الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايات عادية جدا

إدريس الخلوفي
أستاذ باحث

(Lakhloufi Driss)

2022 / 7 / 7
الادب والفن


الحكاية الأولى: العربي
لماذا هي حكاية عادية جدا؟ إنها كذلك لأنها لا تحكي على بطل خارق، فللأبطال الخارقين أقلام كثيرة تكتب عنهم، حكايتنا عادية جدا لأنها تحكي عن أشخاص عاديين جدا، أشخاص مغمورين، لا يعرفهم إلا بعض الأقارب والأصدقاء، خصوصا المقربين منهم، لكن حكايتهم تستحق أن تعرف على أوسع نطاق، لأنهم مناضلون صامتون، يناضلون من أجل البقاء، ويصارعون من أجل لقمة عيش تساعدهم على إكمال مشوار الحياة الشاق والطويل، والقصير أيضا.
أبطال قصتنا هم أفراد أسرة تعيش في قرية نائية بإحدى البلدان العربية، كان العربي شابا في مقتبل العمر، فشل في دراسته، ليس لغبائه بل لعدم قدرة أسرته على تحمل مصاريف الدراسة بالمدينة التي كانت تبعد بمقدار يوم من السفر، نصفه سيرا على الأقدام أو الدواب، ونصفه الآخر في شاحنات نقل البضائع أو الدواب، وعلى دكر السفر مع الدواب، فالعربي يحتفظ بذكرى أليمة بهذا الشأن، حيث كان مسافرا على متن شاحنة تحمل حمارا وبقرة، ومجموعة من البشر، أغلبهم واقفين بجانب الحمار والبقرة، وبعضهم فوق السطح، متكومين ومتلاصقين لدرجة تخالهم من بعيد أكوام بضاعة، أما العربي، فقد كان محظوظا لسوء حظه. كان محظوظا لأن صاحب السيارة/ الشاحنة كان يرغب في خطبة أخت العربي التي كانت معروفة في القرية بشطارتها وقدرة تحملها على أعباء المطبخ وزريبة البهائم ومتفننة في كل أنواع الطبخ التقليدي الذي يميز القرية، رغم صغر سنها، لهذا كان لا يتردد في مجاملة أي فرد من أسرتها بإجلاسه بجانبه في الكرسي الأمامي مع فردين آخرين يكونان إما من المقربين للسائق، أو من أعيان القرية، أو مستعدان لدفع ثمن مغري. كان الثلاثة المحظوظين يجلسون بكيفية متراصة متزاحمون إلى درجة يكاد يجلس بعضهم فوق بعض، ونظرا لاتساع مناكبهم وأكتافهم، كانوا مضطرين إلى أن يضع كل واحد منهم دراعه على كتف الآخر، أما الثالث الذي يجلس قرب الباب، فكان يتشبث بمقبض مشدود إلى السقف، كان قد استبدله صاحب السيارة بقطعة من حزام الأمان التي لا تستعمل أبدا في هذه الشاحنة، ومن سوء حظ العربي، فقد كان يجلس أمام الحمار مباشرة، دون أن يكون بينهما أي حاجز، فكان منظرهما يوحي وكأن الحمار يهمس بكلام سري في أذن العربي، وبينما الشاحنة تسير ببطء على الطريق الوعرة غير المعبدة، وهي تضطرب صعودا ونزولا كلما مرت فوق حجر، أو هوت عجلتها في حفرة، إذا بالجميع يسمع صرخة مدوية من العربي الذي أمسك بعنقه والدم يسيل فوق ثيابه، لقد كانت عضة قوية من أسنان الحمار، تركت ندبة بعنقه رافقته طوال حياته، لا أحد لحد الآن يعرف سبب عظ الحمار للعربي، رغم أنهما ينتميان لنفس الطبقة الاجتماعية، ويتقاسمان نفس ظروف المعيشة...لكن أغلب الظن أن الحمار فعلها نكاية في العربي بسبب الحضوة التي نالها من السائق، لكن حتى هذه الفرضية يمكن تكذيبها، فالعربي كان ثالث الركاب المحظوظين وليس وحده، فلماذا تم اختياره من بينهم؟ سؤال لا يتردد العربي في طرحه على نفسه حتى بعد أن أصبح شيخا هرما.
توقف السائق، وطلب من العربي النزول كي يقدم له الإسعافات الأولية، امتثل العربي لأوامر السائق، وترجل من الشاحنة ويده لا زالت ممسكة بالجرح حقنا للدماء، طلب منه السائق، وكان إسمه عياد لأنه ولد يوم عيد الأضحى، أن يجلس ويتكئ على جدع شجرة، فعل العربي ذلك باستسلام، فبدأ عياد في جمع حفنة من التراب، عمل على تنقيتها من الحشائش والحصي بعناية شديدة، حتى أصبحت كحفنة دقيق لكن بلون بني، ثم وضع حفنة التراب على الجرح، وأحضر من أمام زجاج الشاحنة قطعة ثوب لا يعرف لونها من كثرة الأوساخ والزيوت التي التصقت بها، فقد كان عياد يستعملها لمسح يديه من الزيوت التي تعلق بها كلما أصلح عطلا بشاحنته. أخذ قطعة الثوب ولفها على عنق العربي، وقال له: قم على السلامة، أنت الآن أصح من الحمار.
ركب العربي، واستأنفت الشاحنة المهترئة طريقها، والعربي يعيد في ذهنه سيناريو العظة، وينظر من حين لآخر بطرف عينه ناحية الحمار تحسبا لأية محاولة عظ ثانية. كم راودته فكرة القيام بعظ الحمار انتقاما، لكن كان يعذل عن تنفيذها.
كان شغل الجيلالي والد العربي هو تزويجه في الصيف المقبل، فقد كان في نيته إحياء حفل زفاف واحد تتزوج فيه ابنته السائق عياد، وفي نفس الوقت يزوج العربي من ابنة أخيه التي كان قد أتفق مع أخيه رحمه الله، قبل عشرين سنة على تزويج العربي من فاطنة، وبالتالي فقد كان أمر زواجهما أمرا مقضيا. ولم يكن لا العربي ولا فاطنة يعترضان على هذا الأمر، فقرارات من هذا النوع تفوق اختصاصاتهما بكثير، لكن ما كان يؤلم العربي، هو الوضع الاقتصادي الذي كان يعيش فيه مع أسرته، فقد كان يحلم ببناء غرفة مستقلة بجانب بيت العائلة، لأن الغرفة التي كانت معدة لتكون عش زواجه، كانت بابها منفتحة على حوش تنام فيه الأغنام والبهائم، وفي الحقيقة لم يكن هذا الأمر ليضايق لا العربي ، ولا فاطنة التي تعيش وضعا مماثلا ببيت أبيها، فما الذي جعل العربي يفكر هكذا؟
لقد سكنت هذه الفكرة عقل العربي عندما طلب معلم القرية الوحيد، والذي يدرس كافة أبناء القرية، بجميع مستوياتها الابتدائية بقاعة واحدة وفي نفس الآن، من العربي أن يحظر له ديكا اشتراه منه، فقام العربي بإحضاره، لكن المعلم طلب منه مساعدته في ذبحه ونتف ريشه وإفراغ أحشائه..... لم يتردد العربي في فعل ذلك، بل سر كثيرا، فالمعلم كان يحظى باحترام وتقدير كبيرين، لأنه من أكثر الناس علما بالقرية، فهو يأتي في المرتبة الثانية بعد الفقيه.
لم يكتفي العربي بذبح الديك، بل عرض على المعلم مساعدته في طبخه، وهو ما رحب به هذا الأخير، دخل الإثنين معا إلى قاعة الدرس، والتي تكون في النهار قاعة درس، لكن بعد مغادرة التلاميذ تتحول إلى غرفة نوم، ومطبخ، وحمام.....
بدآ في إعداد الوجبة، وفي نفس الوقت تبادلا أطراف الحديث، فكان العربي متلهف لمعرفة المدينة التي قدم منها المعلم، سكانها، عاداتها، لباس أهلها، وضعهم المعيشي....وكم كانت دهشة العربي كبيرة عندما أخبره المعلم أنه كان الإبن الوحيد لوالده، وكانت له غرفة خاصة، مزودة بتلفاز وحاسوب، ومجموعة من أدوات الترفيه كالألعاب الإلكترونية....كان العربي ينصت باهتمام رغم عدم فهمه لنصف ما قيل، بعد أن تناولا العشاء وهما بالافتراق، كان العربي يحتفظ بسؤال شغل باله، فقال للمعلم: لماذا كنت وحيد والديك؟ هل أمك لم تعد قادرة على الإنجاب؟ ابتسم المعلم وأجاب: بل هو اختيار للأسرة.
غادر العربي وهو يتساءل بينه وبين نفسه: كيف ترضى اسرة أن يكون لها ابن واحد؟ ماذا لو مات؟ إن الأسرة لدينا لا ترضى بأقل من سبعة أبناء. عندما أتزوج فاطنة سأحتفل كل سنة بحفل عقيقة.
خلد العربي إلى فراشه، لكن النوم جفى مقلتيه، بدأت أحلام اليقظة تساوره، كانت صورة المدينة تجول بخاطره، حاول عبثا طردها، لكن دون جدوى، فجأة لمعت أمامه فكرة جعلته يقوم من فراشه لقوة تأثيرها، لماذا لا يسافر إلى المدينة لاكتشافها بنفسه، لكن سرعان ما بدت له الفكرة مستحيلة، فوالده لن يقبل، ومن سيقوم بأعمال الفلاحة والرعي بدلا منه؟ ثم ما مصير فاطنة؟ ألن يتزوجها شخص غيره؟ لكن سرعان ما استبعد هذه الفرضية لأنه يعلم مسبقا بالاتفاق المبرم.
قبل أن يعود إلى فراشه، عقد العربي العزم على السفر سرا، وليكن ذلك الآن، ثم هب واقفا وقال: إنه حلمي، سأحققه لوحدي، لن أعيش مدفونا طيلة حياتي بين قطيع غنم، وقرية محدودة الأفق، إما الآن أو أبدا. تسلل العربي خارجا من البيت، وهو يحاذر أن يدوس نعجة أو كبشا فيكشف سره، نجح في الخروج ثم انطلق في جنح الظلام في مسالك حفظها عن ظهر قلب.
يتبع.......








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في