الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضرورة الفصل بين مهمة الحكومة المدنية ومهمة السلطة الدينية -جون لوك أنموذجا-

محمد عبد الرحيم طالبي
كاتب

(Mohammed Talbi)

2022 / 7 / 14
المجتمع المدني


يعتبر جون لوك أن تحقيق التسامح الديني لن يتم إلا عبر التمييز بين مهمة السلطة المدنية والسلطة الدينية؛ ﻷن كل الخلافات الني نشأة بين الكنيسة التي تهتم برعاية خلاص نفوس البشر، وبين الدولة التي تهتم بالحفاظ على السلم الاجتماعي إنما نشأة بسبب الجمع بين السلطتين ويعبر لوك عن ذلك قائلا: "ينبغي التمييز بدقة ووضوح بين مهام الحكم المدني وبين الدين، وتأسيس الحدود الفاصلة والعادلة بينهما. وإذا لم نفعل هذا فلن تكون هناك نهاية للخلافات التي ستنشأ على الدوام بين من يملكون الاهتمام بصالح نفوس البشر، من جهة، ومن يهتمون بصالح الدولة من جهة أخرى".
ويعرف لوك الدولة بأنها "مجتمع من البشر يتشكل بهدف توفير الخيرات المدنية والحفاظ عليها وتنميتها، وأنا أعني بالخيرات المدنية الحياة والحرية، والصحة وراحة الجسم بالإضافة إلى امتلاك الأشياء مثل المال والأرض". وتحرص الدولة ممثلة في الحاكم المدني على" تطبيق القوانين، بلا استثناء لتوفير الضمانات التي تسمح لكل الناس على العموم, ولكل فرد على وجه الخصوص، بالامتلاك العادل للأشياء الدنيوية. أما إذا حاول أحد أن يغامر وينتهك قوانين العدل والمساواة التي تأسست من أجل الحفاظ على هذه الأشياء، فإن مثل هذا المغامر يجب أن يمنعه الخوف من العقاب الذي هو عبارة عن الحرمان من الخيرات المدنية أو من الخيرات التي من حقه أن يتمتع بها"، ونستشف من هذا التعريف أن الأفراد اتفقوا على أن يجتمعوا ليشكلوا دولة بناء على عقد اجتماعي بهدف أن ينتقلوا من حالة الطبيعة التي كان يتم فيها انتهاك حقوقهم الطبيعية، ﻷن القانون الذي كان سائدا في هذه المرحلة هو قانون الحق للأقوى، وبفعل اتفاقهم على تكوين هيئة تسهر على الحفاظ على مصالحهم الدنيوية انتقلوا إلى حالة المجتمع السياسي التي يسود فيها منطق قوة القانون، وهكذا فإن الغاية من ظهور الدولة تتجلى في توفير الخيرات المدنية وتنميتها لجميع أفراد المجتمع المدني بدون استثناء، ولن تتمكن الدولة ممثلة في الحاكم المدني من الحفاظ على تلك الأشياء الدنيوية دون أن تلجأ إلى وضع القوانين التي من شأنها أن تعاقب كل من سولت له نفسه أن يغامر ويعتدي على الحقوق المدنية للمواطنين، ومادامت وظيفة الدولة تقتصر على الحفاظ على الخيرات المدنية وتنميتها ولا تمتد سلطتها بأي شكل من الأشكال إلى رعاية خلاص نفوس البشر، فمعنى ذلك أنه ليس لدولة دين، فمسألة وجود "الدين الحق" لا تعني الدولة في شيء، وبناء على ذلك فإن من حق كل إنسان أن يعتقد ما يشاء، ويمارس الطقوس الدينية التي يعتقد أنها سوف تجلب له رضا الله وفضله وتنجيه من عذابه .
أما الكنيسة يعرفها جون لوك بأنها "عبارة عن جماعة حرة من البشر الذين يجتمعون بمحض إرادتهم بهدف عبادة الله وبأسلوب يتصورون بأنه مقبول من الله وكفيل بخلاص نفوسهم". ويحدد لوك وظيفة الكنيسة في موضع آخر قائلا: "إن غاية أي مجتمع ديني هي عبادة الله، وبالتالي نوال الحياة الأبدية، ولهذا ينبغي أن يتجه أي نظام إلى تحقيق هذه الغاية، وأن تكون جميع القوانين الكنسية محكومة بهذه الغاية"، وبناء على هذا التعريف فإن "ارتباط أي فرد بالكنيسة عند لوك ليس ارتباط طبيعي، بل هو ارتباط إرادي اختياري حر. فلا أحد يولد عضوا في أية كنيسة، فالكنيسة والدين لا يورثان كالمؤسسات الدنيوية، فمتى استشعر الفرد بعد ذلك عدم الاقتناع بالمبدأ، أو العبادة فإن الفرد له مطلق الحرية في الخروج من مجتمع الكنيسة هذا كما دخل فيه". كما أن غاية أي مجتمع ديني حسب لوك تكمن فقط في العبادة من أجل نيل الحياة الأبدية. "وبما أن غاية أي جماعة دينية هي عبادة الله. وكل عضوا فيها يأمل في أن ينال الخلاص، ينبغي أن تسعى الكنيسة إلى تحقيق مثل هذه الغاية، ويجب أن تنحصر كل القوانين الكنسية داخل هذه الحدود فقط. وأيضا لا ينبغي أن ينشغل هذا المجتمع بامتلاك الخيرات المدنية، ولا يجوز استخدام القوة في أية مناسبة مهما تكن(...) ذلك ﻷن القوة من اختصاص الحاكم، وامتلاك الخيرات الدنيوية تقع تحت سلطان تشريعه."
إن الفصل بين المؤسستين لا يعني أن لكل أجهزته ومؤسساته ومجالات تدخلها بالأساليب نفسها والصلاحيات ذاتها، وكأنهما يقتسمان الفرد إلى قسمين ويخضعانه لسلطتين متناقضتين ومتناحرتين. بل إن الفصل هو في حقيقة أمره إعادة تحديد الوظائف وتوزيع المهام عبر بطلان السلطة المادية للكنيسة، وتوحيدها كما مر بنا، بوضعها كاملة بين أيدي السلطة المدنية في شخص الملك، ليحل القانون والدولة محل الأخلاق والدين، ويسد المواطنون مسد الرعية وتأخذ المحاكم المدنية مكان محاكم التفتيش، فبعد أن كانت الدولة في خدمة الكنيسة، هاهنا لوك يطلب من الكنيسة الدعوة إلى طاعة أولياء الأمر لمساعدة الدولة على استتباب النظام وإحلال الأمن.
إن أساس خطاب تسامح لوك كامن في توحيد سياسي من خلال توحيد مفهوم الحكم بنزع السلطة المادية من المؤسسة الدينية، وتوحيد قانوني عبر توحيد مفهوم الجريمة بعدم تجريم الخارجين عن الكنيسة، ثم توحيد مدني من خلال توحيد مفهوم المواطن.
يعتبر لوك أن السؤال الحقيقي بخصوص مسألة التسامح هو سؤال سياسي، فلا يتعلق الأمر بمدى صحة هذا الدين أو ذاك بقدر ما يتصل بمدى إلحاقه الضرر بالمجتمع والحيلولة دون تحقيق الدولة لمهامها. المتمثلة في حفظ أمن واستقرار المواطنين. مسألة الاعتقاد تخص علاقة الفرد بالإله لا بالحاكم، كما أنه ليس من الضروري أن يكون الإنسان من الأولياء الصالحين ليكون مواطنا صالحا ثم إن كل الطقوس الموجهة للإله مقبولة، شريطة توفر عنصر الصدق في الإيمان والفضيلة في السلوك. نعم قد لا يقبل الجميع أن تكون كل الديانات مؤدية إلى الخلاص، ﻷن كل واحد يعتقد أنه وحده في الطريق الصحيح والآخرين على ضلال، الأساس هو أن لا يكون اختلاف الناس العقدي سببا في ضياع مصالحهم الدنيوية.
وتقوم دعوة لوك للتسامح على التمييز في الإنسان بين كونه عضوا في مجتمع وجسدا فانيا وبين كونه جوهرا روحيا خالدا. فمن حيث هو جسد هو فان، ومن حيث هو عضو في مجتمع هو ملزم بالتقيد بما يخدم الصالح العام وتتضمنه القوانين. وفي هذا المجال لا يمكن أن يطلب التسامح في كل ما يهدد أمن وسلامة المجتمع أو يلحق ضررا بمصالح الآخرين. أما من حيث هو كائن روحي، أو نفس خالدة فإن صلته بربه هي صلة مباشرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة


.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟




.. اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط


.. ردود فعل غاضبة للفلسطينيين تجاه الفيتو الأمريكي ضد العضوية ا




.. مخاوف إسرائيلية من مغبة صدور أوامر اعتقال من محكمة العدل الد