الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايات عادية جدا، الحكاية الثالثة: الأسطورة

إدريس الخلوفي
أستاذ باحث

(Lakhloufi Driss)

2022 / 7 / 10
الادب والفن


حكايات عادية جدا
الحكاية الثالثة: "الأسطورة "
فليكن ما يكن، المهم أسد جوعي وبعدها ننظر في الحلال والحرام. هكذا قال العربي بينه وبين نفسه، لحق بالصبي الذي كان قد دخل من باب صنع من القصب، يفضي إلى فناء مغطى بنبتة كرم اعتلت شجرتي لوز متقابلتين لتشكل سقفا يوفر ظلا وفيرا، لمح وراء ستارة نصف مفتوحة مجموعة من النساء يتهامسن ويسترقن النظر إليه، فبدأت الوساوس تساوره، هل دبرن مكرها لي؟ أليس كيدهن عظيم؟ لكن ماذا سيدبرن لمتشرد مثلي؟ حول بصره للناحية الأخرى من الفناء، فلمح عجوزا يبدو الوقار عليها، وأمامها صحن كبير مصنوع من الطين، مملوء بالكسكس حتى لم يعد به متسع، تكوم الكسكس على شكل هرم بدون زوايا، أو على شكل جبل، وكان الكسكس مغطى بشتى أنواع الخضر، من جزر ويقطين أحمر وأخضر، ولفت، وملفوف، وفي قمة الهرم قطعة كبيرة من اللحم، كانت القصعة تكفي عشرين شخصا على الأقل، فكاد العربي أن ينقض عليها من فرط جوعه، لكن تمالك نفسه.
حيى العجوز التي ردت عليه التحية، وقالت: يبدو أنك جائع؟
رد العربي بإيماءة من رأسه تفيد الإيجاب.
تفضل اجلس يا بني، قالت العجوز.
جلس العربي على كرسي مصنوع من القش وقطع من الفلين، تناول ملعقة وشرع في ملء بطنه.
نظر إلى العجوز وكأنه يستأذنها في كمية الطعام الذي يأكله، فمن الواضح أن الوجبة تخص النسوة اللائي بالداخل.
فهمت العجوز قصده وبادرته قائلة: كل يا بني حتى تشبع، يبدو أنك غريب وتتساءل الآن لماذا طلبناك لتحلل طعامنا؟
أومأ العربي بالإيجاب، ففمه المليء بالطعام كان يعيقه في الكلام.
قالت العجوز: إن لكل قبيلة أو قرية تقاليدها التي ورثتها عن أسلافها، ونحن أيضا لدينا تقاليدنا، إن اليوم يا بني هو يوم سوق أسبوعي، والسوق بعيد حيث يستغرق من رجالنا قرابة اليوم، يخرجون فجرا ولا يعود أول العائدين إلا بعد العصر، يوم السوق يتوجب على كل ذكر بالغ أن يتسوق مع رجال القبيلة، ولا يبقي بالقرية إلا النساء والأطفال غير البالغين، أثناء غياب الرجال تجتمع نساء القبيلة في بيت إحداهن، وتحضر كل واحدة بعضا مما يمكن طبخه، يقضين اليوم كله في إعداد الوليمة، لا يحق لهن الأكل منها قبل أن يحللها ذكر بالغ، أي أن قصعة الكسكس هذه لن تحل للنساء حتى تشبع منها جوعك، وإذا حدث أن أكلت إحداهن بشكل سري وتم ضبطها، تنبذ في القبيلة ويطلق عليها لقب "كرش الحرام".
عندما انتهت العجوز من سرد حكايتها، كان العربي قد ملأ بطنه عن آخره، فطلب بعض الماء، قدمت له العجوز قلة ماء من الفخار ملفوفة بقماش صوفي نبتت بينه وبين القلة شتائل الشعير التي زرعت عن قصد وذلك حتى تحافظ القلة على برودة الماء.
لا أخفيكم اندهاشي الشديد من هذا السلوك، فقد حاولت جاهدا إيجاد تفسير مقبول له، وقد خلصت للتالي: تفرض القبيلة على كل ذكر بالغ أن يتسوق مع رجال القبيلة، وذلك ضمانا لخلو الدوار من أي إمكانية لحدوث أي خيانة أو علاقة غير شرعية، وتجتمع النسوة درءا لأي شبهة، فكأن كل واحدة منهن تشهد باقي النساء أنها لم تقدم على أي فعل مشين، أما عبارة كرش الحرام التي تطلق على من أكلت قبل عودة الذكور، فهي أبشع وصمة يمكن أن توصم بها امرأة، لأن كرش الحرام تطلق عادة على الحمل غير الشرعي، وبهذا الطقس، تكون القبيلة قد ضمنت شرف نسائها، وينصرف الرجال إلى السوق مرتاحي البال.
شكر العربي العجوز وأكمل طريقه.
عند مغيب الشمس، كان العربي قد وصل قرية أخرى وكان التعب قد بلغ منه مبلغا شديدا لدرجة لم يعد يقوى على الخطو، فكان يجر قدميه جرا، وكانت قدماه قد تورمتا، خصوصا أنه كان يرتدي حداء بلاستيكيا يشبه حداء كرة القدم، يسمى محليا "البوكة" كان يرتديه بدون جوارب، ومن كثرة التحرق والغبار الذي أصبح لزجا لاختلاطه بالعرق، انسلخت رؤوس قدميه لدرجة أنها نزفت دما، توقف العربي، ورنا بعينيه نحو مختلف الجهات بنظرة متفحص، فإذا به يلمح صومعة مسجد. قرر العربي التوجه نحو المسجد ليصلي، ويستطلع ما إن كان بإمكانه المبيت.
بسرعة نفد الخطة، في طريقه لمح جدول ماء يجري وسط غابة، توجه نحوه وفك حداءه الذي لم يعد يطيقه، استحم بماء الجدول ثم توضأ وقصد المسجد، وصل قبل موعد الصلاة، فدخل وصلى ركعتين، ثم قصد مكانا به سارية، فجلس جاعلا من السارية متكأ لظهره.
بعد قليل رفع الأذان، ثم ما فتئ المصلون يتوافدون على المسجد، أقيمت الصلاة، وبعد أن فرغ الإمام من دعاء ما بعد الصلاة، والصلاة والسلام على خير خلق الله، انصرف كل شخص إلى حال سبيله، إلا الإمام الذي كان قد نوى قراءة بعض القرآن بين صلاة المغرب وصلاة العشاء، والعربي الذي كان ينوي المبيت، بدأ الإمام في قراءة ما تيسر من الذكر الحكيم، وإذا به يسمع صوتا يتلو معه بشكل جميل، التفت الإمام، فإذا به يلمح ذلك الغريب عن المسجد والذي هو العربي يقرأ معه بكيفية متناغمة، للإشارة فالعربي عندما غادر المدرسة مكرها التحق بالكتاب أو ما يسمى محليا ب"المسيد" وهو مكان لحفظ القرآن الكريم، وقد حفظ أزيد من ثلثي القرآن الكريم عن ظهر قلب، والثلث المتبقي يمكنه تلاوته وسط جماعة من القراء.
بعد صلاة العشاء والشفع والوتر، غادر الجميع إلا العربي، تقدم منه الفقيه، وقال له: يا بني، ألك عندي حاجة؟
أجاب العربي يا مولانا الفقيه، أنا عابر سبيل، وقد أنهكني الطريق، هل يمكنني قضاء الليلة في المسجد؟ قطب الفقيه حاجبيه وبدأ يمسح بيمناه على لحيته التي يتخللها الشيب، ثم قال: أنت تعلم يا ولدي أن المساجد هي بيوت الله، لكن لم تعد كذلك، فالدولة أصدرت أوامرها بأن لا تفتح أبوابها إلا في أوقات الصلاة، وتغلق مباشرة بعد ذلك، حتى خطبة الجمعة تأتينا مكتوبة، ومن خرج عن النص يعاقب، لكن أرى أنك من حملة كتاب الله، لهذا سأعقد معك إتفاقا، سأغلق عليك الباب من الخارج حتى لا يشك أحد في الأمر، وعند الفجر أوقظك لنصلي الفجر وتكمل طريقك، سر العربي كثيرا لهذا الأمر، فعلى الأقل ضمن مبيت ليلة، وبعد ذلك مذبرها حكيم.
قبل خروج الفقيه، بعد أن قطع بضع خطوات، توقف وكأنه تدكر أمرا، ثم قفل عائدا نحو العربي الذي كان يبحث عن المكان الذي يلقي عليه بجسده، لم يسأله، لأن حالته كانت تجيب دون طرح السؤال، ثم قال: انتظر يا بني، لا تنم الآن، سأحضر لك بعض الطعام، شكره العربي على كرمه ودماثة خلقه، بعد قليل عاد الفقيه يحمل بعض الطعام، وكيسا به بعض الفواكه، من بينها فواكه جافة، كالتين واللوز والزبيب، وقال له: تناول الطعام، واحتفظ بهذه الفواكه قد تفيدك في الطريق.
هل وجه العربي فرحا، وحاول تناول يد الفقيه لتقبيله تعبيرا عن الامتنان، فجر الفقيه يده بحركة سريعة وهو هو يردد: استغفر الله العظيم، استغفر الله العظيم.
خرج الفقيه بعد أن تمنى للعربي ليلة سعيدة، وأغلق باب المسجد من الخارج.
بعد تناوله لعشائه، غط العربي في نوم عميق، وأثناء نومه رأى حلما، رأى أن طائرا عملاقا يحمله من كتفيه، ويرتفع به عاليا في السماء، حاول أن يقاوم، أن يصرخ، لكن دون جدوى، استمر الطائر في الارتفاع حتى بدأت الأرض تبدو كقرص صغير، وفجأة فك الطير مخالبه وترك العربي يهوي في السماء السحيقة، بدأت الأرض تكبر و تكبر كلما اقترب منها، كان يهوي في اتجاه صخرة مسطحة، وفي اللحظة التي أوشك على الارتطام بها، أيقضه صوت أذان الفجر، هب العربي جالسا وقلبه يخفق بشدة لدرجة أنه يكاد يخرج من قفصه الصدري، والعرق يتصبب من جبينه، حمد الله أنه مجرد حلم، لكن نفسه توجست من أن مكروها على وشك الحدوث.
توضأ العربي، وصلى الفجر جماعة مع الزمرة القليلة التي تؤمن بأن الصلاة خير من النوم، ودع الفقيه وانصرف مكملا طريق مغامرته، وهو يقول بينه وبين نفسه، اللهم اجعل هذا الحلم خيرا.
يتبع.....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير