الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصعاليك في متون الصحارى

عبدالله رحيل

2022 / 7 / 13
الادب والفن


تجوب صحراء واسعة، تمتد بك الأنظار في رمالها الذهبية المجهولة، فهي مفازة، إن قطعتها بسلام، وإن علمت مجاهلها، ونواحيها، فهي قاسية صعبة، وعنيفة، فلا عجب، أن تنجب أبناء قساة أشداء، يألفونها، ويَحْيَون فيها، لما تُيسّره لهم من الاختفاء في مجاهلها، وجبالها، ومتاهاتها؛ لذلك نجد أن حياة سكانها تميل إلى الخشونة، والرعونة، وإلى الثورية على كل ما يلاقيهم من قيم اجتماعية، أو واقع مبهم لديهم، غير أنهم لا يشذّون عن قواعد مجتمعهم، البادية في الكرم، وفي الشجاعة والغيرة، ودفاعهم عن العرض، وعن الشرف، واجتماعهم لحل مشكلة، وإن كلفتهم النبذ من القبيلة، أو الموت والضياع، وهذه المبادئ، خلقت لفئة، قد تكون غير معجبة بالواقع المعاش في كنف القبيلة، ظهور واقع الصعاليك على الرغم من نشأتهم في أماكن قريبة من الخصب، إلا أنهم فضلوا أن يكونوا في كنف هذه الطبيعة، صعبة المنال، فنجدهم يألفون الجبال والقفار، والأماكن، التي يخشى غيرهم ارتيادها.
تعدّ ظاهرة " التضاد الجغرافي" عاملًا مهمًا في نشوء الصعلكة، فبيئة الصعاليك صحراوية جبلية، فيها أغوار منخفضة شديدة الحرارة، وجبال ذات قمم عالية، فيها مناطق جدب، ومحل تدفع إلى الهجرة، ومناطق خصب تغري بالاستقرار، هذا التضاد الجغرافي خلق لونًا من التضاد النفسي عند البدوي، فهو مبالغ في عداوته، مبالغ في محبته، يغزو، وينهب حتى يكاد يفقد حياته، ثم يوزع غنيمته على سواه، كما أنه يأنف حياة الاستقرار، ويؤمن بأن الرعي، والتجارة، والنهب، والصيد هي الأعمال، التي تليق بالرجال.
ولو وقفنا في كنف اللغة، مفسرين معاني الصعلوك، نجد أنها لغة مأخوذة من قولهم: «تصعلكت الإبل» إذا خرجت أوبارها، وانجردت، ومن هذا الأصل اللغوي، أصبح الصعلوك، هو الفقير، الذي تجرّد من المال، وانسلخ من جلده الآدمي، ودخل في جلد الوحوش الضارية.
وإذا كان الأصل اللغوي لهذه الكلمة، يقع في دائرة الفقر، فإن الصعلكة في الاستعمال الأدبي، لا تعني الضعف بالضرورة، فهناك طائفة من الصعاليك، الذين تمرّدوا على سلطة القبيلة، وثاروا على الظلم، والقمع، والقهر، والاستلاب، الذي تمارسه القبيلة على طائفة من أفرادها؛ ونظرًا لسرعتهم الفائقة في العدو، وشراستهم في الهجوم، والغارة، أُطلق عليهم" ذؤبان العرب" أو الذؤبان"؛ تشبيهًا لهم بالذئاب.
فمما لا شك فيه، أن هناك عوامل جغرافية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية، أدت إلى بروز ظاهرة الصعلكة في الصحراء العربية، إبَّان العصر الجاهلي، وما تبعه من العصور في العصر الأموي، والعباسي، فيبقى العامل البيئي والعامل الاجتماعي، اللذان أديا بروز هذه الظاهرة، واللذان تمثّلا تتمثل في قسوة الصحراء، وشُحِّها بالغذاء، إلى درجة الجوع، الذي يهدد الإنسان بالموت، وإذا جاع الإنسان إلى هذه الدرجة، فليس من المستغرب أن يتصعلك، ويثور، وربما يقتل.
وبهذه القسوة والثورة على الواقع الفقير المعاش في زمن الصعلكة، نشأت لهم أشعار، خُلّدت في تاريخ الأدب العربي، وتناقلها الرواة، حيث كانت جزلة قوية، أثارت نهم الدارسين لها، فهي خلقٌ لغويٌّ قويٌّ جميلٌ، كواقعهم القاسي في متون الصحراء، وحين ننظر إلى شعرهم، نجده حافلا بذكر الأماكن الوحشية، الموغلة في الوحشة، والامتناع، فالصعلوك الشاعر تأبّط شرًا يتحدّث عن موضع كان يخافه العرب، لاعتقادهم أنه لا يخلو من الغول، والأفاعي، هذا المكان يسمى "رحى بطان"، ولكن الشاعر تأبّط يألف هذا المكان، ولا يخاف غيلانه، وسعاليه، بل يتحدث بفخر في شعر عن قتله إحداها قائلاً:
"ألا من مُبلّغ فتيان فَهْم
بما لاقيتُ عند رحى بَطان
بأني قد لقيتُ الغول تهوي
بسهبٍ كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرّت
صريعًا لليدينِ والجرانِ"
لقد انقسم الصعاليك من ناحية النوازع الداخلية إلى فريقين، فهناك الشخصية المتمردة، التي رأت في هذه الحركة فرصة سانحة، تظهر فيها بطولتها الفردية، وتستغلها إلى أبعد حد في إرضاء ما في نفسها من نزعة شريرة، تصبغ حياتها كلها بلون من الدم الأحمر القاني، الذي يطال رؤوس الأغنياء المترفين.
لكنّ هناك نوعاً آخر من الصعاليك، رأى أن يكون تمرّده وسيلة لغاية معينة، وهي رفع الظلم عن المظلومين، وتهيئة الفرصة للفقراء المهضومة حقوقهم؛ ليشاركوا سائر أفراد مجتمعهم في حياة اجتماعية كريمة، عن طريق إحداث نوع من المساواة، وإلى هؤلاء ينتمي أمير الصعاليك، عروة بن الورد العبسي.
ومع ذلك كان عروةُ يكره الفقر، ويرى مآسيه في الناس، وفي القبائل مِن حوله، لقد كان يأنف من أن ينظر الناس إليه بمنقصةٍ، أو ازدراء، ولم يكن يمكث في بيته إلا قليلا، يحبّ أن يملك المال، والطعام دوما، يقود الصعاليك من الشعراء والفرسان، ويغير بهم على أحياء العرب، وحين سألته زوجته ذات مرة عن وجهته، رد عليها قائلاً:
"ذريني للغنى أسعى فإنّي
رأيتُ الناسَ شرّهم الفقيرُ
ويُقصيه النّديّ وتزدريه
حليلتُه وينهرُه الصغيرُ
وتلقى ذا الغِنى وله جلال
يكادُ فؤادُ صاحبِه يطيرُ
قليلٌ ذنبُه والذنبُ جمّ
ولكنّ الغني ربّ غفورُ"

يعدّ كل من عروة بن الورد والشنفرى من أشهر الصعاليك، وأكثرهم تميزاً، فعروة يمثل أبا الصعاليك، الذي أخذ على عاتقه تحقيق العدالة الاجتماعية، والتوازن الاقتصادي، فهو شاعر من قبيلة عبس، وقد كان لأبيه مقام، محمود في حرب داحس والغبراء، وكانت أمه من بني نهد، وهم ليسوا من أشراف القبائل، فغضَّ ذلك من منزلته، وقد كان فارسًا من فرسان الجاهلية المعدودين، كما عُرف بجوده، وحسن خلقه، ولقب بعروة الصعاليك، أو أمير الصعاليك؛ لأنه كان يجمع صعاليك العرب، ويقوم بأمرهم؛ فيرعى أحوالهم، إذا أخفقوا في غزواتهم، ولم يكن لهم معاش، يعتاشون منه، وقد لامته زوجته في كثير من الأحيان على مغامراته، وبذل نفسه، وماله من أجل الصعاليك، وهو على قلق حياته الاجتماعية واضطرابها، فهو القائل:
"وَقَد عَلِمَت سُلَيمى أَنَّ رَأيِي
وَرَأيَ البُخلِ مُختَلِفٌ شَتيتُ
وَأَنّي لا يُريني البُخلَ رَأيٌ
سَواءٌ إِن عَطِشتُ وَإِن رُويتُ
وَأَنّي حينَ تَشتَجِرُ العَوالي
حَوالي اللُبَّ ذو رَأيٍ زَميتُ
وَأُكفى ما عَلِمتُ بِفَضلِ عِلمٍ
وَأَسأَلُ ذا البَيانِ إِذا عَميتُ"
وقد تمرّد على قبيلة سلامان، وخرج عنها، واستبدل بهم قومًا آخرين، من السباع، والبقر الوحشي، كما قوله في قصيدة لامية العرب:
"أقيموا بني أمي صدورَ مَطِيّكم
فإني، إلى قومٍ سِواكم لأميلُ
فقد حمت الحاجاتُ، والليلُ مقمرٌ
وشُدت لِطيّاتٍ مطايا وأرحُلُ
ولي دونكم أهلونَ: سِيْدٌ عَمَلَّسٌ
وأرقطُ زُهلول وَعَرفاءُ جيألُ
هم الأهلُ لا مستودعُ السرِّ ذائعٌ
لديهم، ولا الجاني بما جَرَّ يُخْذَلُ"
وبرز في الصعاليك شاعر من أبرز شعراء الجاهلية الصعاليك وهو تأبط شرا، واسمه ثابت بن جابر، من فهم من قبيلة قيس، وأمه أميمة من بني القين من فهم، وتأبط شرًا لقب، لُقّب به، وقد كان تأبط شرًا أسمَعَ العرب، وأبصرَهم، وأكيَدَهم، وكان أعدى رجل بينهم، ينظر إلى الظباء، فينتقي أسمنها، ثم يعدو خلفه، فلا يفوته، وكثيرًا ما كان يرتكز على الغزو والسلب، والنهب والصيد؛ للترزّق، والكسب كسائر الصعاليك، ومن ذلك قوله.
"أَبَعْدَ قَتِيلِ الْعَوْصِ آسِي عَلَى فَتىً
وَصَاحِبِهِ أَوْ يَأْمُلُ الزَّادَ طَارِقُ
أَأَطْرِدُ نَهْبَاً آخِرَ الَّليْلِ أَبْتَغِي
عُلاَلَةَ يَوْمٍ أَوْ تَعُوق الْعَوَائِقُ
لَنِعْمَ فَتىً نِلْتُمْ كَأَنَّ رِدَاءَهُ
عَلَى سَرْحَةٍ مِنْ سَرْحِ دَوْمَةَ شَانِقُ"
وكثيرا ما كان الصعاليك ذوو بنيان قوي، لشظف الصحراء، الذي يعيشون به، فقد تصلبت أجسادهم، وتمرسوا على واقع الصحراء الصلب، وهذا ما عاينه الشاعر الشنفرى، وهو من أجود شعراء الصعاليك:
"وَلَسْـتُ بِمِحْيَارِ الظَّـلاَمِ إذا انْتَحَتْ
هُدَى الهَوْجَلِ العِسّيفِ يَهْمَاءُ هؤجَلُ
إذا الأمْعَـزُ الصَّـوّانُ لاقَـى مَنَاسِمِي
تَطَايَـرَ منـه قَـادِحٌ وَمُفَلَّـلُ"
وهكذا كان الصعاليك، شرذمة من العرب طحنهم الفقر، وكوّنوا لأنفسهم مجتمعا، موازيا بقوانين خاصة بهم، ساعدهم عليها اتساع الجزيرة العربية، ووعورة مسالكها، التي اتخذوها مسكنًا وملجأ، وفوق ذلك، وجود الظلم الطبقي، الذي كان يرفع الناس على أصول من الحسب، والنسب والمال، فكانت إغارتهم مقاومة، وغصبا، وردا للقيمة، التي سلبها مجتمعهم منهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا


.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني




.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع