الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شخصية الانتهازي في السرد القصير عبده الوزير إزازة سابقا أنموذجا

صبري فوزي أبوحسين

2022 / 7 / 10
الادب والفن



التسلق والانتهازية والوصولية سلوك اجتماعي يشيع في ظلال الأنظمة التي توصف بالنامية على سبيل المجاز المهذب! ومن ثم وجدنا هذا السلوك باديًا في بنية كثير من الأعمال الروائية العربية الحديثة، لاسيما عند أديبنا العالمي نجيب محفوظ حيث شخصية سعيد مهران في روايته(اللص والكلاب)، ومحجوب عبدالدايم في روايته (القاهرة الجديدة)، وشخصية سرحان البحيري في رواية (ميرامار) وشخصية يوسف في رواية (الرجل الذي فقد ظله) لفتحي غانم... وقد استحوذت شخصية الانتهازي بشدة على اهتمام الكاتب المصري عمرو عبد السميع، وهو رسام كاريكاتير، وكاتب سياسي، وأحد كتاب الادب الساخر البارزين في الصحافة المصرية، حتى إنه ليخصص لها روايتين متواليتين: الأولى بعنوان «كفاحي.. صفحات من سيرة المناضل المتقاعد طلبة هريدي»، والثانية بعنوان: «الفنطاس ـ قصة حياة أمة"...وغير ذلك من الأعمال الحديثة والمعاصرة! التي يمكننا من خلال إحصائها أن نقرر أن شخصية «الانتهازي» في الرواية العربية الحديثة، ذات حضور بارز، أدى بها إلى أن تكون «شخصية نمطية» في أدبنا الروائي الحديث والمعاصر،...
فهل اقتصر الأمر على الرواية فقط، كلا؛ فها نحن أولاء نقف مع تجربة سردية قصيرة لقاص جامعي معاصر هو الدكتور محمد عمر، أستاذ الأدب والنقد ووكيل كلية الآداب لشئون التعليم والطلاب لدي جامعة العريش، في تجربته (عبده الوزير ..إزازة سابقًا)؛ حيث تدور سرديتها حول تلك الشخصية المتسلقة الوصولية الانتهازية النفعية الخائنة المخادعة المتلونة المتشدقة، وهي تجربة آسرة فيها ما يجذب، وفيها دلالات عديدة وعطاءات متنوعة، ومن ثم أقف وقفات نقدية مع بنياتها البارزة والموظفة بقدرة عالية لأداء الرسالة إلى المتلقين، وذلك على النهج الآتي:
1- بنية الحبكة
صب الكاتب تجربته في قالب قصير، مكون من ثلاث صفحات من القطع المتوسط، وتكون من إحدى وخمسين وستمائة كلمة، وهو يقرأ قراءة أولى في عشر دقائق أو أقل! وهي مكتوبة بلغة خبرية خطابية مباشرة، واستخدم فيها الكاتب ضمير الغائب، وكان هو بمثابة الراوي العليم، وقد استدعى من ماضي الشخصية ما يدل على تقلبها! وتخلو التجربة من حوار فهي قائمة على أسلوبي الوصف والسرد بتوازٍ، وكانت اللغة عند البطل وسيلة من وسائل انتهازيته وتسلقه، حيث يصفه الكاتب بقوله:" كلماته تائهةً وملفَّقةً، تجمع بين العبارات المسكوكة المبتذلة المقتبسة من أفلام ومسلسلات وأغانٍ واجتهادات عبثية بتحوير عبارات شبابيَّة في محاولة جاهلة للارتقاء بها، ولكنَّها مثيرةً للشَّجن ومحفزة للدموع من محاجرها بما حملته من نبراته المستعطفة، ونظراته المتسوِّلة لمشاعر كبار الزوّار والرعاة...
وقد بنى الكاتب عمله السردي من عنوان وجملة أحداث، جاء العنوان مكثفًا مساعدًا في أداء مغزى التجربة.
أما الأحداث فهي مشاهد من حياة بطل القصة(عبده) دالة على صفة واحدة تعد رذيلة منفرة، هي الانتهازية والوصولية والتسلق، بدًا من مشهد مهيمن في أعطاف الأقصوصة بدءًا ووسطًا وختامًا، هو مشهد ارتباط الشخصية بعنصرين: القلم والكرسي، القلم الوسيلة في نظر الشخصية لتحقيق هدفه، الذي يعبده، وهو(الكرسي)! ومن ثم كان هذا الارتباط في وصف الكاتب" مشهدا محوريًّا في حياتهِ كلِّها"، ثم يكثف الكاتب أحداث عمله بقوله عن البطل:" يطرقُ عبده بالقلمِ طرقاتِهِ المعتادة، ويلتفتُ التفاتةً خاصَّةً في كلِّ مرَّة..." فالطرقات المعتادة هي الانتقالات الفجائية التي سيحدثها في مسيرته الحياتية: التعليم، البحث العلمي، السياسة، الثقافة، وهو في هذه الانتقالات يسخر الكثيرين من العوام والسذج بل وأساتذة الجامعة والإعلام، كما أنه يتاجر بأثمن شيئين: ست الكل، والوطن، وقد يقول قائل: كان ينقصه (الدين)! ولعل الكاتب لم يذكر (الدين) هنا ليدل على أن البطل لم يكن يُعنَى بأمر (الدين)؛ نظرًا لكونه صار هامشيًّا في بيئته، فالعلماني مقدم على المتدين في زمن الروبيضات والتافهين، ومن ثم كان من الانتهازية لدى البطل ألا يظهر في أي مشهد خاص بالدين قبولا أو نفارًا !!
وينتقل بنا الكاتب بالبطل في مشهد الإنجاز المزعوم، حيث نجاحاته اللَّافتة، التي تدهش كلَّ من حوله؛ حتى أولئك الطلاب/الضحايا، الذين استحوذ على إجاباتهم وإشاراتهم في الامتحانات المتتالية، وعلى أصواتهم في انتخاباتِ الاتِّحاد! ثم عن "علاقاتهُ بأساتذتهِ الذين يتولّى لهم جمعَ الأموالِ من جُيوبِ أولياءِ أمورِ الطُّلَّاب بمهارةٍ وحذق ثَمنًا للكُتبِ الدراسيَّةِ والمُذكّرات والمُلخَّصات وأوراق الأسئلةِ السِّحريَّة والسِّريَّة ذوات الأختامِ الصُّكوكيَّة..." في إدانة واضحة للحال الجامعية المتدنية، حيث تتحول الجامعة إلى مكان تجاري رخيص، فما الطلاب إلا رؤوس، وما الهدف منهم إلا جلب النقود بكل وسيلة ممكنة أو غير ممكنة عن طريق الوسطاء أمثال (عبده) الذي سيصير الدكتور عبده! بسبب هذه العلاقات الرخيصة المبتذلة! ووصف الأختام بالصكوكية انتقاص للحالة الجامعية التي صارت فيها الأختام صكوك غفران أو نجاح!
وفي مشهد وسط حيث حفل تخرجه نجد إشارة ذكية من الكاتب إلى من صنع هذا النموذج البشري السلبي الساقط إنه الفن الدرامي والسينمائي الذي جهل الانتهازي هو الحلم وهو المثال وهو القدوة وهو الناجح وهو المنتصر، وقد أشار إلى ذلك الكاتب بقوله:" اضطرّ أن يخفيَ بريقَ عينيهِ بنظارةٍ سوداءَ، أكسبتهُ مهابَةً ووقارًا، جمعَ فيها بين ملامح شخصيّتي: حسن اللُّول، والباشا لأحمد زكي في مزيج عجيبٍ، بتناقضاته..." ولعل شخصية (عبده موتة) التي جسدها المدعو محمد رمضان قريبة الصلة بشخصية عبده هنا، وإن كان (موتة) حاضرًا في المجتمع الشعبي فقط أما (عبده الوزير) فقد ارتقى إلى طبقات المجتمع العليا سياسيًّا وعلميًّا وثقافيًّا وإعلاميًّا! وبعد مشهد التخرج من مرحلة الليسانس نجد مرحلة مشهد الحصول على الدرجات العلمية العليا عن طريق استثمار علاقاته بأساتذته، وعن طريق تسخير طلاب الدراسات العليا المجيدين والفقراء !!
والمشهد الختامي في الحالة الثقافية حيث حصول البطل على جائزة ثقافية كبرى، وتشكيك البعض في مدى استحقاقه إياها ودفاعه عن نفسه وتوظيفه لعمله السياسي والوطني وعلاقاته الإعلامية في الدفاع!
إننا أمام أنموذج بشري تسلق على أكتاف الكثيرين من ست الكل، ومن طلاب، ومن باحثين فقراء، ومن أساتذة تجار، ومن حالة سياسية قائمة على ميكيافلية رخيصة، ومن إعلام مأجور، ومن فن ضال مضل! إنه زمن يدل عليه تساؤلات البطل: هل كلّ ذنبي أنّني وطني؟ هل ذنبي أني وزير؟ أكلّ ذنبي أنني عبقري في زمن لا يؤمن بالعباقرة؟! إنها تساؤلات معبرة عن حالة التردي التي انحدر إليها المجتمع الذي علا فيه (إزازة)، وانحط فيه طلاب العلم الفقراء!
وقد ترك الكاتب تجربته مفتوحة غير مغلقة، فلم يعلن لنا عن نهاية للبطل، ولا نهاية لهذا الصراع الثقافي والإعلامي حول(عبده الوزير، إزازة سابقًا)!


2- بنية العنوان:
(عبده الوزير ..إزازة سابقًا) تعبير اسمي، يدور حول شخص له لقبان(عبده الوزير)، و(إزازة)!
ولفظة(عبده) مصرية بامتياز، وتكاد تكون من مجال الصحافة أيام مجدها في الستينيات وما بعدها، حيث نتذكر جميعًا شخصية (عبده مشتاق)؛ فضمير الغائب ليس راجعًا إلى الذات العلية بل إنه راجع فقط إلى(المنصب)، و(الهدف) فهو عابد فقط ومشتاق فقط لأحدهما! فـ"عبده مشتاق» نموذج لشخصية متسلقة، تحلم بالوصول إلى السلطة، ولكن حلمه دائمًا لا يتحقق، فيحاول بكل أشكال النفاق والرياء أن يصل إلى هدفه، تلك الشخصية التي ابتكرها الراحل أحمد رجب ورسمها الفنان الراحل مصطفى حسين.
وتعبير (عبده الوزير) اسم ممثل مصري اشتهر بدور المتحرش الفاتك، وكأنني بالقاص هنا يتهم هذه الشخصية بالاشتياق إلى المنصب، والتحرش عبر تعامله مع الأحياء! ولفظة(إزازة) من العامية المصرية، ومقابلها الفصيح(زجاجة)، وهي تشير إلى السلوك الشائن عند بعض شباب البيئات الساقطة من إدمانها الخمور والمخدرات؛ فهؤلاء مرتبطون بالإزازة ارتباطًا دائمًا؛ فهي مصدر متعتهم ووسيلة سكرهم وعربدتهم! ويدل على هذا التحليل وصف القاص لبطله" عبده إزازة؛ كما عرفَهُ زملاؤهُ في أوَّل سنوات الدِّراسةِ شاردًا، يهرفُ بكلماتٍ عبثيَّةٍ، تحمل كلَّ سماتِ الجَهل، وفوضويًّا في تصرُّفات تعبِّر عن مستواهُ الاجتماعيّ والفِكريّ المُتدنّي، ومُترنِّحًا كأنَّهُ في حالة سُكْرٍ دائم حتَّى لقَّبوه عبده إزازة بما انعكس عليه من طول معاشرة الأوغاد والأوباش من كل صِنفٍ"!
وبقراءة كلية للنص القصصي يمكننا أن نرى أنه كان أمام القاص جملة بدائل لهذا العنوان، مثل: (عبده)، و(عبده الوزير)، و(إزازة سابقًا)، و(الدكتور عبده)! هذه البدائل كانت أمام القاص، ولكنه آثر(عبده الوزير ..إزازة سابقًا) فلِمَ؟!
إن القاص أستاذ جامعي معلم غايته البيان، وفي عنوانه ما يساعده على إنجاز هذه الغاية! فهذا العنوان يكاد يكون نصًّا جامعًا معبرًا عن مغزى القص ومرماه، وهو الإشارة إلى هذه الشخصية المتسلقة، والمنتقلة من حال سفلي(إزازة) إلى حال علوي(الوزير)! كما أنه عنوان يحمل إدانة للمجتمع الذي يكون فيه هذا(العبده)، والذي يشهد ما زوره من إنجازات وتطورات ومكتسبات مُزَيَّفة، ويكتفي بالمشاهدة، من غير أي موقف نقدي أو نضالي ضد هذا الفساد الذي أخرج هذا المفسد! !!
3- بنية الشخصية:
تكاد نكون هذه الأقصوصة قائمة على شخصية محورية في كل أجزائها، شخصية(عبده) الذي يتطور مع الأحداث، يستغل القلم الذي هو رمز (العلم) أو قل وسيلة الحصول على (الشهادة) والتي هو عبد لها في بداياتها لأنها سبب الوصول إلى قادم أهدافه! ومن ثم يركز القاص على ذلك في وصفه:" يطرقُ بأسفل القلمِ على طرفِ الكُرْسي في لجنةِ الاختبار مشهدا محوريًّا في حياتهِ كلِّها. يطرقُ عبده بالقلمِ طرقاتِهِ المعتادة، ويلتفتُ التفاتةً خاصَّةً في كلِّ مرَّة لطالبٍ مختلف..." وهو في ذلك له(طرقات متعددة) و(التفات خاصة)! ثم ينتقل إلى انتخابات الاتحاد، وإلى علاقته بأساتذته! فيفعل الأفاعيل التي من شأنها أن تكون وسيلته في التسلق على أكتاف الآخرين وعلى جهدهم، فيسبقهم وسط دهشتهم وحيرتهم!
ويظل القلم والكرسي حاضرين مع الشخصية البطلة(عبده الوزير) في كل مراحل حياته حتى المشهد الأخير: مشهد الدفاع عن استحقاقه الجائزة الثقافية حيث وصفه القاص: أخذ عبده ينقرُ بظهر القلم على طرف الكرسي وهو ينظر نظرة حزينة وعميقة ومتقنة مستنكرًا تلك الحملة الحاقدة المشككة في جدارته بالفوز بتلك الجائزة الكبرى"، ثم وصفه بـ "تتابعت نقراته بالقلم مع نبرات صوته الاحتجاجيّة..."
وفي مشهد ثان مع توالي صُعودِ عبده نجده يضطرّ أن يخفيَ بريقَ عينيهِ بنظارةٍ سوداءَ، أكسبتهُ مهابَةً ووقارًا، جمعَ فيها بين ملامح شخصيّتي: حسن اللُّول، والباشا لأحمد زكي في مزيج عجيبٍ" وكأني بالقاص هنا يدين الفن السينمائي والدرامي وينتقصه، ذلك الفن الذي أعلن هذه الشخصية الانتهازية وسوق لها وعرض في بهرجة ساحرة ومفخرة مبهرة! ونجد دلالة على هذه الإدانة في وصف القاص بطله في حفل تخرجه، حين وقفَ وسط قاعة الاحتفال ماسِكًا بالميكروفون، خاطفًا عيون المدعوين ومشاعرهم بطريقة جمعتْ بين مشهد محمود الخطيب التاريخيّ يوم اعتزاله وكلماته البسيطة الآسرة: ألف شكر.. ألف شكر، وكلمات أحمد زكي الوداعيَّة التي دعا فيها الناس للصِّدق في المشاعر والإيمان بالحبّ والعمل وقيمة الحياةِ. أخذَ عبده يصيحُ بداية بأدبٍ مصطنع: بالله يا إخواننا، أوقفوا التَّصوير، لا أريد تصويرًا ولا كاميرات، هذه لحظة صِدق لا أريد إفسادها وتعكير مشاعرنا النقيَّة الصَّادقة. تحوَّل صوتً عبده الأجشّ المتقطّع الذي يحمل صوت علي الشّريف ونبرات محمد رمضان إلى بحّة عبد الحليم حافظ في مرضه الأخير، وهمس ممدوح عبدالعليم تارة وخالد صالح في مرض الموتِ" فالفن السينمائي والدرامي هو الذي علم عبده لغة الخطاب المخادعة المؤثرة! حيث الشخوص: عبدالحليم، وأحمد زكي، وممدوح عبدالعليم، وخالد صلاح، ومحمد رمضان، إضافة إلى النجم الرياضي الخلوق محود الخطيب الذي أرى إدخاله بين هؤلاء غير سديد! فليس بممثل: لم يكن وأظنه لا يكون إن شاء الله!
وهكذا انتقل البطل المصنوع المزيف (عبده) من(عبده إزازة) إلى (عبده الدكتور) ثم(عبده الوزير)! انتقالات ثلاث عجيبة ومريبة! لا يفسرها علم ولا يتقبلها عقل، ولا توجد إلا عن طريق إعلام مضلل وفن هابط رخيص ومجتمع اضطرب في أولوياته واهتماماته! ويوازيها عبده الطالب، عبده الباحث الجامعي، عبده السياسي، عبده الحاصد للجائزة الثقافية الكبرى، وعبده الوطني!
وتوجد شخوص هامشية معممة في النص عبر عنها بلفظ الجمع مثل(الطلاب، الأساتذة، أولياء الأمور، الأوغاد والأوباش، المدعوين) إضافة إلى ست الكل التي ذكرها كنوع من التجمل ببرها والمتاجرة به، إضافة إلى الفقراء الذين كتبوا له رسالتيه وأبحاث تَرَقِّيه! حيث وصفهم القاص بأنهم" أولئك الفقراء من رفقاء الطريق الذين كتبوا رسالتيه وأبحاثه كتبًا ومقالاتٍ تحمل توقيعه البارز المميز اللافت"!
ومن الشخصيات التي كانت وسيلته في التسلق المذيعة التليفزيونية التي وصفها القاص بــ "برنامج تلفزيونيّ يحمل اسم مذيعَتَه الشّهيرة ليحكي قصَّة حياته ورحلة كفاحهِ". وهي مذيعة ممثلة فاشلة في أداء دورها المخادع، حيث وصفها القاص:" ووجه المذيعة التي اختفت ضحكاتها فجأة لتتساقط دموعها التي لم تفلح في حجبها رغم محاولاتها المتقنة!"
وما زال في هذه التجربة الكثير الذي يمكن أن يقال! ولعلي! ولعل غيري يقدم جهدًا قرائيًّا إضافيًّا حول هذه التجربة، في قادم الوقفات معها، إن شاء الله.



النص المقروء:
عبده الوزير ..إزازة سابقًا: بقلم د.محمد عمر
ظلَّ مشهدُ عبده وهو يطرقُ بأسفل القلمِ على طرفِ الكُرْسي في لجنةِ الاختبار مشهدا محوريًّا في حياتهِ كلِّها.
يطرقُ عبده بالقلمِ طرقاتِهِ المعتادة، ويلتفتُ التفاتةً خاصَّةً في كلِّ مرَّة لطالبٍ مختلف؛ فيفهم إشارته باتفاق مسبقٍ، ويرسل له بالإجاباتِ عبر إشاراتٍ تحمل شيفرةً سريةً بإجاباتٍ سريعةٍ ومتقنةٍ، تسمح بها أنظمةُ الاختباراتِ العبثيَّة.
مع مرور السّنواتِ يستمرّ طرق عبده وارتفاعه في الدَّرجات ونجاحاته اللَّافتة تدهش كلَّ من حوله؛ حتى أولئك الطلاب الذين استحوذ على إجاباتهم وإشاراتهم وأصواتهم في انتخاباتِ الاتِّحاد التي فازَ بها بسهولة عبر سنواتِ الدِّراسة محافظًا على سُلطة خفيّةٍ، كوّنتها علاقاتهُ بأساتذتهِ الذين يتولّى لهم جمعَ الأموالِ من جُيوبِ أولياءِ أمورِ الطُّلَّاب بمهارةٍ وحذق ثَمنًا للكُتبِ الدراسيَّةِ والمُذكّرات والمُلخَّصات وأوراق الأسئلةِ السِّحريَّة والسِّريَّة ذوات الأختامِ الصُّكوكيَّة.
ومع توالي صُعودِ عبده اضطرّ أن يخفيَ بريقَ عينيهِ بنظارةٍ سوداءَ، أكسبتهُ مهابَةً ووقارًا، جمعَ فيها بين ملامح شخصيّتي: حسن اللُّول، والباشا لأحمد زكي في مزيج عجيبٍ، بتناقضاتهِ التي تشي بتحوُّل عبده إزازة؛ كما عرفَهُ زملاؤهُ في أوَّل سنوات الدِّراسةِ شاردًا، يهرفُ بكلماتٍ عبثيَّةٍ، تحمل كلَّ سماتِ الجَهل، وفوضويًّا في تصرُّفات تعبِّر عن مستواهُ الاجتماعيّ والفِكريّ المُتدنّي، ومُترنِّحًا كأنَّهُ في حالة سُكْرٍ دائم حتَّى لقَّبوه عبده إزازة بما انعكس عليه من طول معاشرة الأوغاد والأوباش من كل صِنفٍ.
كان حفل تخرجه يوما فاصلًا بامتياز حين وقفَ وسط قاعة الاحتفال ماسِكًا بالميكروفون، خاطفًا عيون المدعوين ومشاعرهم بطريقة جمعتْ بين مشهد محمود الخطيب التاريخيّ يوم اعتزاله وكلماته البسيطة الآسرة: ألف شكر.. ألف شكر، وكلمات أحمد زكي الوداعيَّة التي دعا فيها الناس للصِّدق في المشاعر والإيمان بالحبّ والعمل وقيمة الحياةِ.
أخذَ عبده يصيحُ بداية بأدبٍ مصطنع: بالله يا إخواننا، أوقفوا التَّصوير، لا أريد تصويرًا ولا كاميرات، هذه لحظة صِدق لا أريد إفسادها وتعكير مشاعرنا النقيَّة الصَّادقة.
تحوَّل صوتً عبده الأجشّ المتقطّع الذي يحمل صوت علي الشّريف ونبرات محمد رمضان إلى بحّة عبد الحليم حافظ في مرضه الأخير، وهمس ممدوح عبدالعليم تارة وخالد صالح في مرض الموتِ.
ظلّ عبده يكرّر عبارات الشُّكر لستّ الكُلّ التي لولاها لما وقف في هذا المكان، ولما اجتمعت هذه الحشود لتهنئته بهذا النّجاح السَّاحق. كانت كلماته تائهةً وملفَّقةً، تجمع بين العبارات المسكوكة المبتذلة المقتبسة من أفلام ومسلسلات وأغانٍ واجتهادات عبثية بتحوير عبارات شبابيَّة في محاولة جاهلة للارتقاء بها، ولكنَّها مثيرةً للشَّجن ومحفزة للدموع من محاجرها بما حملته من نبراته المستعطفة، ونظراته المتسوِّلة لمشاعر كبار الزوّار والرعاة الذين يحرصون عادة على صدارة المشهد، والبروز في الصُّور بوجوه زائفة متعاطفةٍ متعايشة مع الحدثِ، بعلاماتٍ للإخلاص والولاء ومحبَّة البُسطاء والكادحينَ والمهمشين.. ومن يومها مُحِيَ لقبُ إزازة محوًا، وحلّ محلَّهُ لقب الوزير.
لم يقف طموح عبده عند درجة اللّيسانس؛ فاستثمر علاقاته بأساتذته، وارتفع بدوره معهم، وتفنن فيه، ونمَّاهُ مع السِّنين حتى صار الدكتور عبده. ومع كلّ صعودٍ صارت الوزارة تقترب منهُ لقدرته الفذّةِ على إلقاء حصاهُ السّحريَّةِ في أوقاتها المحسوبة بدقّة متناهية وأماكنها التي عرفها بحساسية وخبرة وطول مراس باستمرار لتتّسعَ دوائر الماء حوله؛ فغدا عبده الوزير وزيرًا. وكتب له أولئك الفقراء من رفقاء الطريق الذين كتبوا رسالتيه وأبحاثه كتبًا ومقالاتٍ تحمل توقيعه البارز المميز اللافت.
ظلّت صورته الجانبية بنظارته السَّوداء باعثة على الدّهشة، ومثيرةً كوامنَ النَّفسِ لرؤيته من الأمام حتَّى جاء اللَّقبِ المرتقبِ باستضافتهِ في برنامج تلفزيونيّ يحمل اسم مذيعَتَه الشّهيرة ليحكي قصَّة حياته ورحلة كفاحهِ.
أخذ عبده ينقرُ بظهر القلم على طرف الكرسي وهو ينظر نظرة حزينة وعميقة ومتقنة مستنكرًا تلك الحملة الحاقدة المشككة في جدارته بالفوز بتلك الجائزة الكبرى المستحقة بأقلام مأجورةٍ تفسدُ عقول الشباب الوطني الطامح، مؤكّدا أنّ تضحيته في سبيل العمل العام حرمته من كثير من الجوائز والأوسمة المستحقة والألقاب العلميَّة التي تركها طواعيةً حبًّا لخدمة النّاس وإيثارًا، ولكنه صرخ فجأة صرخات ممزوجة بدموع مكتومة: أهذه هي المكافأة؟! يا إخواننا المناصب زائلة والكراسي ذاهبة، ولكن علمي الذي عشت من أجله لن أتنازل عن حقّي فيه، نعم حقّي الذي أخَّرته المناصب والألقابُ. إنهم يستكثرون عليّ جائزة نالها من هم دوني علمًا وفكرًا وعطاءً. هل كلّ ذنبي أنّني وطني؟ هل ذنبي أني وزير؟ أكلّ ذنبي أنني عبقري في زمن لايؤمن بالعباقرة؟!
تتابعت نقراته بالقلم مع نبرات صوته الاحتجاجيّة والكاميرا تنتقل بين هذا المشهد الاحتجاجيّ الأخَّاذ ووجه المذيعة التي اختفت ضحكاتها فجأة لتتساقط دموعها التي لم تفلح في حجبها رغم محاولاتها المتقنة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه