الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم الخلاص باعتباره أساس التسامح حسب جون لوك

محمد عبد الرحيم طالبي
كاتب

(Mohammed Talbi)

2022 / 7 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


استهل جون لوك كتابه "رسالة في التسامح" بالحديث عن مفهوم الخلاص نظرا لأهميته الجوهرية، لأن تحديد ماهية الخلاص بحسب لوك يمكنه أن ينقلنا من حالة اللاتسامح إلى حالة التسامح، ثم لأنه مفهوم تتجاذبه المفاهيم الكبرى(الدولة والكنيسة) التي أسس عليها فلسفته في التسامح. فما هو التعريف الذي يقدمه لوك لمفهوم الخلاص؟
إن الشرط الأول لتحقيق الخلاص حسب لوك هو، أن يطهر المرء ذاته من الرذائل والشرور، وأن يتوجه نحو طلب الخير وأن يحب الخير للبشرية، ولعل هذا التعريف للخلاص نابع تصوره للدين الحق، حيث يرى أن " الدين الحق ام يتأسس من أجل ممارسة الطقوس ولا من أجل الحصول على سلطة الكنيسة، ولا من أجل ممارسة القهر، ولكن من أجل تنظيم حياة البشر استنادا إلى قواعد الفضيلة والتقوى".
وبناء على ذلك فإن جوهر الدين الحق حسب لوك يكمن في تربية الناس على الفضيلة الأخلاقية، وإذا كان الإنسان المتدين يسلك طريق القوة والإكراه والتسلط باسم الدين بحجة أنه ينشد خلاصهم( الناس) فالأولى حسب لوك أن يطهر نفسه من الشرور والرذائل، وفي هذا السياق يقول لوك: "فكل إنسان يحمل شعار المسيح ينبغي عليه، أولا وقبل كل شيء أن يشن حربا على شهواته ورذائله. وذلك لأنه من العبث أن تكون مسيحيا دون أن تكون حياتك مقدسة وأن يكون سلوكك طاهرا".
وفي هذا الإطار يمكن القول أن المفهوم الجديد للخلاص يؤسس للتسامح ، لكونه يفرغ الخلاص من كل الشوائب التي تعلقت به كالتسلط والعنف والاكراه، فالخلاص الحقيقي لا يتأتى بالقوة والاضطهاد والقتل، بل عن طريق المحبة التي تقتضي أن يطهر المرء نفسه من الرذائل وكل أولئك الذين يزعمون -حسب لوك- أنهم يجردون الناس من "ممتلكاتهم ويذيقونهم العذاب والجوع في سجون قميئة ويقتلونهم في نهاية المطاف، كل ذلك استنادا إلى مبدأ المحبة وإلى محبة لأرواح هؤلاء، أقول إنهم إذا كانوا يفعلون كل ذلك من أجل أن يكونوا مسيحيين وأن يطمئنوا على خلاصهم ليس إلا، لماذا إذن يمارسون الدعارة والاختلاس وإيذاء الآخرين وكل ألوان الشرور، على حد تعبير الرسول بولس(رومية:1)."( ) إن الخلاص بهذا المعنى، لا يمكن أن يأتي من شخص يرتكب الرذائل؛ فمن التناقض أن يكون كذلك، لأنه "من الصعب على إنسان لا يكترث بخلاصه الروحي أن يقنعني باهتمامه البالغ بخلاصي. فأمر محال على أولئك الذين تخلو قلوبهم من الديانة المسيحية أن يكرسوا أنفسهم بإخلاص وحماية لتحويل الٱخرين إلى المسيحية. وإذا كانت البشارة والرسول موثوقا فيهما، فإنه لا يمكن لإنسان أن يكون مسيحيا دون محبة ودون الإيمان الذي لا يؤثر بالقوة بل بالمحبة ". فالخلاص اذن، لا يحمل أي طابع يتضمن القسوة والعنف وهذا على المستوى الديني، لكن كيف يؤسس مفهوم الخلاص للتسامح السياسي؟
يؤسس المفهوم الجديد الذي صاغه لوك للخلاص "للتسامح السياسي باعتباره هو الضامن لأمن واستقرار الدولة؛ ذلك أنه كلما تجنب الحاكم المدني للخوض في الخلاص ضمن الاستقرار. أما حين يتدخل فيه، فإنه يشعل فتيل الشقاق والتعصب والانحراف والعنف. فالخلاص من الناحية السياسية مسألة قناعة شخصية لا يحق للحاكم المدني التدخل فيها. ويورد لوك ثلاثة اعتبارات كمبررات سياسية تثبت أن وظيفة الحاكم المدني تقتصر على تدبير شؤون المجتمع المدني ولا تتعلق بأي شكل من الأشكال بخلاص نفوس البشر، وهذه الاعتبارات كالآتي:
الاعتبار الأول: إن مهمة خلاص نفوس البشر ليست من مهام الحاكم المدني أو أي إنسان آخر، "ذلك لأن الحاكم المدني ليس مفوضا من الله لخلاص نفوس البشر، وأن الله لم يكلف أي إنسان بذلك لأنه لا يبدو أن الله قد منح مثل هذه السلطة بحيث يفرض دينه على الآخرين بالقوة. ثم إنه من غير المعقول أن يمنح الشعب مثل هذه السلطة للحاكم (...) لأنه ليس في إمكان أي إنسان، حتى لو أراد أن يكيف إيمانه طبقا لأوامر إنسان آخر لأن جوهر الدين الحق وقوته يكمنان في القدرة على اقتناع العقل اقتناعا جوانيا شاملا". إن جوهر إيمان الحق يكمن في أن يعتقد المرء في يقين تام أن الطقوس الدينية التي يؤديها تقربا من الله سوف ترضي الله. وبناء على ذلك فإنه لن تقبل من الإنسان الطقوس التي يؤديها تقربا من الله ما لم يكن مقتنعا بأنها الوسيلة التي سوف تجلب له رضا الله وفضله. فإذا أقام الإنسان الطقوس تظاهرا ورياء فإنه سوف يضيف "بكذبه خطيئة أخرى وهي النفاق وازدراء الجلالة الإلهية".
الاعتبار الثاني: لا تندرج مهمة خلاص نفوس البشر ضمن "مهام الحاكم المدني لأنه يحكم بمقتضى سلطة برانية بينما الدين الحق ينشد اقتناع العقل اقتناعا جوانيا، وأي شيء خلاف ذلك لا يرضى عنه الله. ومن طبيعة العقل أنه لا يمكن إجباره على الإيمان استنادا إلى قوة برانية. فمصادرة الأراضي والسجن والتعذيب وما شابه ذلك، لا يمكن أن يغير الحكم الجواني على الأشياء". إن فرض الحاكم لدين ما يتنافى مع طبيعة الإيمان الذي يتميز بكونه لا يتأثر بأدوات الإكراه الخارجية. وبناء على ذلك لن يقبل الله الطقوس الدينية التي يؤديها الإنسان تقربا منه ما لم يكن مقتنعا بأنها الطريقة التي ترضي الله (. ويؤكد لوك ذلك قائلا: " سلطة الحاكم لا تمتد إلى تأسيس بنود تتعلق بالإيمان أو بأشمال العبادة استنادا قوة القوانين. ذلك أن القوانين تفقد سلطتها إذا لم تقرن بالعقوبات، والعقوبات في هذه الحالة تصبح منعدمة انعداما مطلقا ﻷنها عاجزة عن إقناع العقل. فلا أي بند من بنود الإيمان ولا أي التزام بأية عبادات برانية ولا الالتزام بأي مظهر من مظاهر العبادة يفضي إلى خلاص النفوس إلا إذا هؤلاء الذين ينتمون إلى هذا الإيمان ويمارسون هذه العبادات على قناعة تامة بأن هذا الإيمان حق وهذه العبادة مقبولة من الله".
الاعتبار الثالث: ",إن العناية بخلاص نفوس البشر ليست من مهام الحاكم المدني بأي حال من الأحوال، حتى إذا أقررنا أنه من الممكن إقناع البشر وتغيير آرائهم بسلطة القانون وقوة العقوبات. فإن كل ذلك لا يسهم أبدا في خلاص نفوسهم. وفي حالة افتراض وجود حقيقة واحدة وطريق واحد إلى السماء أمل هناك في أن يبلغها عدد أكبر من البشر إذا لم يكن لديهم سوى دين السلطان وإذا كانوا في حالة مضطرين فيها إلى التخلي عن نور عقولهم ومخالفة ما تمليه عليهم ضمائرهم، والاستسلام الأعمى ﻹرادة الحكام وللدين الذي جاء إلى وطنهم بالصدفة (...) إن الآراء الدينية التي يعتنقها أمراء العالم هي من التنوع والتناقض بحيث تجعلهم منقسمين مثلما هو الحال في شأن مصالحهم العلمانية، وبسبب ذلك فإن الطريق الضيق سيزداد ضيقا". ومما يزيد الأمر غرابة هو "أن يدين الناس بسعادتهم أو شقائهم الأبديين إلى مسقط رأسهم". مما يعني أن تحقيق الخلاص في هذه الحالة راجع إلى صدفة الميلاد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لابيد: كل ما بقي هو عنف إرهابيين يهود خرجوا عن السيطرة وضياع


.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #




.. خالد الجندي: المساجد تحولت إلى لوحة متناغمة من الإخلاص والدع


.. #shorts yyyuiiooo




.. عام على حرب السودان.. كيف يعرقل تنظيم الإخوان جهود الحل؟ | #