الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسلسل الاهمال .. الحلقة الألف .. غرق حدائق المعادى

محمد فُتوح

2022 / 7 / 4
الفساد الإداري والمالي


مسلسل الإهمال .. الحلقة الألف : غرق حدائق المعادى
-------------------------------------------------------------
فى ذلك المساء كنت على موعد انتظرته طويلاً .. ارتديت ملابسى .. استدعيت الأسانسير.. مسرعاً .. قطعت الخطوات القليلة ، التى تقودنى إلى سلالم العمارة حيث الشارع .. نظرت حولى فى كل الاتجاهات ، فلم أجد أرض الشارع !! لقد غمرتها المياه .. فلا يبدو منها إلا حواف يابسة بسيطة جنباته . خطوت بحذر محاولاً اجتياز هذه الحواف التى لم تطولها المياه بعد . ولكن فى أغلب المرات ، كانت محاولتى تبوء بالفشل . لست مِنْ الذين يستسلمون بسهولة . لكى أصل إلى الشارع الرئيسى ، اجتزت الشوارع الخلفية الضيقة ، التى اعتقدت أنها بعيدة عن أن تغمرها المياه ولكن دون جدوى .
الشوارع غارقة فى المياه ، حتى آخرها . لست أعيش فى إيطاليا ، فى ضاحية فينسيا ، حيث المياه تتحوط البيوت من كل اتجاه . ولست أعيش فى إندونيسيا أو باكستان أو تايلاند أو إحدى الدول الأسيوية ، أو الأمريكية ، التى تعبث بشوارعها الفيضانات ، وتغرقها السيول ، التى تداهم البشر ، والشجر ، والحجر.
لست أعيش فى هذه الأماكن . ولكننى أعيش فى مصر الآمنة ، التى لا تنكل أو تبطش بها الطبيعة ، بمثل هذه المخاطر ومنها السيول .. أعيش فى مصر ، وتحديداً فى حدائق المعادى . باءت كل محاولاتى بالفشل وقلة الحيلة . لقد غرقت حدائق المعادى فى بحر من المياه ، بيد من الإهمال والعشوائية فى العمل ، الذى على أثره كسرت إحدى مواسير المياه.
هان علىّ موعدى الذى انتظرته طويلاً ، أمام هرولة أصحاب المحلات التى تكتظ بالمنطقة. اقتحمت المياه على غرة ودون سابق إنذار ، المحلات التجارية ، وطالت المياه الأحذية والملابس وكل المعروضات . حاول كل أصحاب المحلات أن ينقذوا ما يمكن إنقاذه ، ولكنهم خسروا الكثير من بضائعهم بسبب اجتياح المياه المفاجىء .
لم تسلم الصيدليات من اجتياح المياه ، فأغرقتها وأتلفت الكثير من الأدوية المخزنة ، أو على الأرفف السفلية . والمشكلة التى زادت الطين بلة ، هى أن مستوى سطح الشارع ، قد انخفض إلى ما يقترب من متر تحت مستوى هذا السطح .
لقد خسرت أصحاب المحلات الآلاف من الجنيهات ، فمَنْ سيعوضهم عن هذه الخسائر ؟ . تسربت المياه من شدتها إلى القضبان والأرض التى يسير عليها مترو الأنفاق ، وشُلت حركة المترو لساعات طويلة . توقفت وأعيقت مصالح الناس ، وخاصة أن المترو فى هذه المنطقة ، هو من أكثر وسائل المواصلات حيوية . وإذا توقف لوقت حتى ولو قصير ، فسوف تشل وتتعطل معه مصالح الناس .
لقد أُزيل كشك التليفونات ، الذى يقع على بعد ثلاثة أمتار فقط من ماسورة المياه التى كسرت ، والذى على أثر إزالته ، قطعت كل خطوط التليفونات وهى كثيرة . ولا أحد يعرف ، متى ستعود هذه الخطوط إلى العمل . لقد قطعته المياه أيضاً والأهالى تراهم تائهين ، حائرين ، يحملون الأوانى بغرض ملئها المياه ، من أى مكان قريب أو بعيد .
كان من الممكن أن تحدث كارثة ، لو أن أحد الأسلاك أو كابلات الكهرباء ، قد طالتها المياه وانفجرت بسبب المياه التى أغرقت المنطقة .
أين المسئول عن هذا الحى بالذات ؟ . فعلى مدى سنوات مرت ، كانت تحدث هذه المشكلة ، ويغرق الشارع . ويلجأ الأهالى إلى مواجهتها ، بالجهود الذاتية . والمسئولون إذا تدخلوا ، يلجأون إلى الحلول المؤقتة . ثم تعود المشكلة مرة أخرى . فلا يمر أسبوع واحد ، دون أن تنفجر إحدى مواسير المياه ، أو المجارى . إنها عادة يومية أن ترى الشوارع غارقة فى بحور من المياه .
إن الأعطال فى هذا الحى بالذات ، كأنها تتناوب فيها بينها ، أو تكاد تتنافس ، وتتسابق على الفوز بجائزة الخدمة الأكثر رداءة وعطلاً .
فمن انقطاع الكهرباء ، إلى ضعف وانقطاع المياه المتكرر ، إلى انفجار مواسير المجارى ، إلى السكتة الحرارية للتليفونات . إنه الإهمال الذى تغلغل فى كل جزئية من حياتنا ، إلى درجة أننا أصبحنا نتنفسه فى كل مكان .
فى مدارسنا ، فى جامعاتنا ، فى المستشفيات ، فى المواصلات ، فى الطرقات ، فى المصالح الحكومية وغير الحكومية ، لقد طال الإهمال حتى العقول .
لقد أدمنه الكثير من المسئولين فى مصر ، التى تعد محروسة ، بل مستباحة ، بأيادى مسئوليها ، ومهددة بالهلاك فى الأرواح والخسارة فى الأموال وانقطاع الأرزاق .
إن الأسباب التى تكمن وراء ظاهرة الإهمال ، تتمثل فى انتشار الفساد المالى والإدارى ، وإسناد المناصب القيادية إلى مسئولين تنقصهم الكفاءة والقدرة على الحسم . ومن ثم غياب العقلية التخطيطية ، المستقبلية والتنظيمية ، والتكاسل والتخاذل فى مراقبة ومتابعة ، ما يجد من مشكلات ، والتباطؤ فى حلها . فتتحول المشكلات الصغيرة ، التى يمكن احتواؤها ، إلى مشكلات كبيرة تنذر بالكوارث والمخاطر. ولا نغفل دور غزو الاسلام السلفى منذ سنوات وحتى الآن ، والذى يستنكر الاهتمام بالدنيا وأحوالها الزائلة الفانية ، والعمل فقط من أجل الآخرة ، وأن كل شئ سلبى يحدث ، سببه البعد عن الدين ، وهو عقاب من الله فى أشكال مختلفة على هذا البعد ، وبالتالى نحن نستحق كل المصائب التى تحدث لنا ، فهى فى الأول والآخر لا تتم الا بمشية الله ورضاه ، ويجب تقبلها دون شكوى .
إن القضاء على الإهمال ، ليس بإقالة وزير أو رئيس حى من الأحياء . فهذا واحد يرحل ، ذلك يجىء . ويبقى الحال ، كما هو عليه . وهذا لا يفيد فى شىء . حيث أن الإهمال يرجع فى جانب كبير منه ، إلى طريقة التفكير غير العملية التى تسود حياتنا . أحياناً أشعر أن الكلام عن الإهمال ، هو كالحديث عن الفقر ، قد أًصبح بلا معنى !! فكل منهما واضح وضوح الشمس فى عز النهار ، ولا أحد يحرك ساكناً .. الإهمال يتزايد ، ويتوالد ، ويتناسل . والفقر يتضخم ويحصد الجوعى ، والبؤساء . ومع ذلك ليس أمامنا ، سوى أن نضغط على الجرح، مراراً وتكراراً ، كى يخرج تقيحاته أملاً فى الشفاء .
من كتاب : استلاب الحرية باسم الدين والأخلاق " 2009
------------------------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ساعدت كوريا الشمالية إيران بهجومها الأخير على إسرائيل؟ |


.. مسلسل يكشف كيفية تورط شاب إسباني في اعتداءات قطارات مدريد في




.. واشنطن تؤكد إرسال صواريخ -أتاكمس- بعيدة المدى لأوكرانيا


.. ماكرون يدعو إلى أوروبا مستقلة أمنيا ودبلوماسيا




.. من غزة| 6 أيام في حصار الشفاء