الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لأُبتِكَ آذان الآلام .

لخضر خلفاوي
(Lakhdar Khelfaoui)

2022 / 7 / 8
الادب والفن


سرد واقعي :

****
استيقظت هذا الصباح من هذا اليوم الذي قيل عنه يوم مبارك من أيام السنة ! اعتقد ذلك صدقا فهو يوم جمعة و يوم وقفة عرفة !… بعد شرب قهوتي و تنفيث سجائري الأولى لنهار اليوم. اجتاحتني فجأة مخاييل والدي و والدتي .. اجتاحتني رغبة في سماع صوتهما ؛ فمنذ أشهر لم أُحظَ بسماع صوتهما ، تحديدا آخر اتصالاتي بهما كانت قبل شهر رمضان المنصرم.
قد يسأل سائل ياه! يا لهذا التصرّف و السلوك ! لم يكلم والدته و والده طيلة هذه المدة ! . إلا أنه لا يمكن لأيّ كائن معرفة حقيقة العلاقة التي تربطني بأبي أو بأمي ، أنا و هما و رابعنا الله من يعلم بالضبط طبيعة و خبايا هذه العلاقة .
بغية الاتصال به أين يتواجد بمسقط رأسي ( مسكن الكاهنة ) أخرجتُ هاتفي و بحثت عن رقم والدي متّسِمْ ب( رقم بابا الجديد !) ففي البلد الناس تُغيّر أرقامها كما تُغيّر الملابس ، اعترف أن هذه المرة رقم والدي قد عمّر و استقر لفترة معقولة في قائمتي الاتصالية .
والدي مُميّز و مُميّز جدا حتى لا أرميه باتهام ( الغرابة )، لم يحدث و أن تواصل معي أبي - هاتفيا - لأكثر من دقيقتين .. الجاهل لطبيعة و لعقلية والدي قد يرتاب من هذا السلوك .. لكن أبي أكثر الناس في هذه المعمورة من يطبّق حكمة ( خير الكلام ما قلّ و دلّ)، تمنيت ترشيح والدي في سجلّ الأرقام القياسية لأقصر مكالمة و دردشة هاتفية بين الوالد و ولده الذي تستنزف كيانه المنافي و هو بعيد عنه قرابة الربع قرن !.
كأنَّ أبي برمج مخَّهُ برسكلة و ترتيب و اعتماد الأسئلة والأجوبة التي سيستعملها معي محضّرا نفسه عند كل اتصالي به ! أبي اعتقد أنه تحدى محرك البحث "جوجل" و ما شابهها من محركات .. يستعمل معي ( كلمات مفتاحية في الحوار! ) هكذا أفسّر أسلوب حديثه معي عبر الهاتف : "ما أخبار مجدي ؛ أوّل واحد يسأل عنه ثم يسأل عن بقية أحفاده ماجدة و ماجدولين )، كلكم بخير ؟ اهتموا بأنفسكم ، كان الله في عونكم عبارة و دعاء يختم بهم الدردشة معي ." -كما هذا الصباح حدث بالضبط ما يحدث دائما بيني و بين والدي من دردشة لأنظر بكل فضول إلى عدّاد المكالمة لأتأكد من مدة بقاء أبي معي على الخط ، هذا الصباح ختم والدي مكالمته برقم قياسي جديد يستحق الإمعان و التوثيق في مسلسل محادثاتي معه.. ستون ثانية لا زيادة و لا نقصان ! ستّون ثانية عبّر من خلالها والدي عن كل ما يجول بخاطر رجل ثمانيني يتحدث مع إبنه البكر ! اجتاحتني نوبة ضحك و أنا في خلوتي في البيت بعد انتهاء تحدّي الاتصالات بيني و بين والدي حفظه الله! قلت في نفسي ياه! ياه يا بابا ! والله لأنك عدوّ الثرثرة و سيّد الكلام القليل الدّال ! . أسعدني كثيرا سماع صوت والدي فكل ثانية سمعتُ فيها أنفاسه كانت تساوي بالنسبة لي أبدية من الكلام . أبّدني والدي فيه من خلال دقيقة واحدة يتيمة( ستّون ثانية ).
عندما أنهيت مكالمتي معه لم أتأّخر في مهاتفة والدتي الساكنة بين تخوم ( شيليا) هي جبال و مرتفعات سليلة جبال "الأوراس العظيمة ) ( ولاية خنشلة )و حصلت على صوتها وردها للوهلة الأولى رغم رداءة شبكة الاتصال بها .. وجدتها خارجا ، كانت بصدد قضاء بعض حوائجها و هو بادٍ عليها في هذا اليوم المبارك كانت تستعد و تحضر اللمسات الأخيرة لاستقبال عيد ( الأضاحي و التضحيات ) !.
أُمّي عكس والدي تماما في كل شيء تفكيرا و تدبيرا ، هنا خطّان مستقيمان لا يلتقيان و هذا دليل كاف أنهما انفصلا منذ عهود عابرة …
-كانت أُمّي مرتبكة بفرحتها التي أحدثتها مكالمتي ، و راحت تمطرني بأسألة كالمعتاد و ككل أمّ عن أحوالي و أحاول الأولاد و الجميع و هي أيضا بكل عنصرية و - تجنّس عاطفي - تسأل عن ماجدة و خاصة مجدي حيث أسْرتْ بألم و حسرة شوقها الرهيب له ! .. جرّتني أُمّي إلى الحديث عنه دون أن أشعر ، فقلت لها أن حفيدها لا يكاد تضييع أي فرصة في التملّق و التبجح و الافتخار و الإعتزاز بنسبه و بجذوره الجزائرية " الشّاوية "، و في كل مرة يستخرج لنا جملته الطقس :" أنا جزائري أنا شاوي ، أنا راجل !"
انفجرت أُمّي تضحك و تبكي في آن و أنا أسمع كفكفة دموعها من خلال أنفاسها المخترقة للمسافات عبر اللاسلكي ! كان قلبي يتأرجح بين حبال الغياب .. استرسلت أُمّي معلقة على ما سردته عن حفيدها :" يا يُمّه ! يا يُمّه ! يا كَبدي .. ربّي يحفظك ! "…
ثم ذكّرها ما قلته عنه لها فسألتني ضاحكة :
هل تذكر يا " فيصل " لما كنتُ عندكم في باريس قبل 14 سنة و كنت أحكي له و هو متكئ على حجري و أقصّ عليه بعض من تاريخ و مأساة آبائه و أجداده و ما كانوا يعانوه مع المستعمر الفرنسي ، فمجرد انتهائي من الحكي حتى خرج "مجدي " متذمّرا حزينا من البيت على عجلة فائقة من أمره و راح يبحث عن أي طفل فرنسي من سنه في الحي و لمّا عثر على واحد منهم ( أعطاه طريحة !) و اعتدى عليه و عنّفه بالضرب و هو يردد على مسمع ذلك الطفل الفرنسي البريء :" أنا شاوي ، أنا جزائري ، يا ولد الكلاب ! ".. انفجرت ضحكا بهيستيريا كبيرة و أمي تذكرني بما فعله مجدي الطفل بكل حماقة صبيانية مع نظيره الطفل الفرنسي ! أين تدخلت وقتها و أدّبتُ مجدي تأديبا عنيفا جزاء لما أقدم عليه من ظلم و لو لا تدخّل أمّي و حمته من غضبي لكنتُ أذيته يومها !
- نعم .. نعم تذكرت يا يمّه و هل يُنسى ذلك اليوم و هذه الحادثة!!
- كنت أدردش مع والدتي و نعيد نفس الأسئلة بصيغ مختلفة لبعض الدقائق ؛ هي تريد أن تطيل بأي وسيلة لإبقائي على الخط و أنا كذلك ..
كنت بمشاعري و عواطفي في حضرتها ألهث من مكاني إليها بكلي ، كان حينها لأشواقي صفاها و مرواها و للفقد مرويته الخاصة ل المواجع ، و كلما انفلت وجع مني أكظمه حتى لا تتأذّي به أُمّي السبعينية المريضة، فآمر الوجع أن يزمّ ثغره : زمْ ! زمْ! زمْ ! ابقَ هنا في صدري أيها اللعين ! ، لا تذهب و تمرّ إليها ، سأفدي أُمّي بكتمان وجع قلبي المذبوح المنتظر للهدي العظيم طيلة خمس عقود من الوجود !.. كنتُ و هي تتحدث إليّ أُبتِكُ بمقاومة شديدة لحزني آذان الآلام المتراكمة في صدري و التي كانت تتراقص و أطلق بدوري رقصات الفرحة بلقاء أُمّي و هي تحكي أشواقها و تروي حفيدها بكل ذلك الشوق و الفقد !. إنها وقفتي و من وقفاتي لهذا اليوم المبارك !.
*باريس الكُبرى جنوبا - 8 جويلية 2022








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة


.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با




.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية


.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-




.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ