الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايات عادية جدا الحكاية الرابعة- جنازة العربي

إدريس الخلوفي
أستاذ باحث

(Lakhloufi Driss)

2022 / 7 / 11
الادب والفن


حكايات عادية جدا- الحكاية الرابعة: جنازة العربي
استيقظ الحاج البشير باكرا كعادته، صلى الفجر، تناول فطوره، وانتظر أول خيوط الشمس ليخرج إلى فناء البيت، حيث يفرش على الأرض حصيرة من الحلفاء، يضع عليها بطانية قديمة، ويستلقي مستمتعا بهواء الصباح ونسائمه، كان الحاج البشير يلقب بالهدهد، لأنه كان مصدر كل الأخبار بالقرية، لم يكن عنصر مخابرات أو له علاقة بالدولة....بل كان إنسانا عاديا جدا، وسبب احتكاره للمعلومة يرجع بالأساس إلى احتكاره لمصدر المعلومة، لقد كان الحاج البشير الوحيد في الدوار الذي يمتلك جهاز المذياع، لهذا كان هو مالك المعلومات التي تأتي من الخارج، أي خارج الدوار، وكان يتلذذ بشكل سادي لهذا الأمر، فكم عذب أصحابه وهو يريد إخبارهم بخبر، حيث يبدأ حديثه بقوله: لدي خبر " ما زال فميكتو" يقصد بذلك أنه خبر لا زال مغلفا في علبة التغليف، وهذه استعارة تستعمل محليا لتشبيه الخبر الجديد، بالسلعة الجديدة المغلفة والتي لم تستعمل بعد، وبعد طول انتظار من أصحابه الذين يتحذقون حوله وعيونهم مفتوحة، وآذانهم متلهفة لسماع الخبر، يوزع الحاج البشير نظراته بينهم ليختبر مدى نفاذ صبرهم، وإذا رأى منهم لا مبالاة، غير موضوع الحديث حتى تجدهم يستجدونه لإكمال الخبر الجديد،. إنها سلطة امتلاك المعلومة في أبشع تجلياتها. وإذا حدث في يوم من الأيام، أن شح المذياع بجديد يستحق الدكر، يبدع الحاج البشير خبرا ليحظى بالاهتمام، إنه يستمد أهميته من مذياعه، ويروي ساديته من تعذيب مستمعيه، وكانت الأخبار المأساوية أحب الأخبار إلى قلبه، فخبر زلزال، أو فيضان، أو حرب...تجعله لا يقوى على مقاومة الاحتفاظ به ولو لحظة، وإذا حدث أن سمع خبرا من هذا النوع بالليل، تجده لا يكف عن النظر إلى الساعة كل مرة ويتبرم من تأخر الصبح، بل يجافيه النوم من فرط التفكير في الموضوع، وكانت مشاعره عكس مظهره وهو يروي الخبر، فهو يتصنع الحزن، لكن قلبه يرقص نشوة، فكان عادة ما يضخم من حجم الخبر، كأن يزيد من عدد القتلى، أو من خسائر الزلزال الذي عادة لا يقل في روايته عن سبع درجات على مقياس ريختر، حتى ولو كان مجرد حركة بسيطة.
استلقى الحاج البشير على حصيرته، مادا ساقيه تحت أشعة الشمس، ادار مفتاح المذياع، فصادف خبرا في نهايته، كانت المذيعة تتحدث عن تشتت الرأي العربي، ودس الدسائس بين بعض قادة الدول العربية، لتختم كلامها بالقول: لقد مات الضمير العربى. سمع الحاج هذه العبارة الأخيرة، وبما أنه مولوه بأخبار المآسي، فقد هيأ له دماغه أنه سمع موت العربي، فأدمغتنا عادة ما تخدعنا إرضاء لتوقعاتنا، ومن الصدف الغريبة، أن المذيعة أضافت قائلة: وفي خبر آخر، توفي بالأمس الفنان الشعبي العربي بن الجيلالي، الذي وجدت جثته في مكان خلاء، وتجهل لحد الساعة أسباب الوفاة، هذا وقد تكلفت الدولة بمراسيم دفن الفقيد.....
هنا عدل الحاج من جلسته، ورفرف قلبه فرحا لأهمية الخبر، رغم أن خبر موت العربي جعله يشعر بحزن، فمشاعره اختلطت، هو حزين لموت العربي، لكن هو منتش لأنه يحمل خبرا سيقلب القرية رأسا على عقب.
قام الحاج البشير من مكانه، وقصد رأسا بيت الجيلالي، كان هذا الأخير بفناء البيت يشابك دراعيه وراء ضهره ويرفعهما للأعلى كأنه يحاول التخلص من كسله استعدادا ليوم جديد.
ما إن رأى الجيلالي الحاج البشير يهرول نحوه، حتى خفق قلبه، وقال: اللهم اجعله خير، ليس من عادة البشير أن يأتي بهذا الشكل، لا شك أن كارثة حصلت.
باده قائلا حيث لم يطق الانتظار: خير يا حاج؟
رد عليه الحاج وهو يلتقط أنفاسه: من أين يأتي الخير؟
أجارك الله في ابنك العربي.
أمسك الجيلالي رأسه بكلتا يديه من هول الصدمة، وفي نفس الوقت صدرت صرخة من زوجته التي كانت تختبئ وراء الباب للتجسس على فحوى زيارة الحاج، وما سيدور بينه وبين زوجها.
خرج باقي الأبناء، الفتيات تولول، والفتيان يصرخون: واااالعربي واااالعربي...
بعد هنيهة بدأ سكان الدوار يجتمعون، حتى تجمهروا أمام بيت الجيلالي، وبدأوا في تقديم التعازي، كان الشيخ، وهي رتبة إدارية كانت تطلق على عون السلطة، فهو عين الدولة التي تبصر بها، وهو اذنها التي تسمع بها، سأل قائلا: ما الأمر يا جماعة؟
رد الجميع بلسان واحد: العربي ولد الجيلالي في ذمة الله.
همس الشيخ: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون.
أين جثة الهالك؟ رد الحاج البشير: لقد دفنتها السلطات.
وما مصدر الخبر؟ أضاف الحاج: سمعته بأذني من المذياع.
لم يقتنع الشيخ بهذا الخبر، فقرر التيقن، لهذ ركب دراجته قاصدا إدارة القرية.
أما سكان الدوار فقد باشروا طقوس التأبين، حيث قاموا مباشرة بذبح شاة، أما النسوة فبدان إعداد الوضيمة، تمت المناداة على الفقيه مع اثنين من حفظة القرآن الكريم، عند حدود الظهيرة، كان كل شيء قد تم والقرآن يتلى، تغذى الجميع، وتم الدعاء للهالك بالمغفرة، ولذويه بالصبر والسلوان.
في المساء عاد الشيخ من القرية، فوجد بعض الأهالي لا يزالون مع أسرة الفقيد ليسلوها في مصابها، ما إن رآهم الشيخ حتى انفجر ضاحكا، استغرب الجميع من سلوك هذا الوقح المتعجرف، حتى أن أحد إخوة العربي التقط حجرا كاد يقدف به الشيخ لولا أن هذا الأخير بادرهم بالقول: العربي لم يمت، فالخبر كان عن مغن يدعى العربي بن الجيلالي، وهنا كانت مفاجأة الجميع، وفرحهم في نفس الوقت، إلا الحاج البشير الذي أحس أن كبرياءه قد جرح، ووسط فرحة الجميع وتبادلهم التهاني، تسلل الحاج البشير دون أن ينتبه إليه أحد، وغادر المجمع.
يتبع.....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى


.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا




.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني