الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهزيمة التاريخية

سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)

2022 / 7 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


الهزيمة التاريخية La défaite historique
أمر ما يسمى ب ( النخبة ) المغربية التي هي جزء من النخبة العربية ، لأمر محير ويحير .. والحيرة ليست فقط في النجاح في بيع الأوهام وفي كثرة ( التنظير ) الخارج عن جادة الصواب ، تلك الجادة التي كان يعكسها الواقع اليومي المعاش للشعب الذي رفعوه بالشعارات عاليا ، لكن بسبب الإخفاقات المتوالية والمسترسلة ، انزلوه الى قاع البئر ، الى اسفل درك .. وحين اشتدت الازمة فرّ من كان يطلق على نفسه اسم النخبة ، وليسقط بالشراء في حضن من نظر لإسقاطه ، ولو بالكلام . بل والانقلاب والتنكر لما تم الترويج له طيلة عقود خوالي ، وبقدرة قادر تحول الجميع للدفاع عن مشروع نظام لم يغير جلدته . بل اضحى اصلب مما كان ..
فإذا كانت النخبة تقاس بالإنجازات ، وبالاختراعات في الحقل الإنساني ، وفي العلوم الإنسانية . فماذا حققت النخبة باتجاهاتها المختلفة من قومية ، الى يسار قومية ماركسية ، الى إسلامية .. وحين نقر بالإفلاس البارز للعيان ، نحكم بفشل النخبة ، وبفشل أجيال نشطت باسم النخبة ، في حين انها كانت تكرر الواقع بأسلوب زاد من تأكيد هذا الواقع .. فأحسن وصف يمكن ان نسمي به ( النخبة ) المغربية التي كانت تعتبر نفسها جزءا من النخبة العربية ، هو الهزيمة ..
ان مصطلح ما يسمى ب ( النخبة ) ليس وليد اليوم . بل يرجع الى ما اسموه واطلقوا عليه ( العمل الوطني ) ابّان الحماية الفرنسية ، وبالضبط في ثلاثينات القرن الماضي .. وعند اطلاقهم هذا الوصف الذي لم يكن يرقى لتعريف النخبة ، من خلال نوع الشعارات والكتابات ، فذلك لتمييز جماعة ( العمل الوطني ) بقيادة أحزاب ذاك الزمان ، وعلى رأسهم علال الفاسي خريج القرويين ، وبين جيش التحرير المنتمي الى الجبال والبادية .
ورغم ان به ، أي الجيش من يستحق التسمية البرجوازية للنخبة ، فهم ظلوا في تصنيف جماعة ( العمل الوطني ، او الحركة الوطنية ) بعيدين عن ان يكونوا نخبة . بل ان القول بعنوان الحركة الوطنية لم يكن بريئا ، بل كانت له حمولات سياسوية ترجمتها شعارات " المغرب لنا لا لغيرنا " .. وهو ما يفسره الموقف الخياني لعلال الفاسي من جيش التحرير ،عندما اعتبر في كتابه الحركات الاستقلالية ، انّ زمن النضال المسلح لجيش التحرير قد ولى وفشل ، وان الفترة هي ( لجماعة العمل الوطني ) التي فرشت التربة للسيطرة على المغرب ، عندما سيحل الاستقلال بطريقتها التي تمت ترجمتها باستقلال Aix-les-Bains ، الذي وحد ( الحركة الوطنية ) مع الإدارة الكلونيالية في تدبير شؤون المغرب ، واتخاذ موقف معارض لحركة المقاومة وجيش التحرير . فريبة علال الفاسي و آل الفاسي من جيش التحرير ومن المقاومة ، ترجمته في دولة الاستقلال العمليات الانقلابية للجيش ، حيث قاد ضباط وطنيون أحرارا انقلاب 1971 ، وانقلاب 1972 البرابرة سليل القبائل البربرية ، وترجمه العروبيون في انتفاضة 16 يوليوز 1963 ، وفي الانتفاضة المسلحة في 3 مارس 1973 رغم وجود مناضلين برابرة ضمنها .. فأصل الخلاف كان الدولة ولم يكن الحكومة .. لذا فالقول ( بالحركة الوطنية ) هو دليل على انّ من لا ينتمي لها ، لا علاقة تجمعه بالوطن . والمقصود هنا من سياسة علال الفاسي وامثاله ، القبائل البربرية التي ثارت ضد الدولة المركزية السلطانية ، وضد خدامها الذين اطلقوا على نفسهم اسم ( الحركة الوطنية ) .
فعندما تسمي ( جماعة العمل الوطني ) ( الحركة الوطنية ) نفسها بالنخبة التي تشتغل بالفكر وبالسياسية ، وتنبذ العمل المسلح الذي قاده جيش التحرير والقبائل البربرية ، فهي كانت تعمل على فصل المدينة ( فاس ) عن الجبال والبادية ، وفصل البرابرة والعروبيين ، عن الفاسيين .. ومن يومها تكون قد أسست لطبقية عرقية يعلوها آل الفاسي المتحالفين مع السلطان ، للتحكم في المغرب بعد خروج فرنسا من النافدة ، وعودتها من الباب الكبير ..
فهل منْ يشتغل بالفكر البرجوازي العقيم والمحافظ ، هو حقا نخبة .. ام ان النخبة بمفهوم المصطلح الدقيق ، هي من ينتج الأفكار ، ويطرح المشاريع التي تخدم الشعب ، ولا تقتصر خدماتها على خدمة فئة دون أخرى ، او خدمة طائفة دون غيرها ..
اذا رجعنا لتلمس ما يطلق عليه بالنخبة ، فهذه لكي تكون كذلك ، يجب ان تكون مثقفة . والجمع بين النخبة وبين الثقافة ، يعني ان هناك قضية توظف النخبة الثقافة لخدمتها .. فكلما كانت النخبة مثقفة ، كلما كان الإنتاج غزيرا ، لان العلاقة الجدلية بين النخبة والثقافة ، هي علاقة طردية متداخلة يستحيل التفريق بينهما . أي لا يمكن تصور ثقافة من دون نخبة ، ولا يمكن تصور نخبة من دون ثقافة ، لان الجميع يصب في المشروع الكبير الذي هو خدمة القضية .
انطلاقا من هذه الطرح نطرح السؤال . من يعتبر نخبة ؟ ما هي اوصاف النخبة ؟ وما مدا مشروعها الذي لن يكون غير تصادميا ، لأنه يرفض الجمود ، ويرفض البرك الآسنة ، و لأنه مشروع تغييري وتحوّلي ، وهو كذلك وباستمرار ، والاّ سقطنا في شعارات عنصرية تؤسس لنوع من المغرب ، كما تم الترويج الى ذلك منذ عشرينات القرن الماضي ، وحتى منتصف الثلاثينات ، لتنظيم العزل ، ولتهيئي العائلات التي ستبسط يديها على المغرب عند حصوله على ( استقلاله ) ، وهم المهادنون للإدارة الكلونيالية ، حين ادانوا حملة السلاح ، وادانوا وتبرؤا من المجاهدين ، ومن المقاومين بدعوى عرقلة المشروع الاثني لجماعة ( العمل الوطني ) بسيطرة ممتازة لآل الفاسي .. والمقصود البربر والعروبيون الذين ( يجهلون ) العمل السياسي والدبلوماسي الذي تتقنه فقط جماعة ( العمل الوطني ) . اي آل الفاسي الذين سيطروا بعد ( الاستقلال ) على المغرب ..
لقد تأثرت ( النخبة ) التي ملئت الساحة طيلة الستينات والسبعينات ، وحتى النصف الأول من الثمانينات ، بمدراس آثرت الانتساب اليها ، لِمَا كانت تشغله تلك المدارس من تأثير إيجابي في خضم الصراع العربي الإسرائيلي ، الذي كان يعد رأس الحربة لقلب الأوضاع ، بما يؤسس للدولة ( الديمقراطية ) المنتظرة . هكذا ستستعمل القضية الفلسطينية سلاحا ذو حدين .
-- الحد الأول مثلته الأنظمة السياسية الاستبدادية التي وظفت فلسطين لتصفية الحسابات السياسية مع معارضيها . واستغلت القضية وظروف الاستثناء التي فرضها الوضع بالشرق الأوسط ، لتركيز أنظمة شمولية بمسميات شتى ، تقودها جبهات كرتونية هشة ، كالجبهة الوطنية التقدمية الديمقراطية ، التي كان يرأسها ويستحوذ عليها الحزب الحاكم ، وأحزاب ذيلية لهذا الحزب باسم الاشتراكية ، والشيوعية ، والتقدمية ، والناصرية .. دون ان ننسى " جبهة الصمود والتصدي " التي ما صمدت امام احد ، ولا تصدت لآخر ..
-- والحد الثاني مثلته الحركات السياسية التي تكونت من النخبة ، التي استعملت القضية الفلسطينية للانقضاض على الحكم ، وعند خوضها الصراعات الأيديولوجية والداخلية التنظيمية ، والتي استعملت فيه لغة الرصاص الذي ذهب ضحيتها شهداء في لبنان ، وفي فلسطين ، ونقوصيا ، وباريس ولندن ( حنظلة / ناجي العالي ).. الخ .
ان اول مصدر استقت منه النخبة المغربية افكارها المَا فوق وطنية ، كانت حركة القوميين العرب التي رفعت شعارات الوحدة المركزية ، دون الوحدة الديمقراطية . وعلى هذا الأساس خاضت النخبة صراعها مع نظام ، اعتبرته نقيضها وعدو قضيتها . واخذ الصراع اوجها كثيرة ، توزعت بين النضال السياسي ، والنضال الأيديولوجي ، ووصل الى التصادم المسلح في عدة محطات سجلها تاريخ الصراع بين النخبة العروبية ، وبين النظام البطريركي ، الكمبرادوري ، القروسطوي ، الثيوقراطي ، الرعوي ، الاميري ، ونظام الامامة الرجعي ... الخ . فهذه الاوصاف والنعوت السياسية ، كافية لرسم الشرخ الكبير بين توجهين متناقضين ، استعملت فيه القضية الفلسطينية ، والانتساب الى العروبة لخوض الصراع ، ولتصفية الحسابات الداخلية بين رفاق نفس التنظيم ...
عندما فشلت الحركة القومية العروبية في تحقيق الوحدة ، وفشلت في تحرير فلسطين ، وغيبت الديمقراطية بتغليبها النظم المركزية . وعندما حصلت النكسة التي احتلت فيها إسرائيل اكثر من ثمانين الف كلومتر مربع من الأراضي العربية في ستة أيام ، حتى بدأ افراز جديد يطفو على مسرح الاحداث ، وأصبحت الساحة السياسية العربية ترفل بشعارات تدين الهزيمة التي اعتبرتها هزيمة طبقة برجوازية ، استنفدت دورها ابّان النضال ضد الاستعمار العثماني والغربي ، وانّ الظرف قد حان للتصحيح لتجاوز ازمة النكسة ، وتجاوز الإحباط الذي كان له الوضع البليغ على نفسية المثقفين ، ومِنْ هم النخبة التي لم تستوعب الدرس ، ومضت في تنظيرات عكست نفس الشعارات المرفوعة قبل النكسة ، لكنها كانت مغلفة بثوب جديد ، سيأخذ شكل يسار الحركة القومية العربية ، او اليسار الجديد الذي نهل من الماركسية ، وفسر أسباب النكسة بطبيعة الأنظمة التي خاضت الحرب ، ومنها اعتبر ان الهزيمة كانت هزيمة للطبقة البرجوازية التي خاضت الحرب ، والتي وظفت الاستقلال لخدمة طبقتها ، وتحولها من ثم الى طبقة معادية للشعب وللعمال .. ففي نظرهم ان سبب الهزيمة كان في منْ حارب ، وليس الشعب . بل ان من حارب هي الجيوش النظامية للأنظمة السياسية القومية .. لكن ما غاب عن هذا التحليل المبسط ، ان الجيش الصهيوني الذي ربح الحرب في رمشة عين ، وسبّب في النكسة ، كان اكثر انضباطية من جيوش الأنظمة القومية العربية .. في حين ان سبب الهزيمة كان ميوعة النخبة التي كانت تنظر خارج واقعها ، وفي انعدام جاهزية الحرب عند الجيوش العربية ، ومتناسين الدور الأمريكي والغربي في دعم إسرائيل ، وخيانة الاتحاد السوفياتي الذي كان يسلم الأنظمة القومية أسلحة خردة ، وطائرات من الجيل القديم Mig .. وكلنا لا نزال نتذكر في حرب أكتوبر التي كانت حرب تحريك أوراق المفاوضات ، ولم تكن حرب تحرير لمّا سافر الرئيس الجزائري هواري بومدين للتوسط للحصول على الطائرات التي دمرتها إسرائيل ، والأسلحة المطلوبة . وقد أدى ثمن تلك الأسلحة فورا . لكن بعد فوات الأوان ، وبعد تراجع انوار السادات واستعداده للارتماء في الحضن الأمريكي ، الذي انتهى باتفاقية كمب ديفيد المهينة ، مثل اتفاقية وادي عربة مع النظام الأردني ..

هكذا سيكون الرافد الثاني لفكر النخبة التي كانت متغربة ، وهي ازدواجية غير مقبولة ، هو الرافد الماركسي الذي اعترف بالقرار الاممي في سنة 1947 ، القاضي بتقسيم فلسطين .. أي اعتراف مباشر بالدولة الإسرائيلية التي يعتبرونها في نفس الوقت عدوا رئيسيا ..
لقد غرق هذا الرافد في الثقافة وفي التنظيرات ، التي لم تكن تعكس الواقع ، ولم تكن مستوعبةً لمكانيزمات التحكم في القرار السياسي للأنظمة المحلية ، وللأنظمة التي خسرت الحرب . فكانت اسباب الحكم بإفلاس فكر حركة القوميين العروبيين وبإفلاس طبقتها ، هي نفس الأسباب التي افلست المشروع الذي رفع شعارات الشعب ، في حين كان يتصرف ضد مصالح الشعب الغير مدركة من قبل الشعب .. فكان الغرق في التنظير ، وفي الترويج للفكر العلمي البديل ، وبمعزل عن طبقات الشعب الرئيسية ، وعلى راسها الطبقة البرجوازية الصغيرة ، وما فوق الصغيرة ، والمتوسطة .. وأمام امية وجهل الشعب / الرعية ، والتقوقع في الحلقية الضيقة ، وباسم تحصين الذات .. كان كل ذلك من اهم أسباب ، وعوامل افلاس نفس المشروع الذي فرض نفسهم كبديل منقد ، عن مشروع وفكر الحركة القومية العربية الذي انهزم عند حصول النكسة في سنة 1967 ..
اما الرافد الثالث الذي استقى منه بعض ( المثقفون او بعض النخبة ) افكراهم لبناء المشروع العقائدي وليس المشروع الأيديولوجي ، فكان الفكر الإسلامي عندما اعتبروا ان الحل في الإسلام ، ومن دون الصراع الحضاري بين الغرب المسيحي ، الكاتوليكي ، البروتستاني ، واليهودي لن تقوم للامة قائمة ، وسيظل الجميع اسفل درك كما هو مخطط من قبل الدوائر المناهضة للمشروع القومي العروبي ، والمشروع الإسلامي ..
ستفشل جمع هذه الروافد ، وستتعطل جميع هذه المشروعات لأسباب منها ، جهل كيفية استيعاب مكانزمات الصراع . فهي هزيمة ( نخبة ) ، وافلاس طبقات وليس فقط طبقة واحدة .
فما هي الأسباب :
1 ) تحديد العدو بدقة . هل الصراع داخلي ام صراع خارجي ؟
اعتقد ان المهمة الأولى لأية جماعة تعتبر نفسها نخبة مثقفة ، ولها مشروع تتبناه ، وتدافع عنه ، هو في كيفية انتاج الأفكار الإيجابية التي تخدم الصراع الدائر بين مختلف اطراف النزاع ، وعلى رأسهم إسرائيل ، وحليفها الغرب المتصهين .
فهل الأفكار التي انتجتها ( النخبة ) المفروض فيها انها مثقفة ، كانت تعبيرا عن طبيعة وحقيقة الصراع . وهل كانت تعبيرا عن مشاعر المجتمع ، وحاجاته الروحية التي اساء اليه التحالف الصهيو- امبريالي .. ؟
ان الأفكار إمّا ان تكون تعبيرا لاحقا عن مشاعر وحاجات متجددة ومتغيرة باستمرار ، او تكون دافعا مبادرا في صنعها وتجديدها . فهما يتواكبان بدرجة او بأخرى ، في مجتمع يتجدد ، ويتغير ، ويتقدم . وفي مجتمع متخلف تكون الأفكار امّا متخلفة عن تقدم حاجات المجتمع ، او تكون كابحة لها .
والمجتمع الذي تتوالد بناه وتكرر نفسها ، من دون تجديد ، مجتمع عاجز ، ذلك ان العالم يتغير ويتقدم باستمرار ، ومسيرة التقدم لا تمهل أحدا . ومن لا يتقدم ومن لا يتغير يموت ..
المجتمع العاجز عن التقدم ، ينتهي الى العزلة والدوران حول نفسه ، لأنه يخالف سنن وقوانين الكون والعالم . والعزلة والدوران حول الذات ، يقودان الى المنفخة والتباهي بالذات ، من دون ان تكون هناك مسوغات موضوعية لذلك . وهذا معناه فقدان التوازن ، والخفة ، والضعف ، أي الهزيمة امام كل هزة تصيب المجتمع ، وامام كل هجوم يواجهه .
فأيهما احق واجدر . هل الصراع الداخلي ، ام الصراع الخارجي الذي يكون الانتصار فيه طريقا سهلا لحسم الصراع الداخلي ؟
اعتقد اننا غير منعزلين ، واننا نعيش في مجتمعات مغلفة ومنغلقة ، ويستقوي فيها الإسلام .. ومع ذلك فان ما يسمى ( بالنخبة / المثقفة ) ، لم تستوعب هذه الحقيقة التي وحدها تضفي طابع التمايز على المجتمعات العربية الإسلامية .. واعتقد ان اول سورة مكتوبة في القرآن هي سور " اقرأ " ، وهي سورة آمرة الزامية واجبارية ، لأنها تجسد سلطة الامر حين تدعو المسلمين الى القراءة .. لكن للأسف فان امة اقرأ التي لها اية في القران تحث وتدعو بصيغة الجبر ان تقرأ ، فهي لا تقرأ . وحين لا تقرأ امة اقرأ تكون المصيبة حين يصبح التنظير في واد والواقع في آخر . وعندما يذب الشرخ ، ويفقد التوازن بين النظرية وبين الممارسة ، وبين الواقع ، فالنتيجة هي الفشل . وعندما يتكرر ، وهو سيتكرر ، تكون النتيجة الهزيمة ، وما اقبح شرور الهزائم ..
قبل ان يتم النبي محمد سيطرته على شبه الجزيرة ، فرض على اتباعه الهجرة من شبه الجزيرة العربية الى العالم الخارجي . فالهجرة ليست فقط الانتقال من مكة الى المدينة ، انها المعنى الاوسع والاشمل . هجرة من النطاق المحلي الى الكوني L’internationalisme . فالهجرة الى العالم الخارجي معناها ، إعطاء الأولوية للصراع الخارجي على الصراع الداخلي ، وهو ما تفطنت له منظمة الى الامام حين كانت تدعو الى الاستعداد لمواجهة التدخل الفرنسي ، عند اسقاط النظام البطريركي ، الكمبرادوري ، الرعوي .
فالصراع الخارجي هو ما يوحد الامة ، ويخفف آثار التناقضات الداخلية ( الحرب انْ وقعت بين النظامين المغربي والجزائري لإبعاد الهزيمة ) ، وهو ما يحقق الصلة بين الامة والكون الخارجي . وعندما قيل لمحمد ان هناك عددا من المنافقين ، استمالهم بإغداق الرشاوى عليهم ، أي العطاءات . وبدل ان يستنزف النبي جهود الامة في صراعات داخلية ضد المنافقين ، وجه اتباعه لخوض حروب خارجية ضد ( الكفار ) . هذا كان البند الأساسي في مشروعه لبناء دولة موحدة ومجتمع جديد .
اما الآن ، فالاسلاميون ( المعاصرون ) ، يعطون الأولوية للصراع ضد المنافقين في الداخل ، على الصراع ضد ( الكفار ) في الخارج . فمنظمات الإسلام السياسي كالجهاد مثلا ، تكرس كل جهودها لتطبيق الشريعة . أي للصراع ضد المنافقين الذي يكاد ينسى الصراع ضد إسرائيل ، وضد هيمنة الغرب الامبريالي . وبدل ان يكون لديه عداء سياسي للغرب ، نجده يركز جهوده على العداء الثقافي للغرب ، ويهادنه سياسيا بحجة مكافحة عملاءه في الداخل .
اما الجيل السابق للاسلامويين بمختلف منظماتهم ، ومن ثوريين ، قوميين كانوا ام يساريين ، فكان يحاكم عبدالناصر على أساس الأوضاع الداخلية ، متناسيا انه يخوض حربا فعلية متواصلة ضد إسرائيل ، وضد الغرب الامبريالي . فكان ذاك الجيل يحكم سلبيا على عبدالناصر ، على أساس ان نظامه إصلاحي وغير ديمقراطي . هكذا كان الثوريون القوميون ، واليساريون الماركسيون أيضا ، يعطون الأولوية للصراع الداخلي ، ومتغافلين الصراع الخارجي سبب الازمة التي خلقت الصراع الداخلي . ولو كان لهم حدس من التفكير لاقتنعوا ان كسب الصراع الخارجي ، هو ما يشد لحمة الامة لقلب الأنظمة الدكتاتورية الاستبدادية المتسلطة . أي لحسم الصراع الداخلي ..
ومن جهة أخرى نجد الإسلاميين الأصوليين الآن ، مثل الثوريين قبلهم ، غير قادرين على استخدام النص استخداما عقلانيا واعيا . فكلاهما قاصر عن فهم مغزاه التاريخي ، او معناه المطلق ..
الثوريون القوميون العرب ، استخدموا مفاهيم سياسية مثل الامة ، والوحدة ، والعروبة ، وعملوا من اجلها . لكن بقيت على رغم صحتها وضرورتها ، عناوين هشة ضحلة المضامين . فالأمة في نظرهم ليست مجتمعا ذا تاريخ ، وسيرورة مستمرة ، وتجدد وتغير دائمين . ولذلك لم تستطع احزابهم ، ولا منظماتهم رسم برامج تؤدي الى نتائج مرضية ، ولم يستطيعوا تحقيق أي من أهدافهم على رغم التأييد الشعبي الواسع لهم في فترة من الفترات . وما نسمعه يتردد على لسان العموم ، ان برامج الأحزاب التي رسمها الثوريون كانت خاطئة ، لأنها صدرت عن وعي شقي قاصر غير تاريخي ، والعجز في التطبيق كان نتيجة حتمية لذاك ..
وعندما احس الثوريون القوميون العرب بفشلهم وعجزهم ، لجأوا الى الماركسية ، واساؤوا استخدام نصوصها إسوة بغيرهم من الماركسيين القدماء .. الم يكن خروج الديمقراطية عن الشعبية خطأ تنظيميا وسياسيا ( حبش / حواتمة ).. الم يكن خروج منظمة الى الامام ، ومنظمة 23 مارس ، وفي ذلك الابان ، خطأ عرت عنه النهاية التي وصلت اليها المنظمتان ، خاصة عند ارتماء الأغلبية تدافع عن مشروع الدولة السلطانية ، التي جندت نفسها لأسقاطها ، فبقيت الدولة وسقطت تلك المنظمات سقوطا مدويا عند الانقال من جهة الى أخرى ، دون طعم أيديولوجي او تنظيمي .. فبقيت تلك المنظمات مجرد أسماء سموها في وقت من الأوقات ، لتثبيت الذات الحاملة معها لفيروسات الهزيمة ..
فالماركسية بالنسبة لليسار الجديد ه، ي مجموعة استنتاجات مفرغة من سياقها التاريخي . هم لم يجدوا في الماركسية انتاجا فكريا غربيا نبع من تراث اوربة ، واستند الى النتائج العلمية التي كانت متاحة آنذاك . وبالتالي فهي ، أي الماركسية ، يمكن تجاوزها في ضوء المستجدات العلمية في مختلف العلوم الإنسانية والمادية . والاهم من ذلك ، كانوا ومن بقي منهم القليل ، يستخدمون الشعارات والنصوص ، لرؤية واقع الأمور من دون ان يحاولوا دراسة التاريخ الفعلي ، واستخراج النتائج والعبر منه لاستخدامها في برامج تنفيذية ، تفيد الشعب والأمة . فالماركسية عندهم كانت مجرد اسقاطا دون ضوابط ،على واقع ومجتمع لا علاقة له بأوربة قلعة الماركسية ، ولا بالمجتمعات التي تخضع وتسيطر عليها التقاليد المرعية ، والطوباوية ، والقروسطوية ، والميّالة الى المحافظة الاعمى التي كانت تتناقض مع نوع الشعارات المرفوعة ، وتجهل نوع المصطلحات المستعملة . فكان الابتعاد ، وكان النفور . بل كان العداء الذي جعل الحلقية تخنق ما تبقى من وهج الانشاء عند التأسيس .. فالنص عندهم ليس مسألة ، وليس تعبيرا عن إشكالية تاريخية . لذلك كان فكرهم غير نقدي ، وهناك فرق بين النقد وبين الحقد .. وكل ذلك يناقض المبادئ الأساسية للنظرية التي يعتنقونها ، وهي التي قامت على اعتبار النظرة التاريخية ، والموقف النقدي منطلقين اساسين . فالربط بين النظرية والممارسة كانت للتغني ، ولم يكن يعمل به قط ..
في المقابل نجد منظمات الإسلام السياسي الآن ، يجعلون النقطة المركزية في دعوتهم تطبيق الشريعة . وهم أيضا ينكرون التاريخ والتغيير ، على رغم انهم يقرون بالناسخ والمنسوخ ، ولا يستطيعون تقديم التفسيرات الوافية عن أسباب الاختلافات الفقهية ، على رغم وحدة النص القرآني ، وينكرون ان هذه الاختلافات نجمت عن اختلافات في الظروف التاريخية ، والأوضاع الاجتماعية للفقهاء وللمفسرين ، ويصرون على ان يروا النص بمعزل عن السياق التاريخي للامة . بل ينكرون التاريخ برمته ، ويعلنون ذلك اعلانا واعيا .. حتى تفرقوا الى اكثر من سبعين فرقة ، والحرب بينهم حول الفرقة الأحق بدخول الجنة ..
الدين وايّ دين بمعنى ما ، هو دليل عمل ، والشريعة تعكس الاطار الروحي للروحية الدينية ، وليست مجموعة قوانين محددة . هي اطار روحي ، وذهني ، ومنهجية معينة تعطينا نتائج مختلفة في ظروف مختلفة . وقد عجز الإسلاميون الاصوليون عن صياغة برنامج سياسي للامة ، لان منهجيتهم غير تاريخية ، ووعيهم غير نقدي ، بل وعي حقد . وما يمنعهم من ذلك ، هو اعتبارهم لقدسية النص في الوقت الذي يضطرون فيه لممارسات غير قدسية ( سكزوفرانيا ) .. فهم لا يستطيعون الفصل بين النظرية والممارسة ، ولذلك فان فكرهم يخلو من التنظير ، وصولا الى الغاء الفكر عينه .
ان إشكالية النص والتأويل ، واشكالية النظرية والممارسة ، غائبتان عن تفكيرهم . فلأنهم يهملون التناقضات ، يجدون انفسهم مضطرين لإنكار التغيير ، وبالتالي لإلغاء التاريخ .
ان شعار تطبيق الشريعة الذي يطرحه الاصوليون الأن ، هو تكريس لمبدأ إعطاء الأولوية للصراع الداخلي ، على الصراع الخارجي . ويكونون بذلك بمن ينصر ويقوي عضد إسرائيل ، وحليفتها الامبريالية الغربية ، على حساب فلسطين ، وعلى حساب الحقوق العربية المشروعة التي تعرضت لمؤامرة الدفن والاقبار ..
ان هذا الشعار الذي يوظفه الإسلام السياسي ، الى جانب خدمته لمخططات الصراع المُعدّة امبرياليا ، فهو يُستخدم لقمع الناس ، وتغيير نمط عيشهم رغما عنهم ، ومن دون اقناع منهم . فالشريعة عندما تؤخذ من زاوية وحيدة الجانب ، وتفرض على الناس مسلمين وغير مسلمين يعيشون في بلاد الإسلام ، والذي لا غبار على ايمانهم ( المنافق ) ، وتعلقهم رغما عنهم بالإسلام ، تكون مجرد شعار قمعي ، وضوابط فاشية للإرغام ، وللإذلال ، والإساءة لشخص الناس ..
ان المقصود من تطبيق الشريعة في نظرهم ، ليس فهم النص الإسلامي واستيعابه كي يكون دافعا روحيا واخلاقيا . بل هو اجبار الناس كي يعيشوا حسب النمط الذي يفرضه أصحاب الشعار . بل ان الامر اكثر من ذلك . فهم عندما يدعون تمثيل الإسلام والحديث باسمه ، وبدعوة أولية ، يفعلون ذلك بطريقة حصرية ، فيتماهون مع الإسلام ، ويصبحون هم المسلمين الوحيدين والحقيقيين ، ويواجهون المجتمع كله بمختلف معتقداته وايديولوجياته ، بحاكمية ومحكوميه باعتبارهم جميعا موضع تهمة ، وينبغي فرض اسلامهم بالقوة على الآخرين .. وهذه فاشية ، وجبرية ، ودكتاتورية مرفوضة ، ويجب مقاومتها بكل السبل والوسائل ..
2 ) القمع الذاتي . L’autocensure :
قلنا أعلاه ان ما يسمى ( بالنخبة )L’élite في البلاد العربية ، وضمنها ( النخبة ) المغربية ، لم تقد الامة بنجاح للوصول الى القصد المبتغى ، والدليل هو الهزيمة الأكثر وقعا من الفشل .. وانها لم تستطع ان تنتج فكرا ابداعيا مجددا . بل كانت تكرر نفسها باستمرار ، وإنّ طابع فكرها يرتكز على إعطاء الأولوية للممارسة ، ويرفض التنظير . ونحن نعتقد بان وراء هذه العلل والمثبطات علة أخرى ، تشكل كابحا لنمو النخبة ، وصقل وعيها الزائف المُكلّس ، وهي القمع الداخلي للذات وللنفس L’autocensure ..
عندما يجري الحديث عن القمع في مجتمعنا ، وفي المجتمعات العربية ، يكون المقصود عادة الدولة وأجهزتها البوليسية الفاشية ، ونقصد بذلك الدولة النيوبتريمونيالية ، والنيورعوية ، والنيوبطريركية ، الدولة الكمبرادورية ، الثيوقراطية ، التقليدانية التي تتماهي حد الغرق مع التقاليد المرعية السلطانية .. الخ . صحيح ان الدولة في مجتمعنا هي دولة استبدادية ، طاغية ناهبة للثروات ، ومهربة لها خارج البلاد لتكدسها في الابناك الاوربية وتبييضها بشراء القصور ، والفيلات ، والاشياء الثمينة النفسية ، من مجوهرات ، ويختات ، وساعات مرصعة بالماس وبالذهب الأبيض ... لكن ليست الدولة القامعة وحدها من تمارس قمعها المرضي ، الصادي ، البسيكوباطي لا خراص أصوات المعارضة الناقدة والسلمية .. لكن هناك قمع اشد وادهى ، وهو القمع الذي تقوم به النخبة على نفسها ، ومن تلقاء نفسها ، وضد نفسها .. فما يسمى ( بالنخبة ) تقمع نفسها قبل ان تقمعها الأنظمة ، لان القمع الذاتي هذا ، تعبير عن سيادة مرض المازوشية وسطها ، وهو دليل أدى الى نشوء أنظمة تمارس القمع على النخبة وعلى الشعب ، وعلى بقية الناس .. فعندما يكون القانون الأساسي لمتصرفي وزارة الداخلية يمنع بالحرف الانتماء الى النقابة ، لكنه ينص ( الفصل 15 ) على ان من حق المتصرفين والمتصرفين الممتازين انشاء جمعية للدفاع عن حقوقهم .. ورغم وضوح القانون ووضوح الفصل ، تخاف الأطر من تطبيقه ، بدعوى ممارسة الحضر والقمع الذاتي خوفا من غضب وسخط الوزير واعوانه ، على من دعا فقط الى تطبيق ما ينص عليه القانون ظهير ( 1 مارس 1963 ) .. هنا يكون هذا الموقف الاستسلامي والانهزامي ، سببا من أسباب تقوية الجهاز السلطوي الذي يتصرف ضد القانون .. وكم عانينا عندما حاولنا تنزيل مقتضيات ظهير 1963 من قبل المتصرفين الذين هربوا ، ومن قبل طاقم الوزير الذي بعث اليّ عاملا كان ملحقا بمديرية الشؤون العامة ، وهو عبدالخالق بنجلون المدعو قميحة قائلا لي : اسمع مزْيانْ . قالْ ليك الوزير أيْ ادريس البصري . تريد انشاء نقابة في وزارة الداخلية .. باغي تدير عْليّ انقلاب .. واسمع أولدي راكْ غادي تبقى فيها وحدك " .. وبالفعل بقيت فيها لوحدي لان الجميع هرب .. وهؤلاء الذين هربوا منهم من يحمل دكتوراه ، ومنهم من يحمل شواهد عليا ..
كذلك عندما يكون ظهير المتصرفين والمتصرفين الممتازين لا يمنع رجال السلطة من النشر والكتابة ، ومن الانتماء الى الجمعيات .. ويمارس هؤلاء حضرا ذاتيا على انفسهم ، بدعوى ان المبادرة ستغضب الوزير وطاقمه .. فكيف سيتصرف الوزير وديوانه مع هؤلاء الذي يمارسون المازوشية على انفسهم .. طبعا ان الخضوع ، والخوف ، والتردد ، هو من يقوي الدكتاتورية ، ويحول المجتمع الى مجتمع عبيد . وهناك طرائف كثيرة حصلت في هذا الباب ليست هذه الدراسة مجال عرضها ..
ان ارتكاز النخبة على الممارسة ، والاقلاع عن التنظير ، يخفي وراءه اقتناعا بان النظرية الجاهزة ، هي الفكر الموروث ، وفي حالة متصرفي وزارة الداخلية التي ذكرت ، يكون الموروث تقاليد السلطنة التي هي دار المخزن .. فالتراث له قدسية ابدية Eternelle متمكنة من اذهان النخبة . وهذا ما يجعل النظر الى التراث ممكنا في حدود الاحياء والنقد . وكثيرون مِن مَن يسمون بالنخبة ، يعتقدون بان احياء التراث ، هو مسألة جميع المخطوطات وطبعها ، بعد تحقيقها ، ونشرها كي يقرأها الناس ويستنيروا بهديها ، ان احياء التراث بهذه الطريقة ، يعتبر ضروريا من اجل تعميق الهوية العربية الإسلامية المغربية ..
لكن ذلك يوقعنا في مأزق ، لان احياء التراث من دون تجديده يعني قتله . فالحياة عملية نمو مستمرة ، والاحياء غير ممكن من دون التجاوز ، والتجاوز غير ممكن من دون النقد ، والنقد غير ممكن من دون فهم واستيعاب . ان احياء التراث بنقله كما هو من دون فهمه نقديا مجددا ، يعني إيقاف الزمان وقتل إمكانات النمو . بل قتل التراث نفسه ، علما بان التراث ذاته نشأ حصيلة تطور، وفهم ، ونقد ، واستيعاب وتجاوز ..

ان النخبة التي يطربها تعبير احياء التراث ، هي نفسها غير مطلعة على التراث . بل انها تتجنب ذلك . فدراسة التراث في نظرنا تنظير لا لزوم له ، والمطلوب هو الممارسة . هكذا تنقلب الممارسة الى هدف ومثل اعلى ، وتلغي النظرية ،لمّا كانت النظرية لا يمكن استنباطها وفهمها سوى على أساس التاريخ ( التطورات السابقة ) ، والوعي التاريخي ، فالمؤدى هو الغاء التراث كأداة وعي متجددة ، ونحن ما نزال نقرأ تراثنا من خلال المستشرقين من فرنسيين وانجليز .. نتيجة عجز مثقفينا وكتابنا عن مضاهاتهم .
النخبة المهزومة تعتبر التاريخ سلسلة حوادث مشبوهة ، فتلغي التاريخ . الإسلام المتنور صنع امجاد الامة العربية ، ومرحلة الفتوحات هي المثل الأعلى ، وهي محط عواطفنا واعتزازنا . لكن ثلاثة من الخلفاء المُسمّون بالراشدين ماتوا قتلا . والسلالات العربية التي حكمت بعد ذلك ، اغتصبت الحكم وكانت مشبوهة في شرعيتها . وبعد ذلك جاءت سلالات غير عربية فحكمت ، وكانت أيضا مشبوهة لدرجة اكبر في شرعيتها . التاريخ يصبح انحطاطا لمرحلة مجيدة زاهية ، فلا يمكن التعامل معه بعقل معطوب بارد ، لذلك يتم تجنبه .
تراثنا هو تراث قومي ، وطني ، وديني في آن . وهذا الامر يكمن في أساس المشكلة . فما دام التراث ذا طابع ديني ، لا يمكننا ان ننظر اليه من دون اعتبارات دينية . أي الحلال والحرام . والقدسية التي تُضفى عليه ، تجعل من الصعب فهمه واستيعابه بمنهجية نقدية . لذلك يغلب على وعي النخبة العاقرة الاتجاه النقلي ، وليس العقلي . وربما برر البعض ذلك في هيمنة الاتجاه النقلي على وعي الامة ، في ظروف كانت الامة فيها تخضع لهجمات وتهديدات خارجية مستمرة ، وكان عليها ان تحافظ على ما لديها من دون الخوض في حوارات وصراعات داخلية ، وانّ الامة ما تزال على هذه الحالة ، لكن بشكل اسوء حتى اليوم .. لكن هذا التبرير المحافظ يخفي حقيقة انّ الاكتفاء بما لدينا من أفكار ووعي ، يجعلنا نزداد تخلفا في وقت يسير فيه العالم بسرعة . والهزائم التي اصابتنا حتى الآن برهان على خطأ هذا التقدير .
ما زالت النخبة العاقر المهزومة ، ترتطم بحاجز القدسية الذي يحجب عنها الرؤية التاريخية ، ويجعلها تكتفي بالممارسة من دون نظرية . ترسخ القدسية التراثية الاستسلام الفكري المرتاح . وهي تحول دون ظهور نزق فكري يخرج عن المألوف ليجدد ويبدع . نقول النزق الفكري ولا نظن اننا مغالون . ولو كان العرب المسلمون الأوائل من دون نزق في الرؤية ، لاستسلموا للمألوف ، ولم يخرجوا من شبه الجزيرة العربية ويقتحموا العالم ، علما بان ميزان القوى العسكرية آنذاك لم يكن في صالحهم .
ان غياب النزق الفكري ، هو تعبير آخر عن إعادة تكرار وتوالد البنى الفكرية من دون تجديد . ألا نلاحظ اننا ما زلنا منذ اكثر قرنين نراوح مكاننا نتلقى الهزيمة تلو الأخرى ؟
وما يدعو للسخرية اننا نعتبر القرن الماضي قرن نهوض فكري ، ونقرأ العديد من الكتب والمقالات حول عصر النهضة هذا . ويطرح هؤلاء الكتاب امامنا أفكار الطهطاوي ، والافغاني ، ومحمد عبدو ، ورشيد رضا ، والكواكبي ، وصروف ، واليازجيين ... وغيرهم . ولا نجد لديهم سوى أفكار مكررة ومبتورة ، وعلى رغم ذلك نسميهم عصر نهضة . وبعد اكثر من مئتي عام من النهضة ما زلنا نقرأ اهم الكتابات عن مجتمعنا وتاريخنا ، على يد الفرنسيين ، والانجليز ، والالمان ، والهولنديين .. ، وما زلنا عاجزين عن انتاج ما نستهلك ، ونلهث وراء الدول الكبرى لحل امورنا الداخلية ، او لرد يهود إسرائيلي عنّا .
ان القمع الذاتي L’autocensure الذي مارسته وتمارسه النخبة على نفسها ، يجعلها عاجزة عن امتلاك القدرة على تكوين وعي شمولي كوني . لقد كان الإسلام مشروعا كونيا اخرج الامة العربية من قوقعتها على نفسها ، لتنفض عن نفسها الوعي المحلي الشقي ، واثبات كونه مشروعا كونيا يتجلى في انه سعى الى تأسيس مجتمع جديد ، ودولة على مدى العالم . كانت لدى الأوائل آنذاك روح إقتحامية بدأت على صعيد الوعي ، وامتدت الى الممارسة . فالأوائل حملوا لواء الدعوة التي كانت بمثابة برنامج التنفيذ ، للوعي الجديد الذي تكوّن لديهم .
فالنخبة عندما تغرق في تفاصيل الحياة اليومية ، وتكتفي بالمحاولات المحكوم عليها بالفشل سلفا ، لامتلاك التكنولوجيا الحديثة من دون تحديث روحي ( عبدالله العروي / الأيديولوجية العربية المعاصرة ) ( الاختيار الثوري / المهدي بن بركة ) ( سلامة موسى ) .. وقيام وعي جديد ، فهذه النخبة تضطهد نفسها ، وتتخلى عن المهمة التي لا مسوغ لوجودها الاّ من اجلها . انها لا تترك المجتمع من دون قيادة وحسب ، بل تلغي دورها بنفسها .
لقد درج الكثيرون على اعتبار الالتزام ، التزام المثقف بمجتمعه ، مجرد التزام سياسي بهذا الاتجاه او ذاك . هذا جانب هامشي من المسألة . المسألة الأساسية هي ان التزام النخبة بمجتمعها لا يكون حقيقيا ، من دون ان تكوّن النخبة وعيا جديدا يعيد تشكيل الامة ويدفعها الى الامام . واذا كانت المعرفة خيرا مطلقا ، فان الالتزام بالمعرفة يكفي لتكوين ذلك الوعي ، ولا شك في ان كل معرفة سلطة . لكن السلطة المعرفية تختلف نوعيا في سائر المجتمعات عن السلطة السياسية . وقد انصب اهتمامنا في هذه الكلمة على بيان الأوهام التي سيطرت على النخب في مجتمعنا منذ اكثر من قرن ونيف : انها أوهام السلطة الثقافية المستندة الى أوهام ، حول طبيعة الثقافة ، ودورها الاجتماعي والسياسي . وستبقى المسلمات الخاطئة ، والاوهام النخبوية بين المثقفين النخبويين ما بقيت ضياعات الامة وانحطاطاتها ، وما بقي مشروعها القومي الكبير ، رهينة الخوف، والتردد ، والشرذمة ، وجدل الهوية، والتوازنات الدولية والإقليمية .
ان تجديد المشروع التاريخي للامة ، رهن بقدرة النخبة العربية على رفض الأيديولوجيا التقنوية الخالية من أي مدلول أيديولوجي ، امتلاك نظرية شمولية تقرأ تاريخ الامة والعالم .. ورهن بقدرة النخبة على التجديد الروحي والثقافي ، وإنتاج الأفكار الكبرى . فما دامت النخبة العاقر المهزومة عاجزة عن انتاج أفكار كبرى ، ستبقى أسيرة توالد الأفكار المتكررة المألوفة ، وستبقى عاجزة عن اقتحام المستقبل ، وستكون مضطرة الى ممارسة القمع الذاتي تجاه نفسها ، لأنها لن يكون لديها شيء تقوله .. يعني الهزيمة لا غير ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي