقـل السفرجية، والعاملين، والحديقة الكبيرة المحيطة بالـدوّار والخيول، وسائق الحنطور الأحول "عم حسين"، وجدتي " عيشة بركات" التى علمتني أولي كلماتي العربية أنطقها بلكنة إنجليزية ، وكوبري قصر النيل يحرسه الأسـدان، وتجتـازه الكاريتـات والحناطير، وسبعة ملايين من سكان المدينة ، لا علاقة لي بهم، ولا أعرف عنهم شيئا.
رحلت إلى روما" مع أسرتي لمدة سنتين، لما عدت دخلت مدرسة إرسالية إنجليزية . كان التلاميذوالتلميذات فيها ينتمون في أغلب الأحوال إلى الأقليات الأجنبية، يونانيون، إيطاليون ، أرمن، یهود، روس "أبيض" . لم يكن فيها سوى عدد قليل مـن المصريين، والسوريين، واللبنانيين، عندئذ اتسعت قاهرتي ، لتشمل "الفجالة" ثم "القبة" .
وبعد أن انتقلت المدرسة إلى مبانيهـا الجديدة، وخط "مترو" "مصر الجديدة" الذى ينتهي عنـد تقاطع شارع عماد الدين" (محمد فريد) وفـؤاد الأول (٢٦ يوليـو) . ظلت القاهرة بالنسبة إلىّ هي حي الزمالك"، وأماكن أخـرى محدودة ألقي عليها نظرة خاطفة وأنا سائر في الطريق، وعدد قليل من الناس كنت أتحدث معهم باللغة الإنجليزية.
عندما التحقت بكلية الطب لم يتغير هذا النمط كثيـرا. علاقاتي ظلت محصورة في عدد محدود من الطلبة الموسرين نسبيا، وظلت لغني هي الإنجليزية ، لأن الدراسة في الكلية كانت بهذه اللغة، كما أن نظام الكلية كان تجسيدا لنوع من "الإقطـاع الطبي"، يسيطر عليه كبار الأساتذة تميـز أغلـبـهم بالغرور العلمي، وبظنهم أن إذلال صغار الأطباء المقيمين، والمرضـي الفقراء ، جزء لا يتجزأ من التعليم الطبي الأمثل، المنفصل عن المجتمع، ومشاكله، بما فيها مشاكله الصحية، وجزء لا يتجزأ من وسائلهم في الحفاظ على امتيازاتهم، ومكاسبهم، ومكانتهم في السلم الاجتماعي.
طوال هذه المراحل لم تخرج "المدينة" في حياتي عن هذا النطاق الضيق ، إلا في الإحساس الذي تملكني بأنه خارج هـذا النطاق ، لابد أنه توجد حياة أوسع من تلك التي كنت أعيشـها، وفي نوع من البحث عن معناها يدفعني إلى اختراقه. جـاءني هذا القلق الوجودي من قراءاتي بالإنجليزية، والفرنسية، وعلى الأخص قراءة الروايات الكلاسيكية، والمعاصرة، ومن الاستماع إلى الموسيقي.
هكذا في تكويني كإنسان ثـم كروائـي ، لـعـبـت الثقافة "الأجنبية" دورا في سعيي إلى استكشاف "المدينة" خارج الأسوار التي كانت تحاصرني. يضاف إلـى ذلـك إحساسـي "بالعزلة"، والحزن الذي كنت أعانيه بسـبب بعـض الظـروف الأسرية.
في نهاية الحرب العالمية الثانيـة تصاعدت موجـات النضال ضد الاستعمار، والحكام المتعاونين معه فانجذبت إليه، وأصبحت مشاركا نشطا في تحركات الطلبة، والعمال، والفئات الشعبية الأخري التي تجسدت في إضرابات، ومظاهرات انضم إليها مئات الآلاف من سكان "القاهرة" وغيرها من المدن. وبعد مرور سنة تقريبا أصبحت عضوا في منظمـة يسـاريـة كـان إسمها حدتو "الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني". ترتبت على ذلك تطورات سريعة، وهامة بالنسبة إلىّ ، كسرت "العزلة" التي كانت تفصلني عن "المدينة"، عن أحيائها، وعن قطاعات من سكانها ما كان لي أن أختلط بهم من قبل. أصبحت أتحرك في أحيـاءمثل بولاق والسيدة زينـب، ومصر القديمـة، وشبرا و الزاوية الحمراء، و"قلعة الكبش"، وأختلط بسكانها. خطـوت خطواتي الأولي نحو مجتمع "المدينة". صـرت أتعـرف علـى خصائصه، وتياراته، وتضاريسه، وعلى جزء مـن تاريخـه وترددت على أماكن، وعلى معالم مختلفة في "المدينة". أدركت أهمية التخاطب، والتواصل مع النـاس فأخـذت أدرس اللغـة العربية، وأركز على الكتب التـي تتعلـق بالثقافة العربيـة وتاريخها. واقترن بكل ذلك تطور في طريقة تفكيري، منهج بدأ يربط بين السياسة، والاقتصاد، والاجتماع والثقافة. ثم قـادنـي الفكر الذي يسميه البعض فكرا " ماركسيا" إلى خطوات أخـري مرتبطة به، ولكنها متطورة عنه، تعالج بعض الثغرات الهامـة التي ظلت عالقة به.
في الوقت نفسه قادتني السياسة إلى السجن، وقـادنـي السجن إلى معرفة معمقة بـأجهزة القمـع، والقهـر. وهـذه الأجهزة بأساليبها العقابية، والتعذيبية، والنفسية، والفكريـة ، تشكل جزءا لا يتجزأ من "مدينتي القاهرة"، أداة أساسية مـن أجهزة الحكم المركزة فيها، من حيـاة ناسـها، ومـن حيـاة القائمين على شئونها، وعلاقاتهم بالمدينة، والساكنين فيهـا . دون معرفتها، والاحتكاك بها، لا يمكن أن ندرك أو نفهم مـا يحدث في "المدينة"، لماذا هي هكذا، لماذا يفعـل النـاس مـا يفعلون، ولماذا يتصرفون بما يتصرفون. كما قادني السجن إلى "التعايش" مع فئات من "المدينة" تتسع باطراد ، هي الفئات التي نطلق عليها "المهمشين" أو نصفها "بالحثالة"، والتي أصبحت تشكل جزءا هاما، ومؤثرا في "المدينة".
لقد "خابرت" أجهزة القمع ومؤسساتها في "مـدينتي" القاهرة منذ أن حكم "فاروق"، ومنذ أن كان يطلق على سـجن مصر إسم تركي هو "قرة ميدان". الآن تم هدم هـذا السجن واحتلت مكانه حديقة.
لكن قد يتساءل بعض "نقادنا" المتصدرين المشهد النقدى ، ما علاقة كل هذا بموضوع "الرواية والمدينة"؟ . أعتقد أنهم قد يوافقونني علـى أن علاقـة "الرواية بالمدينة" ، تتوقف على "زوايا" المدينة التـي يلتقطهـا الروائي، ويكتب عنها. وأن هذه "الزوايا" هي إلى حد كبيـر انعكاس لحياته فيها، وتجاربه معها، فالرواية يمكن أن توصف بأنها سيرة ذاتية " مقنعة" أو "مستترة"، ومن هنا ينبع الصـدق الكائن فيها، من هذا ينبع "الفن" ، لأن الروائي كلما أبتعـد عـن حياته انزلق إلى "التصنع"، إلى "الصـنعة" أي إلـى الافتعـال. وفيما يتعلق بي أنا أصبحت، مع مرور السنين، عاشقا للصدق الفني، كارها للافتعال، للزخرفة اللغوية التي تسعي إلى إخفـاء فقر الإحساس، أكره "بهلوانات " ا يكذبون، ويصنعون من الكتابة الروائية (أو الأدبية) كهنوتا ليصبحوا هم "كاردينـالات" الأدب. أكرهه في غيري، وأكرهه في نفسي ، اذا حاولت اللجوء اليه . لأنني عاجز عن النفاذ إلى القلب النابض للموضوع.
وتجربتي أنا "بالقاهرة" محدودة ببعض "الزوايـا" التـي عشتها، باحتكاكي بها، وبالتجارب التي خضـتها فيهـا. لكـن السؤال الذي طرحته على نفسي، وأنا اكتب هذه "الشهادة" هو: "ألا يتأثر فهمي لهذه "الزوايا" وتناولي لها "بالوعي"؟ ، ألا تتأثر طريقة الروائي في تناول المكان بقدرتـه علـى الـربـط بـيـن المظاهر، والمجالات، على التعمق فيما يكتبـه، علـى الجهـد المبذول للوصول إلى أغـوار هـذه "الزوايـا"، أو "الأمـاكن"، ورؤيتها في علاقاتها بما حولها، بما يؤثر فيها ويصنعها على النحو الذي أصبحت عليه.. على رؤية "المكان" فـي ارتباطـه بالزمن؟ . فالمكان ليس له وجود خارج الزمن ، بمعني آخـرهل المسألة تقتصر على وصف الأمكنـة، أم أن المهـم هـي الوظيفة التي يؤديها المكان، هي "الإضاءة"، والفهـم اللـذان يضيفهما "المكان" في الرواية؟.
فكثيرا ما أقرأ في الروايات التي تتم أحداثها في القاهرة تناولا " للمكان" لا يضيف إلىّ شيئا، مجرد تكرار "لزوايا" معينة تتغير فيها الأسماء، أو الأحداث . لكن تتركني دون معرفة جديدة للمكان، "للقاهرة"، دون إحساس أعمق بهـا.. فالتوسـع فـي التفاصيل، في "المسطح" يجب ألا يكون الهدف، ولكن أساسا هو مدي الحفر في الأعماق ، حتي لو كان هذا "المسطح" محدودا.
يُقال أن العين الغريبة تري أحيانا ما لا يراه أهـل البلـد . فعندما "ننغمس" في مكان واحد ، تفقدنا العادة ما كان يجب أن نتنبه له. المقارنة بين الأماكن، و"المدن" المختلفة ، تبرز الخصائص والظلال، تجعلها تتضح. وهي تساعدنا علـى أدراك نسـبية الأشياء التي نراها أمامنا، تضعها في حجمها الملائـم. لـذلك تأثرت رؤيتي للمكان، لمدينتي "القاهرة"، بترحـالي المسـتمر الذي يكاد لا ينقطع، أصبحت أراها في ضوء المدن الكثيرة التي عشت فيها. أصبحت أري ناسها، وأحياءها، ميزاتها، وعيوبها بعيون نظراتها هادئة، لم تعد محط اهتمامي الوحيد لا أخـرج عن نطاقها. فالعالم واسع، والبشرية أوسع، أدركت أن الإبداع ممكن في كل مكان، أنه بالنسبة إلىّ ليس مرتبطا بها وحـدها بحياتي في "القاهرة" فقط . أدركت أن العالم أصبح مترابطا أكثر من أي وقت مضي، وأن "القاهرة" نتاج للمحلـي، وللعـالمي، وليس للمحلي وحده، أو لنوع من العالمية الطاغية.
لذلك في روايتي تناولت علاقتها المتغيرة بهـذا العـالم. أقدر دور التاريخ، والتراث، لكن لا أريد أن أهرب فيهما مـن الواقع الذي نعيشه، تفاديا لاضطهاد محتمل. لا أريد أن أمجـد القاهرة باسم الوطنية، ولا أن أكتـب فـقـط عـن مقاهيهـا وحواريها، وأزقتها، ومواخيرها، ونسـائها اللاتـي يظهـرن كعوبهن من تحت أثوابهن، أو يهززن أردافهن برعشة موحية باسم شعبية مزيفة ، تمجد ما هو موجود ، كأنه تراثنـا الـذي لا يتبدل. أريد أن أراها متحركة، متطورة، متصارعة، متخاذلة، مرتبطة بعالم يموج بأخطر وربما أهم مراحل تاريخه. أريد أن أراها بعين العصر ، لأنها رغم كل شيء، ورغم الترحال ظلـت "مدينتي".
من كتاب " يوميات روائى رحّال " 2008
---------------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة